وينسف ويتصرَّف في الرعية كريشٍ يقلبه الصرصر في جوٍّ محرق.
المستبدُّ في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانًا فصار إلهًا. ثم يُرجع النظر فيرى نفسه في نفس الأمر أعجز من كلِّ عاجز وأنَّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من العوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش في رأسك طاووسًا وأنت غراب؟ أم تظن الأحجار البراقة في تاجك نجومًا ورأسك سماء؟ أم تتوهم أنَّ زينة صدرك ومنكبيك أخرجتك عن كونك قطعة طينٍ من هذه الأرض؟ والله ما مكَّنك في هذا المقام وسلَّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغير المكبَّر الحقير الموقّر كيف تعيش معنا!
ثمَّ يلتفت إلى جماهير الرّعية المتفرجين، منهم الطائشين المهللين المسبِّحين بحمده، ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم أموات من حين، ولكن؛ يتجلّى في فكره أنَّ خلال الساكتين بعض أفراد عقلاء أمجاد يخاطبونه بالعيون؛ بأنَّ لنا معاشر الأمَّة شؤونًا عمومية وكَّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي، لا على ما تريد فتبغي. فإنْ وفَّيت حقَّ الوكالة حُقَّ لك الاحترام، وإن مرت مكَرْنا وحاقت بك العاقبة، ألا إنَّ مكر الله عظيم.
وعندئذٍ يرجع المستبدُّ إلى نفسه قائلًا: الأعوان الأعوان، الحَمَلَة السَّدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيشٍ من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء،
1 / 68