أغارُ إذا آنستُ في الحيِّ أنةً ... حذارًا وخوفًا أن تكون لحبّهِ
ومثله لصرّ در:
لم ألقَ ذا شجن يبوح بحبّه ... إلاّ ظننتك ذلك المحبوبا
حذرًا عليك وإنني بك واثق ... أنْ لا ينال سواي منكَ نصيبا
قد والله أساء إليه، وقبّح ذكره، ولو لم ينل منه نصيبًا قط كان أحسن. ومثله للحسين الضحاك، ومنه أخذ:
لم يشكُ عشقًا عاشقٌ فسمعتهُ ... إلاّ ظننتكَ ذلك المعشوقا
وقول ابن الأردخل
حاولت زورتكم فحل لكم
أقول: إنه لم يكن عالمًا بالفتوى إذ لو زارهم لما حلّ لهم قتله فكيف وقد حاول ذلك، ومنها:
ومتيم أصمته أسهمكم ... لم يدر يوم النفر كيف رُمي
كلفتموه الصبر بعدكم ... وأحلتموه به على عدمِ
ومثله لابن النبيه المصري:
أحلتَ سُلواني على ... ضامنِ قلبٍ منكسرْ
البيت الثالث مأخوذ من قول مهيار، وقد أحسن في قوله:
لم يدر من أين أصيب قلبه ... وإنما الرامي درى كيف رمى
والبيت الرابع أخذه المحيي فقال:
إذا طلب الوفاء غريم عذلٍ ... أحيل على سلوٍّ مستحيل
وكان المهذب بن الأردخل هذا شاعرًا من شعراء العصر، له في حسن الشعر نصيب وافر وقسط تام، وكأنما هو لسلامة مقاصده متصرف في أحداق الكلام، له طبع أمضى من السيف الصقيل وأعمل في الخواطر من لمحات الطرف الكحيل. ومن شعره، وهي في غاية الحسن:
للهِ نفسٌ بكم أعرِّفها ... تقضي وما ينقضي تأسّفها
وذات عرف منكم تجلدتُ لل ... احي فأنكرتها وأعرفُها
وقفت فيها وأنّ أرسمها ... ممحوّة بالدموع أحرفها
مكفكفًا عبرتي وودّي لو ... أنّيَ أبكي ولا أكفكفها
ماذا على الركب من أراقها ... وهل هي إلاّ بلوى أخففها
وكيفَ أصحو لا بل أصحّ وبي ... إلى مريضِ الجفونِ أوطفها
ومن شعره:
تأمل معي إن كنتَ للبرق شائمًا ... وإن لم تكن عونًا فلا تك لائما
سألتُ زرودًا عن مباسم غيده ... حكته سنًى أم بات يحكي المياسما
معاجًا فإنّي كلما ذُكرَ الحمى ... لأبهتُ يقظانًا فأُحسبُ نائما
ركائب لو قصرتُ من لغب السرى ... بنا لركبنا دونهن العزائما
جزعتم بذات الجزع إني محارب ... يد الله ما إنْ كنت إلاّ مسالما
سلبتم حياتي صفوها غير أنني ... غدوت عليكم لا على العيش نادما
فإن تبلغوني ذلك الأيك تسمعوا ... من النوح ما علّمت تلك الحمائما
ومن هنا أخذ ابن عبدوس، شاعر بغدادي فيما أظن أو من أعمالها، اجتمعتُ به وسمعت شعره، وكان ينشد شعرًا حسنًا - ولم يكن له في الأدب حظ - من قصيدة يمدح بها السعيد تاج الدين قدس الله روحه، غزلها يجاري الماء لطافة وإن كان مطلعها متعسفًا متكلفًا:
لا تفتكوا أهلَ الحمى بمسالمٍ ... لكم محبٍّ وافتكوا بمحاربِ
وأولها:
أصمتْ فؤادك يوم برقةِ عازبِ ... قسرًا جفون عواتكٍ وربائبِ
ومنها وقد أجاد:
بالله قل للنازلين على الحمى ... يا صاحبي إنْ كنتَ حقًّا صاحبي
لا تفتكوا أهلَ الحمى بمسالمٍ ... لكم محبٍّ وافتكوا بمحاربِ
وعلامَ يا أهلَ العقيق رغبتمُ ... في زاهد وزهدتم في راغبِ
أفنى جديدَ شبابه في حبّكمْ ... واهًا لذلك من جديد ذاهبِ
وأقولُ إذ سنحت ظبيةُ رملةٍ ... تختالُ بين مراتع وملاعبِ
كفّي لحاظك قد أصبتِ فؤادهُ ... من حيث لا يدري بسهمٍ صائبِ
يا ظبيةَ الوادي انقضى عمري وما ... قضّيت من نظرٍ إليك مآربي
أقول: لو أعطي هذا الشاعر نظرًا صائبًا وحسًا ثاقبًا لقال بعد قوله وأنشد:
إذا سنحت ظبية رملةٍ
شعر العباس بن الأحنف وهو:
لو كنتِ عاتبةً لسكنَ عبرَتي ... أملي رضاكِ وزرتُ غيرَ مجانبِ
لكن صددتِ فلم يكن لي حيلةٌ ... صدُّ الملولِ خلافُ صدِّ العاتبِ
فيكون قد أتى به أحق من قائله، وفيه من الحسن ما لا خفاء به عن متأمله.
وأنشدني هذا ابن عبدوس من غزل قصيدة يمدح بها المذكور، رحمه الله تعالى:
وقالت أين قولك لست أنسى ... هواك وحبّ غيرك مستحيلُ
وقد قال العواذل فيك عندي ... وعندك فيّ قد قال العذولُ
1 / 33