ولكن، ليس معنى ذلك أن نقطع الصلة بماضينا، وأن نشيد فنا لا جذور له! وكل ما في الأمر أن الطابع الشعبي الأصيل سوف يظهر في الفنان من تلقاء ذاته، طالما كان فنانا صادقا؛ فذلك الذي توافرت له دراسة وخبرة عميقة بالأساليب الموسيقية الصحيحة، لن يردد ألحان الغرب ، بل سيتأثر حتما بالطابع المحلي الذي يحيط به، ويصوغ ألحانه في قالب يفهمه الجميع، ويتذوقونه بعمق. وللفنان - إذا شاء - أن يقوم بدراسة شاملة للألحان الشعبية؛ فإن دراسة كهذه تفيده كثيرا، على شرط أن يكون حذرا - كما قلنا - في تقبله للمادة التي تقدمها إليه هذه الألحان، وأن يدرك طبيعة الظروف التي خلقت فيها، ويدرسها بمنهج نقدي فاحص.
وبعد هذه الإيضاحات، ألخص الخطوط العامة للخطوات التي ينبغي اتباعها من أجل بعث فن موسيقي سليم في بلادنا، والبرنامج الذي أعتقد أن السير بمقتضاه يكفل لنا مكانة بين الأمم التي تفوقت في هذا المضمار:
أولا:
ينبغي أن ننظر إلى الموسيقى على أنها فن يبنى على أسس علمية، تقتضي دراسة طويلة شاقة. وعلى الرغم من أن الوقت الذي كان الفن يعد فيه خلقا تلقائيا، أو ارتجاليا، قد انقضى منذ عهد بعيد، فإننا لم نعترف حتى اليوم بهذه الحقيقة في مجال الموسيقى، ولا زال أمر هذا الفن في أيدي أشخاص ذوي خبرة موسيقية ارتجالية إلى حد بعيد.
ثانيا:
إذا اعترفنا بالمبدأ العام السابق، وجب علينا أن نضع الأسس التي تكفل تحقيق شرط العلم والدراسة، ولنبدأ يجب أن نتجه إلى تكوين جيل جديد، يبنى فيه على أسس بأن نقول: إن الجيل الموسيقي الحالي ميئوس منه تماما، وإن العناية علمية صحيحة، ويعتمد على المران الشاق، والدراسة المثابرة لا على الارتجال أو الاجتهاد الشخصي وحده. ومن أجل تكوين جيل كهذا؛ ينبغي أن تنشأ معاهد موسيقية راقية، تستقبل الناشئين منذ المراحل الأولى من عمرهم، وتتدرج بهم حتى يكمل إعدادهم. ولا بد أن نستقدم للتدريس في هذه المعاهد أساتذة من الأجانب؛ إذ ليس في بلادنا حتى الآن مواطنون يصلحون لإعداد موسيقيين في المستوى العالمي، سواء أكان ذلك في ميدان التأليف أم في ميدان الأداء. وليست الاستعانة بخبرة الغير، والاعتراف بأسبقيتهم في هذا الميدان بالأمر المخجل؛ فنحن نستقدم الخبراء الأجانب في ميدان الذرة، أو نبعث بمواطنينا إلى الخارج لتعلم أسرارها، وتخلفنا في ميدان الموسيقى يفوق بكثير تخلفنا في ميدان العلوم الذرية، وليس لنا أن نخشى من أن تفقد موسيقانا طابعها المحلي أو القومي إذا استعنا بغير مواطنينا؛ إذ إن هؤلاء لن يلقنونا سوى المواد والأدوات التي نستعين بها في التأليف، واللغة التي نستطيع أن نصوغ بها ما شئنا من الأفكار. ولا جدال في أن مجرد انتماء الفنان إلى بيئة معينة، ترتبط بها مشاعره وأفراحه وآلامه، سيصبغ إنتاجه الفني بصبغتها حتما.
ثالثا:
لا يكفي أن نعمل على إعداد المؤلفين الموسيقيين، والعازفين أو المغنين، إعدادا علميا صحيحا، بل ينبغي أن نعد المستمع لكي يتقبل هذا الفن الصحيح، ويعمل على تشجيعه. ولهذا وسائل عدة؛ فينبغي أن تدخل الموسيقى كل بيت، عن طريق الإذاعة، وعن طريق توفير التسجيلات للجميع. أما الإذاعة فلا أتردد في القول: إنها قصرت في هذا المجال، ولم تعمل على ترقية أذواق المستمعين، وتعللت في ذلك تارة بترديد فكرة الطابع القومي - وهي فكرة أوضحنا مدى بطلانها من قبل - وتارة بالقول: إن المستوى الثقافي لأغلبية السامعين يمنعهم من تذوق هذه الموسيقى، وكأنه ليس من صميم مهمتها، وأساس رسالتها، أن تعمل على رفع هذا المستوى باتباع مناهج دقيقة مدروسة! وأما مسألة توفير التسجيلات للجميع، فمن المؤسف أن ما يفرض عليها من الرسوم الجمركية يجعل الحصول عليها أمرا لا يقدر عليه إلا المترفون وحدهم؛ إذ تعد هذه التسجيلات من أدوات «الترف»، مع أنها في الحق من صميم الثقافة التي ينبغي أن نحرص على انتشارها بين أفراد الشعب، تماما كما نحرص على انتشار الكتب. وليس أضر بقضية الموسيقى من تلك العقلية التي تعد تكوين المكتبات الموسيقية ترفا ينبغي أن يقتصر على الأغنياء. فإذا أمكن إزالة هذه الحواجز التي تحول دون تذوق فئات الشعب على اختلافها لهذا الفن الرفيع، فعندئذ سيفتح أمامنا عالم جديد، ونمارس تجربة فنية لم نعرفها من قبل على الإطلاق، ونستمتع بمشاعر وأفكار لم يثرها فينا من قبل أي فن آخر.
ولكن كل هذه الوسائل ليست في نظري حاسمة، بل إن هناك وسيلة أخرى لإنهاض هذا الفن، وكل فن آخر، بدونها لا تفيد الدراسة، ولا العلم، ولا الخبرة.
فالموسيقى، ككل فن آخر، مرتبطة بحياة الناس الواقعية أوثق الارتباط. وطالما كانت هذه الحياة يسودها الخمول، واليأس، والإحساس بالظلم؛ فمن العبث أن ننتظر نهضة حقيقية في مجال الفن. ولو لم يكن للناس في حياتهم هدف وأمل في مستقبل مشرق، فلن ينهض بينهم فن سليم؛ إذ لن يوجد الشيء الذي يعبر عنه ذلك الفن. ونهضتنا الموسيقية مرتبطة بنهضتنا الاجتماعية ارتباطا وثيقا. ففي اليوم الذي يحس فيه كل فرد بكيانه، وبأن الحياة بدأت تقبل عليه، ويشعر في أعماق نفسه بأن له في هذه الحياة هدفا يسعى مع أقرانه إلى تحقيقه ... في هذا اليوم وحده (وكل الدلائل تدل على أنه قريب) يحق لنا أن ننتظر نهضة موسيقية وفنية صحيحة. وعندئذ يكون لهذه الخطة التي أوضحنا خطوطها العامة جدواها؛ إذ إنها تمدنا بالوسائل والأدوات، بينما تمدنا أحاسيسنا الإنسانية بأسمى المعاني والأفكار.
Shafi da ba'a sani ba