Abinci a Duniyar Da
الطعام في العالم القديم
Nau'ikan
في كتاب من هذا النوع يكون من المحتم علينا التعريف بالمزارع البسيط والمواطنين الفقراء في بداية الكتاب؛ إذ إن هؤلاء هم من يشكلون السواد الأعظم من السكان وينتجون معظم الطعام. وفي الوقت نفسه، الصفوة من ذوي النفوذ السياسي هي التي «تصوغ الثقافة» وتطلب أفضل أصناف الطعام وتحفز الابتكار وفن تذوق الطعام؛ وبناء على ذلك، كثيرا ما تهتم الكتابات التي تتناول تاريخ الطعام بجماعات ثرية قليلة العدد، تضم - بتعبير هوليوود - الذين شاركوا في حفلات العربدة في قصر إمبراطور روما. في الفصل الثاني، سنرى حالات في العصر القديم مشابهة لما ذكره كولين جونز عن فرنسا في القرن الثامن عشر. وبينما كان القصر يبتكر أطعمة راقية، ويشارك فوائدها إلى حد ما مع مواطني باريس المشاغبين، كان سكان الريف يتضورون جوعا؛ حتى عندما كان الطعام وفيرا، كان الريفيون يرسلون أفضل الأطعمة إلى السوق: «كانت حقول ذرة شاسعة مزروعة بالجاودار (للاستهلاك المحلي) والشوفان (للماشية المحلية) والقمح (للمدن وللأغنياء) تمتد على مرمى البصر» (جونز 2002: 149-150).
إن الإمداد الغذائي أحد المشاغل الأساسية لكل الدول، قديما وحديثا، ولكنه ليس الشغل الشاغل الوحيد؛ فلم تقتصر فائدة الطعام على إبقاء الناس على قيد الحياة فحسب، بل كان يساعدهم كذلك في تشكيل هويتهم. ويقدم لنا كولين جونز مرة أخرى حالة مشابهة من العصر الحديث المبكر: «كما تقول الحكمة المألوفة إن الملك لا بد أن يعيش من زرع مملكته.» كان المثل الأعلى للحياة الريفية هو الأسرة، والتي كانت وحدة إنتاج واستهلاك في آن واحد، وكانت لديها الوسائل اللازمة للعناية بمعظم احتياجاتها. كان معظم أرباب الأسر الريفية يمضون جل أوقاتهم في إنتاج ما يكفي من الطعام لأنفسهم ولأسرهم، وكان الغذاء الأساسي اليومي هو الخبز، وكان الخبز المحضر في المنزل طعمه أطيب ... وفي قاموس أهل الريف، كانت عبارة
gagner son pain (كسب العيش) مرادفة لعبارة
gagner sa vie (كسب الرزق)، وكان الناس يطلقون على الخبز عدة أسماء بعدد الأسماء التي يطلقها الإسكيمو على الثلج، والتي يطلقها البدو على الرمال، وكان كل نوع منها مغلفا بدلالات سخية تشي بالجودة الغذائية والمنشأ الجغرافي والمكانة الاقتصادية والطموح الاجتماعي؛ ومن ثم، كان بوسع الأغنياء شراء أرغفة الخبز الأبيض المصنوع من القمح، وكان متوسطو الحال يتناولون أرغفة الخبز الأسود غير المختمر المصنوع من الجاودار والشعير أو عصيدة الذرة، أما أفقر الفقراء - كالمعدمين المقيمين في مقاطعة فيفاريه - فكانوا يتناولون خبزا يكاد يكون عسير الهضم مصنوعا من الكستناء، وكانت إحدى القرى تصفه بكل اعتزاز بأنه «عوننا وغذاؤنا الأساسي والوسيلة التي نطعم بها أسرنا وخدمنا وحيواناتنا الأليفة وماشيتنا ودواجننا وخنازيرنا» (جونز 2002: 148-149). وسنجد أن جالينوس وغيره من المؤلفين كتبوا عبارات مشابهة جدا عن أنماط استهلاك الطعام في الإمبراطورية الرومانية، وذلك باستثناء الذرة؛ إذ جاءت الذرة من الأمريكتين في فترة لاحقة لعصر كولومبس.
