Tafkir Cilmi
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Nau'ikan
بعد هذه الجولة السريعة من عرض «إبستمولوجيا مبدأ اللايقين عند فيرنر هيزنبرج»، فإنه يمكننا أن نخلص إلى أهم النتائج وذلك على النحو التالي:
إن المفهوم اللاحتمي الذي تمسك به أنصار مدرسة كوبنهاجن إنما هو نتيجة للارتباط والتمسك بمفهوم معين للحتمية هي الحتمية الميكانيكية التقليدية؛ فالميكانيكا التقليدية تتميز بالتحديد الفردي للظاهرة تحديدا مكانيا زمنيا مطلقا؛ أي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويجعل من التنبؤ بها أمرا يقينيا.
إن إقامة الحرية الإنسانية استنادا إلى حرية الإلكترون ومبدأ عدم التحديد هو تفسير غير سليم من الناحية المنهجية؛ لأننا بهذا نرتكب ذات الخطأ الغائي الذي ارتكبه فلاسفة اليونان، وبالأخص أبيقور عندما جعل من الميل سندا لإثبات حرية الإنسان؛ فتطبيق تصورات فيزيائية على تجربة إنسانية - هي الحرية - عملية غير ملائمة.
إن فكرة اللاحتمية والذاتية عند هيزنبرج ومدرسة كوبنهاجن قائمة على مبدأ وهو أنهم يحدون الموضوعية والتي يأنفون منها بحدود نيوتونية، بدلا من أن يجعلوا من النيوتونية، مقاربة معينة من الموضوعية. إن التحديد الدقيق لموضع الجسيم وسرعته في لحظة معينة عند نيوتن، ليس هو الحد المطلق للتحديد الدقيق وللموضوعية العلمية، وإنما هو شكل من أشكال التحديد بالنسبة للظواهر التي يمكن عزلها عزلا نسبيا ودراستها دراسة فردية.
إن المفهوم اللاحتمي عند هيزنبرج ومدرسة كوبنهاجن، إنما هو نتيجة للارتباط والتمسك بمفهوم معين للحتمية هي الحتمية الميكانيكية التقليدية. فالميكانيكا التقليدية تتميز بالتحديد الفردي للظاهرة تحديدا مكانيا زمنيا مطلقا؛ أي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويجعل من التنبؤ بها أمرا يقينيا؛ ولهذا كان التحديد الاحتمالي في الفيزياء الحديثة حتميا لعدم انطباقه على الحتمية الميكانيكية.
إن تفسير كوبنهاجن ليس خاليا من النقائص؛ فما يزال الكثيرون من الفيزيائيين يشعرون بالضيق بالنسبة للنظرية، التي يلزم قبل تطبيقها من توسيع الصورية بفروض إبستمولوجية (معرفية) معينة. أما حقيقة أن تفسير كوبنهاجن يرتكز على قبول الوجود المسبق للعالم الكلاسيكي الكبير، فإنها تبدو حقيقة دائرية ومتناقضة؛ لأن العالم الكبير يتألف من عالم الكم الصغير.
إذا كان أينشتين قد استبعد المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، فذلك راجع لكونه يمثل نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل.
إن الخبرة الضخمة التي تمدنا بها الاستعانة بالاحتمال في الفيزياء الحديثة تكشف عن أن الاحتمال ليس وصفا غير كامل للظواهر، وإنما صورة ملائمة وانعكاس دقيق للوقائع الموضوعية؛ فالاحتمال صفة واقعية موضوعية وليست جهلنا نسقطه على الواقع؛ فالظواهر الفيزيائية بما تتميز به من تشابك وتداخل وصيرورة وقابلية للتغير والارتدادية تجد في حساب الاحتمال التعبير عن حقيقتها. إن الظواهر التي تدرسها الفيزياء الحديثة لا تتميز بالحتمية الميكانيكية لا لنقص في معرفتنا أو لقصور منهجي أو لعدم دقة في القياس، وإنما لطبيعة هذه الظواهر نفسها، لطبيعتها غير الارتدادية ولطبيعتها المتداخلة المتشابكة المترابطة التي لا سبيل إلى تجزئتها إلى فرديات منعزلة بدون الخروج بها عن تلك الطبيعة. عندما قام الفيزيائي الألماني ماكس بلانك بوضع ميكانيكا الكم والكوانتم، والتي تبحث في قوانين الجزيئات والأجسام الصغيرة، كانت المفاجأة حين أعلن بلانك أن حركة الجسيمات لا يمكن التنبؤ بها، وأن حركة الجزيئات لا تخضع لما يعرف بالحتمية المادية، وظل الأمر مستغلقا مريبا إلى أن أتى هيزنبرج، وقام بالتأصيل للنظرية تأصيلا علميا فيما يعرف بمبدأ اللايقين.
لقد نجح هيزنبرج في أن يزيل الغموض الذي بقي يحيط بكيفية انتقال الإلكترون من مدار لآخر؛ إذ ماذا يحدث عندما ينتقل الإلكترون من مدار لآخر؟ وماذا تكون طبيعته وهو «بين» المدارين؟ هل تتم النقلة من مدار إلى آخر بكيفية متصلة أم بكيفية أخرى؟ وقد كانت إجابته تقوم على القول بضرورة التخلي كلية عن تصور الإلكترون كما لو كان يمثل جسيما صغيرا تنطبق عليه قوانين الحركة في الفيزياء الكلاسيكية. وعلى ضرورة اعتباره لا على أنه جسم ينتقل من مكان لآخر، بل كشيء يوجد بصورة متأنية في أمكنة مختلفة؛ وبالتالي لا يمكن أن يوجد «بين» مدارين مختلفين؛ لأن له طبيعة تخالف طبيعة الأجسام القابلة للإدراك تجريبيا.
إن المحاولة التي قام بها هيزنبرج الرامية إلى توضيح بعض الغموض الذي بقي عالقا بمسألة «انتقال» الإلكترون من مدار إلى آخر. ومسألة طبيعته عندما يكون خلال فترة «الانتقال» بين المدارين، كانت بمثابة القطيعة الكبرى مع العلم القديم؛ ذلك أنها تضمنت القول بضرورة التخلي عن تصور الإلكترون كما لو كان جوهرا ماديا صغيرا يخضع لنفس القوانين التي خضع لها العالم المعتاد، وعلى ضرورة تصوره ك «شيء يوجد» بكيفية متأنية في مواقع مختلفة.
Shafi da ba'a sani ba