235

ثم قال سبحانه: { ليس على الضعفآء } الفاقدين استطاعة الحرب، ولو كانوا أصحاء، كالنسوان والصبيان والشيوخ { ولا على المرضى } الفاقدين الاستطاعة بعروض العوارض، كالعمى والعرج والزمانة وغيرها { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } للزاد والسلاح والمركب وغيرها { حرج } أي: إثم ومعصية في قعودهم وتخلفهم { إذا نصحوا لله ورسوله } أي: أخلصوا في الإيمان والإطاعة بالله ورسوله بلا مرض في قلوبهم، ودعوا المجاهدين والغزاة خيرا، وأحسنوا مع أهل بيتهم وأطفالهم وفعلوا معهم خيرا إن استطاعوا { ما على المحسنين } القاعدين المعذورين مع الله ورسوله، والمؤمنين { من سبيل } في المعاتبة والحرج، فضلا عن العقاب الأخروي؛ إذ هم من جملتهم وزمرتهم { والله } المطلع لضمائرهم { غفور } لذنوبهم { رحيم } [التوبة: 91] يجازيهم على قعودهم هذا خيرا؛ لكونهم معذورين فيهز

{ ولا } حرج ولا عقاب أيضا { على } المؤمنين المخلصين { الذين إذا مآ أتوك } حين صمم عزمك إلى الخروج { لتحملهم } على الخفاف المرفوعة، والنعال المخصوفة، كمعقل بن يسار وصخر بن خنساء وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن زيد وعبد الله بن مغفل، وهم البكاؤون، وعبد الله بن كعب الأنصاري وغيرهم، حتى يبلغوا مكان العدو { قلت } لهم: { لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا } وانصرفوا من عند آيسين { وأعينهم } حين توليهم { تفيض } وتسيل { من الدمع حزنا } وأسفا { ألا يجدوا } لئلا يجدوا { ما ينفقون } [التوبة: 92] حتى يبلغوا المعركة ويحضروا الوغى، فهؤلاء أيضا لا عتاب لهم ولا عقاب، بل يرجى لهم الأجر الجزيل من الله؛ لإخلاصهم وأسفهم.

{ إنما السبيل } بالمعاتبة والمعاقبة، وأنواع العذاب { على الذين يستأذنونك } بالقعود معتذرين { و } الحال أنه { هم أغنيآء } مستطيعون قادرون بالجسد والمال، غاية ما في الباب أنهم { رضوا } من خبث باطنهم ومرض قلوبهم { بأن يكونوا مع الخوالف } المعذورين الغير االمستطيعين { و } ما ذلك إلا أن { طبع الله } المذل والمضل لأهل الغفلة والعناد { على قلوبهم } بالجهل والضلال { فهم لا يعلمون } [التوبة: 93] جهلهم وضلالهم حتى يتسببوا لإنزاحتها وإزالتها.

[9.94-96]

ومع ذلك { يعتذرون } أولئك المستأذنون، المستطيعون { إليكم } أيها المؤمنون { إذا رجعتم } من غزوتكم هذه { إليهم } بالأعذار الكاذبة، الغير المطابقة للواقع تسلية لكم وتغريرا؛ تتميما لنفاقهم { قل } يا أكمل الرسل تعليما للمؤمنين في مقابلة أعذارهم: { لا تعتذروا } مراء ومداهنة، إنا { لن نؤمن } ونصدق { لكم } سيما { قد نبأنا الله } المطلع لضمائركم، وما يجري في صدوركم بالوحي على رسوله { من أخباركم } التي تكتمونها في نفوسك من الشر والفساد، وبالنسبة إلينا وإلى نبينا { و } كيف تعتذرون عن جرائمكم وتلبسونها { سيرى الله } الناقد البصير { عملكم ورسوله } فتفضحون على رءوس الأشهاد { ثم تردون } في النشأة الأخرى { إلى عالم الغيب والشهادة } تحاسبون عنده عليها { فينبئكم } ويظهر عليكم مفصلا { بما كنتم تعملون } [التوبة: 94] في النشأة الأولى، فيجازيكم على مقتضى علمه.

ومن جملة نفاقهم وتلبسيهم: إنهم { سيحلفون } يقسمون { بالله لكم إذا انقلبتم } ورجعتم مشتكيا معاتبا { إليهم } عن قعودهم وتخلفهم، إنما عرضهم من الحلف الكاذب تغريركم وتلبيسكم { لتعرضوا عنهم } وعن عتابهم، ولا تسألوا عن مخالفتهم وقعودهم { فأعرضوا عنهم } وعن عتابهم قبل حلفهم وتلبيسهم، ولا تلتفتوا إليهم { إنهم } في أنفسهم { رجس } جبلتهم على الخباثة والنجاسة لا تقبل التطهير بالتأديب أصلا { ومأواهم } أي: مرجعهم ومنقلبهم في النشأة الأخرى { جهنم } الطرد والخذلان { جزآء بما كانوا يكسبون } [التوبة: 95] في النشأة الأولى من الكفر والنفاق، والإصرار على الشرك والشقاق.

وإنما { يحلفون لكم } حين شكواكم وعتابكم { لترضوا عنهم } وتقبلوا إخلاصهم ومودتهم وتكونوا معهم كما كنتم { فإن ترضوا عنهم } بمجرد حلفهم الكاذب، وتغريرهم الفاسد، لا يغني رضاكم عنهم شيئا من سخط الله عليهم { فإن الله } المطلع لما في ضمائرهم من الأكنة والنفاق { لا يرضى عن القوم الفاسقين } [التوبة: 96] الخارجين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة؛ لتطهير النفوس الخبيثة عن أرجاس الطبيعة، وتصفيتها عن أدناس الأخلاق الذميمة، العائقة عن الوصول إلى مقر التوحيد.

[9.97-100]

ثم قال سبحانه: { الأعراب } أي: أهل الوبر المترددون في البوادي، المنهمكون في الغي والضلال والعتو والفساد { أشد كفرا ونفاقا } من أهل المدر المستأنسين مع العقلاء، المستفيدين منهم { و } لشدة شكيمة أولئك الأعراب وجهلهم، وعدم قابليتهم { أجدر } اي: أحق أليق { ألا يعلموا } أي: ألا يعلموا { حدود مآ أنزل الله } المدبر المصلح لأحوال عباده { على رسوله } النائب عنه، المتكلف لإرشاد عباده بإقامة حدوده المنزلة من الأوامر والنواهي المستلزمة؛ لتأديبهم في معاشهم ومعادهم؛ إذ هم في غاية البعد عن الهداية والصلاح وتحمل التكاليف الإلهية { والله } المطلع لسرائر عباده { عليم } باستعداداتهم الكامنة فيهم { حكيم } [التوبة: 97] في إلزام التكليف عليهم.

{ ومن } منافقي { الأعراب من يتخذ } أي: بعد ويحسب { ما ينفق } بأمر الله في سبيله { مغرما } أي: غرامة وخسرانا؛ لعدم إيمانه واعتقاده بترتب الثواب عليه، بل إنما ينفق رياء وتقية { و } من خباثة باطنه { يتربص } أي: يترقب وينتظر { بكم الدوائر } أي: نوائب الزمان الدائرة عليكم؛ لينقلب الأمر ويتحول الحال، ويخلص من الإنفاق بالنفاق، بل يدور { عليهم دآئرة السوء } على عكس مرامهم دائما متجددا، مستمرا { والله } الرقيب عليهم { سميع } لمناجاتهم { عليم } [التوبة: 98] بنياتهم وحاجاتهم تدبر عليهم ما يتربصون بكم من الدوائر.

Shafi da ba'a sani ba