وفوق كل ذلك، إذا اتهمت أحدا بالخيانة والجحود فالتفت إلى نفسك؛ فمن الواضح أن الخطأ خطؤك إذا كنت قد وضعت الثقة في رجل بهذا الخلق، أو إذا كنت قد أسبغت معروفا دون أن تجعل هذا المعروف غاية في ذاته، وتجعل فعلك هو ثواب ذاته الذي لا يفتقر إلى أي ثواب آخر؛ فأي شيء آخر تريده أيها الإنسان من فعل المعروف؟ أليس بكاف أنك قد فعلت شيئا متناغما مع طبيعتك ذاتها؛ أتريد الآن أن تضع ثمنا له؟! وكأن العين تطلب مقابلا على الرؤية، أو القدم على المشي! فمثلما خلق هذان لغرض معين ويحققان طبيعتهما القويمة بأن يعملا وفقا لفطرتهما الخاصة، كذلك الإنسان خلق لكي يفعل الخير، وحيثما فعل خيرا أو أسهم في الخير العام فقد فعل ما خلق من أجله ونال ما هو له.
25
الكتاب العاشر
(10-1) أيتها النفس، أما آن لك أن تكوني صالحة، بسيطة، واحدة، متجردة، أوضح وأجلى من الجسد الذي يغلفك؟ أما آن لك أن تذوقي حلاوة النزوع إلى الحب والعطف؟ أما آن لك أن تصبحي كاملة خلية من الحاجة لا تفتقدين أي شيء ولا ترغبين في أي شيء، حي أو غير حي، تلتمسين فيه اللذة، ولا ترغبين في مهلة لمزيد من المتعة، أو لين المكان والمناخ، أو الصحبة الهانئة؟ أما آن لك أن تقنعي بحالك الراهن وتجدي متعة فيما هو الآن بين يديك؟ ألن تقتنعي بأن لديك كل شيء، وأن كل ما يأتي فهو من الآلهة، وكله خير لك وسيكون خيرا لك أي شيء يرضيهم وأي شيء سوف يمنحونه لحفظ الوجود الحي الكامل، الخير والعادل والجميل، الذي يولد ويحفظ معا كل الأشياء، ويحتوي ويضم كل الأشياء بينما تندثر لتنتج أشياء أخرى مماثلة؟ أما آن لك أن تصبحي جديرة بالمقام مع الآلهة والبشر من دون أي انتقاد لهم أو إدانة منهم؟ (10-2) لاحظ ما تتطلبه طبيعتك المادية ككائن خاضع لشرط الحياة المحضة، ثم افعله واقبله ما دامت طبيعتك ككائن حي لن تضار به في شيء، ثم لاحظ ما تتطلبه طبيعتك ككائن حي، واقبل كل ذلك لنفسك ما دامت طبيعتك ككائن عاقل لن تضار به في شيء. على أن «الكائن العاقل» يتضمن مباشرة «الكائن الاجتماعي». اتبع هذه القواعد ولا تكرث نفسك بأي شيء آخر. (10-3) أيما شيء يحدث فهو إما يحدث بطريقة من شأن طبيعتك أن تتحملها، وإما بطريقة لم تفطر بالطبيعة على تحملها. فإذا كان الحدث من الصنف الأول فلا تبتئس منه، بل تحمله كما أهلتك الطبيعة لذلك. أما إذا كان من الصنف الثاني فلا تبتئس أيضا؛ فلسوف يأتي عليك قبل أن يترك لك مجالا للابتئاس. تذكر رغم ذلك أنك خلقت بالطبيعة لكي تتحمل كل ما تراه ملكة الرأي عندك محتملا إذا ما وعيته كشيء من مصلحتك، أو من واجبك، أن تأتيه.
