والأمر الذي ينبغي أن نشير إليه أخيرا فيما يتعلق بالدور الذي تقوم به العقول الإلكترونية في العصر الحاضر، هو أن هذه العقول إذا كانت هي ذاتها نتاجا لتفكير وتطبيق علمي رفيع، فإنها من جانبها تعمل على زيادة ارتفاع مستويات التفكير العلمي في البلاد التي تستخدمها على نطاق واسع؛ ذلك لأنها إذا كانت تعفي العالم كما قلنا من عمليات شاقة تتعلق بجمع المواد العلمية لأبحاثه وتعريفه بجهود الآخرين، وإذا كانت تقوم بدلا منه بالربط بين العوامل التي تزداد تعددا وتعقيدا كلما ارتقى البحث العلمي، فإنها تتيح للعالم بذلك أن يتوغل في أبحاثه إلى مستويات أعمق، وتمكنه من أن يستكشف أبعادا للطبيعة كان من المستحيل أن يصل إليها في المرحلة التي كان يكتفي فيها باستخدام تفكيره العقلي الخاص. ومن هنا فإن التفكير العلمي ذاته يزداد دقة وتعمقا، وتظل الحركة المتبادلة مستمرة بين العقل البشري والعقل الإلكتروني؛ فالعقل البشري اخترع العقل الإلكتروني نتيجة لبلوغه مستوى عاليا من التقدم، والعقل الإلكتروني يعود فيساعد العقل البشري على إحراز المزيد من التقدم. وهذا التقدم الجديد يؤدي إلى تطوير العقول الإلكترونية بحيث تؤدي وظائف أوسع وأعقد. وهذه العقول الإلكترونية المطورة ترتفع بعقول العلماء إلى مستويات جديدة. وهكذا تستمر الحركة الحلزونية في صعودها، فاتحة بذلك آفاقا لم تكن البشرية تحلم بها في وقت من الأوقات. ومن هنا فقد أصبح عدد العقول الإلكترونية المستخدمة في بلد ما مؤشرا هاما، لا لتقدمه الصناعي والتكنولوجي فحسب، بل لتقدمه النظري أيضا ولارتفاع مستوى التفكير العلمي بين باحثيه.
ونستطيع أن نستطرد قليلا في وظيفة «الذاكرة الصناعية» التي تقوم بها العقول الإلكترونية؛ لأن لهذا الموضوع أهمية خاصة في عالمنا العربي على وجه التحديد؛ فالعقل البشري لا يستخدم قدراته على الوجه الأكمل إذا ما نظرنا إليه في ضوء أساليب البحث التقليدية التي لا تزال سائدة في بلادنا. وحسبنا أن نتأمل طريقة عمل أي باحث لندرك أن الجزء الأكبر من وقته وجهده يضيع في أعمال روتينية مملة ليس فيها خلق أو إبداع؛ كالبحث عن المادة العلمية اللازمة وسط ركام المؤلفات الهائل، وجمع قوائم المراجع، وترتيب المادة المعطاة، وكتابة الملخصات وعمل الحسابات، واستذكار قدر كبير من المعلومات واستيعابها، وهذه كلها أعمال لا تحتاج إلى إبداع أو ابتكار. ويمكن القول: إن تبديد طاقة العقل فيها هو أشبه بما كان يفعله الإنسان في العصور السابقة، حين كان يبدد الجزء الأكبر من طاقته الجسمية في العمل اليدوي قبل اختراع الآلات، كما أنه أشبه بالطاقة التي يبددها العدد الأكبر من النساء - حتى في وقتنا الراهن - في القيام بالأعمال المنزلية المملة المتكررة ... وكما أن الإنسان الذي كان يستخدم طاقة جسمه في العمل اليدوي لم يكن يتبقى له فضل من الطاقة يستخدمه في أي غرض أهم، وكما أن المرأة التي تقضي معظم ساعات يومها في أداء الأعمال المنزلية والروتينية لا تستطيع أن تبدي اهتماما بأية قضية فكرية جادة، أو أن تتذوق الفن الرفيع أو أن تمارس عملا عقليا يحتاج إلى تعمق، كذلك يؤدي انشغال عقل العالم بالأعمال الآلية إلى تبديد قدر كبير من طاقته الذهنية التي يحتاج إليها من أجل كشف فكرة جديدة أو ابتكار تطبيق غير معروف.
