من الصعب على العقل الحديث أن يتحمس لحياة صالحة إذا لم يكن ثمة شيء سوف تحققه الحياة الصالحة، فنحن نقدر الطبيب الذي يعرض حياته للخطر في وباء طاعون؛ لأننا نرى المرض شرا ونأمل في التوقي منه، ولكن إذا لم يكن المرض شرا فإن للطبيب أن يلزم بيته مستريحا. وبالنسبة للرواقي فإن فضيلته تعد غاية في ذاتها لا شيئا يفعل الخير. وحين نمضي معه إلى آخر المدى فإن مآل الأمور جميعا هو احتراق العالم وتكرار العملية بأسرها. فهل هناك ما هو أكثر عبثية وامتناعا؟ قد يحدث تقدم هنا أو هناك حينا من الوقت، ولكن النهاية الوحيدة هي التكرار (الرجعة/العود). فإذا ما شهدنا شيئا مؤلما غير محتمل فإننا نأمل أن تنتهي مثل هذه الويلات بمرور الزمن. على أن الرواقيين يؤكدون لنا أن ما يحدث الآن سوف يحدث مرارا وتكرارا. وكأنا بالعناية التي تشهد الكل سوف يعروها الضجر واليأس في النهاية بكل تأكيد.
26
ثمة إلى جانب ذلك برود معين في التصور الرواقي للفضيلة. لا تدين الرواقية الانفعالات السيئة فحسب بل جميع الانفعالات؛ فالحكيم خلو من الانفعالات لا يشعر بالتعاطف؛ فإذا ماتت زوجته أو أبناؤه فإنه يقول لنفسه إن هذا المصاب ليس عقبة أمام فضيلتي؛ ومن ثم فإنه لا يعاني منه معاناة عميقة. أما الحياة العامة فقد يكون من واجبك الانخراط فيها لأنها تمنحك فرصة لممارسة العدل والعزيمة ... إلخ. على ألا تكون مدفوعا برغبة في نفع الجنس البشري، حيث أن المنافع التي يمكن أن تقدمها - كالسلام أو وفرة الطعام - ليست منافع حقيقية، ولا شيء يهمك على كل حال إلا فضيلتك ذاتها؛ فالرواقي ليس فاضلا لكي يفعل الخير، ولكنه يفعل الخير لكي يكون فاضلا، ولم يخطر له أن يحب جاره كنفسه؛ فالحب، إلا في معناه السطحي، غير موجود في مفهومه عن الفضيلة. «وحين أقول هذا إنما أعني الحب كعاطفة لا كمبدأ؛ فالحب الكوني مبدأ بشرت به الرواقية، وقال به سينيكا وخلفاؤه، ولعلهم قد أخذوه عن الرواقيين الأوائل. إن منطق المدرسة الرواقية قد أفضى إلى مذاهب متصلبة؛ مذاهب خففتها وهذبتها إنسانية أتباعها، الذين كانوا أفضل حالا بكثير مما كان يمكن أن يكونوا عليه لو أنهم كانوا متسقين مع مذهبهم».
27 (4) الرواقية الرومانية
حين دخلت الرواقية روما اصطبغت بالصبغة العملية، فنبذت التعقيدات المنطقية وتخلصت من كثير من تفصيلات علم الطبيعة، وركزت جل اهتمامها على الجانب الأخلاقي من المذهب. كان سينيكا، على سبيل المثال، يزدري علم المنطق ويتنكب الطبيعيات إذا عرضت له في أحاديثه (باستثناء كتابه «المسائل الطبيعية») وكان إبكتيتوس أيضا يمر على الطبيعيات في أحاديثه مر الكرام. أما ماركوس أوريليوس فلا يعرض لها أصلا، وفي الكتاب الأول من «التأملات» نجده يحمد الإله أنه لم يضع وقته في تحليل المنطق ولم يشغل نفسه ببحث الطبيعيات (1-17). «لقد كان المذهب الرواقي، في تصوره للإنسان، أكرم من نظريات العصر الكلاسيكي. فإذا كان أرسطو قد ذهب إلى حد الاعتراف بأن اليوناني ينبغي ألا يكون عبدا لأي واحد من البشر، فإن الرواقية ذهبت إلى أن الناس جميعا، بمعنى ما متساوون، وكانت في ذلك تسير على هدى الممارسة التي اتبعها الإسكندر، وإن كان الرق قد انتشر خلال عصور الإمبراطورية على نطاق أوسع مما كان في أي عهد مضى. وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري أدخلت الرواقية التمييز بين القانون الطبيعي وقانون الأمم. والمقصود بالحق الطبيعي هنا ما يكون من حق الإنسان بناء على طبيعته البشرية وحدها. ولقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية بعض التأثيرات النافعة على التشريع الروماني؛ لأنها خففت من محنة أولئك الذين حرموا من أن يكون لهم مركز اجتماعي بالمعنى الكامل. وقد أعيد إحياء هذه النظرية، لأسباب مماثلة في الفترة التالية لعصر النهضة الأوروبية، وذلك خلال الصراع ضد فكرة حقوق الملوك الإلهية.»
28
والحق أن الرواقية قد بثت مبادئها السمحة في القانون الروماني فأصلحته وهذبته وصبغته بصبغة عقلية أخلاقية كونية حتى صار، في عمومه، قانون الأمم المتحضرة حتى يومنا هذا:
الحياة وفقا للطبيعة أو طبقا للعقل
honeste vivere (أي إن الأخلاق قد صارت أساسا للحق نفسه الذي سيصبح قانون الإنسان في الجماعة).
عدم الإضرار بالغير
Shafi da ba'a sani ba