أما إذا انتقلنا إلى مناقشة تفاصيل هذه الدعوى، فنحن واجدون أن تعدد السلالم قد يكون في بعض الأحيان نقصا ينبغي تلافيه. والحق أننا لو تأملنا صوت عربة قديمة صدئة، لوجدناه يتضمن آلاف السلالم، ولكنه لا ينطوي بالطبع على أي جمال! ومهمة الموسيقى هي تنظيم هذه الأصوات العديدة في مجموعات قليلة متناسقة، تضمن إخراج ألحان ذات قيمة فنية. ونستطيع أن نقول: إن التطور الموسيقي الطويل في الغرب قد أدى إلى ضغط هذه السلالم المتعددة في النوعين الرئيسيين المعروفين، وما أشبه هذه العملية بعملية ضغط الحروف الهجائية في مجموعة قليلة العدد، يمكن أن تستخدم أدوات لنقل كل كلمات اللغة ومعانيها. والتعدد في ذاته لا يكون مرغوبا فيه إلا إذا قصرت الأدوات الموجودة عن التعبير. ولكن أين التقصير وقد عبر هذان السلمان الغربيان عن روائع عالمية لم يفقدها الزمن تأثيرها حتى اليوم؟!
ولقد أتى على الموسيقى الغربية حين من الدهر وقع فيه فنانوها في خطأ الاعتقاد بأن تعدد السلالم الموسيقية أمر مرغوب في ذاته، فاستحدثوا نظما لحنية تخرج عن السلالم المألوفة، بل لا يمكن إدراجها تحت أي سلم، كما هو الحال في موسيقى شونبرج، غير أن هذه الثورة الفنية سرعان ما اتضح تطرفها فيما بعد، وأخذ الفنانون يعودون بالتدريج إلى النظم القديمة، وإن استفادوا من النظم الجديدة في إضفاء مزيد من التنوع والثراء على موسيقاهم. وأدرك الموسيقيون بعد أن انتهت هذه التجربة العنيفة أن القوالب الصوتية الموجودة تنطوي على إمكانيات لا تستنفد، إذا ما اقترنت بالتجديد المستنير في الصورة والإيقاع والتوافق الصوتي. وهذا هو الرأي السائد بين كبار الموسيقيين في جيلنا الحالي! فتعدد سلالم الموسيقى الشرقية ليس إذن بالأمر الذي ينبغي التفاخر به، وإنما العبرة بالإفادة من السلالم الموجودة، مهما كانت قلتها.
ولننتقل إذن إلى الكلام عن مدى الإفادة التي أفادها الموسيقيون الشرقيون من هذا التعدد في السلالم. هل أصبح اللحن
Melody
في الموسيقى الشرقية زاخرا بالمعاني، حافلا بالتعبيرات؟ إن أنصار الموسيقى الشرقية، إذا ووجهوا بالانتقاد القائل: إن موسيقاهم لا تعرف التوافق الصوتي
Harmony ، ردوا بأنها في أساسها لحنية
Melodic ، وبأن فيها ثروة من الألحان تفتقر إليها الموسيقى الغربية. فلنختبر إذن هذا الزعم، ولنحلل القيمة الحقيقية للحن في الموسيقى الشرقية .
في رأينا أن هذا التعدد الذي تتميز به ألحان الموسيقى الشرقية، يفقد قيمته؛ لعاملين، سوف أطلق عليهما اسم عاملي التلاصق، والتماثل. ولكي أضرب لهذين العاملين مثلا؛ دونت أول فقرة موسيقية استمعت إليها وقت كتابة هذه السطور، وليس من المهم معرفة اسم مؤلفها أو اسمها، طالما أن من الممكن إدراك طابعها الشرقي للوهلة الأولى: (1)
أما عامل التلاصق، فيتلخص في أن كل صوت في اللحن هو الصوت التالي، ارتفاعا أو انخفاضا، للصوت السابق عليه، أي: إن الألحان الشرقية عبارة عن سلسلة متصلة من الأصوات، تعلو وتنخفض محتفظة بتلاصقها. ولا أستطيع أن أقول: إن هذه قاعدة شاملة لا يتخلف عنها لحن واحد، ولكني أستطيع أن أحكم، مطمئنا، بأن الغالبية العظمى للألحان الشرقية تسير على هذه القاعدة. كما أن الألحان الشرقية العتيقة، كالبشارف، تتمثل فيها هذه القاعدة على نحو مطلق لا استثناء فيه. فأين وجه النقص في هذا؟ لا شك في أن اللحن الذي يسير في أصوات متلاصقة أبسط في تركيبه كثيرا من ذلك الذي تتباعد أصواته. وليست البساطة في ذاتها عيبا، ولكنها في هذه الحالة تؤدي إلى فقدان الشعور بالجدة في الألحان المستحدثة، وإلى صبغ كل الألحان بصبغة التشابه والتجانس، وإلى انعدام عنصر التنوع فيها. وليس من العسير إطلاقا أن يظل محترف الموسيقى يسير على سلالم موسيقية علوا وهبوطا في خطوات متدرجة متلاصقة، مع تنوع يسير في زمن كل صوت، وإنما العسير حقا أن يؤلف لحنا قوامه تلك القفزات الصوتية الجريئة التي يتكون منها اللحن في الموسيقى الغربية؛ فهنا حقا تظهر المقدرة، ويبدو كل لحن جديدا بحق، مختلفا كل اختلاف عما عداه. ولنتأمل أمثلة مقتبسة من موسيقي غربي واحد، تكشف عن الفرق الهائل بين تركيب اللحن في الموسيقى الغربية والشرقية، وليكن هذا الموسيقي هو بيتهوفن.
المثل الأول:
Shafi da ba'a sani ba