وفي اعتقادي أن إنجاب الأطفال سيصبح يوما ما داخلا في نطاق هذه الفئة من الأفعال التي ينبغي أن تخضع للتقييد والتنظيم الذي يستهدف - في نهاية الأمر - صالح البشرية كلها وصالح الأجيال الجديدة بوجه خاص، وسيأتي اليوم الذي ينظر فيه المجتمع البشري إلى مسألة إنجاب كائن جديد على أنها مسئولية يجب أن تمارس بحساب، وفي إطار ضوابط وضمانات معينة؛ لأنها تلقي عبئا على مجتمع كامل، ولأن هذا المجتمع سيصبح بالفعل مسئولا عن هذا الكائن؛ تثقيفه وتعليمه ورعايته؛ ومن ثم فلا بد أن تكون للمجتمع كلمة تقال في هذا الموضوع. أما العقبات التي يمكن أن تظهر في حالة تعليق مثل هذا التنظيم - كاحتمال إنجاب العدد المقرر من جنس واحد فقط، أو كالإنجاب من عدة زوجات، أو وفاة الأبناء في كارثة مفاجئة، إلى آخر هذه الحالات المحتملة - فما هي في الواقع إلا استثناءات يمكن معالجتها بسهولة في إطار التنظيم الشامل.
ولعل القارئ يدهش إذ يجد أنني اتخذت في البداية موقف المهاجم لمن يرون في تحديد النسل الوسيلة الوحيدة لتخفيف أزمة الطعام في العالم الفقير، ثم اتخذت في النهاية موقف المدافع عن مبدأ تحديد النسل حتى بقوة القانون، ولكني لا أرى أي تعارض بين هذا وذاك؛ إذ إن العالم - حتى لو وصل إلى مرحلة التنظيم العلمي لعلاقاته الاجتماعية والسياسية بحيث يكرس من موارده ما يكفي لحل مشكلة الطعام عن طريق البحث العلمي المركز - سيجد أن من مصلحته إيقاف تكاثر السكان عند حدود معينة، بل سيأتي وقت يكون لزاما عليه فيه أن يفعل ذلك، بحيث يلغي هذه «الحرية» المزعومة في مسألة تمس المجتمع ككل، ويفرض من الضوابط على النسل ما فرضه من قبل على شتى مظاهر حياة الإنسان. فنحن قد أصبحنا «كائنات اجتماعية» منضبطة، مندرجة في تنظيمات وخاضعة لقوانين لا حصر لها، وفي كل يوم يتسع نطاق التنظيم الاجتماعي لأمور كانت من قبل تترك للسلوك التلقائي العفوي، فلماذا يشذ إنجاب كائنات جديدة عن هذا الاتجاه العام للسلوك البشري، مع أنه من أخطر مظاهر السلوك البشري في عواقبه ونتائجه، وهو قد أصبح في الوقت نفسه - بفضل العلم الحديث - من أسهلها تنظيما؟ (2-2) مشكلة البيئة
قبل الستينيات من هذا القرن كان الكلام عن «مشكلة البيئة» لا يتعدى جدران عدد محدود من المجامع العلمية الشديدة التخصص، وفي الستينيات ذاتها - وخلال فترة وجيزة - أصبحت هذه المشكلة واحدة من أكثر المشكلات تداولا على ألسنة الناس وفي أجهزة الإعلام وفي الهيئات الدولية الكبرى، وأنشئت لها معاهد متخصصة وكراسي أستاذية في الجامعات، وظهرت لها مجلات خاصة، ومئات الكتب بشتى اللغات، بل لقد أنشئت لها وكالة أو هيئة دولية متخصصة منبثقة عن هيئة الأمم المتحدة، فما الذي أدى إلى هذا الانتقال السريع من التجاهل التام لمشكلة البيئة إلى الوعي الزائد بها؟
من المؤكد أن المشكلة ذاتها كانت موجودة قبل ظهور هذا الوعي المفاجئ بوقت طويل؛ ذلك أن التقدم العلمي والتكنولوجي كان لا بد أن يترك آثاره العميقة على بيئة الإنسان، ومنذ بداية العصر الصناعي أصبح تدخل الإنسان في البيئة حقيقة أساسية من حقائق هذا العصر؛ لأن لفظ «الصناعة» ذاته يعني تغيير عناصر البيئة بجهد الإنسان. كانت المشكلة موجودة بالفعل منذ وقت طويل، ولكن التنبيه إلى خطورتها وإلى أبعادها المتعددة هو الذي تأخر في الظهور.
أما هذا الظهور المتأخر للوعي بمشكلة البيئة فربما كان راجعا إلى مجموعة من العوامل، أهمها التوسع الهائل في التصنيع والزيادة الضخمة في الإنتاج بعد الحرب العالمية الثانية، وهو توسع وصل إلى حد إدخال تغيرات أساسية في البيئة الطبيعية التي أخضعت لمتطلبات الصناعة إلى حد قضى على كثير من معالمها الأصلية، ولكن لعل العامل الأهم من ذلك - في ظهور مشكلة البيئة على المسرح الدولي بصورة مباغتة - هو ظهور وعي جديد - في غمرة هذا السباق المحموم على الإنتاج الضخم بين الدول الصناعية الكبرى - بضرورة الحفاظ على توازن البيئة التي يعيش فيها الإنسان وغيره من الأحياء، فقد أدرك الكثيرون في المجتمعات الصناعية أن تلاعب الإنسان ببيئته قد زاد عن حده، وأن الجري اللاهث وراء التصنيع أدى إلى نسيان الطبيعة الأم، بل أدى إلى تلويثها بمختلف النواتج المتخلفة عن عمليات التصنيع.
