المقدمة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، ونستعينك اللهم استعانة العاجز المفتقر الذي يعلم أنه لا قوام له إلا بك، ونستهديك هداية توصلنا إلى رضوانك وسلوك صراطك المستقيم ونستغفرك لما أزلفنا من الخطأ والتقصير.
ونشكرك لما أنعمت به علينا وأمددتنا به من الخير الكثير، فأنت أهل لأن تُذكر فلا تُنْسى، وتطاع فلا تُعْصى، وتُشكر فلا تُكْفر.
والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، مُعَلِّمِ الإنسانية الخير، محمد بن عبد الله، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، فهدى الله به قلوبا غُلْفا، وعيونا عُمْيا، وآذانا صُمّا، وأخرج الله به هذه الأمة من الظلمات إلى النور، ومن الشتات والتفرق إلى التجمع والوحدة والاعتصام بحبل الله، ومن الجهل والضلال إلى العلم والإيمان، ومن الفوضى والسلب والغارات والحروب إلى الأمن والطمأنينة والنظام الشامل، ومن الفقر وحياة البداوة، إلى الغنى وبناء الدولة المستقرة، ومن عبادة الأوثان والطواغيت إلى عبادة الله رب العالمين، ومن تشريعات البشر الجائرة الناقصة إلى التشريع الإلهي الكامل العادل، ومن المناهج والأهواء المتضاربة إلى المنهج الرباني الشامل المُوَحَّد.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)﴾ (^١).
_________
(^١) سورة الجمعة، آية (٢).
1 / 7
ورضي الله عن أصحابه الكرام البررة، من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فقد أثنى عليهم ربهم بقوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (^١).
ووصفهم بقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (^٢).
وقال ﷺ عنهم: "خيْرُ أُمَتِي قَرنِي ثم الذين يَلُونَهم ثم الذين يلونهم … " الحديث (^٣).
وأخرج أبو نعيم عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: "إنّ الله نَظَرَ في قلوب العِبَادِ فاختار محمدًا ﷺ فَبَعَثَهُ إلى خَلْقِه برسالَتِهِ، وانتخبه
_________
(^١) سورة التوبة، آية (١٠٠).
(^٢) سورة الفتح، آية (٢٩)
(^٣) متفق عليه، أخرجه البخاري من حديث عمران، وابن مسعود في كتاب فضائل أصحاب النبي ﷺ: ٨/ ١٨٩. ومسلم من حديثهما وحديث أبي هريرة. حديث رقم (٢٥٣٣، ٢٥٣٤، ٢٥٣٥).
1 / 8
بعلمه، ثم نظر في قلوبِ النّاسِ بَعْدَهُ فاختار اللهُ لَهُ أصحابًا فجعلهم أنصار دِينِهِه ووزراء نبيه ﷺ" (^١).
وقال ابن مسعود أيضا: "من كان مُسْتَنًّا فليستَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الحي لا تُؤْمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبِعُوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم مِنْ أخلاقهم وسيرهم، فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم" (^٢).
فهذه النصوص من الكتاب، والسنة، وأقوال علماء الصحابة ﵃، توضح سمات ذلك الجيل الفريد، الذي تربى في أحضان النبوة، وعلى تعاليم الوحي، فكان جيلا فاضلا، وأمة فريدة، هي بحق خير أمة أخرجت للناس.
إنه جيل النصر وثلة الخير، وأئمة الدعوة، وجيل القدوة، والأسوة، والمُثل السامقة والمشرقة في تاريخ الإنسانية الطويل، فلقد احتل الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأنبياء ﵈، الصدارة، والقيادة، في موكب البشرية جمعاء، ولهذا جعلهم المولى ﷾ المثل الأعلى الذي تطمح البشرية إلى الوصول إلى مستواه، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (^٣) وقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية (^٤) والصحابة هم أول من يدخل في هذا الوصف والخطاب، ولا يعرف عظمة جيل الصحابة إلا من قرأ سيرتهم وتابع حركتهم في نشر الإسلام والعمل به.
_________
(^١) أبو نعيم، حلية الأولياء: ١/ ٣٧٥.
(^٢) جامع الأصول: ١/ ٢٩٢.
(^٣) سورة البقرة، آية (١٤٣).
(^٤) سورة آل عمران، آية (١١٠).
