ويستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من القول بأن الإغراق في الاستهلاك لا يلبي حاجات أساسية لدى الإنسان، وأنه مظهر من مظاهر الظلم والافتقار إلى عدالة التوزيع في العالم المعاصر؛ ذلك لأن الاستهلاك الزائد يشوه بالفعل كيان الإنسان وفكره، وينتهي بالمرء إلى السطحية والابتذال؛ فعبادة الاستهلاك قد أدت - في هذا العصر - إلى تكوين نمط من البشر الذين يتصورون أن قيمة المرء إنما تقاس بما يملك، وبما يحيط به نفسه من مقتنيات. ويبدو أن القوة السطحية التي نكتسبها من تلك الأجهزة المعقدة التي تزودنا بها التكنولوجيا الحديثة تخدعنا؛ فتوهمنا بأننا أصبحنا بالفعل «أقوى» و«أفضل» مما كنا عليه من قبل، مع أن كل ما نقتنيه إنما هو قشرة خارجية لا تجعلنا أفضل «من الداخل» على الإطلاق، ولقد ميز الفلاسفة - منذ وقت طويل - بين ما يكونه المرء وما يملكه. ويبدو أن مروجي السلع الاستهلاكية لا يهدفون إلا إلى نشر عبادة «التملك»، وذلك على حساب الكيان الحقيقي للإنسان.
ومثل هذه الأوهام ليست فردية فحسب، بل إن هناك شعوبا ومجتمعات تقع كلها - باستثناء قلة من المفكرين فيها - فريسة الاعتقاد الباطل بأن القيم العليا للحياة إنما تنحصر في توافر وسائل الترف ومظاهر الرخاء، ولكن حقيقة الأمر أن هناك قيما أعلى من هذه بكثير، هي قيم الثقافة والمعرفة وتحقيق الذات، فإذا كان علينا أن نفاضل بين مجتمعين، يحرص الأول منهما على أن يوفر لأكبر عدد من أفراده السيارات الفاخرة وأحدث الأجهزة الإلكترونية التي تجعل الحياة اليومية أيسر وأمتع، على حين أن المجتمع الآخر يحرص على أن يوفر لأكبر عدد من أفراده تعليما ذا مستوى عال وثقافة رفيعة، وينشر بينهم تذوق الفنون والآداب على أوسع نطاق، فأي هذين المجتمعين ينبغي أن يعد محققا لآمال الإنسان؟ لا جدال في أن الجمع بين الأمرين هو الحالة المثلى، ولكنه لا يبدو ممكنا في ظروف العالم الراهنة. ومن هنا فإن المرء لا يملك إلا أن يفاضل بين هذا وذاك، ويمكن القول، بنظرة واقعية: إن عددا كبيرا من الناس يفضلون النوع الأول، ولكن هذا إنما يرجع إلى تأصل قيم الرخاء المادي في النفوس. ومن المؤكد أن ما كان يدعو إليه مصلحو البشرية وقادتها الروحيون - منذ أقدم العصور حتى اليوم - إنما هو أن يكون للإنسان هدف أسمى من ذلك الرخاء المادي الذي يعده الكثيرون في عالمنا هذا أقصى أمانيهم.
وإذا كنا قد نظرنا إلى هذا الموضوع - حتى الآن - من وجهة النظر المثالية - أعني من حيث ما ينبغي أن يكون - فإن هناك عوامل أخرى واقعية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتؤدي إلى هذه النتيجة نفسها، وأعني بها ضرورة الحد من الاتجاه الاستهلاكي المتطرف الذي تسير فيه بعض المجتمعات المتقدمة صناعيا، وتقود نحوه كثيرا من دول العالم الأخرى التي تتخذ منها قدوة لها. فقد دأب الإنسان الغربي - منذ مطلع العصر الحديث - على أن يتخذ من «السيطرة على الطبيعة» هدفا لكل نشاط يقوم به في ميدان العلم والمعرفة بوجه عام. ولقد كان لهذا الهدف - كما رأينا من قبل - ما يبرره في الظروف التي ظهر فيها؛ إذ إنه كان شعار عصر جديد يريد أن يفهم العالم ويتحكم في الطبيعة عن طريق معرفة قوانينها، بل إن كبار الفلاسفة الذين دار تفكيرهم حول محور هذا الشعار - مثل «بيكون» و«ديكارت» في أوائل القرن السابع عشر - كانت تدفعهم نزعة إنسانية قوية، هي الرغبة في استعادة مملكة الإنسان على الأرض، وتحريره من عبودية العمل الشاق الذي يضني جسمه ويضعف نفسه ولا يدع له فرصة لكي يمارس أفضل ما لديه من ملكات. كانت تلك هي نقطة البداية، وهي الدافع الذي حفز الرواد الأوائل إلى المناداة بشعار «السيطرة على الطبيعة» عن طريق العلم، واتخاذ المعرفة سبيلا إلى اكتساب القوة المقدرة.
