{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } بمجرد المؤانسة وإظهار المحبة وإرخاء العنان { حتى تتبع ملتهم } التي ادعوا حقيتها وهدايتها، بل حصروا الهداية عليها { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما على وجه التذكير النصح: { إن هدى الله } الذي يهدي به عباده { هو الهدى } النازل من عنده، وهو دين الإسلام، فاتبعوه لتهتدوا { ولئن اتبعت } يا أكمل الرسل، ومن تبعك بعد يأسكم في اتباعهم بكل { أهوآءهم } الباطلة { بعد الذي جآءك من العلم } من لدنا على هدايتك وإهداء من تبعك { ما لك من } عند { الله } الهادي للكل إلى سواء السبيل { من ولي } يحفظك من الضلال { ولا نصير } [البقرة: 120] يدفع عنك المكاره.
قال سبحانه: { الذين آتيناهم الكتب } واصطفيناهم من بين الأمم بإرسال الرسل، وهم { يتلونه } أي: الكتاب، متأملا متدبرا مما يشتمل عليه من الأمور والنواهي والمعارف والحقائق، مراعيا { حق تلاوته } بلا تحريف ولا تبديل { أولئك يؤمنون به } وبما فيه من الأحكام والآيات والأخبار { ومن يكفر به } بتحريفه أو تبديله إلى ما تهوى أنفسهم { فأولئك } المحرفون المغيرون كتاب الله لمصلحة نفوسهم { هم الخسرون } [البقرة: 121] الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب تحريف كتاب الله وتبديله.
[2.122-125]
ثم لما خاطب سبحانه بني إسرائيل أولا بإيفاء العهد الذي هو شعار الإيمان، وما يتعلق بإيفاء العهد من الرجوع إليه ، والإيمان بكتبه ورسله وعدم المبادرة إلى الفكر، وعدم استبدال آيات الله الدالة على ذاته علما وعينا وحقا بالمزخرفات الفانية التي لا مداد لها أصلا، وعدم لبس الحق الظاهر المكشوف المحقق بالباطل الموهوم المعدوم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة المنبئين من التوجه الفطري، والرجوع الحقيقي الأصلي، الركوع والخشوع على وجه التذلل والانكسار، إلى أن يصل إلى الفناء في ذاته بل إلى فناء الفناء لينعكس البقاء.
ثم عبر سبحانه تعبيرا فوق تعبير على الناسين نفوسهم في الغفلة بلا توجه ورجوع، ثم أمر خلص عباده باستعانة الصبر المورث للتمكين، والصلاة المشعر بالتوجه التام المسقط لجميع الآثام، هذا لتصفية ذواتهم.
ثم خاطبهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بشكر نعم تفضيلهم وتكريمهم على بني نوعهم بأنواع الكرامات الدينية والدنيوية.
ثم حذرهم وخوفهم عن يوم الجزاء على وجه المبالغة والتأكيد؛ لتصفية أوصافهم في معاشهم في النشأة الأولى.
ثم لما ذكر سبحانه كفرانهم وطغيانهم وعدم انقيادهم بالكتب والرسل، وتكذيبهم وقتلهم وخبث طينتهم ودناءة طبعهم، وقساوة قلبهم وشدة عداوتهم مع المؤمنين، وقبح صنيعهم مع الأنبياء الماضين كرر خطابه سبحانه إليهم ثالثا بما سبق ثانيا، مبالغة وتأكيدا وتلطفا وإمهالا لهم؛ كي يتنبهوا، ومع ذلك لم يتنبهوا لخبث طينتهم، فقال: { يابني إسرائيل } المعرضين عني بأنواع الإعراضات، والمعترضين لآيأتي بأصناف الاعتراضات مضى ما مضى { اذكروا } واشكروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } بفضلي وإحساني مع عدم شكركم وكفرانكم { و } خصوصا اذكروا من النعم نعمة الجاه والتفضيل على جميع البرايا؛ إذ { أني } بحولي وطولي { فضلتكم على العالمين } [البقرة: 122] من بني نوعكم، وامتثلوا أمري ولا تجاوزوا عن حكمي، واحذروا عن قهري وانتقامي.
{ واتقوا يوما } وصفه أنه { لا تجزي } لا تحمل { نفس } مطيعة { عن نفس } عاصية { شيئا } قليلا من اوزارها { و } مع ذلك { لا يقبل منها عدل } فدية حتى تتخلص بها { و } أيضا { لا تنفعها شفاعة } من شفيع حميم حتى يخفف عذابها لأجلها { } ولا هم ينصرون [البقرة: 123] بغيرهم في تحمل العذاب، بل ما يحمل رزاياهم إلا مطاياهم، ومع هذه المبالغة والتأكيد قليلا منهم يؤمنون بخلاف الملة الحنيفية البيضاء الجليلة ، فإنهم بأجمعهم يرجى منهم الإيمان بوحدانية الله إن أقاموا الصلاة إليه مخلصين إلا المصلين الذين هم في صلاتهم ساهون بما يلهيهم محبة المال والجاه عصمنا من ذلك.
ثم لما ذكر سبحانه قصة بني إسرائيل وإنعامه عليهم بأنواع النعم، وكفرانهم لنعمه من خبث طينتهم، أراد أن يذكر طيب طينة الملة الجليلة وصفاء عقائدهم واصطبارهم، وتحملهم على الاختبارات والابتلاءات الإلهية، فقال: { وإذ ابتلى } اي: واذكر يا أكمل الرسل وقت ابتلاء أبيك { إبراهيم ربه } الذي ابتلاه واختبر خليله بأنواع البلاء من النار والمنجنيق وذبح الولد وإجلاء من الوطن وغير ذلك من البليات النازلة عليه { بكلمات } صادرة من ربه حين أراد اختباره { فأتمهن } على الوجه الذي صدر قصور ولا فتور تتميما لمرتبة الخلة والخلافة.
Shafi da ba'a sani ba