وهذا بعينه هو ما تفعله العقول الإلكترونية؛ إذ تنقل العقل البشري من مرحلة استخدامه «البدائي» في الأعمال الروتينية إلى مرحلة الانتفاع بقدراته إلى أقصى حد في الخلق والإبداع، وحين تفعل العقول الإلكترونية هذا فهي إنما تؤكد مرة أخرى ذلك التضاد - الذي لم نعترف به في بلادنا للأسف الشديد - بين ملكة الذاكرة وملكة الإبداع الذهني.
فما زال عدد غير قليل من علمائنا يتصور أن العلم هو الاستيعاب، وما زال منهم من يتفاخر في مجالسه باتساع معلوماته وتشعب معارفه، ويستعرض على الملأ قوة ذاكرته فيبهر الحاضرين بتلك الكمية الهائلة من المعلومات التي يضمها ذهنه، ويثبت لهم أنه «موسوعة متحركة» قادرة على استعادة واستظهار قدر غير عادي من الحوادث والوقائع، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون عملية استعراضية جوفاء، بل إن ملء الذهن بالمعلومات المكدسة كثيرا ما يكون على حساب قدرة هذا الذهن على الإبداع، وكأن التكدس والحشو الذي امتلأ به الذهن يمنعه من الحركة الطليقة، ويخلق لديه نزوعا إلى ترديد ما سبق له أن قرأه أو سمعه، وهو نزوع مضاد لكل إبداع. فالذهن المزدحم بالمعلومات - المنشغل دائما بما يأتيه من المصادر الأخرى - لا تعود لديه قدرة أو طاقة على كشف الجديد، بل يجد متعته الكبرى في «إفراغ» محتوياته أمام الناس في كل مناسبة، وهو عمل قد يبهر البعض، ولكنه لا يدل على أصالة أو ابتكار، وهكذا يبدو أن هناك تناسبا عكسيا بين استخدام المرء لذاكرته واستخدامه لملكاته الخلاقة، وهذا التناسب العكسي يسير - في عصر العقول الإلكترونية التي تتولى عن الإنسان أعمال الذاكرة الآلية - في صالح ملكات الإبداع بغير حدود.
ومن المستحيل أن نصحح هذا الوضع في بلادنا إلا إذا بدأنا منذ البداية، أعني أن نعيد بناء نظمنا التعليمية التي تعتمد الآن اعتمادا يكاد يكون تاما على تنمية الحفظ واستيعاب المعلومات؛ فنحن لا نحتاج إلى هذه الملكة - في عصر العقول الإلكترونية - إلا احتياجا ضئيلا، وأهداف نظمنا التربوية يجب أن تتحول تحولا جذريا؛ من تعهد ملكة الذاكرة وتنميتها وحشوها بالمعارف، إلى رعاية الملكات الابتكارية والإبداعية والقدرة على مواجهة المواقف الجديدة غير المتوقعة بذكاء وحسن تصرف، وهذا تحول سيكون علينا أن نواجهه - عاجلا أو آجلا - ما دمنا نعيش في عصر العقول الإلكترونية.
أما الإنجاز الثالث الذي نود أن نقول كلمة موجزة عنه - في هذا الحديث عن إنجازات العلم المعاصر - فهو غزو الفضاء، ومن المؤكد أن هذا الإنجاز كان ولا يزال وثيق الارتباط بالإنجازين السابقين؛ إذ إن العقول الإلكترونية قد لعبت دورا عظيم الأهمية في صناعة الصواريخ الفضائية وحساب مساراتها وتوجيهها، أما الطاقة الذرية واستخدامها في ميدان التسلح، فكانت بدورها من العوامل الفعالة المؤدية إلى إعطاء قوة دافعة لبرامج غزو الفضاء؛ إذ إن من الأهداف الرئيسية لظهور هذه البرامج وتطويرها - في فترة الحرب الباردة - أن تكون المركبات أدوات لحمل الأسلحة الذرية إلى قلب البلاد المعادية.
ولكن لنعد في قصة غزو الفضاء إلى الوراء قليلا؛ فمن المعروف أن الألمان - منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية - كانوا يسيرون بخطى واسعة في الأبحاث المتعلقة بتكنولوجيا الدفع الصاروخي، وأنهم وجهوا هذه الأبحاث في اتجاهات عسكرية أساسا، وتمكنوا خلال الحرب ذاتها من استخدام صاروخ
V
2 (ف
2 )، وكان المشرف على هذه الأبحاث هو عالم الصواريخ المشهور فون براون
Shafi da ba'a sani ba