{ قال رجلان من الذين يخافون } من قهر الله وغضبه، سيما بعد ورورد أمره؛ إذ هما من أهل الوثوق بنصر الله وإنجاز وعده؛ إذ { أنعم الله عليهما } بالإيمان والإذعان وبإعطاء الحكمة والمعرفة: { ادخلوا عليهم الباب } أي: ضيقوا على عدوكم باب بلدهم، وقربوهم إلى حيث يضطرون ويخنقون من جسامتهم، وضيق مكانهم { فإذا دخلتموه } على هذا الوجه { فإنكم غالبون } غانمون { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 23].
{ قالوا } مستهزئين، مصرحين بما تكن صدورهم من الكفر، وعدم الوثوق والإخلاص، ومناقضة العهود والمواثيق: { ياموسى } لا تحملنا ما لا طاقة لنا به { إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها } وإن شئت { فاذهب أنت } أيها الداعي { وربك } الذي دعوتناك إليه، وادعيت الإعانة والانتصار منه { فقاتلا } مع العدو { إنا هاهنا قاعدون } [المائدة: 24] منتظرون إلى أن يظهر الأمر.
[5.25-27]
{ قال } موسى آيسا، متحيزا، باثا شكواه مع ربه: { رب إني لا أملك } ولا أثق لامتثال أمرك { إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [المائدة: 25] الخارجين عن مقتضى أمرك، التاركين الامتثال به؛ من عدم وثوقهم بإعانتك وتأييدك.
ولما سمع سبحانه من موسى ما سمع من بث الشكوى، وكان حالهم وصلاحهم معلومة عنده سبحانه { قال فإنها } أي: الأرض المقدسة { محرمة عليهم } مدة { أربعين سنة } خص هذا العدد؛ لأنهم لما أعادوا نفوسهم بعدم امتثال أمر الله، والاستهزاء به وبرسوله إلى ما هم عليه قبل إيمانهم، والإيمان ماي كمل غالبا إلا بعد الأربعين، لذلك خص هذه المدة؛ لمجازاتهم ومجاهداتهم، ليكملوا الإيمان، وهم بعدما ارتدوا من الشام وتوجهوا إلى المصر { يتيهون في الأرض } المقدسة بستة فراسخ تائهين، حائرين، مذبذبين لا إلى مصر وإلا إلى الشام في تلك المدة، وموسى سار معهم فيها، يرشدهم إلى أن يخرجهم من الضلال الصوري والمعنوي.
ثم لما رأى موسى اضطراب قومه وحزنهم وقلقهم واضطرارهم، رحمهم، وندم عما دعا عليهم، على مقتضى شفقة النبوة ومرحمته، لذلك رد الله عليه بقوله: { فلا تأس } أي: لا تحزن أيها النبي الشاكي { على القوم الفاسقين } [المائدة: 26] الخارجين عن مقتضى التصديق والإيمان.
{ واتل } يا أكمل الرسل { عليهم } أي: على من اتبعك من المؤمنين { نبأ ابني ءادم } أي: قصة قابيل وهابيل واختلافهما ونزاعهما وقربانهما، وقتل قابيل هاببيل، ليعتبروا وينتبهوا من قصتهما على ما هو الأقول من السبيل، والأليق بحال المؤمن من حسن المعاشرة والمصاحبة مع الأخوان، ورعاية الغبطة، والتصبر على البلية والمحنة، وإن أدى إلى بذل المجهة والإخلاص مع الله في جميع الأحوال، تلاوة متلبسة { بالحق } مطابقة للواقع موافقة لما في الكتب السالفة.
وذلك أنهما تنازعا في تزويج كل منهما توءمة الآخر على ما هو شرع أبيهم، فقال قابيل: توءمتي أحسن صورة من توءمتك، أنا أحق بتزويجها منك، فترافعا إلى أبيهما فأمرهما بالقربان المقرب إلى الله، اذكر { إذ قربا قربانا } بإذن أبيهما، كل واحد منهما على مقتضى إخلاصهما مع الله، وكان قابيل صاحب زرع، قرب مقدارا من أردأ قمحه، وهابيل صاحب ضرع، قرب شاة سمينة حسناء { فتقبل من أحدهما } وهو هابيل { ولم يتقبل من الآخر }.
وعلامة القبول حينئذ أنه تنزل نار من السماء، وتأكل ما يتقربون به، فأخذا قربانهما وذهبا إلى جبل فطرحها عليه، وانتظرا القبول، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل، ولم تأكل قربان أخيه، فاشتد سخطه وعضبه على أخيه، وزاد حسده بقبول الله قربانه { قال لأقتلنك } البتة؛ إذ ظهر مزيتك علي، وفضلك عند الله مني، وبذلك تفتخفر وتتفوق علي بين الناس { قال } هابيل: يا أخي، ما لي في هذا التقرب إلا الإخلاص والرجوع إلى الله والإطاعة والانقياد لأمره، والاجتناب والتحرز عن سخطه وغضبه بلا غرض نفساني وميل شهواني، فتقبل مني بفضله ولطفه { إنما يتقبل الله } أي: ما يتقبل المطلع لسرائر عباده أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله إلا { من المتقين } [المائدة: 27] المتقربين إليه بين طرفين الخوف والرجاء، المخلصين فيما جاءوا به خالصا لوجهه الكريم، بلا ميل إلى ما تهوى نفوسهم.
[5.28-31]
Shafi da ba'a sani ba