في ضوء التمهيد السابق، يستطيع القارئ أن يستنتج أن البحث في الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر ينبغي أن يسير في كلا الاتجاهين؛ فليس يكفي أن نشير إلى أهمية العلم في مجتمعنا الحالي - بما فيه من سمات مميزة - في تحديد معالم العلم المعاصر وإعطائه طابعه الذي أصبح مألوفا لدينا.
إن العلم قد اكتسب - منذ أوائل القرن العشرين - أهمية تفوق أهمية أي إنجاز آخر طوال تاريخ البشرية؛ فصحيح أن الإنسانية تفخر - عن حق - بفلسفاتها وآدابها وفنونها، وتعترف بما تدين به لهذه الإنجازات من فضل في تشكيل عقل الإنسان وروحه، ولكن المكانة التي اكتسبها العلم في هذا القرن، والتأثير الذي استطاع أن يمارسه في حياة البشر (بغض النظر عن كون هذا التأثير إيجابيا أم سلبيا، فهذه مسألة سنعرض لها فيما بعد) يجعل العلم بغير شك هو الحقيقة الكبرى في عصرنا الحاضر، ومن ثم في كل العصور. ولا يعني هذا أننا لا نفخر بمذاهبنا الفكرية أو أعمالنا الأدبية والفنية، ولكنه يعني أن فخرنا بالعلم أعظم، وأن التغير الذي أدخله العلم على حياتنا أقوى من أي تغير لحقها بفضل أي إنجاز آخر.
والأهم من ذلك - بالنسبة إلى مكانة العلم في العصر الحاضر - أن العلم هو الإنجاز الذي يمكننا أن نسميه «مصيريا» بحق في هذا العصر، فلأول مرة في تاريخ تجربة الإنسان الطويلة على هذه الأرض، يدرك أن العلم هو الذي سيحدد مصيره سلبا أو إيجابا؛ إذ تعيش البشرية في خوف دائم من أن تدمر حياتها وحضارتها حرب نووية أو بيولوجية تعتمد اعتمادا كليا على العلم، وتعمل الدول لهذه الحقيقة ألف حساب في استراتيجياتها وسياساتها الأساسية، وفي طريقة إنفاقها لمواردها. ومن جهة أخرى فإن الأمل الأكبر لدى البشرية - في مستقبل أفضل وفي حل مشكلاتها الغذائية والصحية المستعصية بل في استمرار قدرتها على البقاء والنماء - هو الآن معقود على العلم.
وقد انعكس ذلك بوضوح في اتساع نطاق الاهتمام بالعلم إلى حد هائل؛ ففي القرن الماضي كان العلم من شأن «المتخصصين» وحدهم، ولم تكن مشكلاته تناقش إلا في المجامع العلمية وفي المؤسسات المتخصصة، أما اليوم فقد أصبح الجميع يتابعون تطور العلم باهتمام، وأصبحت أخباره تحتل مكان الصدارة في وسائل الإعلام الجماهيري؛ فكيف نعلل هذه الظاهرة التي تبدو فيها مفارقة صارخة؛ أعني الاتساع الهائل في نطاق الاهتمام بالعلم، في نفس الوقت الذي أصبح فيه العلم يزداد غموضا وتعقيدا على الدوام، وابتعدت فيه لغته الرمزية المتخصصة عن إفهام العقول العادية ابتعادا تاما؟ لا شك أن التعليل الوحيد لذلك هو الطابع المصيري للعلم المعاصر؛ فمهما كانت صعوبة هذا العلم، فإننا جميعا نتساءل: هل يمكن تجنب كارثة حرب عالمية ثالثة؟ ونحن نعلم أن هذا السؤال المصيري - الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بمستقبل كل منا وبمستقبل أجيالنا الجديدة - يعتمد على مجموعة من العوامل، من أهمها العلم، كذلك نعلم أن مشكلات الحياة اليومية وهمومها - أعني مشكلات كالغذاء والإسكان والمواصلات والطاقة والبيئة - سيتوقف حلها إلى حد بعيد على الطريقة التي يوجه بها الإنسان أبحاثه العلمية في المرحلة المقبلة.