وبالإضافة إلى المناهج المقارنة المستخدمة لفهم الأدلة من العصور القديمة، سنعتمد كذلك على عمل علماء الأنثروبولوجيا. إن الطعام من السمات المهمة في كل الثقافات؛ فلا بد أن يأكل البشر، ولكي يتسنى لهم ذلك عليهم استغلال المنتجات الطبيعية والمزروعة المتوافرة في بيئتهم المحلية وبيئتهم الأوسع. والبشر في مسعاهم هذا ينشئون علاقة مع عالم الطبيعة؛ أي مع النباتات والحيوانات التي يستهلكونها، ومع القوى الطبيعية التي هم جزء منها ويخضعون لها. وتتولد عن هذه العلاقات تفسيرات دينية واجتماعية وفكرية قوية، هي أصل النشاط الاقتصادي القائم على إنتاج الطعام وتوزيعه. وغالبا ما ينظم استهلاك الطعام بحيث ينم عن جوانب جوهرية في البنية الاجتماعية لمجتمع ما، مثل العلاقة بين الجنسين وهيكل السلطة، وهذه العلاقات من الشئون التي يدرسها علم الأنثروبولوجيا، ولكن الدراسات الأنثروبولوجية لم تهتم دائما بالطعام بقدر اهتمامها بغير ذلك من جوانب الحياة الأخرى، مثل التسلسل الهرمي الاجتماعي ودورة الحياة ومراسم الوفاة. ولكن على مدى الخمسين عاما الماضية، قدم كل من كلود ليفي شتراوس وماري دوجلاس وجاك جودي - على سبيل المثال - إسهاما أنثروبولوجيا بارزا في دراسة الطعام. ناقشت دوجلاس (1966) قوانين الطعام اليهودية ومشكلات الهوية في اليهودية، وفسر كل من دوجلاس ونيكود (1974) تركيب الوجبة البريطانية، بينما تناولت دوجلاس (1984) التفاعل بين ثقافات الطعام لدى السكان الأصليين والمهاجرين في الولايات المتحدة، وهو ما يستعرض أيضا بإيجاز الرموز والهوية الثقافية. وتناول جودي (1982) العوامل التي تحدد «التطور» في عادات الطعام بين الثقافات المختلفة؛ كيف أصبح لفرنسا «أسلوب طهي» يميزها على خلاف البلدان الأخرى؟ ومن بين هذه الدراسات، كان عمل ليفي شتراوس هو صاحب القدر الأكبر من المناقشات (راجع بوكستون 1994، وجودي 1982، وجارنسي 1999)؛ إذ يقوم نظامه البحثي على طرق الطهي والمكانة التي من المعتقد أن تحتلها في الفكر والنظم اللغوية في النظام الثقافي، ويعبر بالتحديد عن العلاقة التي تجمع بين الطبيعة والثقافة في ذلك النظام. ومن الممكن إثبات أن بعض الفئات التي ذكرها ليفي شتراوس اعتباطية وتتسم بخصوصية ثقافية على نحو يحول دون إتاحة تطبيقها على نطاق شامل؛ ومع ذلك ثبت أن الثقافة الإغريقية من المجالات المثمرة جدا عند تطبيقها؛ إذ إن الإغريق دمجوا الفكر الديني والأسطوري والثقافي بطرق مشوقة للغاية. سنستعين بعمل جون بيير فيرنان ومارسيل ديتيان - على سبيل المثال - في هذا الكتاب، وذلك كما سيحدث مثلا في المناقشة الواردة في الفصل الثالث حول عيد ثيسموفوريا وعيد أدونيس.
يأتي معظم الأدلة المتعلقة بالطعام في العالم القديم - كما ذكرنا - من النصوص المكتوبة التي أكملتها الاكتشافات الأثرية. لكن، لا توجد أدلة على الكثير من الجوانب المتعلقة بعادات تناول الطعام، ولا يمكن الإجابة عن الكثير من الأسئلة إلا بإجابات جزئية. ومن بين هذه الجوانب تقسيم تناول الطعام بحسب النوع في الثقافة الإغريقية. إذا كان الرجال الإغريق ذوو المقام الرفيع يأكلون بمعزل عن النساء صاحبات المقام الرفيع، فأين كانت النساء صاحبات المقام الرفيع يأكلن وكيف (إن كان ذلك ممكنا بالأساس)؟ ألم يكن يأكلن مع صديقاتهن؟ هل كان الناس من الجنسين يأكلون معا حين يكونون في تجمع أسري لا يحضره غرباء؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فهل كان الذكور والإناث يتناولون الطعام نفسه؟ في حالة عدم وجود أدلة من النصوص أو علم الآثار، يكون للدراسات الأنثروبولوجية والدراسات المقارنة دور مهم لمساعدتنا في تقديم الإجابات. (3) الأطعمة والمشروبات في النظام الغذائي القديم
يقدم هذا القسم صورة كاشفة للنظام الغذائي في العصر القديم، ثم يشير إلى أن ذلك النظام الغذائي ربما يكون قد تبدل على مر الزمن، ولا سيما تبدله بحسب المكان، نظرا لقوة التأثيرات المحلية.
