تحية واعتراف بالفضل
شكر وتقدير
تقديم المترجم
مقدمة
الجزء الأول: أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
1 - أن نعيش اللحظة الحاضرة
2 - أن نتنفس
3 - أن نتواصل مع أجسادنا
4 - أن نغمض عيوننا وننصت
5 - أن نراقب أفكارنا
6 - أن نعطي مساحة لمشاعرنا
7 - أن ندرب انتباهنا كي نزيد حدة وعينا
8 - أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية
الجزء الثاني: أن نعيش وعيون روحنا مفتوحة على اتساعها وأن تكون هذه هي فلسفة حياتنا اليومية
9 - أن نرى كل ما هو عادي
10 - أن نرى كل هو مخفي
11 - أن نرى ما هو مهم
12 - أن نكون حاضرين أثناء الفعل
13 - أن نشحذ انتباهنا
14 - أن نفهم ونقبل ما هو موجود
الجزء الثالث: أن نتجاوز العواصف بالاحتماء بملاذ اللحظة الحاضرة
15 - أن نتحرر من سجوننا الذهنية
16 - أن نتخلى عن إصرارنا
17 - أن نبقى حاضرين في هذا العالم
18 - أن نستمر بالتقدم رغم جروحنا
19 - أن نقبل الغموض
20 - أن نلمح السعادة وهي تبزغ ببطء
الجزء الرابع: أن نكون أكثر انفتاحا ويقظة وندرك أن ذلك هو أكثر الأسفار بعدا
21 - أن نعمل
22 - أن نتأمل
23 - أن نحب
24 - أن نختبر تمدد الذات وانحلالها
25 - أن نصل للوعي الكوني
تنزيل تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
10 تلميحات للتأمل باستخدام تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
قراءات إضافية
مواقع إلكترونية مفيدة
المراجع
تحية واعتراف بالفضل
شكر وتقدير
تقديم المترجم
مقدمة
الجزء الأول: أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
1 - أن نعيش اللحظة الحاضرة
2 - أن نتنفس
3 - أن نتواصل مع أجسادنا
4 - أن نغمض عيوننا وننصت
5 - أن نراقب أفكارنا
6 - أن نعطي مساحة لمشاعرنا
7 - أن ندرب انتباهنا كي نزيد حدة وعينا
8 - أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية
الجزء الثاني: أن نعيش وعيون روحنا مفتوحة على اتساعها وأن تكون هذه هي فلسفة حياتنا اليومية
9 - أن نرى كل ما هو عادي
10 - أن نرى كل هو مخفي
11 - أن نرى ما هو مهم
12 - أن نكون حاضرين أثناء الفعل
13 - أن نشحذ انتباهنا
14 - أن نفهم ونقبل ما هو موجود
الجزء الثالث: أن نتجاوز العواصف بالاحتماء بملاذ اللحظة الحاضرة
15 - أن نتحرر من سجوننا الذهنية
16 - أن نتخلى عن إصرارنا
17 - أن نبقى حاضرين في هذا العالم
18 - أن نستمر بالتقدم رغم جروحنا
19 - أن نقبل الغموض
20 - أن نلمح السعادة وهي تبزغ ببطء
الجزء الرابع: أن نكون أكثر انفتاحا ويقظة وندرك أن ذلك هو أكثر الأسفار بعدا
21 - أن نعمل
22 - أن نتأمل
23 - أن نحب
24 - أن نختبر تمدد الذات وانحلالها
25 - أن نصل للوعي الكوني
تنزيل تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
10 تلميحات للتأمل باستخدام تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
قراءات إضافية
مواقع إلكترونية مفيدة
المراجع
تأمل يوما بعد يوم
تأمل يوما بعد يوم
25 درسا للعيش بوعي كامل
تأليف
كريستوف أندريه
ترجمة
سامح عبد الكريم صالح
تحية واعتراف بالفضل
إلى جون كاباتزين لرؤيته.
إلى زيندل سيجال لعلمه.
إلى ماثيو ريكار لقدوته.
ولثلاثتهم، لما علموني إياه، ولصداقتهم.
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر لصوفي دي سيفري لدعمها المطلق وحسها الجمالي وذوقها الفني المرهف. إنها السبب في الجمال الموجود في هذا الكتاب. وإن كان هذا الكتاب، الذي يعد عملا فنيا صغيرا، قد أبهر عينيك، فالفضل يرجع إليها.
وأنا ممتن أيضا لكاثرين ماير لتوفرها الدائم لمعاونتي وحدسها ونصائحها. لقد ساعدتني في الوصول إلى أوضح أسلوب ممكن وأكثره إيحاء. وإذا كان هذا الكتاب يتحدث إليك ويلمسك، فالفضل يرجع إليها.
وأقول للاثنتين، شكرا على إمدادي بالمصادر والوقت اللازمين لوضع تخطيط هذا الكتاب ثم تأليفه.
أشكركما على كل هذا، وعلى كل شيء.
تقديم المترجم
«حين تأتي العاصفة تمسكوا بتنفسكم، إنه مرساة النجاة.» هذا ما يقوله كريستوف أندريه في كتابه: «تأمل يوما بعد يوم».
