secede te ipsum
ويقول ماركوس: «إنهم يبحثون عن منتجعات لهم؛ في الريف، على البحر، على التلال، وأنت بصفة خاصة عرضة لهذه الرغبة المشبوبة، ولكن هذا من شيم الطغام، فما زال بإمكانك كلما شئت ملاذا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبيك؛ فليس في العالم موضع أكثر هدوءا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه، وبخاصة إذا كانت نفسه ثرية بالخواطر التي إذا أظلته غمرته بالسكينة التامة والفورية. ولست أعني بالسكينة إلا الحياة التي يحكمها العقل ويحسن قيادها. فلتمنح نفسك دائما هذا الاستجمام، ولتجدد ذاتك. ولتكن المبادئ العقلية التي سوف تعود إليها هناك وجيزة وأساسية وكافية لأن تذهب بكل ألمك في الحال وتعيدك إلى أمورك المستأنفة خاليا من السخط عليها أو التبرم بها» (4-3). «تذكر أن عقلك الموجه لا يقهر إذا ما اعتصم بنفسه مكتفيا بذاته غير فاعل شيئا لا يريد أن يفعله، حتى لو كان موقفه مجرد عناد، فما بالك إذا كان الحكم الذي يكونه مؤيدا بالعقل والروية؛ لذا فإن العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة؛ ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه، ومن يأوي إليه فهو في حصن حصين؛ فما أجهله من لا يرى هذه القلعة، وما أتعسه من لا يلوذ بهذا الحصن» (8-48). (3) علمهم أو احتملهم
أخذ ماركوس بالفكرة السقراطية القائلة بأن «الفضيلة علم والرذيلة جهل.» وألا أحد يرتكب الشر عن قصد؛ أي عن علم. ينتج عن ذلك، منطقيا، أن علينا تجاه مرتكب الخطأ أن نعلمه ونبصره بجهله، وإلا نعلمه فلنتسامح معه ولا نحمله فشلنا نحن وتقصيرنا في إرشاده إلى المسلك الصحيح. «... ليست هناك نفس تريد عمدا أن تحرم من الحقيقة، والشيء نفسه ينسحب على العدالة، والاعتدال، والإحسان، وكل هذه الفضائل. من المهم للغاية أن تضع هذا دائما باعتبارك، فبذلك سوف تكون أرفق بالجميع» (7-63). «لقد ابتلي كل منهم بذلك من جراء جهله بما هو خير وما هو شر، أما أنا وقد بصرت بطبيعة الخير وعرفت أنه جميل، وبطبيعة الشر وعرفته قبيحا، وأدركت أن مرتكب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلاف في طبيعته ذاتها - فنحن لا تجمعنا قرابة الدم والعرق فحسب بل قرابة الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبس الإلهي - أما أنا وقد بصرت بهذه القرابة فلن يسوءني أي واحد من هؤلاء ولن يعديني بإثمه، وليس لي أن أنقم منه قرابتي أو أسخط عليه ...» (2-1). «سل نفسك ماذا يكون هذا الشيء الذي يعرض لي الآن؟ وأي نوع من الفضائل يلزمني لمواجهته: الرفق مثلا أم الشجاعة أم الصدق، إلخ؟ ... هذا جاء من أحد إخوتي من بني الإنسان، قريبي وزميلي، وإن كان لا يعرف ما يليق بطبيعته ذاتها. غير أني أعرف؛ ومن ثم أعامله برفق وعدل، متبعا في ذلك القانون الطبيعي للأخوة ...» (3-11). «من المفيد عمليا أن تعي هذا كلما صادفته؛ وهو تلك الفضيلة التي وهبتنا إياها الطبيعة لكي نقابل بها كل فعل خبيث. وهبتنا الرفق ليكون ترياقا للقسوة، وخصالا أخرى نواجه بها إساءات أخرى. وبصفة عامة، بوسعك دائما أن تعيد تعليم من ضل طريقه، وكل من يفعل الشر فقد أخطأ هدفه الحقيقي وضل طريقه» (9-42). «من الطبيعة الإنسانية أن تحب حتى من يزلون ويسقطون. يتبين ذلك إذا ما أخذت باعتبارك، حين يخطئون، أن البشر إخوة، وأنهم يخطئون عن جهل وليس عن عمد، وأن الموت لا يلبث أن يطويك ويطويهم. والأهم، أن المخطئ لم يضرك، ولم يجعل عقلك الموجه في وضع أسوأ مما كان عليه من قبل» (7-22). «إذا استطعت فبين لهم الطريق الأقوم، وإذا لم تستطع فتذكر أنه لذلك السبب قد أوتيت ملكة السماحة» (9-11). (4) نهر التغير
أخذ ماركوس عن هيراقليطس فكرة التغير الدائم لكل شيء؛ فالوجود تغير وصيرورة، ولا شيء يثبت على حاله اللهم إلا التغير نفسه! يقول هيرقليطس: «إنك لا يمكن أن تنزل النهر نفسه مرتين؛ لأن مياها جديدة تتدفق
2
عليك بلا انقطاع.» ويقول ماركوس إن «التغير هو أسلوب الطبيعة في عملها» (8-6). «تنشغل طبيعة العالم بهذا العمل؛ أن تحول الواقع إلى آخر، أن تغير الأشياء، أن تأخذها من هنا وتضعها هناك. كل الأشياء تغير» (8-6). فالتغير ليس «صفة» للأشياء بل «أسلوب وجود». «الزمن أشبه بنهر من الأحداث الجارية وتيار عنيف؛ فما يكاد شيء يظهر للعين حتى ينجرف بعيدا (إلى الماضي) ويحل غيره محله، فما يلبث أن ينجرف بدوره» (4-43). «تأمل دائما كل ما يأتي به التغير، ورض نفسك على فكرة أن طبيعة «الكل» لا تولع بشيء قدر ولوعها بتغيير كل شكل من الوجود إلى شكل آخر، شبيه ولكن جديد ...» (4-36). «فنظام الأشياء تحفظه التغيرات التي تعتور العناصر مثلما تحفظه التغيرات التي تعتور الأشياء المكونة من هذه العناصر» (2-3). «هل يخشى أحد من التغير؟ حسن، فأي شيء يمكن أن يحدث من دون تغير؟ أو أي شيء أعز على طبيعة «الكل» وأقرب إليها من التغير؟ هل بوسعك أنت نفسك أن تغتسل إذا لم ينل التغير خشب الموقد؟ هل بوسعك أن تأكل دون أن يتغير ما تأكله؟ هل يمكن أن يتحقق أي شيء نافع في الحياة بدون تغير؟ ألست ترى، إذن، أن التغير بالنسبة لك هو الشيء نفسه، وأنه ضروري بنفس الدرجة لطبيعة الكل؟» (7-18). والتغير يحفظ نظام الأشياء ويبقي العالم صبيا على الدوام: «... وطبيعة العالم، التي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المكونة تبقي العالم كله صبيا وعفيا» (12-23). «بعض الأشياء تحث الخطو إلى الوجود، وبعضها يحث الخطو للخروج منه، وبعضها يولد هالكا من الأصل. التغير يجدد العالم على الدوام، كما يجدد المسير الدائب للزمن أمد العصور إلى الأبد. في هذا التيار المتدفق، حيث لا ثبات لقدم، ماذا يمكن للمرء أن يجل من كل ما يتدافع أمامه؟ لكأنه ما يكاد يولع بعصفور يطير أمامه حتى يكون قد اختفى عن بصره ...» (6-15). (5) أهمية دراسة الطبيعيات