يقدم بحث أبقراط المعنون ب «الحمية 2»، الذي كتبه في عام 400 قبل الميلاد تقريبا، ملخصا مناسبا ومركزا للنظام الغذائي الإغريقي في تاريخ مبكر نسبيا. وكانت الحبوب الأساسية هي الشعير والقمح، وكانت تعد من الشعير «كعكات» وأنواع من العصيدة، أما القمح - وكان أكثر ندرة في البر الرئيسي لليونان وفي الجزر اليونانية - فكان يصنع منه الخبز وغير ذلك من منتجات الحبوب. وكانت الأنواع البدائية من القمح منتشرة كذلك، ولا سيما القمح الثنائي الحبة والقمح الوحيد الحبة والعلس. ويرد أيضا ذكر الشوفان والدخن. واستكمالا للقيمة الغذائية للحبوب، كانت تؤكل معها أنواع الفول والبقوليات (لا سيما الفول الأخضر وغيره من أنواع الفول) والبازلاء، والحمص والعدس والبيقة وبذور الكتان والمريمية، والترمس وخردل الوشيع وبذور الخيار، والسمسم والعصفر، ولحم البقر ولحم الماعز ولحم الخنازير ولحم الغنم والحمير والكلاب، والخنازير البرية والغزلان والأرانب البرية، والثعالب والقنافذ، والحمام والحجل واليمام والديوك وطيور القمرية، والإوز والبط وغير ذلك من الطيور المائية . ويذكر ما يزيد عن عشرين نوعا من الأسماك، بما في ذلك الحبار والمحار والسلطعون (الكابوريا). ويذكر البيض والجبن والماء الممزوج بالنبيذ والخل والعسل. ومن بين الخضراوات والأعشاب المذكورة: الثوم والبصل، والكراث والفجل، والرشاد والخردل، والجرجير والكزبرة والخس، والينسون والكرفس والريحان والسذاب والهليون والمريمية، وعنب الثعلب والرجلة وأنواع القراص أو الحريقة، والنعناع والحماض، والسبانخ البرية والكرنب، والبنجر واليقطين واللفت والفوتنج، والبردقوش والزعتر والزوفاء والخضراوات البرية. والفواكه المذكورة هي: التوت الأسود البري والكمثرى (البرية والمستنبتة) والتفاح والسفرجل، والغبيراء والرمان واليقطين والعنب والتين، واللوز وغير ذلك من أنواع المكسرات والجوز.
والقصد من هذا الملخص أن يكون بمنزلة دليل إرشادي، وإن كانت الأهداف الطبية لمؤلفه، وخصوصا من حيث عدد الأعشاب المذكورة، تخل بكونه ملخصا. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الملخص ليس قائمة مستقاة من أكثر من مؤلف لا يجمع بينهم هدف موحد؛ فمثل هذه القائمة من الأطعمة المستقاة من مجموعة كبيرة من النصوص موجودة في دالبي (1996)، وخصوصا في دالبي (2003)، «الموسوعة الشاملة للطعام في العالم القديم». يشير دالبي إلى كل أنواع الأطعمة المعروفة، على الأقل تلك التي سجلت أسماؤها أدناه. وليس من الممكن دائما ذكر التاريخ والموقع والمناسبة؛ ولذلك يذكر الفلفل - على سبيل المثال - في الشذرة (274) للشاعر الهزلي أنتيفانيز، والاقتباس مأخوذ من مسرحية مفقودة كتبها أنتيفانيز في القرن الرابع قبل الميلاد، وتتعلق بشعور الحقد حيال شخص يشاهد وهو يأخذ معه الفلفل إلى منزله. ولا ندري مدى تكرار استعمال الفلفل أو في أي المدن كان يستعمل، فكل ما نعرفه هو أن الاسم ورد ذكره، ولعله من المنطقي أن نستنتج أن الفلفل كان معروفا إلى حد ما في أثينا، ما دام ثمة شاعر هزلي قد ذكره أمام جمهور قوامه 15000 مواطن. وربما يشير هذا المصدر إلى انتشار استعماله على نحو أشمل مما ذكره طبيب يتبع مدرسة أبقراط فقط. وقد علق مصطلح «فلفل» - على أقل تقدير - في أذهان الإغريق. وكما يوضح دالبي، وصل الكثير من الأطعمة إلى اليونان وروما في أوقات مختلفة على مدى ألف عام أو نحو ذلك ، وبدأت تدخل في صلب النظام الغذائي ببطء. كثيرا ما يتعذر التيقن من التوقيت الفعلي لانتشار أي طعام معين، لكن فيما يخص الفلفل، من الممكن أن نشير إلى أن كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس بعنوان «دي ري كوكويناريا» أو «عن موضوع الطهي» - الذي جمعت مادته على الأرجح في القرن الرابع الميلادي - يرد فيه ذكر الفلفل في معظم الوصفات.
ما الأطعمة المهمة التي حذفت من هذه القائمة الموجزة؟ ربما كنا نتوقع السيلفيوم، وهو يستعمل كنكهة قوية ومميزة (راجع أدناه) وكعقار في الوقت نفسه. وربما كنا نتوقع ذكر المزيد من الطيور والأسماك، ولكن - فيما عدا الأعشاب - نجد أن القائمة تقدم فيما يبدو ملخصا منطقيا على النحو الذي هي عليه. تشمل القائمة الواردة في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة» المزيد من العناصر، ولكن ليس من بينها عناصر جديدة تماما - فيما عدا أطعمة على غرار الخوخ والمشمش - التي ربما تكون قد جاءت من الشرق في القرن الأول قبل الميلاد. بعبارة أخرى، لم تكن الأطعمة الجديدة في العصر الروماني كثيرة إلى هذا الحد، لكن من المرجح أن الأطعمة المستوردة من آسيا أصبحت أكثر وفرة - مثل الفلفل وغيره من النكهات اللاذعة ذات الاستعمالات الدوائية - إبان العصر الهلنستي والروماني.
Shafi da ba'a sani ba