تعتبر حالة التأمل بالوعي الكامل
Mindfulness ، وهي إحدى الممارسات التأملية، أكثر من طريقة علاجية أو ممارسة يومية لنشاط ما. إنها طريقة للعيش، تفتح لنا أبوابا موصدة، وتقودنا إلى غياهب لم نكتشفها قبلا، لكنها كانت دوما في دواخلنا.
بعد ظهور التحليل النفسي في بداية القرن العشرين، وبقائه طويلا في كبد سماء العلاج النفسي، بدأت طرائق العلاج الأخرى بالظهور في ستينيات القرن العشرين، ومنها العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج بالتنويم، وعلاج الرضوض النفسية بتفعيل الحركات المتواترة للعينين (
EMDR )، وطرائق أخرى بدأت تشق طريقها في المقاربة الحديثة للاضطرابات النفسية المختلفة، وحتى في مقاربة العديد من الأمراض الجسدية.
إن حالة الوعي الكامل هي بكل بساطة أن نعي في لحظة ما كل ما هو موجود حولنا؛ المكان، والأشياء، والأصوات. أن ندعها تتشربنا لنصير جزءا منها، أو ليصير كل ما حولنا جزءا من وجودنا. إنها أيضا وفي الوقت نفسه أن نعي كل ما يحدث داخلنا؛ تنفسنا، ونبض قلبنا، وتوتر عضلاتنا، ووضعية جسدنا. أن نعي أيضا نهر أفكارنا ومشاعرنا الذي لا يكف عن الجريان والتبدل. كل ذلك في لحظة دون أن نحاول تغييره أو الرد عليه. ويمكننا مع الممارسة، أن نعيشه في لحظات كثيرة من يومنا.
اختبر الانسان حالة التأمل منذ بدء الخليقة؛ فالتأمل أساسي كالنوم والحركة. وعاش كل واحد منا حالات من الوعي الكامل مرارا دون إدراك لهذه الحالات. يقول أنسي الحاج: «أعجب من شخص يرى لوحة جميلة، أو يسمع مقطوعة موسيقية ويقول لنفسه: يا إلهي، ما أجملها! ثم لا تتغير حياته.»
في كل مرة نقف فيها مشدوهين أمام الجمال، نكون في حالة وعي كامل. إنها تلك اللحظة التي تسرق كل حواسنا.
لقد استمد علماء الغرب مبادئ التأمل (بمفهومه العلمي والعلماني) من الديانات والتيارات الفلسفية الشرقية؛ فلسفة الزن اليابانية، والبوذية، والكونفوشية، وأيضا من فلسفة المتصوفة. قاموا بممارسته ودراسته، ثم نقلوه إلى الآخرين دارسين ومرضى. إنه يشبه في ذلك تفاصيل حياتنا التي لا يجدي فيها النقل النظري والتحليلي، وإنما الممارسة، لهذا فإن كل أساتذة ومعالجي التأمل مارسوه قبل أن يقوموا بنقله.
والآن أدعوكم إلى اختبار هذه التجربة البسيطة: لنغمض أعيننا ونتخيل أننا وحيدون في عاصفة بحرية هائجة. لا ضوء ولا منارة هادية؛ فإذا نظرنا حولنا لا نجد إلا الظلام والخوف، حيث السماء قريبة والغيوم ثقيلة والريح تعصف بكل شيء. إننا وحيدون في سفينة تائهة تتقاذفها الأمواج، ويهددها الغرق. لنمسك إذن دفة السفينة بهدوء وثبات ونحافظ عليها فوق الماء. لنتخيل الآن أننا لسنا فقط ربان السفينة لكننا السفينة ذاتها؛ لنشعر بالماء البارد يدفعنا في كل اتجاه، يجرفنا دون نهاية، ونشعر بالأمواج ترفعنا ثم تسقط علينا من فوق ومن كل جهة قبل أن تنحسر للحظة استعدادا للهجوم من جديد على الجسد الخشبي المرتعش. وماذا لو كنا البحر أيضا، الذي يبقى في المكان بأعماقه التي لا تسبر وسطحه المتموج الذي يرزح تحت العاصفة الغاضبة والمتوعدة، يحاول أن يأخذ لحظة راحة، لكن العاصفة تعود من جديد بقوة أكبر. ورغم ذلك لن يتوقف عن حمل السفينة الخائفة وربانها الوحيد. وماذا لو كنا نحن أنفسنا هذه العاصفة التي لا تهدأ؛ مليئة بالغضب والحركة، مضطربة وضائعة. افتحوا وعيكم على اتساعه على هذا الربان الوحيد، والسفينة الخائفة، والبحر الهائج، والعاصفة العاتية التي لا تهدأ. والآن ماذا لو قمنا، في هذه اللحظة، بخطوة جانبا «أن نقف على حدة»! خطوة واحدة بهدوء وبطء، بسلام وراحة؛ أن نخطو خارج العاصفة بثقة وثبات، فلا نجد غير بحر يحملنا كسرير نوم، وسماء صافية، غطاء دافئ ومشمس. إن هذه الخطوة هي بالضبط ما يدعونا إليه كريستوف أندريه في دروس التأمل التي يقدمها في كتابه هذا.