ولقد كانت مشكلة تلوث البيئة - نتيجة لنفايات المصانع - هي المشكلة الصارخة التي أثارت الاهتمام العالمي بموضوع البيئة؛ ذلك لأن المصانع تطرد من مداخنها الضخمة كميات هائلة من الغازات التي تلوث جو مدن بأكملها، وتعرض حياة الإنسان - وخاصة الأطفال الذين لا يستنشقون هواء نقيا - لأخطار جسيمة، وفضلا عن ذلك فإن الأنهار تتلوث بما يلقى فيها من مخلفات المصانع، وتهدد الحياة المائية فيها بالخطر، فضلا عن أخطار تلويث مياه الشرب. بل إن البحار ذاتها - بكل مساحاتها الشاسعة - تتعرض بدورها للتلوث بسبب مخلفات المصانع القريبة منها والسفن التي تسير فيها والموانئ المطلة عليها.
وهكذا يبدو أن هذا الوعي القوي بمشكلة البيئة قد ظهر في بداية الأمر بوصفه رد فعل على التوسع الضخم في الإنتاج الصناعي، والتسابق بين الدول وبين الشركات المنتجة في إغراق الأسواق بسلع جديدة، دون أي تفكير في الأعراض الجانبية التي تصاب بها البيئة الطبيعية نتيجة لهذه المنافسة الرهيبة على الإنتاج، وكان الهدف الأساسي لتلك الحملة العالمية الداعية إلى حماية البيئة، هو أولا تجنب الأخطار المباشرة للتلوث، التي أصبحت أخطارا ملموسة في البلاد المتقدمة، وهو ثانيا تحقيق نوع من التوازن بين مطالب الإنسان ومطالب الطبيعة؛ فالإنسان يريد تحوير الطبيعة لكي تلائم أغراض الإنتاج الصناعي، والطبيعة تريد أن تحفظ وتصان، وكان على المهتمين بشئون البيئة أن يحاولوا الاهتداء إلى الوسائل الكفيلة بالتوفيق بين هذين المطلبين، بعد أن أفرط الإنسان في الاهتمام بالمطلب الأول إلى حد يهدد بضياع المعالم الأصلية للطبيعة.
بل إن التقدم في تكنولوجيا الزراعة ذاتها - التي هي ألصق بالبيئة الطبيعية من الصناعية بطبيعة الحال - قد أدى إلى مشكلات بيئية خطرة؛ فاستخدام مبيدات الآفات على نطاق واسع أدى إلى تلوث المزروعات وتعرض مستهلكيها لأخطار التسمم، فضلا عن أن إلقاء مياه الصرف في الأنهار والترع قد لوثها بدورها، وهدد كل أشكال الحياة المائية بالخطر .
ولا يقتصر هذا الخطر على التلوث وحده، بل إن هناك خطرا آخر يتمثل فيما يسمى «باختلال التوازن البيئي»، فعناصر الطبيعة المختلفة قد تعايشت على مدى مئات الألوف من السنين بحيث يعتمد بعضها على بعض في توازن دقيق، وتدخل الإنسان للقضاء على أحد هذه العناصر يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة في عناصر أخرى تبدو بعيدة عنه؛ وذلك لأن التوازن بينها قد اختل، وكلنا نذكر إلى أي حد أعجب الناس في العالم بأسره بتجربة الصين الرائدة حين قضت - في أيام قلائل - على العصافير التي كانت تتكاثر بالملايين، وكانت تهدد محاصيل الحبوب تهديدا خطيرا يؤثر في ثروة الأمة الزراعية، ولكن هذا القضاء المبرم على العصافير قد تبين - بعد سنوات قلائل - أنه ألحق الضرر بالتربة الزراعية؛ لأن العصافير كانت تأكل ديدانها التي تفرز سموما، فلما اختفت العصافير تكاثرت هذه الديدان إلى حد كان له تأثيره الضار على خصوبة التربة. وهكذا فإن تدخل الإنسان في التوازن الدقيق الذي تكونه البيئة الطبيعية قد أدى في نهاية الأمر إلى ضرر غير متوقع.
وعلى أية حال، فسواء نظرنا إلى المشكلة من زاوية التلوث، أم من زاوية الإخلال بالتوازن الطبيعي، فإنها في معظم حالاتها تعد نتيجة مباشرة للتقدم العلمي والتكنولوجي السريع في عصرنا الحاضر، وهي تدعونا بإلحاح إلى محاولة الحد من بعض الأضرار الجانبية التي يجلبها هذا التقدم معه، لا سيما بعد أن استفحلت هذه الأضرار الجانبية في الآونة الأخيرة بصورة تدعو إلى القلق، ولكن ظهور الوعي بالمشكلة، وانعقاد عشرات المؤتمرات والندوات المتعلقة بها، ونشر مئات الأبحاث عنها؛ أدى إلى اتساع نطاق الاهتمام بموضوع البيئة إلى حد يفوق بكثير مسألة مكافحة التلوث، فظهرت أبعاد اجتماعية وجمالية للمشكلة، تناولت بالتحليل بيئة الإنسان الحديث بوجه عام، بغض النظر عن أضرار التصنيع الواسع النطاق.
Shafi da ba'a sani ba