1 / 9
إن المتأمل في تاريخ الصحابة ﵃، ليرى إخلاصهم، وصدق إيمانهم، ومحبتهم لله ولرسوله ﷺ، وأنهم قد بلغوا في ذلك درجة لم يبلغها أحد ممن بعدهم، مع تقيدهم بنصوص الوحي، "كتاب وسنة" ووقوفهم عندها، ومتابعتهم لها، فلا يتقدمون بين يدي الله ورسوله، برأي، أو عادة، أو تقليد، أو رغبة وشهوة، ولا يُحدِثون أمرا إلا بعد التلقي عن رسول الله ﷺ، ومعرفة أمره ونهيه، كما يَرَى حَمَاسَهم، وعُلُوّ هِمَمهم، ورغبتهم القوية في نشر الدين والجهاد في سبيل الله والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الخصال الثلاث (الإخلاص والمتابعة والهمة العالية) هي أساس وجود العمل وصلاحه، وعناصر الإحسان والبناء الحضاري المُثْمِر والنافع، ولذا فإنه لا يَخْطُر ببالهم المساومة على العقيدة وحرماتها، ولا الموازنة بينها وبين غيرها، لأنهم قد انْصَبَعُوا بالصبغة الربانية، والتعاليم النبوية حتى كأن أحدهم في تَحَرُّكِهِ وعمله، قرآن يُتْلَى وَسُنّة تُحْتَذَى، ومثل واقعية في حركة أشخاص يَدُبّون على الأرض، ورغبتهم في الآخرة وتعلقهم بها أعلى من وجودهم المادي، حتى كأن أنفسهم قد خرجت من حصّ أنفسهم الدنيوي، كما يرى أثرهم القيادي والمؤثر في تاريخ البشرية وتوجيهها إلى منهج الله وبناء الحضارة على مقتضى ذلك.
"وبهذا كانوا مَوْضِعَ محبّة كل مؤمن جاء بعدهم، وعرف كل مسلم لهم فضلهم ومنتهم، وأنهم سبب في وصول نعمة الإيمان والإسلام إليه، فينطق جَنَانه ولسانه بما عَلّمه ربه نحوهم ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (^١) إذ لا يطعن في الصحابة إلا ذو غلّ في قلبه ودغل في عقيدته ودينه وكراهية لما بلغوه من هذا الدين العظيم - نعوذ
_________
(^١) سورة الحشر، آية (١٠).
1 / 10
بالله من الخذلان (^١) - وفي هذا يقول أبو زرعة الرازي: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن من الرسول عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله ﷺ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (^٢).
ولأجل هذه المعاني والسمات وغيرها في تاريخ الصحابة ﵃ مع مالهم على المسلمين من الحق الواجب الرعاية، فإنه يتوجب على الدارسين، العناية بتاريخهم، والتعرف على فضائلهم وجهادهم وجهودهم في نشر الدين وتحقيق ذلك وتنقيته مما أُدْخِل عليه من أصحاب الأهواء والأغراض، حتى يبقى مشرقًا صالحًا للأسوة والقدوة كما هو الواقع الحقيقي.
ومساهمة مِنّي في هذا الميدان، اخترت تحقيق ودراسة "الطبقة الخامسة من طبقات الصحابة" في كتاب الطبقات الكبرى لأبي عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي ليكون موضوع الرسالة التي أتقدم بها للحصول على درجة "الدكتوراه" في التاريخ الإسلامي، وهذه الطبقة لم يسبق نشرها، فقد سقطت من الطبعات السابقة لكتاب الطبقات الكبرى، ولا شك أن نشرها يُسهم في إكمال واحدٍ من أهم وأقدم كتبنا التراثية، بل ربما كان أقدم كتاب وصل إلينا في علم الطبقات وتراجم الصحابة - لا تكاد تخلو منه مكتبة عامة، ولا خاصة، فكل هذه الدوافع كانت سببا في اختياري لهذا الموضوع، وقد علمت نقص هذه الطبقة من كتاب الطبقات الكبرى أثناء دراستي للكتاب ضمن المؤرخين الذي درست مناهجهم في القرون الثلاثة الأولى في الرسالة التي أعددتها لنيل درجة "الماجستير" في التاريخ الإسلامي،
_________
(^١) فاروق حمادة: مقدمة فضائل الصحابة للنسائي (ص: ٧).
(^٢) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية (ص: ٩٧).
1 / 11
وكانت بعنوان "منهج كتابة التاريخ الإسلامي، مع دراسة لتطور التدوين ولمناهج المؤرخين في القرون الثلاثة الأولى"، ثم أوقفني أحد الفضلاء على الناقص من مخطوطة الطبقات وذلك في مكتبة الشيخ المرحوم: عبد الرحيم بن صِدّيق، والتي آلت بعد وفاته إلى مكتبة الحرم المكي الشريف فلما اطلعت عليها أدركت أهميتها وعزمت على العمل على نشرها وتحقيقها وطلبت منه صورة عنها، ولكن تبين لي أن نسخته غير مرتبة الأوراق، مما جعلني أبحث عن أصل المخطوطة، وجلبت عنها صورة كاملة في ثمانية مجلدات كبيرة، وذلك بعد جهد ومشقة، كما أنه قد واجهني من الصعوبات كثرة الأسماء المبهمة في الأسانيد مما يحتاج إلى دُرْبَة ومراس في معرفة الرجال، ونظرا لأهمية المخطوطة وكونها في تاريخ الصحابة ﵃ ولحساسية الموضوعات التي تعرضت لها، ولكن مصنفها روى ما فيها من معلومات بالأسانيد على منهج الجمع والتقميش لا على منهج التحديث والتفتيش، كما قال يحيى بن معين: "إذا كتبت فقمِّش وإذا حدثت ففتِّش" (^١).
