على أن جيتي يجيد في وصف الأشخاص لسبب آخر وهو أنه يأخذ أوصافه من الواقع ويرى بعض المناظر كما جرت له هو في حياته، وتلك سنته في جميع أبطاله حتى أبطال الغيب والخيال، فلما رسم «مفستوفليس» في رواية فوست جاء شيطانا إنسانيا أو إنسانا شيطانيا من طراز بديع، وإنما جاء كذلك لأن جيتي كان يقرأ أوصاف الشيطان في جميع العصور ويطبقها على من حوله، فأيهم كانت به بعض هذه الصفات في نفسه أو جثمانه رصده وراقب كلامه وأفعاله واقتبس منها ما يناسب مناظره.
وتعجبنا في هذا المعنى كلمة الأستاذ «أرنست لشتنبر جر» شارح جيتي المشهور حيث يقول: «وهذا الشيطان ألا تراه على قرب عجيب من الإنسان؟ ألا تراه في الحقيقة شيطانا فلسفيا نما على جذور صورة الشيطان في القرون الوسطى واستنفدها؟ ففيه من عنصر أهرمان في الديانة الزندية، وفيه من فلسفة الخليقة اليونانية، وفيه من التوراة وسفر أيوب، بل فيه ملامح مما قرأ جيتي في أفلاطون وأرسطو والقديس أغسطين، يمتزج ذلك بالأساطير الجرمانية وأقوال ولنج وبوهم وسودنبرج وليبنتز وشكسبير. وقد ترى فيه أحيانا لمحة سبينوزية؛ فثمة روح الهدم والإنكار في القرن الثامن عشر، وثمة فيلسوف فرنسي، وثمة فلتير، وثمة كل ما هو كريه في الفترة الزوبعية التي كان ينتسب إليها الشاعر، ويصح أن تقول في بعض المواطن إنه هو روح الفترة الزوبعية بعينها، وإنه يتراءى بسمات من بهريش وهردر ومرك على الخصوص وباسدو ودارب المصور وبير وجيتي نفسه، وهكذا أبدع جيتي الشيطان العالمي وصهر في بنية واحدة شياطين جميع العصور.»
يريد «لشتنبرجر» أن يقول: إن جيتي رسم صورة الشيطان كما تطورت من أقدم العصور إلى أن تحدرت إلى عصره بل إلى نفسه، وخلاصة هذه الأطوار تندمج في تعريف الشيطان نفسه بأنه جزء من تلك «القوة التي قد تنوي الشر ولا تفعل إلا الخير»؛ فعلى هذا المعنى ليس يأبى جيتي تلك المماثلة بينه وبين الشيطان! وهو الذي أثنى على ناقد فرنسي ألمع إلى تلك المماثلة في مجلة الجلوب فقال: إن ملاحظات هذا الناقد نافذة؛ لأنه لم يلاحظ ما في البطل الأول من قلق الدءوب فحسب، «بل لاحظ منه التهكم والسخر المرير في مفستوفليس كأنه جزء من نفسي».
فجيتي يماثل شيطانه الساخر أحيانا كما يماثل بطله العالم الساحر طالب المتعة والفهم في عالم الحس وعالم الفكرة، أو فوست يماثل الشاعر في بعض حالاته والشيطان يماثله في بعض حالاته الأخرى، وقد يماثلانه معا في حالة واحدة.
إلا أن الشيء الوحيد الذي لا يماثلانه فيه هو الحركة الدائبة؛ فإن فوست والشيطان يتحركان ويركضان أما جيتي فيدع موكب الدنيا يتحرك أمامه ويلتفت إلى كل صف من صفوفه في ساعة مروره، ولقد تغنى في مطلع فرتر بمتعة الحاضر وتغنى في ختام «فوست» بجمال اللحظة الحاضرة، فأوحى إلى فوست أن يناشد اللحظة العابرة أن تقف بين يديه لأنها جميلة، فعبرت لا تصغي إليه!
فكأنه بدأ حياته وختمها في عالم الأجزاء المفرقة، فشهد الدنيا جزءا كأصدق ما يشهدها شاهد، وكان كمن ينظر إلى القمر خلال المنظار يراه قطعة قطعة أصدق مما يراه أي ناظر، ولكن الناظر يراه كله جملة واحدة أصدق مما يراه صاحب المنظار.
