Tabi'a Wa Ma Bayan Tabi'a: Al-Madda . Al-Hayat . Allah
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Nau'ikan
والغريب حقا في أمر الفلاسفة الحسيين أنهم يتشبثون هنا بمبدأ العلية وكأشد ما يتشبث به من مبدأ، ويأبون على الإمكان أضيق مكان، بينما هم إذا عالجوا مسألة الاستقراء مثلا من الوجهة المنطقية والميتافيزيقية، يأبون على نتيجته صفتي الكلية والضرورة، بحجة أن ليس في التجربة ضرورة ولا كلية؛ وإذا أرادوا الكشف عن أصل الأحياء يلجئون إلى الإمكان، ويستكثرون له من الاحتمالات، ويوسعون له من المدى حتى ليرفعونه إلى مقام القانون والمبدأ.
ونحن نطمئنهم ونؤكد لهم أن لا خوف على العلم البتة. إن الأصل في العلم أنه إدراك ماهيات الأشياء وخصائصها، وهذه حال الرياضيات والطبيعيات النظرية؛ أما حدوث الظواهر على ترتيب مطرد، فلا يعرض له سوى بعض العلوم، كالفلك والآثار العلوية أو الظواهر الجوية، والخطأ فيها غير قليل. وليس من شأن الإرادة والحرية تغيير الماهيات والعبث بالضروريات، وإنما شأنها الأوحد اختيار فعلها الباطن، بحيث يكفي لصون نظام الطبيعة ولقيام العلم النظر في الموجودات فاعلة بحسب ماهياتها، ومرتبة بعضها إلى بعض على نحو واسع يدع مجالا لإمكان أفعال جزئية كثيرة.
للمذهب الجبري صورتان: إحداهما عقلية هي نفس مبدئهم المذكور الآن، والثانية علمية مبنية على العلم الحديث في قوله ببقاء الطاقة. في الفريق الآخذ بالصورة الأولى نجد ابن سينا ونجده قد أجاد التعبير عنها حيث قال: «لو أمكن إنسان من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعا وطبائعها، لفهم كيفية ما يحدث في المستقبل.» وأيضا: «الإرادات كلها كائنة بعدما لم تكن، فلها أسباب تتوافى فتوجبها ... والإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة.» وأيضا: «الإرادات التي لنا كائنة بعدما لم تكن، (وعللها) أمور تعرض من خارج أرضية وسماوية، والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماع ذلك كله يوجب وجود الإرادة.» ولا يعترف ابن سينا للإمكان إلا بقسط ضئيل يعبر عنه بهذه العبارة: «الحادثات الجزئية تنتهي إلى طبيعية وإرادية موجبة لنسب إرادية فاترة غير حاتمة ولا جازمة.» وقد لا يدل هذا القول على إمكان ما من حيث إن النسب الفاترة غير الحاتمة تنتهي إلى موجبة.
والرأي في هذا الموقف هو من جهة واحدة، أن الأفلاك تؤثر حقا في الأجسام الأرضية، ومن جهة أخرى أن هذا التأثير غير موجب لا في المادة الصرف، كتأثير القمر في البحر مدا وجزرا، وحتى في هذه الناحية ليس الوجوب محتوما، فإن الأجسام الأرضية يختلف قبولها للتأثير باختلاف استعدادها، ومن هذا يتبين بطلان التنجيم. وتؤثر الأفلاك بالعرض في القوى النامية والحاسة المتحدة بأعضاء، فتسبب فيها انفعالات حسية. أما العقل والإرادة فهما قوتان روحانيتان راجعتان إلى النفس وحدها، فليس لهما عضو، ولكنهما متصلان بالبدن، فإذا اضطربت الحالة البدنية أو المخيلة أو الذاكرة، اضطرب فعل العاقل وضعفت الإرادة. فالقول بعلية الأفلاك للأفعال الإنسانية قول الذين لا يفرقون بين العقل والحس. بيد أن أكثر الناس يتبعون الانفعالات الحسية، وأن العقلاء الذين يستخدمون حريتهم فيقمعونها قليل عديدهم، فيبدو الأولون كأن ليس لهم حرية، ويصدق إنباء المنجمين بحسب الأكثر فقط، وتتمحل الحجج في معارضة الحرية على العموم.
