Tafkir Cilmi
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Nau'ikan
71
وهنا نلاحظ أن أينشتين قد راعته فكرة اللاتنبؤية المتأصلة في العالم الفيزيقي ليرفضها في غير تحفظ بمقولته الشهيرة «إن الإله لا يلعب النرد مع الكون» فكان يرى أن ميكانيكا الكم قد تكون صحيحة في حدودها، لكنها بالرغم من ذلك ناقصة ولا بد من وجود مستوى أعمق من متغيرات دينامية مخبوءة تؤثر في النظام، وتضفي عليه لاحتمية ولاتنبوءية، في الظاهر لا أكثر . لقد أمل أينشتين أن توجد تحت فوضى الكم صيغة غاية في الدقة من عالم مألوف حسن السلوك من الديناميكا الحتمانية. ولقد عارض هايزنبرج ونيلز بور، وبقوة، محاولة أينشتين للتشبث بهذه النظرة الكلاسيكية للعالم. وامتد الجدل الذي بدأ في أوائل ثلاثينيات هذا القرن لسنين طويلة، كان أينشتين أثناءها يهذب من اعتراضاته ويعيد صياغتها. كان أكثر هذه الاعتراضات ثباتا هو ما اقترحه مع بوريس بودولكسي وناثان روزين عام 1935م، وهو ما يطلق عليه عادة اسم «أ ب ر» (والواقع أنه ليس ثمة مفارقة حقيقية). تتعلق هذه المفارقة بخصائص نظام من جسيمين يتفاعلان ثم يفترقان وينطلقان بعيدا عن بعضهما مسافة طويلة. تقول ميكانيكا الكم إن النظام يبقى كلا لا يتجزأ بالرغم من انفصال الجسيمين في الفضاء، والمتوقع أن تبين القياسات المتزامنة التي تجرى على الجسيمين المتلازمين (تدل على) أن كل جسيم يحمل (بمعنى يمكن تحديده تحديدا رياضيا جيدا) أثرا لنشاطات الآخر. يحدث هذا التعاضد بالرغم من قيود نظرية النسبية الخاصة لأينشتين نفسه والتي ترفض أي اتصال فوري مادي بين الجسيمين؛ فقد كان أينشتين يرى أن نظام الجسيمين يوضح القصور في ميكانيكا الكم؛ ذلك أن المجرب عندما يجري القياسات على الجسيم الثاني وحده (وهو ما يعني في الواقع استخدام هذا الجسيم بالإنابة كوسيلة للحصول على بيانات عن الجسيم الأول) فقد يستنبط حسب هواه موقع الجسيم الأول في تلك اللحظة أو كمية حركته. يقول أينشتين إن هذا بالتأكيد يعني ضرورة إضفاء قدر من الواقع في تلك اللحظة على الجسيمين كليهما؛ لأن الباحث يستطيع أن يدنو من أي منهما (لا كليهما) مستخدما نظام قياس لا يمكن أن يقلق الجسيم موضع الاهتمام (بسبب قيد سرعة الضوء).
72
ومن جهة أخرى رفض أينشتين اتخاذ مبدأ عدم اليقين في فيزياء الكم مثالا نمطيا لتداخل الذات الملاحظة في الموضوع «الملاحظ»، ودليلا على أن فيزياء الكم لا تصف حالة موضوعية في عالم مستقل، وإنما تصف مظهر هذا العالم كما عرفناه خلال وجهة نظر ذاتية معينة أو بواسطة وسائل تجريبية معينة؛ فخلافا لمدرسة كوبنهاجن ، لم يذهب أينشتين إلى التشكيك في الواقع الموضوعي، كما لم يربطه بالذات الملاحظة وبأدوات القياس. لقد كان على أتم اقتناع بحتمية الظواهر الكونية كبيرها وصغيرها، وبأن الاحتمال لا يعكس خاصية صميمة لمجال الظواهر اللامتناهية في الصغر، بل يعكس جهلنا أمامها، وبإمكان تحديد الظاهر تحديدا حتميا في المكان والزمان.