ولكن استمرار التقدم العلمي والتكنولوجي، ووصوله إلى مستويات هائلة في الآونة الأخيرة، أصبح يهدد نفس المثل العليا التي كان ينادي بها هؤلاء الرواد، فمنذ وقت ليس بالقريب كنا نستمع إلى أصوات تحذرنا من أن وسائلنا التي نستخدمها في السيطرة على الطبيعة، قد سيطرت هي ذاتها علينا وخلقت لدينا نوعا جديدا من العبودية. وبالفعل أكد الكثيرون أن الآلة قد خيبت الآمال التي عقدت عليها، وجعلت الإنسان عبدا لإنسان آخر (هو الذي يملك الآلة) أو للآلة نفسها. كما أن نفس القوة الجديدة التي خلقت الثراء والوفرة قد خلقت البؤس والفاقة وولدت القبح ونشرت الظلم، وقسمت العالم إلى دول مترفة ودول محرومة، وكررت هذا التقسيم ذاته في كل مجتمع على حدة.
وفي عمرنا الراهن أدى التطرف في تطبيق شعار «السيطرة على الطبيعة» إلى انتشار رغبات جامحة في الاستهلاك الذي يصل إلى حد التبديد، وإلى سعي إلى النمو مقصود لذاته، والوقوع في جنون التوسع والانتشار في جميع المجالات، وأخذ يظهر للكثيرين بوضوح أن هذا النمو الجنوني لو استمر بهذا المعدل لأدى إلى دمار العالم، أو إلى استنفاد موارده المحدودة، التي لا يمكن تجديد الكثير منها أو تعويضه. وهكذا بدأ عدد كبير من المفكرين - في الدول المتقدمة - يرفعون أصواتهم محذرين من استمرار الاندفاع الجنوني نحو الاستهلاك، لا سيما وأن الكثير مما نستهلكه لا يزيد من قدرنا أو يثري إنسانيتنا. وبدأ هؤلاء المفكرون يشككون في جدوى فكرة «السيطرة على الطبيعة» بالمعنى الذي استخدمت به منذ أوائل العصر الحديث، ويدعون إلى الاستعاضة عنها بفكر «التعاون مع الطبيعة».
والموقف الذي يدافع عنه هؤلاء المفكرون هو أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة ينبغي ألا تظل علاقة قهر وسيطرة، ومحاولة من الإنسان لكي يستنفد أكبر قدر من مواردها ويستغلها لإرضاء رغباته، بل عليه أن يساير الطبيعة ويتعاون معها حتى لا يقضي على مواردها وعلى نفسه أيضا. وحين يسود شعار «التعاون مع الطبيعة»، يكون معنى ذلك حرص الإنسان على عدم الإخلال بالتوازن الطبيعي والبيئي، وتصرفه بحكمة ورشد في موارده، وخاصة تلك التي تستهلك مرة واحدة ولا تتجدد. وهذا يقتضي من الإنسان الحديث مراجعة شاملة لأهدافه في الحياة، يحدد فيها نوع الغايات التي ينبغي أن يسعى إليها ويضع على أساسها خطط المستقبل.
ولا شك أن من هذه الغايات: تغليب الكيف على الكم، بمعنى أن يحرص الإنسان على «نوع» أرفع من الحياة، بدلا من حرصه الحالي على الجمع والتكديس وزيادة «مقدار» ما يملك من أدوات الاستهلاك. وفي استطاعة الإنسان - إذا فكر في الأمر بتعمق - أن يهتدي إلى وسائل تعينه على رفع المستوى «الكيفي» لحياته دون حاجة إلى تبديد أو تبذير لموارد الطبيعة، بل إنه سيدرك حينئذ أن جريه الحالي وراء «الكم» ورغبته العارمة في «الاقتناء» تؤدي - في كثير من الأحيان - إلى أن تزيد حياته خواء وفراغا، وتهبط بمستواها «النوعي».
