Tacbiriyya
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
Nau'ikan
ومن الطبيعي أن يكون السخط ملازما للتبشير بشيء جديد، وأن ترتبط الثورة على المدنية والآلية ورجال المال والأعمال وجلادي الشعوب بتأكيد حاد للنزعة الإنسانية المفتقدة. وقد جاء التأكيد الحار من جانب التعبيرية.
التعبيرية إذن ظاهرة ينبغي أن ينظر إليها في إطار أشمل وأعم، وتلتمس جذورها في التراث الروحي والعقلي وأزمة الضمير الأوروبي التي سبقتها بوقت طويل. صحيح أن حديثنا على هذه الصفحات سيقتصر في جملته على التعبيرية الألمانية. وصحيح أن التعبيرية ترتبط في أذهان الدارسين والمثقفين بالروح الألمانية والفكر الألماني، وتمثل جواب الألمان على سؤال أوروبي. ولكن الألمان لم يبتكروها من العدم، كما أنها ليست ظاهرة ألمانية خالصة كما يظن كثير من الباحثين، وإنما هي ثمرة مرة تفتحت على أغصان شجرة الثقافة الغربية العريقة، وقمة حركة عقلية وروحية بلغت ذروتها في العشرينيات، ولا زالت تطبع الفن الأوروبي الحديث بطابعها إلى اليوم. لقد جربت معظم الأشكال والأساليب الفنية والأدبية التي لا تزال حية بيننا: الموسيقى غير النغمية أو ذات الاثنتي عشرة نغمة، الرسم التكعيبي والتجريدي، العمارة الوظيفية، الرقص التعبيري، المونولوج الداخلي، الشعر الجديد بكل ما فيه من غرابة ونشاز وغموض وإلغاز، ولكن هذه الاتجاهات لا تعدو أن تكون أمثلة سريعة تدل على الثورة الهائلة التي تميزت بها تلك المرحلة القصيرة الخصبة من حياة العقل الأوروبي في أوائل القرن العشرين. أقول: القصيرة؛ لأن النهاية جاءت سريعة مفاجئة، بل جاءت أسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والحياة والموت! فسرعان ما ذبلت الحركة التعبيرية التي بدأت حوالي سنة 1910 واختنق صوتها حوالي سنة 1925؛ خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، وكانت النتيجة أن دفنت التعبيرية حية وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج. ومع ذلك فقد كان من نتائج هذه الأزمات - ومن العجيب أن مسوخ الشر والقبح تلد في بعض الأحيان مخلوقات رائعة الجمال! - أن الفن قد أصبح بعد الحرب الثانية شيئا عالميا، وأن النزعات والتيارات القومية والمحلية في الأدب الأوروبي قد انتهت إلى الأبد؛ أعني أنها أصبحت شيئا يتجه للإنسان في كل مكان ويهم الناس في كل ركن من أركان أرضنا الصغيرة البائسة ... •••
لا بد أن نتوقف الآن لنسأل: ما هي التعبيرية؟
هي اسم أو اصطلاح يطلق على حركة فنية واسعة لا تقتصر على الأدب وحده، بل تشمل الموسيقى والرسم والرقص والمسرح؛ أي إنه ينطبق على مجموعة من الاتجاهات والتيارات المختلفة التي يضمها بشكل عام غير محدد. ونخطئ لو تصورنا أنه يدل على مدرسة فنية أو أدبية بعينها؛ لأنه في الواقع يدل على جو عام مشترك. ونخطئ أيضا لو حاولنا تغييره أو تعديله، فهو اصطلاح يرجع عمره إلى أكثر من نصف قرن، ومن العبث أن نحاول الإفلات منه. ليس الفنانون أو الأدباء هم الذين وضعوه، بل وضعه نقاد الفنون التشكيلية لتمييز الرسم الجديد عن الرسم التأثري الشائع في ذلك الحين. وتلقف الأدباء والدارسون هذا المصطلح الجديد، ووجدوا أنه يعكس نزعتهم الجديدة؛ نزعة التعبير أو قيم التعبير التي وضعوها في مركز فهمهم الجديد للفن.