فقد رأيت أن أتبع في تحقيقها أعلى المناهج وأدقها، "منهج المحدثين" وذلك بدراسة الأسانيد والحكم عليها، وجمع الطرق والروايات لمعرفة الشواهد والمتابعات، وما في المتون من الشذوذ والغرابة، وهذه صعوبة جديدة ومِحْنَة قادت إلى مِنْحَة، حيث يسر الله لي دراسة أصول هذه العلم على المتخصصين فيه، ثم قراءة كثير من مصادره المختصرة والمطولة، والحمد لله على ذلك وقد جاءت خطة البحث في قسمين: -
- القسم الأول: الدراسة.
- القسم الثاني: التحقيق.
وجعلت الدراسة في ثلاثة فصول.
الفصل الأول: عن حياة المؤلف.
_________
(^١) الذهبي: سير أعلام النبلاء: ١١/ ٨٥.
1 / 12
وقد حضرت ما استطعت من مصادر ترجمته ورتبتها ترتيبا تاريخيا حتى تعرف المصادر الأصلية للمعلومات، ومن له فضل السبق، ثم ذكرت اسمه، ونسبه، وولادته، ونشأته، ورحلاته، وثقافته، وعقيدته، ومنزلته العلمية، وشيوخه، وتلاميذه، ومؤلفاته، ووفاته، وذلك كله على سبيل الإيجاز.
والفصل الثاني: جعلته عن دراسة الكتاب وعرضت فيه للموضوعات التالية: -
الأول: منهج المؤلف في ترتيب كتاب الطبقات.
الثاني: منهجه في عرض المادة العلمية، وقد تعرضت فيه المعالم منهجه دون الدخول في التفاصيل - والتي منها الجمع والاستقصاء للروايات، وهذا يحقق قدرًا كبيرًا من الموضوعية والأمانة.
ومنها استخدام الإسناد والمحافظة عليه في غالب الكتاب، وخاصة في طبقات الصحابة، مما يُيسّر على الباحثين عملية النقد. ومنها الإطالة في بعض التراجم والاختصار في أخرى.
الثالث: جعلته دراسة تحليلية للطبقة التي أحققها "الخامسة من الصحابة) وقد بينت فيها شرطه لمن يدخل في هذه الطبقة، وحاكمته إلى شرطه، وهل وَفَّى به؟ وهل استقصى كل من ينطبق عليه شرطه؟ وهل التزم في ترتيب التراجم في هذه الطبقة منهج الترتيب على الأنساب الذي سار عليه في الطبقات السابقة؟ ولماذا أطال في بعض التراجم وقصر في أخرى؟ وما هي المعلومات التي يهتم بها في الترجمة؟ وما هي أبرز القضايا التاريخية التي تعرض لها؟ وما مصادره في ذلك؟ وما قيمة هذه المصادر؟ وكم من الروايات صح وكم منها لم يصح؟ وهل الروايات التي ذكرها في كامل الطبقة تعطي اتجاها فكريًا ومذهبيًا محددًا للمصنف؟ أم أنه أراد أن يورد كامل الروايات التي بَلَغَتْه وَكَمَا بَلَغَتْه، ويترك الأمر للباحث ليدقق ويحقق ويتعرّف على اتجاهات الرواة،
1 / 13
ومدى ضبطهم للأحداث والأخبار، مع العلم أن ابن سعد قد أسهم في بيان شيء من ذلك في تراجم غير الصحابة.
الرابع: موارده في الطبقة الخامسة.
الخامس: أهمية هذا القسم من كتاب الطبقات، إذ أن معرفة صغار الصحابة الذين لم يكن لهم إلا رؤية للنبي ﷺ، أمرٌ مُهِمّ في علوم الحديث، وكذا الحال بالنسبة للروايات والآثار والتي بلغت خمسة عشر وسبعمائة في هذا المصدر القديم. وقد اشتملت هذه الطبقة على تراجم مجموعة من الشخصيات المؤثرة في الحياة العلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية، مثل ابن عباس، والحسن، والحسين، وابن الزبير، فقد شاركوا في كثير من الأحداث المهمة، والتي وقع في عرضها عند كثير من الأخباريين والمؤرخين قديما وحديثًا خلط وتشويه يحتاج إلى تحقيق وتحرير، وإيراد المصنف للأخبار بالأسانيد يساعد على ذلك ويبين المصادر الأولية للنصوص، والتي تم نقلها فيما بعد من مصدر إلى آخر مفصولة عن الأسانيد وعن القائلين بها أول مرة، حتى إذا تواردت عليها المصادر المتأخرة، وكثر ناقلوها ظُنّ أنها حقائق مُسَلّمة، بينما هي من صياغة راو واحدٍ ربما حمله اتجاهه الفكري على اختراع ذلك، أو التزيد فيه، أو وضعه في غير سياقه، حتى يعطي صورة مغايرة للواقع، و، وتخدم الاتجاه الفكري لمن صاغ الخبر أول مرّة.