ومن الغايات الأخرى التي ينبغي أن يستهدفها الإنسان - في تخطيطه للمستقبل - رعاية مصالح الأجيال التي سوف ترثه على هذه الأرض، وهو أمر لا يستطيع الإنسان الحالي أن يدعي أنه يشغل أقل قدر من اهتمامه. ولقد أشار بعض المفكرين - في هذا الصدد - إلى مثال بسيط ومألوف، هو «السيارة الخاصة»؛ ففي العالم المتقدم صناعيا، وفي كثير من الدول الغنية غير المتقدمة صناعيا، وعند قطاعات غير قليلة من سكان الدول الفقيرة، تسود الآن فكرة استخدام «السيارة الخاصة» وسيلة للتنقل، ولكن هل فكر أحد في كمية الموارد التي تتبدد في هذه الوسيلة؟ هل فكر أحد في كمية الحديد والصلب والبترول وعدد غير قليل من الموارد الأخرى التي تستهلكها سيارة خاصة واحدة يستخدمها شخص واحد أو أسرة صغيرة لكي تلقى بعد سنوات قليلة وسط أكوام من الحطام؟ وهل يحتمل عالم المستقبل - الذي سيتضاعف عدد سكانه عدة مرات - مثل هذا الترف؟ وهل ستظل موارده قادرة على تلبية هذه الرغبة الاستهلاكية المكلفة؟ وكم ستكون نسبة القادرين على استخدامها بالقياس إلى المجموع الكلي للسكان؟ وهل يمكن أن يستمر العالم يسير على أساس هذا التفاوت الصارخ بين أفراد البشر؟ وماذا سيتبقى للأجيال التي ستعيش من بعدنا إذا أصر الناس على تبديد مواردهم في هذه الكتل الضخمة من الحديد والبترول والمطاط المتحرك؟ لهذه الأسباب كلها أكد بعض المفكرين أن «عصر السيارة الخاصة» يجب أن ينتهي إذا أراد الإنسان أن يكون رشيدا في تعامله مع الطبيعة، وما هذا إلا مثل من أمثلة التغيير الذي يجب أن ندخله على عاداتنا الاستهلاكية إذا أردنا أن نترك للأجيال القادمة عالما يمكنها أن تعيش فيه.
وأيا كان الأمر، فمن المؤكد أن في العالم الآن اتجاهات كثيرة تحتاج إلى تغيير أو مراجعة جذرية، ولما كانت كثير من العادات الاستهلاكية التي ينبغي تغييرها مرتبطة برغبات يصعب على الإنسان - بعد اعتياده عليها - أن يتخلص منها، فإن الأمر سيحتاج إلى مراجعة كاملة لنظم التعليم والتوجيه في المجتمع البشري، وربما احتاج - كما يؤكد الكثيرون - إلى التفكير جديا في إقامة نوع من الحكومة العالمية التي تشرف على شئون العالم وفي ذهنها مصالح الجميع، لا مصالح فئات أو دول معينة فحسب، وبغير هذا قد يكون تحقيق هدف «التعاون مع الطبيعة» أمرا عسير المنال. (2-4) مشكلة الوراثة والتحكم في صفات الإنسان
على الرغم من أن التقدم في الفيزياء والكيمياء - وفي الأبحاث التطبيقية التي نجمت عنها - يبدو أنه أبرز السمات للعلم المعاصر؛ لأنه قد أدى بالفعل إلى تغير وجه الحياة على هذه الأرض، فإن كثيرا من العلماء يؤكدون أن أخطر التطورات في عصرنا الحاضر هي تلك التي تحدث في علم يتقدم بلا ضجيج أو دعاية أو أخبار تنشر على الصفحات الأولى للجرائد، هو علم الحياة (البيولوجيا)، ويؤكد هؤلاء العلماء أنه إذا كان عصرنا هذا قد شهد تغيرات حاسمة في الحياة بفضل الفيزياء والكيمياء، فقد بدأت تظهر فيه بوادر تدل على أن العلم الذي سيحدث تغييرات جذرية في العالم خلال القرن المقبل - وربما قبل ذلك - هو علم الحياة.
Shafi da ba'a sani ba