ولا يبعد أن يكون جيتي في هذه القصيدة ناظرا إلى قصة روسو وصاحبته مدام ديبنيه التي كانت تدعوه بدبها؛ بيد أن القصيدة مع هذا كبيرة الدلالة على «ليلي» وعلى الشاعر المتهكم الصادق في التهكم، فأي وصف لجيتي أصدق من وصفه لنفسه بالدب بين السباع! إذ ليس هو بالنمر الهجامة المغتال ولا هو بالفيل البطيء الأنيس، ولكنه قوام بينهما و«أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبا ...» وهذه صورة لجيتي سيذكرها القارئ كلما ازداد علما بخلائقه وأخباره.
تلك هي ليلي وذلك هو جيتي! فأما «ليلي» الفتاة اللعوب فما كانت لترضي أبا الشاعر الحريص على العرف والآداب المثلى في البيئة القديمة، وأما «جيتي» الفتى القليل اليسار فلم يكن ليرضي صاحب المصرف الحريص على الثروة والسعة، ولو وقف الأمر عند هذا لما صعب تدبيره وتذليل عقباته، وإنما العقبة الكبرى في الحقيقة هما الحبيبان لا والد الحبيبة ولا والد الحبيب، فلا ليلي كانت تجد في طلب الزواج ولا جيتي كان يجد في طلبه، ولكنها رأت بين يديها فتى وسيما مشهورا يتحدث الناس بروايته عن «آلام فرتر» وبالحب الذي أوحى تلك الرواية فودت أن تجرب قدرتها في فتنته، وكذلك رأى هو حبيبة فاتنة مزهوة لعوبا وهو يعالج رسيسا من الحب القديم فهويها وتعلق بها. وظل هكذا مترددا لا يبلغ من عشقه أن يشتد فيحطم الحوائل ويقدم على الزواج ولا يبلغ من إعراضه أن يتنحى وينسى. وإنه لكذلك إذ أنقذه رسول الأمير بالدعوة إلى فيمار، فلباها وإن ما به من رغبة الإفلات لفوق ما به من رغبة اللياذ بالأمير. •••
وما استقر في فيمار حتى أخذ يتسلى عن هذه الخيبة الجديدة بمعشوقة جديدة، إلا أن معشوقة اليوم امرأة وافية الأنوثة وليست بصبية غريرة، امرأة تكبره بنحو سبع سنوات وتعرف من شئون الدنيا وخفايا قلب الرجل وقلب المرأة ما ليست تعرفه فتاة ويندر أن تعرفه امرأة؛ لأنها جمعت إلى خبرة السن خبرة البلاط؛ حيث كانت إحدى الخواتين وكان زوجها أمين القصر الأميري، وجمعت إلى الخبرتين معا خبرة الفهم والفن والاطلاع، فكانت موسيقية مصورة تغني وتقرأ الشعر وتخوض في المعارف العامة، وقد تشوق كلاهما إلى الآخر قبل أن يراه فسمعت هي بجيتي وحسنه ورأى هو صورتها وأعجب برشاقتها، فلما تلاقيا كانا على أهبة للحب فتحابا. وطالت صلة الحب بينهما عشر سنوات يراها وتراه ويكتب إليها وتكتب إليه، وتدافعه تارة وتجاذبه تارة أخرى، وهي في جميع ذلك تتعهده بيد صناع فلا يشبع ولا يمل، فإذا آنست منه الملالة فسرعان ما تعيده إليها بألعوبة كيسة وحيلة مطمعة ميئسة. وفي إحدى قصائده إليها يقول لها: «أنت تعرفين كل حركة في ضميري وتلمحين كل هزة في وشائجي وعروقي، وتستطيعين بفرد نظرة منك أن تقرأيني، أنا الذي طالما تعبت عيون بني الفناء في النفاذ إلى سريرتي، أنت تسكبين السكينة في دمي الفائر وتقومين خطاي الشاردة الهوجاء.»
صورة البارونة فون شتين بيدها.
وجيتي يعني ما يقول؛ ففي هذا الخطاب بيان لسر هذا العشق الذي قام على تفاهم الفكرين وتقارب النفسين، وما كان جيتي بالمخدوع في ذكائها فقد شهد صديقه شيلر بفضلها وعذره في إعجابه بها، وما كانت على عيني شيلر غشاوة الحب التي تحجب الحقيقة عن المحبين.
وقد لبثا على غرام يحتدم يوما ويسكن يوما حتى نيفت المعشوقة على الأربعين ووقع جيتي في شباك غرام جديد، فتغاضبا وتعاتبا وأراد منها أن تكون الصديقة فأبت إلا أن تكون العشيقة! فانبت ما بينهما برهة ثم تراجعا إلى الود ورضيا بالولاء الدائم بعد الغرام الزائل. وعاشت إلى الرابعة والثمانين فهنأته آخر تهنئة لها بعيد ميلاده، فرد عليها بأبيات متكلفة هي جهد ما استطاع من إحياء لماضي الغرام الدفين.
تلك هي البارونة فون شتين الألمانية التي تنتمي من ناحية الأم إلى أسرة إيقوسية، وهي أذكى وأقدر صواحبه الكثيرات، وهي التي شاطرته كما رأيت حياة الفكر والقلب والخيال، ونعم في ظلها بسكينة كان في حاجة إليها، وأنس إلى قربها أنس الحنان والولاء. •••
أما «بتينا برنتانو» فهي من سلالة إيطالية من ناحية أبيها، وهي أهم عندنا مما كانت عند جيتي؛ فقد حفظت في كتابها أحاديث له ولأمه لا غنية عنها في شرح ترجمته، وربما كان الأصح أنها هي عشقت جيتي ولم يكن لها بعاشق: عشقته وهو في الثامنة والخمسين وهي في مقتبل الشباب.
وكان هو يعرف أمها مكسميليان ويعبث بمغازلتها في فرنكفورت بعيد إخفاقه في حب شارلوت، فلما زارته «بتينا» في فيمار أزعجته بجماحها ورعونتها وفرط غيرتها في غير موجب؛ فقد كانت طفلة في مزاجها وألاعيبها وليست هي بطفلة في سنيها، وأهل أسرتها كلهم مشهورون بهذه الخفة على شهرتهم بالفطنة واللوذعية! ولم يكن أثقل على جيتي من الرعونة و«الشيطنة» الصبيانية، ولا سيما بعد أن جاوز الشباب وأوشك أن يجاوز الكهولة إلى الشيخوخة، فما هو إلا أن علم أنها شتمت زوجه على أثر خلاف بينهما في معرض الصور حتى اغتنم الفرصة وأبى عليها أن تدخل بيته بعدها. فراحت ترجو وتتوسل وهو على إعراضه مصر وبجفائه معتصم، ولولا كتاباتها عن جيتي لصح أن نغفل ذكرها في هذه الكلمة السريعة.
جزء من خطاب فرنسي إلى البارونة فون شتين بخط جيتي وفي ذيله أبيات بالألمانية.
Shafi da ba'a sani ba