كما أنها اشتلمت على نصوص في غاية الأهمية من أقوال الصحابة ﵃، واهتماماتهم في الحياة، ومواقفهم من الأحداث والفتن، وسلوكياتهم في المجتمع، ودورهم في التعليم والتوجيه، وسلوكياتهم الخاصة في العبادة، والطاعة وتزكية النفس، والقرب من الله، إلى غير ذلك مما ينبغي الإفادة منه واقتباس الدروس والعبر، والاقتداء والاهتداء بهديهم وطريقتهم.
والفصل الثالث: خصص لدراسة المخطوطة والمنهج المتبع في تحقيقها.
1 / 14
أما القسم الثاني من الرسالة فقد أُفْرد لتحقيق النص، مع دراسة الأسانيد والترجمة لرجالها، والحكم على السند، وتخريج الأحاديث والآثار والنصوص، وذكر الطرق والشواهد والمتابعات، إذا وجدت من المصادر الأصلية والتعليق على ما يلزم التعليق عليه، وشرح الغريب من الألفاظ والترجمة والتعريف بالأعلام في المتن وبيان المواضع الجغرافية إلى غير ذلك مما أوضحته في منهج التحقيق.
هذا وقد صنعت للبحث الفهارس الفنية اللازمة.
وختامًا فإني أشكر المولى جلّت قدرته على فضله وتوفيقه، وأسأله سبحانه أن يمدنا بعونه ويهدينا صراطه المستقيم ويجنبنا الزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين.
المحقق
مكة المكرمة في ٢٠/ ٨/ ١٤٠٩ هـ
1 / 15
الدّرَاسَة
• الفصل الأول: حَيَاة المؤلف •
• مصادر ترجمته
• اسمه ونسبه
• ولادته
• نشأته ورحلاته
• ثقافته
• عقيدته
• منزلته العلمية
• شيوخه
• تلاميذه
• مؤلفاته
• وفاته
1 / 17
• حياة المؤلف •
• مصادر ترجمته: -
إن أقدم ترجمة وصلت إلينا عن مؤلف كتاب الطبقات، محمد بن سعد (١٦٨ - ٢٣٠ هـ) هي تلك الترجمة الموجزة في كتاب الطبقات (^١) للمصنف ذاته، ولكنها قطعًا لم تكن من تدوين ابن سعد عن نفسه، حيث قد اشتملت على تحديد تاريخ وفاته ومكانه دفنه. ولكن من المحتمل أنها من تدوين أحد تلميذيه اللذين وصلت إلينا نسخة الطبقات من روايتهما وهما: -
- الحارث بن محمد بن أبي أسامة (١٨٦ - ٢٨٢ هـ)
- الحسين بن محمد بن فهْم (٢١١ - ٢٨٩ هـ).
والمرجح أن الذي كتبها هو الحسين بن محمد بن فهم، بدلالة رواية الخطيب البغدادي لنص الترجمة في "تاريخ بغداد" (^٢) من طريق الحسين بن فهم.
أما الترجمة الثانية لابن سعد فقد أوردها ابن أبي حاتم (٢٤٠ - ٣٢٧ هـ) في كتاب "الجرح والتعديل" (^٣)، لكنها مختصرة، وقد حدد فيها تاريخ وفاته وذكر اثنين من شيوخه، كما نقل توثيقه عن والده.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع يورد محمد بن إسحاق النديم (كان
حيًّا سنة ٣٧٧ هـ) ترجمة واسعة لابن سعد في كتابه: "الفهرست" (^٤)،
_________
(^١) الطبقات الكبرى: ٧/ ٣٦٤.
(^٢) تاريخ بغداد: ٥/ ٣٢٢.
(^٣) الجرح والتعديل: ٧/ ٢٦٢.
(^٤) الفهرست: ص ١١١ - ١١٢.
1 / 19
وردت في الفن الأول من المقالة الثالثة، وهي التي تختص "بالأخباريين والنسابين وأصحاب السير والأحداث"، ويذكر فيها، اسمه، وكنيته، وتوثيقه، ووفاته، وقائمة بأسماء كتبه، كما يقدّم تفصيلا شاملا عن محتويات كتابه "الطبقات الكبرى".
وفي القرن الخامس نجد له ترجمة أوفى مما سبق، يدوّنها الخطيب البغدادي (٣٩٢ - ٤٦٣ هـ) في "تاريخ بغداد" (^١)، وقد ذكر فيها اسمه ونسبه وشيوخه وتلاميذه والأقوال في جرحه وتعديله وتاريخ وفاته وعمره.
وفي القرن السادس نجد له ترجمة عند أبي سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني (٥٠٦ - ٥٦٢ هـ) في كتاب "الأنساب" (^٢)، لكنها لا تضيف جديدا عما في كتاب تاريخ بغداد، ويغلب على الظن أنها منقولة عنه.