والصورة العلمية للنظرية الجبرية هي بقاء الطاقة. فمنذ العصر القديم قال الماديون: إن المادة أزلية أبدية، غير حادثة ولا مندثرة، وكذلك الطاقة أو القوة الملازمة لها باقية خلال تحولاتها، بحيث تكون كل ظاهرة صورة جديدة لطاقة سابقة. وقد استغلوا هذا الذي سموه «قانون بقاء الطاقة» أعظم استغلال لتأييد سيادة الضرورة على الطبيعة، ورتبوا عليه محالات تلزم القول بالحرية، من جهة أن ثبات القانون يمنع اقتدار الإرادة تغيير مجرى الحوادث، وأن الفعل المقول حرا وغير معين بسوابقه، يفترض خلق طاقة لترجيح كفة الداعي أو الباعث المختار، وفي نفس الوقت يفترض إعدام طاقة الدواعي والبواعث المستجدة وكل هذا عندهم محال.
والمحال عندنا هو هذا القانون والحجج المرتبة عليه؛ ذلك بأن كل ما أثبته العلم ينحصر في أن بقاء الطاقة يتحقق فيما يدعى «نظاما مغلقا»، أي إناء معلوم الطاقة لا يدخل إليه ولا يخرج منه طاقة في وقت التجربة؛ أما تطبيقه على الطبيعة جمعاء فلا سبيل إلى إثباته لاستحالة تقدير طاقات الأحياء من نباتية وحيوانية، والإحاطة بجميع التأثيرات الواقعة عليها، وتقدير مجاوباتها هي على هذه التأثيرات، ولاستحالة قياس الظواهر الوجدانية في الحيوان والإنسان، والمعادلة بينها وبين الطاقات الخارجية، وقد لا تكون الطبيعة نظاما مغلقا، ونحن لا ندري ولا الماديون يدرون إن كانت بمعزل عن تدخل بعض القوى العليا؛ فبأي حق يقولون ببقاء الطاقة، ويستشهدون به على الفعل الحر الشاهد به الوجدان؟
بل قد نسلم به جدلا فلا يضيرنا ذلك في شيء. إن العلم في غير حاجة إليه، وقائم فعلا مع جهلنا مجموع الطاقة، وليست مهمته مراقبة الزيادة فيها والنقصان كما لو كان مكلفا بصون العالم من الدمار! ثم إن التوفيق بينه وبين الإرادة ليس بالمشكلة إلا في النظرية الثنائية كما نراها عند أفلاطون وديكارت التي تجعل من النفس والجسم جوهرين تامين قائم كل منهما بذاته، فيتعين على أشياعها أن يبينوا كيف توصل الإرادة الروحية حركة ما إلى الأعضاء المادية، وكيف توصل الأعضاء حركة ما إلى النفس، على حين لو نظرنا إلى الإنسان أولا، قبل النظر إلى جزءيه اللذين هما النفس والبدن وإلى ما بينهما من اتحاد وثيق، لوجدناه كائنا واحدا لا مزدوجا، بشهادة ظواهر واعتبارات لا تحصى، ولأمكننا الاعتقاد أو لوجب الاعتقاد أن كلا من النفس والبدن يتأثر بالآخر ويؤثر فيه بما له به من اتحاد وشركة، وأن الإرادة تتلقى الحركات بفضل هذا الاتحاد، وتجاوب عليها بالطاقة المختزنة في الأعضاء.
