ومنذ ذلك الحين أخذ ذلك الاتجاه إلى الجمع بين العلم والتكنولوجيا يزداد قوة بالتدريج، بعد أن ظهرت فائدته العملية بوضوح قاطع؛ إذ إن التطور الذي كان يستغرق مئات السنين على أيدي صناع مهرة أصبح يستغرق سنوات قليلة عندما يتدخل فيه العلم ويحل محل الخبرات المتوارثة التي لا تتجدد إلا ببطء شديد، واكتسب الإنتاج في مختلف الميادين قوة دافعة هائلة بفضل الاتحاد الذي ازداد وثوقا بين النظريات الأساسية وتطبيقاتها العملية. بل لقد أصبح ميدانا العلم والتكنولوجيا يستخدمان أساليب مشتركة ولغة واحدة، وظهر نوع جديد من البحث العلمي أخذ يكتسب أهمية متزايدة، ويحتل موقعا وسطا بين العلم النظري والصناعة هو «البحث التطبيقي» الذي يأخذ على عاتقه مهمة تحويل الكشوف النظرية الجديدة إلى مشروعات قابلة للتطبيق عمليا. وليس معنى هذا أن البحوث «الأساسية» - أعني تلك البحوث التي تكون الأساس النظري للتقدم العلمي، وتزود العلماء بفهم جديد لقوانين الطبيعة - لم تعد لها أهمية؛ إذ إن أحدا لا ينكر أن هذه البحوث هي دعامة كل تقدم علمي حقيقي - بل كل تقدم تكنولوجي - في أي مجتمع، ولكن المهم في الأمر أن نسبة الأبحاث التطبيقية إلى مجموع الأبحاث العلمية أخذت تزداد باطراد.
ولكن الأمر الذي يلفت النظر في عصرنا الحالي هو أن البحوث الأساسية - التي لها طبيعة نظرية خالصة - تتحول في أقصر وقت إلى تطبيقات إنتاجية؛ فالمسافة الزمنية بين ظهور البحث النظري واكتشاف تطبيقاته العملية قد قلت إلى أبعد حد في عصرنا الحالي، وقد أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق في ميدان الإنتاج منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم، فتبين لهم ما يلي: «احتاج الإنسان إلى 112 سنة (أي من عام 1727 إلى 1839) لتطبيق المبدأ النظري الذي يبني عليه التصوير الفوتوغرافي، وإلى 56 سنة (أي من 1820 حتى 1876) لكي يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون، وإلى 35 سنة (من 1867 إلى 1902) لظهور الاتصال اللاسلكي، وإلى 15 سنة (من 1925 إلى 1940) للرادار، و12 سنة (من 1922 إلى 1934) للتلفزيون، و6 سنوات (من 1939 حتى 1945) للقنبلة الذرية، وخمس سنوات (1948-1953) للترانزيستور، وثلاث سنوات (1959-1961) لإنتاج الدوائر المتكاملة.»
4
ومن المؤكد أن طول أو قصر المدة الزمنية التي يحتاج إليها الانتقال من الأساس النظري لكشف معين إلى ظهور الاختراع الفعلي، يتوقف على عوامل متعددة من بينها مدى الحاجة الاجتماعية إلى هذا الاختراع، ومقدار الوقت والجهد والمال الذي يبذل من أجل التوصل إليه؛ فمشروع إنتاج القنبلة الذرية - مثلا - كان مشروعا حيويا خلال فترة حرب قاسية، بل كان مسألة حياة أو موت، وكان يمثل سباقا رهيبا مع الزمن حتى لا يظهر هذا السلاح الفتاك عند النازيين فيصبح أداة لتحقيق أحلام دكتاتور مجنون مثل هتلر، ومن هنا كرست له موارد أغنى دول العالم، وأعطيت له أولوية مطلقة على ما عداه من المشروعات، وتفرغ له أعظم علماء الطبيعة في القرن العشرين، ولكن من الصحيح - رغم هذا كله - أن الشقة تضيق تدريجيا بين العلم النظري والتكنولوجيا التطبيقية كلما اقتربنا من العصر الحاضر.
بل إن المشكلة في أيامنا هذه قد أصبحت - في بعض الأحيان - هي مشكلة التسرع في التطبيق التكنولوجي قبل القيام بأبحاث علمية كافية. وقد ذاعت في العالم - في السنوات الأخيرة - فضيحة العقاقير الطبية التي أنتجت على نطاق تجاري قبل أن تمر مدة كافية لإجراء التجارب والبحوث التي تكشف عن أضرارها في المدى الطويل، وكان من نتيجة هذا التسرع في الإنتاج ولادة مئات من الأطفال المشوهين، أو عدد كبير من التوائم غير المرغوب فيهم، ومثل هذا ينطبق على كثير من مبيدات الآفات الزراعية التي تبين وجود أضرار جانبية خطيرة لها.