وفي القرن السابع نجد له ذكرًا عند ابن الأثير (٥٥٥ - ٦٣٠ هـ) في كتاب "الكامل" (^٣) يقتصر على ذكر تاريخ وفاته وإشارة إلى كتابه "الطبقات الكبرى".
كما نجد عنه إشارة خاطفة عند الإمام النووي (ت: ٦٧٦ هـ) في كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" (^٤) تشمل توثيقه وذكرًا لبعض كتبه.
أما القاضي ابن خلكان (٦٠٨ - ٦٨١ هـ) فقد ترجم له في كتابه: "وفيات الأعيان" (^٥) غير أن المعلومات التي أوردها لا تزيد عما أورده الخطيب في تاريخ بغداد، وقد صرح بالنقل عنه، ووصف كتاب "الطبقات الكبرى" بأنه "يدخل في خمسة عشر مجلدا".
وفي القرن الثامن ألف أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (٦٥٤ -
_________
(^١) تاريخ بغداد: ٥/ ٣٢١.
(^٢) الأنساب (ورقة: ٤٧٠).
(^٣) الكامل في التاريخ: ٧/ ١٨.
(^٤) تهذيب الأسماء واللغات: ١/ ٦.
(^٥) وفيات الأعيان: ٤/ ٣٥١.
1 / 20
٧٤٢ هـ)، كتاب "تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، وهو إكمال وتهذيب لكتاب الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (٥٤٤ - ٦٠٠ هـ) الذي خَصّصه لتراجم رواة الكتب الستة، وترجم المزي لابن سعد (^١)، باعتباره أحد الرواة في سنن أبي داود. ونحن لا ندري هل ترجم له صاحب كتاب الكمال أم لا، حيث لم يتيسر الوقوف عليه. وقد ذكر المزي أنه قد فات صاحب الكمال كثير من الأسماء تزيد على مئات عديدة (^٢).
ثم ترجم له بعد المزّي أغلب المؤلفين الذين دارت كتبهم حول كتاب "تهذيب الكمال"، مثل الذهبي (٦٧٣ - ٧٤٨ هـ) في "تذهيب التهذيب" (^٣)، وفي "الكاشف" (^٤)، وفي بقية كتبه في التراجم مثل "تاريخ الإسلام" (^٥) و"سير أعلام النبلاء" (^٦) و"تذكرة الحفاظ" (^٧) و"العبر (^٨)، و"ميزان الاعتدال" (^٩). وغالب تراجمه في هذه الكتب مختصرة، وأطول ترجمة هي التي في سير أعلام النبلاء.
وابن حجر العسقلاني (٧٧٣ - ٨٥٢ هـ) في "تهذيب التهذيب" (^١٠) و"تقريب التهذيب" (^١١) والخزرجي (٩٠٠ - بعد ٩٢٣ هـ) في "خلاصة تذهيب تهذيب الكمال" (^١٢).
_________
(^١) تهذيب الكمال (ورقة: ١٢٠١).
(^٢) المصدر السابق (ورقة: ٢).
(^٣) تذهيب التهذيب: ٣/ ٢٠٥
(^٤) الكاشف: ٣/ ٤١.
(^٥) تاريخ الإسلام: ق ٢٤٧ أ من المجلد الرابع.
(^٦) سير أعلام النبلاء: أعلام النبلاء: ١٠/ ٦٦٤.
(^٧) العبر: ١/ ٤٠٧.
(^٨) تذكرة الحفاظ: ٢/ ٤٢٥.
(^٩) ميزان الاعتدال: ٣/ ٥٦٠.
(^١٠) تهذيب التهذيب: ٩/ ١٨٢.
(^١١) تقريب التهذيب: ٢/ ١٦٣.
(^١٢) خلاصة تذهيب التهذيب (ص: ٣٣٦).
1 / 21
كما أورد له وبتراجم موجزة، مجموعة ممّن عنوا بالوفيات مثل الصفدي (ت ٧٦٤ هـ) في "الوافي بالوفيات" (^١)، واليافعي (ت ٧٦٨ هـ) في "مرآة الجنان" (^٢)، وابن كثير (٧٧٤ هـ) في "البداية والنهاية" (^٣)، وابن تغري بردي (ت: ٨٧٤ هـ) في "النجوم الزاهرة" (^٤)، وابن العماد الحنبلي (ت: ١٠٨٩ هـ) في "شذرات الذهب" (^٥).
كما ذكره وذكر مؤلفاته السخاوي (ت: ٩٠٢ هـ) في كتاب: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" وفي كتاب: "فتح المغيث شرح ألفية الحديث" (^٦) وحاج خليفة (ت: ١٠٦٧ هـ) في "كشف الظنون (^٧).
كما ترجم له ابن الجزري (ت: ٨٣٣ هـ) في غاية النهاية في طبقات القراء" (^٨) باعتباره من قراء القرآن الذين تلقوا حروفه وعلّموها لمن بعدهم. وكذا السيوطي (ت: ٩١١ هـ) في "طبقات الحفاظ" (^٩).
