Tacbiriyya
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
Nau'ikan
نافذة تتلمظ بالخيانة،
فروع «الشجر» تخنق،
جبال الأغصان تحف بضوضاء،
صرخات،
موت.
هذه هي القصيدة، أو هذا هو «الموازييك» الذي صفه الشاعر قطعة بجانب قطعة أو كلمة بجانب كلمة. استبعد من العبارة اللغوية كل ما وجده سطحيا أو تافها. حذف أدوات التعريف (فيما عدا الكلمة الأولى من القصيدة) والضمائر وأدوات الربط. لم يبق إلا على الأسماء والأفعال التي جعل منها كلمات مستقلة تؤدي وظيفة الجملة الكاملة. أما بناء العبارة فقد اختصره إلى أقصى حد ممكن بحيث لم تبق منه إلا كلمات أولية متوترة حادة مركزة، توشك أن تتخلى عن دلالتها الصوتية والمعنوية لتتحول إلى صرخات أو مشاعر من الخوف والرعب والقلق. قد تقول: هي تجربة، وللتجربة حقها المقدس في كل مجال، فلم لا تمارس حقها في اللغة أيضا؟! هذا صحيح. ولكنها تجربة تشرف على حدود الصمت. وهي في الأدب التعبيري نفسه تجربة ثورية متطرفة. ولكن يجب ألا ننسى أن الثورة التعبيرية كانت كذلك ثورة على النحو ومنطق اللغة. لقد ثاروا على البناء التقليدي للعبارة، والترتيب المنطقي للكلمات، بمثل ثورتهم على البناء التقليدي للمجتمع، والنظام المألوف في الطبيعة والواقع. كان كل همهم أن يثيروا القارئ بأقل عدد من الكلمات وأكثره دلالة على المعنى؛ والمعنى يتصل دائما بالغضب والتمرد والرغبة في التغيير. تصوروا أن هذا هو أقرب وسيلة للتركيز على كل ما هو هام وأساسي. حولوا الكلمات إلى شظايا متفجرة وصيحات حادة لتكون أقدر على النفاذ إلى أعماق القارئ. إنهم لا يقدمون الوصف بل الحدث، ولا يعنون بالملاحظة بل بالرؤية. كل ما هو ساكن أو جامد دبت فيه القوة والحياة. الحركة والسرعة والطاقة والعنف والفعل والتفجر، تلك هي المقولات الأساسية عندهم، بهذا يصبح الإيقاع هو أول العناصر الفنية ويفقد الشكل الخارجي للقصيدة أهميته. وهم لذلك يحطمون كل القواعد الكلاسيكية التي تفسد هذا الإيقاع أو تعوق حركته، ويتمردون على كل القيود والأشكال التي التزم بها الشعراء السابقون، ويكرهون الوزن والقافية، ويبغضون أشكال «السوناته» و«الأوده». لا ضرورة إذن للالتزام بالبحور التقليدية ولا التركيب اللغوي للجملة ولا الترتيب المنطقي للعبارات؛ فكلها أشكال خارجية، والكلمات المكثفة وحدها قادرة على إحداث الإيقاع المطلوب، وتعميق الإحساس الذي يريد الشاعر أن يعبر عنه، وهي كذلك قادرة على أن تصدم القارئ وتثيره وتفزعه (وهذه الصدمة هي أكثر ما يحرص عليه الشاعر الحديث منذ عهد رامبو!) أتكون هذه مزايا أم عيوبا؟ لكل شيء بالطبع مزاياه وعيوبه، والأمر يتوقف على الطريقة التي تنظر بها إليه . ولكن أهم ما يميز هذا الفن الشعري عند التعبيريين أنه فن قلق مقلق في آن واحد، يصدم القراء ويسعى إلى ذلك سعيا. وهو فن مفعم بالعاطفة والحماس والعنف الذي يصبح في بعض الأحيان نوعا من الحمى والهذيان، وهو يتعمد البعد عن التجانس والنظام والاتزان والتعقل والحرص على النسب، وكل ما يدخل في قائمة القواعد والأصول التي التزمها الكلاسيكيون؛ أي إنه في النهاية فن ذاتي إلى أبعد حد، شوه فيه الواقع وتحررت اللغة من القواعد الموضوعية والتاريخية وحلت محلها لغة شخصية قادرة على التعبير عن الرؤى العنيفة المتطرفة؛ ولذلك فإن الشاعر لا يخشى أن يخلق كلمات جديدة أو يخلع على الكلمات المألوفة معاني غريبة وجديدة (ولو استطاع لخلق لغة جديدة وأحال اللغة المعروفة إلى شواظ ملتهب أو طلقات رصاص أو صرخات حادة!)