ثم سرى على الاصطلاح الجديد ما يسري عادة على كل مصطلح عصري عندما يقع بين أيدي الشعراء الكبار فيتجاوزون حدوده الضيقة وتصنيفاته المحدودة. ويكفي أن نتذكر أسماء فنانين وشعراء وكتاب كبار مثل كاندبنسكي في الرسم، وشونبرج في الموسيقى، وجورج تراكل في الشعر، وكافكا في القصة والرواية. إنهم جميعا يصدرون عن نفس المنبع التعبيري، ولكنهم في نفس الوقت يتخطون حدوده. تلك هي طبيعة كل فنان عظيم، وذلك هو قدره ورسالته. فبينما الناس ينتظرون منه أن يشارك في الاتجاه الجديد بنصيب أكبر من غيره، إذا بهم يكتشفون أنه أول من أفلت من حدوده وتجاوزها؛ أي سبق عصره بمعنى من المعاني. أما المصطلحات المدرسية والأسماء والقوالب الجاهزة فهي دائما من شأن الأوساط من الفنانين والأدباء؛ ولذلك نجد أن التعبيريين الخلص ليسوا دائما أفضل التعبيريين؛ لأن البرامج والبيانات والصيحات لا يمكن أن تحل محل العبقرية أو تغني عنها. ولكن ها نحن أولاء نبتعد عن موضوعنا ... فلنترك هذه الخواطر جانبا ولنعد قليلا إلى التاريخ.
لننظر الآن في حالة الأدب الألماني: في بداية هذا القرن كان هناك تياران أو إن شئت مدرستان رئيسيتان، وكان هذان التياران أو هاتان المدرستان متلازمتين ومتعارضتين في آن واحد. فهناك الطبيعية التي تحاول من ناحيتها أن تنسخ الواقع بدقة توشك أن تكون فوتوغرافية، وتتأثر في القصة والرواية بالكاتب الفرنسي إميل زولا أشد التأثر، وتتطرف واقعيتها وإيمانها بالعلم، وتزعم أنها تصور الإنسان كما تحدده قوانين الوراثة والبيئة والظروف الاجتماعية والتاريخية. فالكاتبان: أرنو هولز (1863-1929) ويوهانيس شلاف (1862-1941) يضعان الأسس النظرية والنقدية لهذه المدرسة الطبيعية، وإن كانت القطيعة قد فرقت بينهما فيما بعد. والكاتب المسرحي العظيم جرهارت هاويتمان (1862-1946) يناقش المشكلات الاجتماعية في مسرحياته الشهيرة (كالنساجين مثلا)، وكانت هناك الرمزية أو التأثرية أو الكلاسيكية الجديدة على الجانب الآخر؛ اتجاه يحافظ على التراث ويرتبط به. ولكنه اتجاه أرستقراطي متعال، رقيق وحساس، ينزع للغموض والأسرار التي تبلغ به في بعض الأحيان إلى معارج الروحانية والتصوف. ويكفي أن نذكر أسماء: ستيفان جئورجه ورلكه وهوفمنستال؛ لنعرف قيمته الشعرية والشعورية الرفيعة.