وفي العصر الحديث ترجم له بعض الباحثين تراجم موجزة مثل الكتاني (ت: ١٣٤٥ هـ) في "الرسالة المستطرفة لمشهور كتب السنة" (^١٠)، ويوسف هورفتش في "المغازي الأولى ومؤلفوها" (^١١)، والزركلي في
_________
(^١) الوافي بالوفيات: ٣/ ٨٨.
(^٢) مرآة الجنان: ٢/ ١٠٠.
(^٣) البداية والنهاية: ١٠/ ٣٠٣.
(^٤) النجوم الزاهرة: ٢/ ٢٥٨.
(^٥) شذرات الذهب: ٢/ ٦٩.
(^٦) الإعلان بالتوبيخ: ص ١١٧ وفتح المغيث: ٣/ ٣٩٠.
(^٧) كشف الظنون (ص: ١٠٩٩).
(^٨) طبقات القراء: ٢/ ١٤٢.
(^٩) طبقات الحفاظ (ص: ١٨٣).
(^١٠) الرسالة المستطرفة (ص ١٣٨).
(^١١) المغازي الأولى: ص (١٢٦).
1 / 22
"الأعلام" (^١)، ورضا كحالة في معجم المؤلفين (^٢) وفؤاد سركين في "تاريخ التراث العربي" (^٣)، وإحسان عباس في "مقدمة كتاب الطبقات (^٤) وأكرم ضياء العمري في "بحوث في تاريخ السنة" (*). ومحمد السلمي في "منهج كتابة التاريخ الإسلامي" (^٥).
كما أفرده بدراسة كل من: زياد محمد منصور، في مقدمته للقسم الذي حققه من كتاب الطبقات الكبرى (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم) (^٦) وهي أوسع دراسة قدمت عنه رغم أنها لم تكن شاملة. وعز الدين عمر موسى، وذلك في كتيب من الحجم الصغير يقع في تسعين صفحة بعنوان: ابن سعد وطبقاته (^٧) قدم فيها ترجمة للمؤلف، ودراسة لمصادره، وملحقا بأسماء شيوخه، وعدد مروياتهم في طبقات الصحابة والتابعين، وآخر بعدد التراجم في كتاب الطبقات، وعدد من ذكر ولم يترجم، وعدد مرات ورود الشعر، والجدير بالذكر أن دراسته وإحصائياته اعتمدَتْ طَبعَة الطبقات الكبرى المنشورة في بيروت والمعتمدة أصلا على طبعة (ليدن) وهي طبعة ناقصة.
• اسمه ونسبه: -
محمد بن سعد بن مَنِيع، الكاتب (^٨)، الزهري (^٩)، مولي بني
_________
(^١) الأعلام: ٦/ ١٣٦.
(^٢) معجم المؤلفين: ١٠/ ٢١.
(^٣) تاريخ التراث العربي: ١/ ٤٨٠.
(^٤) مقدمة الطبقات الكبرى ص (٥ - ٨).
(^٥) منهج كتابة التاريخ الإسلامي: ص: ٣٦٧.
(^٦) الطبقات، القسم المتمم: ص: ١٧ - ٦١.
(^٧) طبع دار الغرب الإسلامي سنة ١٤٠٧ هـ.
(^٨) السمعاني، الأنساب (٤٧٠) حيث ذكره في هذه المادة.
(^٩) المصدر السابق ووفيات الأعيان والجرح والتعديل: ٤/ ٣٥١.
(*) ص: ٧٨.
1 / 23
هاشم (^١)، البصري مولدا ونشأة، أبو عبد الله، البغدادي إقامة ووفاة، واشتهر بابن سعد، ولقب بكاتب الواقدي وصاحب الواقدي (^٢)، وغلام الواقدي (^٣).
• ولادته: -
لم تنص المصادر على تاريخ ولادته سوى ما ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" بأنه ولد بعد الستين ومائة وقيل: مولده سنة ثمان وستين (^٤). ولكن غالبها يحدد وفاته: بسنة ثلاثين ومائتين عن اثنتين وستين سنة (^٥) وبذلك يتضح أن مولده سنة ثمان وستين ومائة، وكانت ولادته في البصرة (^٦)، وهي في ذلك الوقت تمثل إحدى المراكز العلمية الهامة وتمتلئ بكبار العلماء التابعين من وأتباعهم في علوم الشريعة والعربية والأخبار والأنساب.
• نشأته ورحلاته: -
نشأ ابن سعد في البصرة كما ينشأ أمثاله في ذلك الزمن، وتلقى تعليمه الأوّلي على أيدي علماء البصرة، ولكن لا نعلم بالتحديد على من تلقى من العلماء أول مرة، إذ لا تسعفنا المصادر بمعلومات في هذا الشأن، وكذا أسرته التي لا نعلم عنها شيئًا، ولكن من شيوخه البصريين: أبو عاصم النبيل، وعارم بن الفضل، وإسماعيل بن عُلَيّة، وعفّان بن مسلم، وأبو الوليد الطيالسي وغيرهم.
