لكنه كان يتمنى ذكرى الشباب على خطأ أو على صواب، فعزاء له ولا ريب أن تضمه الأرض إليها وهي في نضرتها وأن تلف ذكراه في أكفان ربيعها؛ فقد مات في الثاني والعشرين من شهر مارس خاتمة الشتاء، فلا يذكره الذاكرون إلا بدرت إلى أذهانهم صور الربيع في مطلع وروده ورياحينه! وتلك قسمة خير من قسمة صاحبه المغاضر قبل أوانه؛ وإن لم يكن فيها محاباة من القدر ولا إجحاف.
نعم لا محاباة من القدر في هذا الازدواج بين تحية جيتي وتحية الربيع، فإنما عاش الرجل حياته كلها على طولها في ربيع ناضر من نسج الفن والطبيعة على السواء، ونشأ في حجر الجمال من لدن كان في طفولته الأولى إلى أن نيف على الثمانين؛ ففي الرابعة عشرة حب وجمال وفي سرير الموت حب وجمال! وكانت إحدى كلماته الأخيرة في غيبوبة الاحتضار إشارة إلى رأس امرأة في الخيال. فقال لمن كان يراهم في غيبوبته من ملأ الفنون: «انظروا إلى رأس تلك المرأة الفاتنة ذات الغدائر الفواحم في لونها الفاخر من ورائها الظهارة السوداء!» وهكذا كانت عيناه لا تملان محاسن الدنيا في صحو ولا غيبوبة، وقلما فارقه الصحو في أزمات الروح والجسد، وقلما احتوته الغيبوبة إلا في قبضة الحمام أو في قبضة السقام.
بل لقد خطب الرجل وهو في الرابعة والسبعين فتاة في التاسعة عشرة! فلما أعرضت عنه تشفع إليها وإلى أمها بأميره الذي حقق فيه قول أبي الطيب:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي
عند التي تركتني في الهوى مثلا
فلما أصرت أمها على الرفض كما ينبغي أن تصر كل والدة في مثل هذه الخطبة انقلب إلى بيته مزودا بقبلتين اثنتين جادت بهما الفتاة عليه في موقف التعزية! وراح يعاني برح الغرام وينظم قصائد الغزل! وينسى أنه لا يبدو للدنيا في صورة ربيعية وإن كانت الدنيا لا تبدو له إلا كذاك!
وظلت الحياة يانعة لقريحته كما ظلت يانعة لقلبه، فأثمرت شجراته في الفن والعلم أطيب الثمر، وأخصبت أيامه كلها في شتى المباحث والمشاركات كأخصب ما عرف في أيام الشعراء المفكرين، فمن شعر إلى شريعة إلى سحر إلى تصوير إلى موسيقى إلى طب إلى معادن إلى نبات، تختلف في الجودة ولكنها لا تختلف في النماء، فإن أينعت منها جوانب وأقفرت جوانب أخرى فكما تختلف البقعتان في الأوان الواحد، هذه عداها الماء والزرع وهذه يجري إليها الماء وتعمل فيها يد الأكار، وكلتاهما مطويتان في أوان الربيع، وليس اختلافهما كاختلاف الربيع والشتاء، أو كاختلاف النضرة والذبول.
أجل! هو ربيع دام في هذه الأرض نيفا وثمانين عاما يخصب حينا كما يخصب الربيع ويجدب أيضا كما يجدب الربيع، وهو ربيع الطبيعة والفن معا ... فإن شئت فقل إنه تمثال حياة، وإن شئت فقل إنه حياة تمثال! ولكنك لا تستطيع أن تتصوره دون أن تجمع في تصورك إياه بين الحياة والتمثال في إهاب واحد! وستعلم من تفصيل وصفه اللاحق أننا نعني الحقيقة هنا ولا نعني اللعب بالكلمات.
جيتي في سنة 1826.
ولد جوهان ولفجانج جيتي بمدينة فرنكفورت في الثامن والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1749، من سلالة كان فيهم الحائك والحداد والبيطار والضابط والتاجر؛ فهم من ناحية الأبوين صناع ارتقوا إلى طبقة الموسرين، وكان أبوه في الحادية والأربعين وأمه في الثامنة عشرة حين ولد لهما هذا الطفل المشكوك في حياته الذي عاش بعد ذلك إلى الثالثة والثمانين، فشب في بيت لا تقارب فيه بين الأبوين في السن ولا تقارب في المزاج؛ إذ كان أبوه جافيا شديدا في «النظام» حريصا على سمت وجاهته ولقبه الذي اشتراه بالمال، مرير النفس لفشله في رجاء العظمة والظهور، وكانت أمه طروبا ضحوكا مشغوفة بالسرور. ووصف جيتي في شيخوخته ما ورثه من كليهما فقال إنه ورث من أبيه قوة الخالجة والشك والتطلع، وورث من أمه المرح وحب الحياة والخيال! وكانت أمه فيما عدا ذلك تقرأ الكتب الخفيفة من أدب الألمان والطليان فتبث في ولدها - أو في أخيها كما كانت تسميه بعض الأحيان - هوى القراءة والتخيل والأقاصيص، فميراثه منها في القريحة أكبر وأزكى، وشبهه بأبيه أقرب وأوضح كما ترى في صور الثلاثة.
Shafi da ba'a sani ba