ولهلم ميستر
إذا كانت «فوست» أكبر كتب جيتي الشعرية فولهلم ميستر هي أكبر كتبه النثرية، تلك رواية تمثيلية وهذه رواية قصصية، وقد جرى في تأليفها على عاداته ولا سيما في كتبه المطولة، فبدأها في سنة 1777 وفرغ منها في سنة 1821، وقسمها إلى جزأين أحدهما سماه تلمذة ولهلم ميستر والآخر رحلاته، وكان شأنه فيهما كشأنه في جزأي «فوست» على السواء. فالأول منسجم قوي والثاني مضطرب ضعيف، والأول بين صاف والثاني غامض موشع بالرموز والأسرار. وقد لجأ هنا إلى الحشو والتلفيق كما لجأ هناك. فمن ذلك ما قصه أكرمان وأثبته في أحاديثه يوم الأحد الخامس عشر من شهر مايو سنة 1821، فقال بعد كلام عن كتب جيتي التي تطبع بعد وفاته:
ثم تكلمنا عن الحكم والخواطر التي طبعت في ختام الجزأين الثاني والثالث من الرحلات، وكان جيتي لما شرع في تنقيح هذه الرواية وإتمامها قد نوى أن يمدها إلى جزأين بدل جزء واحد، كما جاء في الإعلان عن الطبعة الجديدة لمؤلفاته الكاملة، ولكن الرواية تجاوزت ما قدره لها أثناء الكتابة، وكان كاتبه يوسع الكلمات والسطور فخدع جيتي وظن أن ما عنده كاف لثلاثة مجلدات لا لمجلدين اثنين، وعلى هذا أرسل المسودات في مجلدات ثلاثة إلى الناشرين. فلما بلغ الطبع موضعا من الرواية تبين لجيتي خطأ الحساب وعلم أن الجزأين الأخيرين صغيران في الحجم، وبعث الناشرون في طلب المزيد، ولا سبيل إليه لصعوبة التغيير في مجرى الرواية وإضافة حكاية جديدة في هذه العجلة، فحار جيتي في الأمر، واستدعاني فأفضى إلي بالمسألة وذكر لي كيف فكر في تلافيها، ووضع بين يدي ملفين كبيرين من الأوراق المخطوطة التي أخرجها لهذا الغرض، ثم قال لي: إنك ستجد في هذين الملفين أوراقا شتى لم تنشر ومقطوعات مبتورة تامة وغير تامة، وآراء في العلوم الطبيعية والفن والأدب والحياة يختلط بعضها ببعض. فماذا ترى في اقتباس صفحات ست أو ثمان مطبوعة من جميع هذه الأوراق لسد الفجوة في الرحلات؟ إنها لا شأن لها بالرواية إذا توخينا الدقة ولكننا نستطيع أن نسوغ إضافتها بما سبق من الإشارة إلى المحفوظات المدخرة في بيت مكاريا حيث تصان أمثال هذه الأوراق، وكذلك نذلل الصعوبة في الوقت الحاضر ونعثر بالوسيلة التي تتيح لنا أو نزجي إلى الدنيا بهذه الأشياء الممتعة.
هذا بعض أنماط التأليف عند جيتي في الروايات والكتب، وفي هذه الرواية عدا ذلك كتاب كامل أو باب كامل أضافه إليها بأوهى سبب! ونعني به الكتاب السادس من تلمذة ولهلم المشهور باسم «اعترافات النفس الطيبة»؛ فهذا الباب يطبع الآن على حدة فلا يشعر القارئ أنه مقتضب من رواية شاملة، وأصله مستمد من أحاديث ورسائل لإحدى صديقات أمه اسمها سوزان كاترين كلتنبرج وصفها في الباب الثامن من ترجمة حياته وقال: إنها هي صاحبة الاعترافات التي ضمها إلى «تلمذة ولهلم ميستر»! فانتظم له بهذا باب مسهب كسائر الأبواب!
Shafi da ba'a sani ba