_________
(^١) الطبقات الكبرى: ٧/ ٣٦٤ وتاريخ بغداد: ٥/ ٣٢١ وتذكرة الحفاظ: ٢/ ٤٢٥.
(^٢) الطبقات الكبرى: ٧/ ٣٦٤ والجرح والتعديل: ٧/ ٢٦٢.
(^٣) الأنساب (٤٧٠).
(^٤) ١٠/ ٦٦٤.
(^٥) الطبقات الكبرى: ٧/ ٣٦٤ وتاريخ بغداد: ٥/ ٣٢٢ والأنساب (٤٧٠)، وتذكرة الحفاظ: ٢/ ٤٢٥ والعبر: ١/ ٤٠٧ وفيه أن عمره: اثنتان وسبعون سنة وهو تصحيف.
ومثله في تاريخ الإسلام ٤ / ق ٢٤٧ أ.
(^٦) وفيات الأعيان: ٤/ ٣٥١ وتذكرة الحفاظ: ٢/ ٤٢٥.
1 / 24
وقد قدم بغداد، واستقر بها، ولازم شيخه محمد بن عمر الواقدي، وكتب له مدة من الزمن حتى عرف به.
كما قدم الكوفة ورحل إلى المدينة النبوية وإلى مكة وأخذ من علماء تلك البلدان، ولا نجد في المصادر ما يفيدنا عن تاريخ رحلاته إلى هذه الأمصار إلا ما ذكر هو خلال ترجمة أبي علقمة الفَرَوي مولي آل عثمان بن عفان، حيث ذكر أنه لقيه بالمدينة سنة تسع وثمانين ومائة (^١)، وعمره في ذلك الوقت لا يتجاوز إحدى وعشرين سنة، مما يدل على رحلاته المبكرة في طلب العلم.
وابن سعد لا يتحدث عن نفسه في كتاب الطبقات ولا يشير إلى تاريخ رحلاته ولقياه للعلماء مِمّا حَرَمنا من مثل هذه المعلومات التي يمكن الاستفادة منها في دراسة حياته.
والأمر يحتاج إلى معرفة وفيات شيوخه في البلدان التي زارها وترتيبها ترتيبا تاريخيا ليعرف على وجه التقريب تاريخ دخوله لكل مصر من هذه الأمصار التي رحل إليها.
• ثقافته: -
شيوخ ابن سعد في كتاب الطبقات يزيد عددهم على مائتين وخمسين شيخا (^٢)، ويمثلون مساحة واسعة من التخصصات العلمية المتنوعة، مثل علم الحديث والرجال، والجرح والتعديل، والفقه وعلوم القرآن، والسير والأخبار والمغازي والفتوح والأحداث، وكذلك الأدب والأنساب والشعر واللغة.
_________
(^١) الطبقات الكبرى: ٥/ ٤٢٤.
(^٢) انظر قائمة شيوخه في المطبوع من طبقاته في الملحق الذي أعده: عز الدين عمر موسى، في كتابه: ابن سعد وطبقاته، ملحق رقم (١)، وفي القسم المتمم (ص (٤٦)، وفيما يأتي من هذه الدراسة (ص ٣١).
1 / 25
ولذلك فقد كانت ثقافته متنوعة وواسعة، وكتاب الطبقات الكبرى يُمَثّل سعة علمه وثقافته. وقد شهد له العلماء بسعة العلم وطُولِ الباع فيه، فقال تلميذه وأحد رواة كتاب الطبقات، الحسين بن فهم: "كان كثير العلم، كثير الحديث والرواية، كثير الكتب، كتب الحديث وغيره من كتب الغريب والفقه (^١)، وقال الخطيب البغدادي: "وصنّف كتابا كبيرا في طبقات الصحابة والتابعين والخالفين إلى وقته فأجاد فيه وأحسن" (^٢)، وقال الذهبي: "كان من أوعية العلم ومن نظر في الطبقات خضع لعلمه" (^٣).
والمادة التي دونها ابن سعد في كتاب الطبقات تدل على سعة علمه وتعدد معارفه ومشاركته في كثير من الميادين العلمية، ففي الطبقات معلومات في الأنساب واسعة ودقيقة، وكذا في الأخبار والحوادث، وفي معرفة الرجال وجرحهم وتعديلهم، وفي رواية الحديث وطرقه وفي الأحكام الفقهية، والسنن والآداب التي اتصف بها السلف من الصحابة والتابعين، وفي الخطط والمباني والمزارع والآبار والمحاصيل الزراعية، كما نجد معلومات طيبة عن أنواع الأطعمة والألبسة والأثاث المستخدم في المنازل، بل نجد ابن سعد يهتم بجمع المعلومات عن الصفات الشخصية لِلْعَلَم الذي يترجم له، فيذكر صِفَةَ شَعْرِهِ وكثافته، وشيبه، وصبغه للشعر، وهيئة ونوع لباسه، ومقدار ثمنه، والطيب الذي يستخدمه، ومواصفاته الجسمية فيما إذا كان الشخص طويلًا أو قصيرًا، وما أُصيبَ به من العاهات، إلى غير ذلك الصفات الخَلْقية والخُلُقِيّة، من مما يدل على اهتمام بهذا النوع من المعرفة الذي من الممكن أن تقوم عليه اليوم دراسات اجتماعية نافعة.
