ومع ذلك فإن للموضوع من الخطورة ما يتجاوز نطاق اهتمام العلماء، فالمشكلة تتعلق بمصير النوع البشري كله، وهذه مسألة أخطر عن أن تترك في أيدي العلماء، حتى ولو كان وعيهم عميقا، وأخطر بالطبع من أن تترك في أيدي السياسيين أو أصحاب المصالح الاقتصادية، فعلى أي نحو إذن ينبغي على البشرية أن تواجه مثل هذه المشكلة الحاسمة؟ هذا ما سنحاول مناقشته في الجزء الأخير من هذا الفصل. (3) العلم والقيم الإنسانية
تشير المشكلات السابقة كلها - بصورة واضحة كل الوضوح - إلى حقيقة أساسية هي أن التقدم العلمي المعاصر يسير في طريق تفجير النظم الاجتماعية التي ظل الإنسان يعيش في ظلها حتى اليوم. فمشكلة الغذاء والسكان لا تحل إلا على نطاق عالمي لم يتوافر الإطار اللازم له حتى الآن، ومشكلة البيئة سوف تخرج من أيدينا إن لم نواجهها بإجراءات تتجاوز نطاق أية دولة على حدة، ومشكلة الموارد الطبيعية تقتضي منا نوعا من التفكير في الحاضر وفي المستقبل يخرج عن إطار «الأنانية» و«المصلحة» و«حب الاستهلاك» التي تسود المجتمعات البشرية الحالية، ومشكلة الوراثة والتحكم في الإنسان تبدو في نظرنا شيئا سخيفا إذا تصورناها في إطار النظم السائدة الآن في العالم، وأساليب التفكير التي تحكم العلاقات بين الدول أو بين فئات المجتمع الواحد. وأخيرا فإن مشكلة التسلح - وهي أخطر المشكلات جميعا - تضع أمامنا الخيار واضحا: فإما أن نمضي قدما في طريق تطوير أسلحة الدمار الشامل في ظل نظام المنافسة والعداوة الحالي، فنقع جميعا في الهاوية، وإما أن نعيد النظرة في أهدافنا ونستغل قدراتنا العلمية المتزايدة من أجل تحقيق رخاء لم تحلم به البشرية في أي عصر من عصورها، وهذا يقتضي تغييرا أساسيا في طبيعة النظم التي تسود المجتمع الإنساني. وباختصار فإن التقدم العلمي الذي نشهد بوادره القوية في هذه الأيام، سيضعنا أمام «طريق السلامة» و«طريق الندامة» كما يقول التعبير الشعبي البليغ، وليس لنا من خيار سوى السير في الطريق الأول؛ لأننا لو اخترنا الثاني فلن نكون هناك لكي نندم!
ولكن ما الذي يستطيع العلماء أن يفعلوه في موقف كهذا؟ وما الذي يعجزون عن القيام به؟ الواقع أن الآراء تختلف في هذا الموضوع بين أولئك الذين يؤمنون بأن العلم الذي يستطيع أن يحل كافة المشكلات التي خلقها تقدمه السريع، وأولئك الذين ينادون بضرورة الاستعانة بمصادر أخرى غير العلم؛ لكي نعيد ذلك التوازن الذي أخل به العلم، وكل من هذين الرأيين يستند إلى حجج معقولة، وإن كنت أعتقد - كما سأبين فيما بعد - أن الفرق بينهما ليس كبيرا إلى الحد الذي يبدو عليه للوهلة الأولى.
أما الرأي الأول الذي يذهب إلى أن العلم هو الكفيل بإصلاح ما أفسده التقدم العلمي ذاته، فيمكن أن يبدو في ظاهره متناقضا؛ إذ إن التقدم العلمي إذا كان قد خلق مشكلات معينة، فمن غير المعقول - على ما يبدو - أن تعالج هذه المشكلات عن طريق العلم نفسه؛ لأن هذا مجال لا ينفع فيه المثل القائل: «وداوني بالتي كانت هي الداء.» ولكن هذا التناقض الظاهري يختفي بسهولة إذا أدركنا أن معنى العلم ليس واحدا في الحالتين؛ فالعلم المتقدم - الذي خلق مشكلات عديدة - هو العلم الطبيعي، أما العلم الذي يمكنه أن يحل هذه المشكلات فهو العلم الإنساني.
ولقد لاحظ مفكرون أن تقدم العلم - في الآونة الأخيرة - يفتقر إلى التوازن، فهناك ميادين أحرز فيها تقدما هائلا هي التي تتعلق بالعالم الطبيعي، على حين أن هناك ميادين أخرى لا يزال العلم يحبو في أولها، وهي الميادين الخاصة بالإنسان، ومن المستحيل أن يكون هذا التفاوت الشديد في التقدم راجعا إلى مدى أهمية الميدان الذي يبحثه العلم بالنسبة إلينا؛ ذلك لأن أحدا لا يستطيع أن يزعم أن التنبؤ باليوم والدقيقة والثانية التي سيحدث فيها الكسوف التالي للشمس أهم في نظرنا من الاهتداء إلى علاج لمرض السرطان، أو أن إرسال قذيفة إلى مكان محدد على سطح القمر يهمنا أكثر من معالجة انحرافات الشباب، أو أن كشف التركيب الداخلي للذرة أهم من الاهتداء إلى أساليب تحقق الاستقرار للاقتصاد القومي. فمن حيث الأهمية يبدو لنا أن الموضوعات التي تمس الإنسان مباشرة هي الأهم، ومع ذلك فإن العلم ما زال في هذه الموضوعات أشد تخلفا منه في الموضوعات الأخرى التي قد يكون بعضها متعلقا بظواهر بعيدة عنا كل البعد.