فإذا تركنا الشكل وانتقلنا إلى مضمون هذه القصائد (جريا على التقسيم المعروف الذي نلجأ إليه رغبة في التبسيط لا غير!) وجدنا أن أهم ما يميز أشعار التعبيريين - بوجه عام - هو التحول من الضمير الشخصي إلى ضمير الجماعة؛ أي من «الأنا» إلى «النحن». حدث هذا بعد اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، وأصبحت القصائد أكثر صراحة والرسالة التي يعلنها الشاعر أشد وضوحا. لقد آن الأوان لتأكيد الدعوة للإنسان الجديد. وأصبحت هذه الدعوة - بل الصرخة - أشد إلحاحا، أمام رعب الحرب وأهوالها وفظائعها الدموية، وازداد العطف على الإنسانية الجريحة، وتتابعت النداءات والصيحات والبيانات. لم يعد هناك مكان لوصف الطبيعة. إن القصيدة تعبر الآن عند المدينة أو عن الحرب، المدينة المفزعة الهائلة، المدينة الصناعية المفتعلة بكل وحشيتها وضخامتها وضياع الفرد الوحيد في زحامها، بكل ضجيجها وضوضائها الخانقة، بأحيائها البائسة المزرية التي يتراكم فيها الكادحون والعمال الفقراء، ببيوتها الميتة ونوافذها الخاوية الصامتة كالقبور، المدينة المجنونة بالسرعة والصخب كأنها الكابوس.
والحرب، ألم تشغل أهوالها الشعراء منذ أيام هوميروس؟ ألم تحركهم مآسيها وفظائعها للغناء والبكاء؟ نعم، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت في نظر هذا الجيل من الشباب شيئا لم يسبق له نظير (ترى هل من حسن الحظ أم من سوئه أن معظم الشعراء والفنانين التعبيريين سقطوا قتلى في الحرب الأولى أو ماتوا قبل أن يشهدوا فظائع الحرب العالمية الثانية أو فظائع المستعمرين في الشرق الأقصى والأوسط؟) الحرب أحالت الطبيعة الحالمة التي غنى بها أسلافهم الرومانتيكيون والكلاسيكيون إلى جحيم أرضي؛ مزقت الأشجار والأجساد، شوهت ودمرت، ملأت الشوارع بالجثث والأشلاء، أغرقتها بدماء الجرحى وأنينهم، بدأت الحرب فبدأت معها نهاية العالم، وعلى الشاعر الذي لم يسقط في الميدان، أن يكون شاهدا على هذه الفظائع التي يقدم عليها الإنسان، أن ينقل اشمئزازه من القبح والوحشية إلى قصيدته، أن يجعل منها لوحة صارخة مثيرة، أن يحول كلماتها إلى صيحات احتجاج مدوية، بهذا يدفع قراءه إلى الثورة والتغيير، ويحفزهم على الإصرار على عالم جديد يحيا فيه الإنسان أخا للإنسان، حتى الإصرار لا يكفي، بل لا بد من العمل على خلق هذا العالم والتعجيل به.
ولقد فعل الشاعر التعبيري كل ما في طاقته لتحقيق هذا الحلم الأبدي المنحوس، وقدم لوحات غنية بآلام الإنسان وعذابه؛ لوحات تصور الخليقة الجريحة المعذبة المشوهة بألوان صارخة تكاد تصل في صراخها إلى حد الهوس والجنون. والحق أنه لا بد من إنصاف هؤلاء الشعراء حتى لا يبدوا كالأطفال السذج المتشنجين العاطفيين. لا بد من القول بأنهم لم يكتفوا باليأس والصراخ والاتهام، بل نادوا على الدوام بالفجر الجديد والإنسان الجديد، ودعوا بنبرة صادقة حارة إلى محبة الجار والأخوة البشرية الشاملة. وقد يعترض ناقد حديث بأنهم دعوا إلى إنسان كلي مطلق؛ أي لم يدعوا إلى شيء محدد. هذا صحيح في جملته، ولكن هذا النوع من النقد الذي استشرى في السنين الأخيرة أقرب إلى السياسة منه إلى الأدب، ومع ذلك فإن معظم هؤلاء الشعراء قد سقط في الحرب أو انتحر أو جن وتشرد في البلاد، وبعضهم شارك بالفعل في الكفاح في صفوف العمال والفقراء والمستغلين وانضم إلى الأحزاب والحركات اليسارية في ذلك الحين، بل صار فيما بعد من أقطاب هذه الحركات السياسية (مثل يوهانس بشر أو برشت وغيرهما). المهم أن تهمة عدم الانتماء إلى مذهب أو حركة أو ثورة «محددة» لا يمكن أن ينفي عن هؤلاء الشعراء شرف الثورة «الشاملة» ضد الظلم والقهر والاستغلال وتعذيب الإنسان. وأحسب أن هذا هو أقصى ما يمكن أن نطلبه من الفنان والأديب. •••
ولنحاول الآن أن نتعرف إلى الأسماء الهامة في الحركة التعبيرية، ونتحدث قليلا عن بعض أعلامهم بقدر ما يسمح به المجال. ومن المستحيل بالطبع أن أقدم للقارئ قائمة كاملة بأسماء هؤلاء الشعراء والكتاب، أو تفسيرا متعمقا لأعمالهم. إن كتب التاريخ الأدبي أقدر مني على هذا. وأقصى ما أطمح إليه في هذه الصفحات القليلة هو أن يخرج القارئ بفكرة عامة عن الجو الذي أشاعته هذه الحركة الأدبية وقيمتها وأثرها. ولعل الوقت لم يحن بعد لتقديم دراسة شاملة لهؤلاء الشعراء الذين ظلم معظمهم في حياتهم وبعد موتهم، واختفت أسماء بعضهم من الحياة الأدبية ولم تبق حتى في تواريخ الأدب، وتبدد تراثهم القليل أو اندثر أو ما يزال يبحث عن أحد يخرجه للنور.
Shafi da ba'a sani ba