وعلى أية حال، فإن ما يهمنا من هذا كله هو أن العصر الحالي يشهد تداخلا وثيقا بين العلم والتكنولوجيا، زالت معه الحواجز الزمنية التي كانت تفصل بينهما في القرن الماضي، وظهرت في ظله أنواع جديدة من البحوث العلمية التي تجمع بين الأسس النظرية والجوانب التطبيقية في آن واحد. ونتيجة هذا هي أن العلم أصبح هو الأساس المؤكد لكل تحول تكنولوجي، وأن ما يقوم به الصانع المخترع أصبح يقوم به الآن عالم تطبيقي متخصص.
ولا شك أن التأثير الذي يسير في الاتجاه المضاد له بدوره أهميته الحاسمة: فكما أصبحت التكنولوجيا في عصرنا الحاضر متقدمة إلى حد مذهل بفضل ارتكازها على أساس من البحث العلمي، فكذلك أحرز العلم قدرا كبيرا من نجاحه السريع بفضل مساندة التكنولوجيا؛ إذ إن التكنولوجيا هي التي تعطيه أجهزة أدق وأدوات أفضل للبحث وطرقا أكثر فعالية لاختزان المعلومات واستعادتها بسرعة فائقة، وبالاختصار فإن هذا الامتزاج والتأثير المتبادل بين العلم والتكنولوجيا هو المصدر الأول لقوة الإنسان المعاصر.
هذا التحالف الوثيق بين العلم والتكنولوجيا - الذي رأينا أنه مصدر قوة الإنسان المعاصر - كان وما يزال يثير ردود أفعال متباينة بين المفكرين. وعلى الرغم من أننا نميل إلى تأكيد الرأي السابق، وأعني به أن البشرية قد أحرزت كسبا هائلا منذ أن عرفت كيف تربط بين العلم والتكنولوجيا، وتمكنت بذلك من أن تنهض بحياتها كما وكيفا على نحو كان من المستحيل تصوره أو حتى تخيله في أي عصر؛ على الرغم من ذلك فإن من واجبنا أن نعرض بإيجاز - قبل أن نختتم هذا الفصل - للآراء المختلفة التي يعرب فيها المفكرون عن تفاؤلهم أو تشاؤمهم إزاء هذه القوة الضخمة التي اكتسبها الإنسان الحديث بعد أن عرف كيف يزاوج بين العلم والتكنولوجيا: (1)
فهناك رأي متشائم عرضه بعض المفكرين، وخاصة أولئك الذين تغلب عندهم النزعة الأدبية، يذهبون فيه إلى أن هذا التزاوج بين العلم والتكنولوجيا سيخلق آلات ذات قدرات تزداد تعاظما على الدوام، حتى يأتي الوقت الذي يفلت فيه زمامها من يد الإنسان فتنقلب عليه وربما قضت عليه أو جعلته عبدا لها. ويبالغ نفر من هؤلاء المفكرين في تشاؤمهم فيتصورون مجيء يوم تكتسب فيه تلك الآلات التي يخلقها الإنسان نوعا من الوعي بذاتها، وحين تشعر بقدرتها التي تفوق بكثير قدرة الإنسان الذي أبدعها؛ تدرك أن الإنسان كائن يمكن الاستغناء عنه، وتحقق هذا الهدف بالفعل، ويسود عهد الآلة الصماء التي تحكم العالم بقوة «الحديد والنار» بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير المشهور. (2)
وهناك رأي آخر يتطرف في الاتجاه المضاد، فيذهب إلى أن الآلة هي التي ستحرر الإنسان من كل أشكال العبودية، وتأخذ بيده في طريق المستقبل الذي يحلم به. وأصحاب هذا الرأي يتصورون أن تقدم التكنولوجيا هو - في ذاته - ضمان ضد كل أنواع القهر، سواء أكان ذلك هو قهر الطبيعة للإنسان، أم قهر الإنسان للإنسان. وهكذا يدعو هؤلاء المتفائلون إلى إطلاق العنان للتقدم التكنولوجي بلا قيود، ويرون في التطور الذاتي التلقائي للآلة مبشرا بعهد جديد يحقق للإنسان الوفرة ويعفيه من كل جهد. (3)
Shafi da ba'a sani ba