على أن العلم نفسه يغنينا عن مناقشة هذا القانون؛ إذ قد أظهرنا على قانون آخر ينقضه نقضا، هو تضاؤل الطاقة، فإن الطاقة نوعان: أحدهما منتج عملا حراريا أو كهربائيا، والآخر عاجز عن إنتاج أي عمل؛ والنوع الأول يتحول إلى النوع الثاني رويدا رويدا، أي يفقد القوة على التحول إلى عمل كما يفقد الراديوم مثلا نصف كتلته في زهاء 1200 سنة؛ فكأن المادة تندثر، أو كأن القوى الطبيعية تتجه باستمرار إلى التوازن التام، وأن وقتا سيجيء تصبح فيه الطاقة المنتجة كلها غير منتجة أصلا، ويسود العالم جمود وسكون. فإذا كانت الطاقة تتضاءل هكذا، سقطت الاعتراضات على تدخل الإرادة في سلاسل الحوادث، وكان لنا أن نؤمن بتأثير الروحيات في الماديات، وبسيادة الإمكان في الكون على الضرورة، ولو لم يظهر للحواس، ولم نستطع تقدير مداه. وهذا دليل عملي مؤيد للدليل الوجداني وللدليل العقلي: فماذا يريدون بعد ذلك للتسليم بالحرية؟ (5) النفس الإنسانية: وجودها
إذا كان لكل ظاهرة جوهر، ولكل فعل فاعل، فإن في كل كائن حي نفسا هي مصدر حياته وأفعاله. والنفس الإنسانية تبهمنا على الخصوص لكونها أرفع أنواع النفوس، بل لكونها نفسنا، وعلى الرأي فيها تتوقف سيرتنا، وعلى طبيعتها يتوقف مصيرنا ، فنختم هذا الفصل بالفحص عنها والمقارنة بينها وبين النفسين النامية والحاسة، وبذا نحصل على معرفة دقيقة عن النفس بالإجمال، وعن كل نوع من أنواعها بالتفصيل، ولا سيما النفس الإنسانية أيضا، حيث لدينا دليل مباشر، هو الشعور الباطن، يوضح الاستدلال النظري المستخدم في الفحص عن النفسين الأخريين، ويؤيده بالحدس الوجداني أو ما يشبهه. فنسأل أولا: هل توجد نفس؟ فإذا ثبت وجودها نظريا في طبيعتها، فعلمنا أنها بسيطة، ومتحدة بالجسد اتحاد الصورة بالمادة، وأن نفس الإنسان روحية مع ذلك، أي مستقلة عن المادة في الأفعال العقلية والإرادة ومن ثمة في الوجود، وأنها لهذا السبب باقية بعد موت الجسد، فنقول:
أما أن النفس بإطلاقها موجودة، فالدليل عليه أن الحياة لا تصدق على الجسم بما هو جسم، وإلا كان كل جسم حيا أو مبدأ للحياة؛ فلا بد في الحي من مبدأ لا يكون جسما، بل صورة لجسم تمنحه الحياة والفعل. وفي ردنا على قول ديكارت أن الحيوان آلة أثبتنا للحيوان نفسا حاسة. والآن نرد على اعتراضات الحسيين بصدد النفس الإنسانية. أولها - أي أبسطها - قولهم: إن النفس لا تقع تحت الحواس، وإذن فهي غير موجودة. ولكنهم بهذا القول يقعون في الغلط المسمى بالدور المنطقي؛ إذ يضعون كمبدأ أن لا شيء يوجد سوى المادة ويستنتجون عدم وجود النفس، مع أن النظام المنطقي يقضي - قبل استنباط هذه النتيجة - بالبرهنة على أن الحواس آلاتنا الإدراكية الوحيدة، وأن الشيء الروحي غير معقول مستحيل الوجود، هل التذكر والتفكر من الأمور المادية؟ وبأي حاسة نعرفهما؟ فمن العبث الاحتجاج بأن الإنسان قد يكون مجرد آلة، وأن في الجهاز العصبي الكفاية لتعليل الحياة الوجدانية، فلا حاجة إلى نفس لا نراها.
Shafi da ba'a sani ba