لم يكن ماركوس أوريليوس شغوفا بالمنطق والطبيعيات ، غير أنه أوصى بدراستهما بالنظر إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان والكون (بين الميكروكوزم والماكروكوزم). «من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو، ومن لا يعرف لأي غاية وجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم، ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وجد هو ذاته، ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟» (8-52). «ضع نصب عينيك دائما هذه الأشياء؛ ما هي طبيعة «الكل»؟ ما هي طبيعتي الخاصة؟ ما علاقة هذه الطبيعة بتلك؟ أي صنف من الجزء لأي صنف من الكل؟ وأن ليس بإمكان أحد أن يحول بينك وبين أن تقول ما تقول وتعمل ما تعمل وفقا لتلك الطبيعة التي أنت جزء منها» (2-9). «لا شيء يؤدي بك إلى سمو العقل مثل قدرتك على أن تعرض كل عنصر من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق، وقدرتك على أن تنظر إلى الأشياء دائما بحيث يمكنك في الوقت نفسه أن تتأمل أي صنف من العوالم هذا وأي دور يسهم به هذا الشيء أو ذاك في هذا العالم، وأي قيمة يتحلى بها كل شيء بالنسبة إلى «الكل» وبالنسبة إلى الإنسان الذي هو مواطن هذه المدينة العليا التي تعد سائر المدن مجرد عائلات فيها» (3-11). (6) الكوزموس
ذهب ماركوس إلى أن العالم كله ليس إلا كائنا واحدا حيا مترابط الأعضاء متواشج الأجزاء. وأن ما يحدث في الجزء يؤثر في الكل والعكس بالعكس، وأن الله والطبيعة شيء واحد (وحدة الوجود/البانتزم). «انظر دائما إلى العالم على أنه كائن حي واحد، يتكون من مادة واحدة وروح واحدة، انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوع واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعا في كل ما يحدث، انظر أيضا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها» (4-40). «ثمة ضوء واحد للشمس وإن تشتت على الجدران والجبال وما لا يحصى من الأشياء، ثمة مادة عامة واحدة وإن تكسرت إلى ما لا يحصى من الأجسام لكل منها صورته وخصائصه، ثمة روح حيوانية واحدة وإن توزعت بين ما لا يحصى من الأنواع والأفراد، وروح عاقلة واحدة وإن بدت مقسمة» (12-30). «جميع الأشياء متواشجة متشابكة، يربطها معا رباط مقدس. لا شيء غريب عن الأشياء الأخرى فجميعها قد رتبت معا لكي تتعاون على تحقيق «النظام» الواحد للعالم؛ ذلك أن «العالم» المؤلف من جميع الأشياء واحد، والإله المنبث في كل الأشياء واحد، والمادة واحدة، والقانون واحد، والعقل الشائع في جميع الموجودات العاقلة واحد، والحقيقة واحدة؛ لأن الحقيقة هي كمال الموجودات العاقلة المشاركة في عقل واحد» (7-9). «تأمل مليا ترابط الأشياء جميعا في العالم وقرابتها، جميع الأشياء، بطريقة ما، متواشجة، ولديها من ثم مشاعر ود بعضها تجاه بعض؛ فالشيء يتلو الشيء في نظام منضبط، من خلال توتر الحركة والروح الشاملة التي تلهمها ووحدة الوجود كله» (6-38). «جميع الأشياء، رغم انفصالها وتمايزها، يتخلل بعضها بعضا ويستجيب بعضها لبعض» (4-27). «في سلاسل الأشياء فإن اللاحق يكون دائما مرتبطا بما سبقه، لا مجرد إحصاء بسيط لأشياء منفصلة ومجرد تعاقب ضروري، بل ارتباط عقلي. ومثلما أن الأشياء الموجودة مترابطة بينها بانسجام، كذلك عمليات الصيرورة لا تعرض مجرد تتابع، بل انسجاما صميما مدهشا» (4-45).