_________
(^١) الطبقات الكبرى: ٧/ ٣٦٤.
(^٢) تاريخ بغداد: ٥/ ٣٢١.
(^٣) سير أعلام النبلاء: ١٠/ ٦٦٥.
1 / 26
• عقيدته:•
عاصر ابن سعد حركة انتعاش المذهب الاعتزالي الذي تبنته السلطة الحاكمة وحاولت فرضه على الأمة بقوة السلطان، وذلك في عهد الخلفاء العباسيين، المأمون، والمعتصم، والواثق (١٩٨ - ٢٣٢ هـ) وكانت أكبر المسائل في هذا المذهب القول بخلق القرآن الكريم إنكارًا منهم لصفات الله ﷾، ومنها صفة الكلام، وقد واجه علماء السنة والأثر هذه المقولة بشدة وأنكروها وكفروا القائل بها (^١)، فحاول المأمون انتزاع إقرار العلماء بالقوة وامتحانهم بهذه المسألة وأن لا يتولى القضاء والشهود والتدريس إلّا من أقر بها (^٢).
وكان ابن سعد من وجوه العلماء والمحدثين في بغداد في تلك الفترة، فقد كان أحد السبعة الذين أمر المأمون، في سنة ثمان عشرة ومائتين، وإليه على بغداد، إسحاق ابن إبراهيم، بإشخاصهم إليه في الرقة لكي يمتحنهم ويأخذ إقرارهم على هذه المسألة، فلما أحضروا عند المأمون سألهم عن خلق القرآن فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق فأعادهم إلى مدينة السلام وشهر إسحاق بن إبراهيم أمرهم بحضرة الفقهاء والمشائخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فَخَلّى سبيلهم (^٣)، وهذه
_________
(^١) حول هذه المسألة انظر كتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل: ١/ ١٠٨ - ١٠٩، وللإمام البخاري رسالة في الرد على الجهمية بعنوان: خلق أفعال العباد.
(^٢) تاريخ الطبري: ٨/ ٦٣٣ والبداية والنهاية: ٢٧٣/ ١٠.
(^٣) تاريخ الطبري: ٨/ ٦٣٤ والكامل لابن الأثير: ٦/ ٤٢٣ والبداية والنهاية: ١٠/ ٢٧٢، والسبعة هم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وزهير بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود أبو إسحاق كاتب الواقدي، وأحمد بن الدورقي.
1 / 27
المسألة لا شك أن لها تأثيرًا في الاعتقاد، إذا كانت عن رضى واختيار، ولكن الواضح من أمرهم أنهم سُجِنوا وهُدّدوا، فأخذوا بالرخصة، وأجابوا تقية، وقد قال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ (^١)، وقال تعالى:؟ ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا …﴾ الآية (^٢) فالله قد أذن لمن لم يستطع الصمود والصبر والأخذ بالعزيمة أن يأخذ بالرخصة إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، ومن المقرر أن الإيمان يزيد وينقص وأن المرء قد يضعف عن تحمّل بعض المواقف، وإن كان المأمول في العالم القدوة أن يأخذ بالعزائم ويصبر على ما يلاقي في سبيل الله، كما فعل الإمام أحمد بن حنبل في هذه القضية، ولعل ذلك ما يوضح سبب غضب الإمام أحمد من موقف الذين أجابوا في الفتنة من العلماء، وحلفه اليمين بأن لا يكلم أحدا ممن أجاب في المحنة حتى يلقى الله ﷿، وكراهته الكتابة عنهم (^٣).
ولكن رغم هذا الموقف من ابن سعد إلا أننا لم نجد أحدًا من العلماء الذين ترجموه، قد عابه بهذا الموقف، لأن الأمر فيه رخصة من الله وما فعله لا يتعدى القول باللسان وقت الإكراه والتهديد.
وقد أورد العلماء أقوال ابن سعد في جرح الرجال وتعديلهم في كتبهم (^٤) ولم يَطْرَحُوا قوله بسبب هذا الموقف.
_________
(^١) سورة آل عمران، آية ٢٨ وراجع تفسير الآية في تفسير الطبري: ٣/ ٢٢٨.
(^٢) سورة النحل، آية ١٠٦ وراجع تفسيرها وسبب نزولها في تفسير الطبري: ١٤/ ١٨١.
(^٣) انظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي: ص ٣٨٨ - ٣٨٩، وميزان الاعتدال: ٤/ ٤١٠.
(^٤) ذكره الذهبي فيمن يعتمد قوله في الجرح والتعديل في الطبقة الرابعة: ص ١٧٢.
1 / 28