73
ويذكر عالم الفيزياء «جورج جاموف» أن أينشتين كان ضمن المجموعة التي انتقدت مبدأ اللايقين؛ إذ لم تسمح فلسفته (التي تركزت في تحديد الأشياء) بالسمو بعدم التثبت (اللايقين) إلى مرتبة المبادئ. وكما كان حساده يحاولون إيجاد متناقضات في نظريته الخاصة بالنسبية، حاول أينشتين اكتشاف المتناقضات في مبدأ عدم التثبت الخاص بفيزياء الكم. ومهما يكن من شيء فقد أدت مجهوداته هذه إلى تقوية مبدأ عدم التثبت. ومن الأمثلة الرائعة التي حدثت مصادفة وكانت تدل على ذلك، ما حدث في المؤتمر الدولي السادس للفيزياء الذي انعقد في بروكسل عام 1930م؛ فقد أجرى أينشتين - في أثناء نقاش كان يحضره بور - «تجربة ذهنية» تبين أن الزمن إحداث رابع للمكاني-الزمني، وأن الطاقة مركبة رابعة لكمية التحرك (كتلة في السرعة)، فقال إن معادلة عدم التثبت لهيزنبرج تتطلب أن يتوقف عدم التثبت في الزمن على عدم التثبت في الطاقة، وأن حاصل ضرب الكميتين يساوي على الأقل ثابت بلانك. ه. وراح أينشتين يحاول إثبات خطأ ذلك، وأن الزمن والطاقة يمكن تحديدهما من غير عدم التثبت بتاتا، فقال: خذ مثلا صندوقا مثاليا تبطنه من الداخل مرايا مثالية بحيث يستطيع الإبقاء على طاقة الإشعاع إلى ما لا نهاية من الوقت. عين وزن الصندوق. وبعد فترة تبدأ ساعة ميكانيكية سبق ضبطها - كما تضبط القنبلة الذرية - العمل على فتح بوابة مثالية لينطلق منها بعض الضوء. وبعد ذلك عين وزن الصندوق مرة أخرى. وبطبيعة الحال يكون التغير في الكتلة دليلا على طاقة الضوء التي تم إشعاعها وانبعاثها. وذهب أينشتين أنه يمكن بهذه الوسيلة قياس الطاقة المنبثقة والزمن الذي يتم فيه ذلك إلى أي درجة نريدها من الدقة، مما لا يتفق مع مبدأ التثبت. وفي صباح اليوم التالي، بعد قضاء ليلة ساهرة أذاع بور كلمة هادمة لبرهان أينشتين العكسي، وتقدم بتجربة فكرية مضادة استخدم فيها جهازا مثاليا خاصا به وقد بناه لتفنيد تجربة أينشتين.
74
وبصرف النظر عن نجاح تجربة أينشتين الذهنية من عدم نجاحها، إلا أنها لم تغير من رأيه في مبدأ اللايقين بأنه ناتج عن «عمليات موضوعية خالصة، وأن أداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد .»
75
ومن هنا شرع أينشتين يقدم مجموعة من الأدلة النظرية لنقد مبدأ اللايقين من خلال مناقشته نقده لميكانيكا الكم التي اتهمها بالذاتية والقصور؛ فقد أكد أن ميكانيكا الكم كأي جانب آخر من الفيزياء لا تتعلق إلا بالعلاقات بين موضوعات فيزيائية. وكافة قضاياها وتعبيراتها إنما تصاغ بدون أي إشارة إلى ملاحظ. والاضطراب الذي يحدثه الملاحظ .. مسألة فيزيائية بأكملها ولا تتضمن أي إشارة إلى تأثيرات صادرة من الكائنات الإنسانية من حيث إنهم ملاحظون. إن أداة القياس تحدث اضطرابا لا لأنها أداة يستعين بها ملاحظون من البشر، ولكن لأنها شيء فيزيائي ككل الأشياء الفيزيائية؛ فلقد رأينا عن طبيعة قياس موضع الإلكترون وسرعته، أنه لتحديد الموضع يستخدم شعاع ضوئي، ولكن هذا الشعاع نفسه مكون من فوتونات وبمقتضى الطول الموجي للشعاع تصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات وتغير من سرعته. كذلك الحال في حالة قياس السرعة. وعلى هذا فليست المسألة إذن تأثير ملاحظ أو ذات على العمليات الفيزيائية. وليس استخلاص حكم بعدم يقين علمي، نتيجة لتدخل الذات. وإنما هو شكل من أشكال التحديد الموضوعي للتداخل بين ظواهر فيزيائية خالصة. وعدم اليقين هذا ليس إلا نتيجة للتداخل الضروري بين عوامل فيزيائية متعددة؛ فمبدأ عدم اليقين ينطبق على الطبيعة سواء كنا ننظر إليها أم لا ننظر؛ ولهذا فهو مبدأ علمي فيزيائي خالص موضوعي وليس نتيجة لحدود المعرفة الإنسانية؛ فهو ليس عجزا إنسانيا، وإنما هو قياس لصفة معينة للإلكترون؛ ومن ثم فهو قياس لصفة فيزيائية خالصة. هذا إلى جانب أنه لا يكشف عن نقص في الإعداد الفني لمقاييسنا العلمية ولا يحدد من دقة هذه المقاييس، بل هو نتيجة هذه المقاييس ودلالة على هذه الدقة؛ لذا فإن الفهم الذاتي لمبدأ عدم اليقين وعدم التحديد فهم غير علمي كما رأينا؛ فعدم اليقين صفة كمية وتحديد فيزيائي خالص، لا يرتبط بالذات الدارسة ارتباط معلول بعلة. وليس نتيجة لعجز عن الكمال في المعرفة أو لنقص في مقاييسنا العلمية. وإنما هو مظهر للتداخل الموضوعي الخالص بين العمليات الفيزيائية. خلاصة القول فإن أينشتين واحد من العلماء الذين يتهمون فيزياء الكم بالذاتية والقصور، ويجعلون منها مرحلة مؤقتة من مراحل المعرفة، لا يردون ذلك إلى مبدأ عدم اليقين وحده، وإنما إلى الأساس المنهجي الذي تقوم عليه الفيزياء، وهو حساب الاحتمالات باعتبار أن الاحتمال وصف غير كامل للظاهرة الفيزيائية.
Shafi da ba'a sani ba