Lamarck
أكثر مما يتحدث عن دارون، وحين يتكلم عن الكيمياء، فإن «لافوازييه» يحجب عنده أية شخصية أخرى، وربما تكلم في الفيزياء عن باسكال أكثر مما يتكلم عن نيوتن.
وفي عصرنا الحاضر تختلط النزعة القومية بالانحياز الأيديولوجي، فيدافع الكتاب الاشتراكيون عن العلم الذي يظهر في ظل أيديولوجية اشتراكية، أو على يد عالم له اتجاهات اشتراكية، بينما يميل علماء البلاد الرأسمالية إلى الإقلال من دور هؤلاء الأخيرين، وتأكيد فضل نظامهم على العلم؛ فمنذ العهد النازي في ألمانيا نجد العلماء الألمان يتجاهلون «فيزياء أينشتين» زمنا طويلا؛ لأنه غادر ألمانيا هاربا من النظام، وأدى هذا التجاهل إلى تقدم الإنجليز والأمريكيين عليهم في هذا المجال، وفي العهد الستاليني كان عالم الأحياء المشهور «ليسنكو
Lyssenko » هو الحاكم بأمره في ميدانه؛ لأنه عرف كيف يوفق - بطريقة لا تخلو من التلاعب - بين النظريات البيولوجية وبين الفلسفة المادية الديالكتيكية؛ ولذلك كانت نظرياته مدعمة بسلطة الدولة، وكان خصومه - على المستوى العلمي البحت - خصوما للدولة، ومعرضين لكل ضروب الاضطهاد، وما زلنا نجد في الاتحاد السوفيتي اهتماما كبيرا بأفكار «تسيولكوفسكي
Tsiolkovsky » الذي تحدث عن الصواريخ وغزو الفضاء بإسهاب منذ أوائل القرن العشرين، كما نجد من يؤكد أن اختراعات كثيرة - منها التليفزيون مثلا - كان أول من توصل إليها روسيا. أما في أمريكا فهناك حرص شديد على تأكيد الدور الرائد لعلماء ومخترعين ربما لم يكن العالم الخارجي يعرف عن كشوفهم إلا أقل القليل، مثل بنجامين فرانكلين وفولتون
Fulton ، ولا ننسى أن سفن «أبولو» التي هبطت مركباتها على سطح القمر قد حرصت على أن تغرس في تربته العلم الأمريكي.
ويصل اصطباغ العلم بالصبغة الأيديولوجية في الصين إلى حد أن العقيدة الماوية تحكمت في شروط اختيار المشتغلين بالعلم، وفي ظروف عمل العلماء؛ ففي الصين المعاصرة ظهرت - منذ سنوات قليلة - حملة عنيفة ضد العلماء المتخصصين المتفرغين الذين وصفوا بأنهم يكونون «صفوة» متعالية، لا تعرف كيف تجمع بين نظرياتها العلمية وبين ظروف حياة الشعب، واتجهت الدعوة - بجدية شديدة - إلى السماح للإنسان «الاشتراكي» العادي بدخول الجامعات ومعاهد البحث، مؤكدة قدرته على تحصيل العلم الرفيع والوصول إلى كشوف جديدة فيه. وكان هذا تحديا جريئا حتى لمبدأ «التخصص» ذاته، الذي يبدو لنا مبدأ مستقرا منذ بداية العصر الحديث. وعلى الرغم من غرابة فكرة اشتغال العامل العادي أو الفلاح البسيط بالأبحاث العلمية الرفيعة، فإنها تؤخذ هناك بجدية شديدة، وقد كانت واحدا من الأسباب التي أدت إلى تغييرات أساسية في مناصب الدولة الكبرى وقتا ما.
أما إذا انتقلنا إلى عالمنا العربي، فإنا نجد كتابنا حريصين - بطبيعة الحال - على تأكيد الدور الذي قام به العالم العربي في العصور الوسطى، ويصل هذا الحرص إلى حد تأكيد ريادة كثير من العلماء العرب في ميادين علمية غير قليلة، وربما بالغ البعض فأكدوا أن أصول عدد من النظريات المعاصرة - كنظرية النسبية مثلا - موجودة لدى العرب في العصور الوسطى، وهو تأكيد واضح البطلان، لا لأن العرب كانوا أقل من غيرهم؛ بل لأن ظهور نظرية كهذه يحتاج إلى تطور معين في العلم، ولا يمكن تفسيره إلا في ضوء ظروف عصر معين كان العصر الذي ظهر فيه العلم العربي مختلفا عنه كل الاختلاف.
من هذه الأمثلة كلها يتبين لنا بوضوح أن النزعات القومية أو الأيديولوجية ما زال لها تأثيرها القوي - حتى في أرقى المجتمعات المعاصرة - في نظرتنا إلى العلم، ونحن لا نعني بذلك التنديد بتدخل هذه النزعات في العلم؛ إذ إن من المشروع - في بعض الحالات على الأقل - أن يفخر شعب ما أو نظام أيديولوجي معين بعلمائه، ويهتم بتأكيد الدور الذي قاموا به أكثر مما يهتم بدور الآخرين، ولكن ما نعنيه من إيراد هذه الأمثلة هو أننا جميعا نعلن على الملأ أن العلم ملك للإنسانية كلها، وأن حكمنا عليه ينبغي أن يكون موضوعيا ونزيها، وأن العالم الكبير مواطن للعالم كله لا لوطنه فحسب، ولكننا نتصرف عمليا على نحو مغاير، ونحتفظ في أحكامنا على العلماء وعلى إنتاجهم بكثير من الأفكار التي تنتمي إلى الإطار القومي أو الأيديولوجي، وهو إطار بعيد كل البعد عن النزعة العالمية التي تتجاوز حدود الأوطان أو المذاهب الفكرية.
هكذا يمكن القول: إن كثيرا من مظاهر العلم ما زالت تتأثر بنزعات مضادة للنزعة العالمية، ومع ذلك فإن العالم يتجه - رغما عن كل شيء - إلى مزيد من التوحد بفضل العلم؛ فالتكنولوجيا الحديثة - التي هي نتاج مباشر للعلم - خلقت عالما تتقارب فيه المسافات، وتتشابه فيه الأفكار والعادات، وتهدم فيه بالتدريج كل الحواجز التي تفرق بين البشر ، ويوما بعد يوم يزداد تأثير تلك «الثقافة العالمية» التي خلقتها وسائل الإعلام الحديثة، والتي تجعل الشاب في الشرق الأقصى لا يختلف في مظهره وفي هواياته عن نظيره في غرب أوروبا، والتي تنشر في العالم كله ألوانا متقاربة من الفنون الجماهيرية تزيل الفوارق بين الأذواق إلى حد بعيد.
Shafi da ba'a sani ba