والتعليل الشائع لهذا التقدم غير المتوازن مستمد من طبيعة الميادين التي يبحثها العلم، فهناك ميادين أبسط من غيرها؛ بمعنى أن الأسباب فيها موحدة الاتجاه، لا تنطوي على تعقيد أو تعدد، وتلك هي التي يحرز العلم فيها أعظم قدر من النجاح. أما الظواهر البشرية فإن الأسباب فيها شديدة التعقيد إلى حد لا يبدو معه أنها تؤدي دائما إلى نفس النتائج، أو على الأصح: إن حصر الأسباب التي تتحكم في الظاهرة البشرية الواحدة (كانحراف أحد الأحداث مثلا) هو من الصعوبة بحيث يصعب إخضاع كل جوانب الظاهرة للتحليل العلمي الدقيق، ويظل فيها على الدوام «جانب مجهول» أو «لا يمكن التنبؤ به»، مما يجعل العلم عاجزا عن أن يحرز في مجال الظواهر البشرية نفس القدر من النجاح الذي يحرزه في مجال الظواهر الطبيعية.
ومع اعترافنا بصحة هذا التعليل، فلا بد لنا أن نضيف إليه تعليلا آخر مستمدا من طبيعة الأوضاع السائدة في العالم المعاصر؛ ذلك لأن التقدم العلمي يتوقف أيضا على الأهداف والمصالح السياسية والاجتماعية. فإطلاق قذيفة بها رواد فضاء إلى القمر والعودة بهم إلى الأرض سالمين، هو على الأرجح أمر لا يقل تعقيدا عن الاهتداء إلى علاج لمرض السرطان، ولكن العلم ينجح في تحقيق الهدف الأول ويتعثر حتى الآن في تحقيق الهدف الثاني؛ لأن المجتمع ذاته رسم سياسة معينة ووضع تخطيطا خاصا يؤدي إلى هذا النجاح؛ وذلك نظرا إلى وجود مصالح استراتيجية أو دعائية يحققها الوصول إلى القمر، على حين أن مرض السرطان لا يحقق نفس الأهداف.
ولا شك أن هذا الجانب المتعلق بأهداف المجتمع ومصالحه يمكن أن يعلل قدرا كبيرا من انعدام التوازن الذي يتصف به نمو العلم في مرحلته الحالية. وهكذا يعلق الكثيرون آمالا عريضة على قدرة العلم على اقتحام تلك الميادين التي ظل حتى الآن يعالجها معالجة هامشية، ويؤكدون أن العلم لو استطاع تحقيق التوازن المفقود لأمكنه حل جميع المشكلات المترتبة على تقدمه السريع، بل لما عاد هذا التقدم يخلق أية مشكلات للمجتمع الإنساني. فلنتصور مثلا أن طريقة تنظيمنا للمجتمع قد وصلت إلى نفس القدر من الدقة التي وصلت إليه قدرتنا على صنع العقول الإلكترونية أو تحليل جزيئات المادة، عندئذ تختفي المشكلات التي أشرنا إليها من قبل تلقائيا؛ إذ إن هذه المشكلات لم تتوالد نتيجة لحدوث تطورات سريعة في فهمنا للعالم الطبيعي، على حين أن المجتمعات البشرية لا تزال تسودها تنظيمات ارتجالية عشوائية يحكمها منطق المصالح، ولا تحل خلافاتها إلا عن طريق استخدام القوة العسكرية الغاشمة أو التهديد بها؛ أي إننا في مجال التنظيمات نثبت أننا لم نتجاوز مستوى الحيوان كثيرا، في الوقت الذي يضع فيه العلم الطبيعي في يدنا قوة هائلة ويكسبنا مقدرة فائقة على السيطرة على الطبيعة.
وهكذا يمكن القول: إن تفكير الإنسان في أهدافه العامة وفي طريقة تنظيم مجتمعه ما زال يمر بالمرحلة «قبل العلمية»، ولو بلغ تحكمه في هذا المجال نفس مستوى تحكمه في الظواهر الطبيعية؛ لاختفى القدر الأكبر من المصاعب التي يعاني منها عالم اليوم.
على أن أصحاب الرأي الآخر يرون أن هذا المطلب لا يمكن أن يتحقق على يد العلم وحده، فحين نتحدث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهم البشر جميعا لا العلماء وحدهم. وفي مثل هذا المجال يكون من الصعب على العالم أن يقدم إلينا توجيها كاملا؛ لأن تكوينه يحول بينه وبين التعمق في أمور معنوية شديدة العمومية كتحديد الأهداف التي ينبغي أن يستغل العلم من أجلها؛ ففي عصر التخصص المتزايد يصعب أن نجد العالم الذي يستطيع تخصيص الوقت والجهد الكافي للتفكير في الأوضاع الإنسانية ككل. بل إن النظرة المباشرة والضيقة تغلب على العلماء، وهو أمر لا يعيبهم؛ لأن طبيعة عملهم تقتضيه، ولأنهم بدونه لا يستطيعون - في العصر - أن ينجزوا شيئا.
Shafi da ba'a sani ba