1 (10-4) إذا كان على خطأ فعلمه برفق وبين له خطأه. فإذا كنت لا تستطيع ذلك فلتوجه اللوم لنفسك، أو لا تلم حتى نفسك. (10-5) أيما شيء يحدث لك فقد كان يعد لك منذ الأزل، وكان مقتضى الأسباب يغزل لك منذ الأزل خيط وجودك وخيط هذا الحدث المحدد. (10-6) سواء أكان الأمر ذرات عشوائية أم نظاما طبيعيا، فينبغي أن تكون المقدمة الأولى أنني جزء من «الكل» المحكوم بالطبيعة، والثانية أن لي صلة وثيقة بالأجزاء الأخرى التي هي من نوعي. من هاتين المقدمتين أخلص إلى أنني بصفتي جزءا لن أستاء لأي شيء يقيضه لي «الكل»؛ فلا شيء مفيدا للكل يمكن أن يضر بالجزء، ولا «الكل» يتضمن شيئا لا يفيده. لجميع الطبائع العضوية هذه الصفة المشتركة، غير أن طبيعة العالم تتسم بصفة إضافية هي أنه لا يمكن لأي سبب خارجي أن يقهرها على أن تخلق أي شيء ضار بها.
إذن بتذكر أنني جزء من «كل» سأكون راضيا بكل ما يحدث لي. وبقدر ما لي من صلة قرابة بالأجزاء الأخرى فلن أفعل أي شيء غير اجتماعي، بل سأضع نصب عيني خير عشيرتي وأوجه كل سعيي للصالح العالم وأصرفه عما دون ذلك. إذا ما تم ذلك فإن الحياة سوف تسير سيرا حسنا، مثلما ترى أن حياة مواطن ما تسير سيرا حسنا عندما يواصل سعيا فيه مصلحة لرفاقه من المواطنين ويرضى بكل ما تخصصه له مدينته. (10-7) أجزاء «الكل» - كل ما يكون الطاقم الطبيعي للعالم - يتعين بالضرورة أن تهلك. و«تهلك» يجب أن تؤخذ هنا بمعنى «تتغير». والآن إذا كانت الطبيعة قد جعلت هذا «الهلاك» للأجزاء متلفا لها وضروريا أيضا فلن يتسنى البقاء للكل ما دامت أجزاؤه دائما على شفا التغير ومؤهلة خصيصا للهلاك، فهل تعمدت الطبيعة أن تتلف أجزاءها وتجعلها عرضة للأذى وصائرة إليه بالضرورة؟ أو حدثت مثل هذه النتائج دون علمها؟ الحق أن كلا الافتراضين بعيد عن التصديق.
ولكن إذا رفض أحد مفهوم الطبيعة وفسر هذه الأشياء على أنها «هكذا هي لا أكثر ولا أقل.» فليس له أن يعجب أو يستاء من القول بأن أجزاء الكل عرضة بطبيعتها للتغير كما لو كان هذا التغير شيئا مضادا للطبيعة؛ خاصة أن تحلل كل شيء هو إلى العناصر التي يتكون منها؛ فالتحلل هو إما تشتت العناصر المكونة أو تحول الصلب إلى تراب والروح إلى هواء؛ بحيث ينضوي هذان في عقل «الكل»، سواء أكان الكل يتحول دوريا إلى نار أم يجدد نفسه من خلال التحولات الأبدية.
ولا يتصورن أحد أن هذا الصلب وهذه الروح هما نفس الشيء الذي كاناه في الأصل عند الولادة؛ فكل هذا لم يجتمع إلا أمس أو أمس الأول من تدفق الغذاء المستهلك والهواء الذي شهق؛ فالذي يتغير هو التدفق المجتمع وليس الشيء الذي ولدته أمك. افترض الآن أن هذا التدفق متضمن في صميم نفسك الفردية، فما أرى أن ذلك يؤثر في الحجة.
2 (10-8) إذا ما اكتسبت النعوت: «صالح»، «متواضع»، «صادق»، «عقلاني»، «متزن»، «شهم»؛ فاحرص على ألا تتنازل عنها، وإذا خسرتها فعجل بالعودة إليها. تذكر أيضا أن لفظة «عقلاني» قد قصد منها أن تدل على الانتباه المميز لكل التفاصيل والفكر النشيط، وأن «الاتزان» هو القبول الطوعي لما قسمته لك طبيعة العالم، وأن «الشهامة» هي علو التفكير فوق مؤثرات الجسد السارة أو المؤلمة، وفوق المجد الفارغ أو الموت أو أي شيء آخر غير فارق
indifferent . فإذا بقيت مخلصا لهذه النعوت، لا عن مجرد رغبة في أن يناديك بها الآخرون، فسوف تكون إنسانا جديدا وتدخل حياة جديدة.
Shafi da ba'a sani ba