فلنتأمل إذن بعضا من هذه المشكلات؛ حتى تتكون لدينا صورة متكاملة عن ذلك الوضع الفريد للعلم في مجتمعنا المعاصر: (2-1) مشكلة الغذاء والسكان
ليس المرء في حاجة إلى أرقام أو جداول إحصائية لكي يقرر أن العالم يعاني - منذ الآن - من أزمة مستحكمة في الغذاء؛ ففي العالم أغلبية من السكان لا تحصل من الغذاء على الحد الأدنى اللازم لكي يحيا الإنسان حياة سليمة، وفيه أقلية متخمة يعاني كثير من أفرادها من الملل والأمراض الناتجة عن الإفراط في المأكل، وإذا كان النقص في كمية الطعام التي تحصل عليها الأغلبية الفقيرة خطرا، فإن النقص في نوعيته أخطر؛ فالغذاء اللازم لبناء الجسم لا يتوافر إلا بنسب ضئيلة لدى شعوب كاملة، وهو يهدد الأجيال الجديدة في مناطق شاسعة من الأرض بنمو جسمي وعقلي غير مكتمل.
ومن المؤكد أن هناك ارتباطا وثيقا بين مشكلتي الغذاء والسكان؛ فالازدياد الرهيب في عدد السكان يؤدي إلى تضاعف الطلب على الغذاء، على حين أن موارد العالم من الغذاء محدودة، وبطبيعة الحال فإن أحدا لا يردد اليوم آراء «مالثوس» الذي دق ناقوس الخطر في القرن التاسع عشر، مؤكدا أن العالم مهدد بمجاعة لأن السكان يتضاعفون بسرعة تفوق بكثير سرعة زيادة الموارد الغذائية؛ ففي الوقت الذي ردد فيه «مالثوس» هذا الكلام، كان سكان العالم ما زالوا قليلين، وكانت هناك موارد هائلة لم تستغل بعد في العالم، ولم يكن هناك بالفعل ما يبرر تشاؤمه المفرط، ولكن نذر الخطر أصبحت أوضح في عصرنا الحاضر، الذي تضاعف فيه عدد سكان العالم أكثر من مرة بالنسبة إلى القرن الماضي. والأخطر من ذلك أن الفترة التي يتضاعف فيها هذا العدد تقل باستمرار؛ ففي نهاية هذا القرن يتوقع العلماء أن تحمل هذه الأرض ضعف عدد من يعيشون فيها اليوم، وبعد عشرين عاما من القرن الجديد سيتضاعف العدد مرة أخرى، فهل ستكفي موارد الأرض من الغذاء لإعاشة هذه الأعداد المهولة؟
ولعل مما يزيد من قوة الارتباط بين مشكلة الغذاء ومشكلة السكان: أن البلاد التي تعاني من نقص واضح في التغذية، هي تلك التي يزداد عدد سكانها بمعدلات سريعة، على حين أن البلاد التي تتمتع بمستوى جيد في الغذاء هي عادة بلاد تقل نسبة الزيادة في سكانها، وربما استقر عدد سكانها عند مستوى معين منذ مدة طويلة؛ فالازدحام السكاني وارتفاع نسبة المواليد مرتبطان ارتباطا وثيقا بسوء التغذية.
ولكن هل يعني ذلك أن البشرية ستقف عاجزة عن إيجاد حل، وستنتظر المجاعة المحتومة دون أن تحرك ساكنا؟ وهل المخرج الوحيد من هذه الأزمة المرتقبة - والتي ظهرت بوادرها بوضوح منذ الآن - هو أن تتوقف الزيادة في سكان العالم، وخاصة في البلاد الفقيرة؟ لا شك أن هذا الحل لا يتناول إلا جانبا واحدا من جوانب الموضوع، وهو يفترض أن عددا كبيرا من الأوضاع الجائرة في العالم لن يطرأ عليه أي تغيير، ولا يمكن المساس به؛ ومن ثم يلجأ إلى تغيير وضع واحد فقط، هو عدد السكان.
ومن سمات هذا الحل أنه يلقي اللوم كله على البلاد التي تعاني من أزمة الطعام؛ فهو يبرئ جميع المذنبين، ويرمي بكل ثقل الإدانة على الضحية. إن معناه ببساطة هو أن هذه البلاد مسئولة عن المجاعة التي تعاني منها؛ لأن فيها من السكان عددا زائدا، وأنها هي أيضا المسئولة عن الحل؛ وذلك بأن تخفض عدد هؤلاء السكان إلى الحد الذي تصبح فيه مواردها كافية لإطعامهم.
Shafi da ba'a sani ba