ويذهب الرواقيون إلى أن جوهر العالم هو العقل الكلي أو «اللوجوس»، وأن هذا العقل مبثوث في كل شيء وفي كل مكان، يقول ماركوس: «لا تعد تتنفس فقط من الهواء المحيط، بل خذ فكرك أيضا من العقل الذي يضم الأشياء جميعا؛ فالقوة العاقلة منتشرة، كالهواء، في كل مكان ومتخللة في كل شيء، طوع من يشاء أن يتشربها، تماما كالهواء لمن يستطيع أن يتنفسه» (8-54).
الاقتصاد الكوني : يرى ماركوس أن كل جزء من أجزاء الطبيعة ضروري لها ومنسجم مع «الكل» ومتمم له ... حتى مخلفات الطبيعة ونفاياتها هي أشياء مقبولة ومعقولة في السياق الكلي، تعاد دورته داخل الكل المكتفي بذاته: «... ولا تسأل لماذا جعلت مثل هذه الأشياء في العالم؛ فهذا سؤال مضحك عند دارس الطبيعة، مثلما يضحك عليك النجار أو الإسكاف إذا رآك تستاء لمنظر قشارة أو قصاصات، متخلفة عن عملهما، على أرض الورشة. على أن لدى هذين مكانا ما لإلقاء مخلفاتهما، أما طبيعة «الكل» فلا شيء لديها خارج ذاتها. والعجيب في فنها أنها حددت حدودها، وكل ما يفسد داخلها أو يشيخ أو ينتهي استعماله فإنها تعيد دورته داخلها وتخلق أشياء جديدة أخرى من هذه المادة نفسها، بحيث لا تحتاج إلى مادة من الخارج ولا إلى مكان تلقي فيه نفاياتها، إنها تامة إذن ومكتفية بمكانها، ومادتها، وفنها» (8-50). «كل الأشياء تأتي من هناك ... من ذلك العقل الكلي الحاكم، إما مباشرة وإما كنتيجة؛ لذا حتى فكا الأسد المفتوحان، وحتى السم، وكل مؤذ من الأشياء، كالشوك، كالطين، هي نواتج بعدية للنبيل والجميل. فلا تحسبنها غريبة عما تقدسه، بل تأمل، وأنصف، ينبوع الأشياء جميعا» (6-36). «وحتى النواتج العرضية لما يتم وفقا للطبيعة لا يخلو من فتنة وجاذبية. حين يخبز رغيف، على سبيل المثال، فلا بد من أن تحدث تشققات هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشققات غير المتعمدة تجذب العين بطريقة ما وتثير الشهية. التين أيضا يتفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي ينضج على شجرته فإن قرب التحلل يمنح ثمرته رونقا معينا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجفن الأسد المغضن، والزبد المتدفق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير، كل أولئك أشياء بعيدة عن الجمال حين تؤخذ على حدة، ولكن ترتبها على عمليات الطبيعة يضفي عليها جمالا وجاذبية؛ ومن ثم فأي إنسان لديه شعور واستبصار عميق بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذة ما في كل جانب منها تقريبا، بما في ذلك النواتج العرضية» (3-2). لكل شيء في الطبيعة، إذن، دوره في حبكة «الكل»، ولكل شخص وظيفته حتى النائم وحتى المخرب: «حتى النائمون هم عمال مشاركون في صنع ما يحدث في العالم، لكل واحد عمله المقيض له، وهناك وظيفة حتى للمناوئ الذي يريد أن يفسد الإنتاج، فالعالم بحاجة إليه أيضا» (6-42). «تستخدم الطبيعة مادة العالم مثلما يستخدم الشمع؛ فتارة تخلق منه كهيئة حصان، ثم تصهره وتستخدم مادته لخلق شجرة، ثم إنسان، ثم شيء آخر. كل شيء من الأشياء لا يدوم إلا قليلا. ليس صعبا على الوعاء أن ينحطم، مثلما لم يكن صعبا عليه أن يستوي من قبل وعاء» (7-23). «ستخلق أشياء أخرى من هذه المادة، ثم أشياء أخرى من هذه، وهكذا بحيث يبقى العالم صبيا على الدوام» (7-25).
Shafi da ba'a sani ba