Tacbiriyya
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
Nau'ikan
لم تكن رواية «برلين - ميدان ألكسندر» أول رواية يكتبها دوبلن عن المدينة الكبيرة، فقد نشر في سنة 1924 رواية «يوتوبية»
1
بعنوان «جبال وبحار وعمالقة»، تضمنت مجموعة من الرؤى المخيفة التي تصور «التكنيك» أو «التقنية» وجبروت المدينة الكبيرة التي تفوق الطبيعة نفسها قوة وجبروتا. ثم ظهرت هذه الرؤى في صور أشمل وأعقد وأروع في هذه الرواية الكبرى التي تعد بحق بداية مرحلة جديدة في هذا الفن، وتجربة لا تقل عن التجارب التي قدمها جويس الأيرلندي في «يوليسيس»، ودوس باسوس الأمريكي في روايته عن مدينة نيويورك «قطار مانهاتن».
والرواية ملحمة تلعب فيها المدينة الكبيرة دور البطل الحقيقي، ولكنها تحمل عنوانا فرعيا نعلم منه أنها تروي قصة «فرانزبيبر كوبف»، وهو اسم «بطلها» الذي يروي حياته المضطربة في حضيض المدينة الكبيرة ودهاليزها السفلية المظلمة. إنه قاتل ولص ونزيل سجون ومزور وقواد ... كان يعمل شيالا لنقل الأثاث ثم سجن أربع سنوات؛ لأن الغيرة دفعته إلى جرح صديقته جرحا أدى إلى موتها.
وتبدأ الرواية بعد إطلاق سراحه وخروجه كالمجنون إلى الشوارع ليجد العقاب الحقيقي في انتظاره، ويتصعلك ويشقى من عمل إلى عمل، بحثا عن مكان وسط زحام المدينة ورعبها. إنه في صميم قلبه يريد أن يحيا حياة شريفة مستقيمة، ولكنه يضطر أن يتشرد من حرفة إلى حرفة، ويتقلب من تجربة مرة إلى تجربة أمر، ويفقد ذراعه اليمنى ظلما وغدرا، ويقتنع في النهاية بأن النصب والغش والسرقة والاحتيال هي مواد القانون الذي يحكم العالم، وينضم لعصابة من القوادين واللصوص تستغله أبشع استغلال، ويقتل رئيسها صديقته - وهي بغي كانت تحاول أن تساعده وتكشف عن أعدائه - ويلبث فترة في مستشفى للمجانين فريسة اليأس إلى أن يتم اكتشاف القاتل الحقيقي، ويتحدث الناس عن قصة حبه وتروي الصحف مأساته، وتعرض عليه في النهاية وظيفة متواضعة يقبلها ويصبح مساعد بواب في أحد المصانع!
بهذا يختم الكاتب قصة إنسان (من أبطال هذا الزمان!) تقلب بين دهاليز المدينة وحاناتها البائسة ومجرميها ولصوصها وأهلها الكادحين الفقراء، ولكنه لم يقدم قصة هذا الإنسان العادي لذاتها ... ولم يقصد أن تكون تقريرا عن بيئة العمال الفقراء، بل أراد أن تكون مثلا يتأمله كل الذين لم يسمعوا عنه من جمهور القراء، وكل إنسان يسكن مثله في جلد آدمي ويطلب من الحياة شيئا يزيد على الخبز اليومي ... إن «بيير كويف» رجل عادي تافه لا ينفرد بميزة خاصة، يحاول عبثا أن يحيا حياة مستقيمة فيخفق في كل محاولاته. ومع ذلك فإننا نشاركه آلامه ونفهم سلوكه، ونعرف أن ما يحدث له قد يحدث لكل واحد فينا. ومن هنا فهو يمثل نموذج الفرد الذي خربته قيم الجماعة وجنت عليه. إنه بطل عصرنا ومدننا ومجتمعنا، وهو أيضا ضحيته وشهيده، وهو يعرض علينا لوحة بيئة كاملة، تغلي بمختلف التيارات الروحية والفكرية، وتزدحم بألوان من البؤس والضعة والشقاء لم يعد من الممكن السكوت عليها أو الوقوف منها كأنها قدر محتوم لا يتغير، هو في النهاية قدر المدينة الكبيرة التي يتحطم هذا البطل الصغير في أوكارها وجحورها وشوارعها المسفلتة، ويتدحرج في حضيضها المظلم درجة درجة كأنه «أيوب» معاصر ...
وأخيرا فإن قصة هذا الرجل العادي «فرانزبيبر كويف» هي في الحقيقة رمز «كل إنسان» كما عرفته العصور الوسطى المسيحية، قصة ابن آدم المذنب الذي يسير من الظلام إلى النور، ويشق طريقه في هذه الدنيا وسط الخطايا والآلام، ويظل يتخبط في تجاربه وأيامه وأعماله بلا تطور ولا معرفة، حتى يطهره الموت في النهاية ويمنحه المعرفة والبصيرة، ولكنها معرفة الثائر المتمرد لا الخاضع المستسلم، وبصيرة الزاحف المتضامن مع إخوته من البشر لتحطيم «بابل الفاجرة» حتى يبزغ فجر العالم الجديد والحرية الجديدة من بين الأنقاض ...
ولعل هذه الرواية أن تكون هي علامة الطريق البارزة نحو التحول الذي طرأ على الأدب الأوروبي بعد غروب التعبيرية.
ولا أحب أن أختم هذه الكلمات السريعة عن النثر التعبيري قبل الإشارة إلى الكاتب «هانز هيني يان» (1894-1959): إنه من أتعس الكتاب الألمان حظا في القرن العشرين سواء عند القراء أو النقاد! ويبدو أن لغته المعقدة المثقلة بالرموز والتجارب اللفظية والشكلية، وعالمه الفوضوي المشحون بالتجديف والشذوذ والتحليلات المرهقة لنوازع النفس المظلمة وصراعها بين قوى الشر الكامنة فيها وبين أشواقها للخلاص من قيود الواقع والغريزة؛ يبدو أن هذا كله قد ساهم في بؤس حظه وبقائه حتى الآن في الظل على الرغم من نبوغه وتفوقه. وأحب أن أذكر أولى رواياته وهي «بيروديا» (1929) التي كتبها بأسلوب صوفي غني بالرؤى والصور الغريبة التي تجعلها قريبة من الروح التعبيرية شديدة التأثر بها.
المسرح
Shafi da ba'a sani ba