ولكن لم يلبث أن نشأ جيل جديد؛ جيل غاضب وساخط ومحتج، سئم جمود الطبيعيين وضيق أفقهم وعداءهم للخيال والشاعرية والذاتية، كما كره حساسية الرمزيين وحدتهم مع اللغة والفن المحض وتعاليهم عن مشكلات السياسة والواقع. وأعلنوها ثورة لم تقف عند حدود الأدب والفن، بل أصبحت ثورة سياسية واجتماعية. لم يكون شباب هذا الجيل مدرسة ولم يحاولوا أن يخلقوا مذهبا، بل كانوا مجموعة من الطلاب والنقاد والفنانين ألف بينهم السخط المشترك على المجتمع المنافق، والكره المشترك للحياة الآلية والعملية وقيمها النفعية الحقيرة. أرادوا أن يكشفوا عن فساد الأخلاق البرجوازية وعفن السلوك البرجوازي، ويرفعوا النقاب عن فظائعه ويقفوا بجانب ضحاياه. وكان ملهمهم الأكبر هو «نيتشه» الذي زلزل العصر وهز القرن العشرين بأسره، وسلط على المجتمع والدين والأخلاق والفلسفة التقليدية والمذهبية نيران حكمته الباهرة الطيبة الجسورة. أخذ هؤلاء الشباب بنقده للدين، واحتقاره للنزعات القومية، وتحطيمه للقيم القديمة، وحملته على الأخلاق «غير الأخلاقية»، وهجومه على الفلسفات الغبية التي فقدت الحياة والقوة وشجاعة المغامرة، كما أخذوا منه تشاؤمه العام من الحضارة والثقافة (الذي توسع فيه إشبنجلر بعد ذلك في كتابه المعروف عن أفول الغرب (1918))، وجدوا أفكارهم عند نيتشه، ولكنهم لم يتطرفوا تطرفه؛ أعجبوا بفكرته عن وجوب تجاوز الإنسان ولكنهم لم يذهبوا إلى حد النداء بالإنسان الأعلى (هذا الذي ظلمه وحوش الحكم المطلق وجنوا عليه!) ومع ذلك فقد شغفوا بالحديث عن الإنسان الجديد، وأرادوا أن يصبح الإنسان الحر الخير الذي يعيش من أجل المجتمع ويتضامن مع آلامه ويحس بعذابه وأشواقه، وليس ببعيد أن يكونوا قد تصوروا أنفسهم في صورة الأنبياء المبشرين بهذا الإنسان ...
كانت التعبيرية إذن حركة فنية ثائرة، تجمعت تحت لواء الإيمان بإنسانية جديدة، أرادت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وتقضي قضاء تاما على كل قيم التراث والحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحل دون وقوعها أو لم تقف في وجهها. كان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى. وكانت التعبيرية هي «التعبير» الفني عن هذا السخط، أراد الفنان - هذا المخلوق الخالق! - أن يشكل العالم من جديد: بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق، والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
كتب الناقد هرمان بار - الذي عاصر التعبيرية ودعا إليها - يقول عن تلك الفترة: لم يوجد عصر من قبل هزه هذا الرعب وهذا الفزع المميت. لم يعرف العالم مثل هذا الصمت الذي يشبه صمت القبور. لم يكن الإنسان في يوم من الأيام صغيرا كما كان في تلك الفترة، ولا شعر بمثل ذلك القلق الذي شعر به. أبدا لم يكن السلام أبعد مما كان في تلك الأيام، ولا كانت الحرية أكثر موتا. ها هي ذي المحنة تصرخ: الإنسان يصرخ بحثا عن نفسه؛ العصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة. إن الفن كذلك يصرخ معه، يطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث، يستنجد بالروح: هذه هي التعبيرية.
وصدر عن الحركة التعبيرية عدد كبير من البيانات والبرامج النظرية والنقدية التي تحاول أن تحدد معالم هذا الإنسان الجديد وتوضح ملامح المجتمع الذي ينبغي أن يحل محل المجتمع الفاسد الظالم المنهار. وتكونت الجماعات في مختلف المدن وتفككت، وظهرت المجلات والمجموعات الشعرية والنثرية التي تصور الجوانب المختلفة من الثورة التعبيرية. وتعددت الأفكار والآراء ووجهات النظر. كان هناك المتطرفون والمعتدلون، كما كان هناك الإيجابيون والسلبيون. فلم تكن التعبيرية - كما قلت - مدرسة محددة، ولم يلتئم أقطابها في مذهب موحد، بل كانت حركة أو جوا شعوريا وروحيا عاما لا تقيده أفكار أو نظريات ثابتة. ومن المستحيل أن نتعرض في هذا المجال لكل التيارات التي عاشت في هذا الجو العام، أو لكل البرامج ووجهات النظر المختلفة المتعارضة في بعض الأحيان؛ ولذلك فسأقتصر على تقديم بعض العبارات المأخوذة من أحد هذه البرامج الهامة والإشارة إلى الجماعات، وأبرز الأسماء التي تمثل هذه الحركة الخصبة الشهيدة.
Shafi da ba'a sani ba