أود تقديم خالص شكري للصديقة والأخت العزيزة ميساء القصير، التي راجعت هذا الكتاب بكل أقسامه، ولولا جهودها وملاحظاتها القيمة لما وصل الكتاب بصيغته هذه للقراء.
سامح صالح، مونبلييه
25 / 06 / 2019
المعجزة هي أن تسير على هذه الأرض.
تيك نيات هان
أن نعيش حالة وعي كامل هذا يعني أن نعطي اهتماما منتظما وهادئا للحظة الحاضرة. قد تغير هذه الحالة من طبيعة علاقتنا مع العالم بشكل جذري، وتخفف من معاناتنا وتزيد من ابتهاجنا. إن حالة الوعي الكامل هي أحد أشكال التأمل التي يمكن أن نتعلم ممارستها بسهولة وسرعة، لكن الوصول إلى التمكن الكامل يتطلب سنوات من التمرين (مثل أي نشاط مهم نقوم به في حياتنا اليومية).
لممارسة التأمل بالوعي الكامل، يجب أولا فهم مكنونه وكيفية ممارسته؛ وهذا ما تقدمه لنا أجزاء هذا الكتاب. بعد ذلك يجب التحرر من الكلمات، لترك المكان ببساطة لما نشعر به وما ندركه، وستساعدنا لوحات الكتاب في ذلك. وفي النهاية، يجب أن نمارس ونجرب بأنفسنا؛ ستجدون تمارين ونصائح في العديد من صفحات الكتاب. حاولوا أن تدركوا ، أن تشعروا. وتمرنوا كثيرا، فليس هناك سر آخر لكي تعيشوا حالة وعي كامل.
مقدمة
الحضور ... لا الفراغ
أتأمل كإله ... وأبتسم للكائنات التي لم أخلقها.
جيوم أبولينير، «كحول»
قبل كل شيء، يوجد ذلك الضوء الأصفر الكثيف لشمس شتوية تشع في الخارج. شمس تبهر العيون، لكن لا تدفئ. ثم نكتشف وجود هذا الرجل المسن الجالس دون حركة. لقد أدار وجهه عن مكتبه وعن الكتاب الذي يقرؤه؛ ربما كي يفكر، أو كي يرتاح، أو يتأمل. تنزلق نظرتنا إلى الجهة اليمنى لتلاحظ الباب المنخفض للقبو، يجذبها فيما بعد الدرج الحلزوني الشكل. وفي اللحظة التي تتهيأ لصعود الدرجات الأولى تكتشف النار التي تطقطق في الموقد والمرأة التي تؤجج الجمر. ثم تعود فتتبع صعود السلالم التي لا تقود إلا إلى الظلمة.
لوحة «فيلسوف في حالة تأمل» (1632) لرامبرانت (1606-1669)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,28 × 0,34 متر، متحف اللوفر، باريس.
إنها لوحة صغيرة الأبعاد، والمكان الذي تقدمه يبدو معتما، ومع ذلك يتملكنا شعور بالاتساع. إنها عبقرية رامبرانت، الذي يجعل نظرتنا تسافر في كل الأبعاد. يتملكنا هذا الشعور بشكل أفقي، بدءا من الجهة اليسرى حيث يشع ضوء الصباح، وفي الجهة اليمنى حيث نجد النار الواهية التي تكاد تكون بلا فائدة؛ هذا الحوار بين شمس تضيء دون أن تدفئ، والنار التي تدفئ دون أن تضيء؛ إنهما شمس الحكمة ونار الشغف؛ عنصرا الفلسفة الأساسيان؛ وإذا اتجهنا بنظرنا نحو الأعلى، إلى هذا الدرج الممتد بشكل حلزوني، الذي نجده يربط بين الأعماق السرية للقبو والظلام الغامض في الطابق الأول؛ وفي العمق أيضا بدءا من وسط اللوحة حيث يجلس الفيلسوف وحتى دائرة الظلام التي تحيط به. شعور الاتساع هذا يأتي من التلاعب البارع بين ما هو مخبأ وما هو مكشوف في اللوحة. إن ما يهم هو ما يمكننا تخيله؛ ما هو مرئي بالقرب من النافدة، وما هو مخبأ وراء باب القبو وفي أعلى الدرج. لكن ما هو أوسع من هذه الفضاءات المخبأة التي مرت عليها عيوننا بسرعة لهي روح الفيلسوف، عالمه الداخلي؛ ظلمات وظلال، والقليل من الضوء، والقليل من الدفء، وروح في حركة دائمة. أليس هذا هو حال عالمنا الداخلي؟
أن نتأمل، يعني أن نتوقف
هذا يعني أن نتوقف عن الفعل، عن الحركة، عن البلبلة. ننسحب قليلا، نبتعد منفردين عن العالم.
في البداية سيبدو لنا الأمر غريبا؛ هناك فراغ (فراغ الحركة والفعل)، وانشغال (اضطراب الأفكار والأحاسيس التي نعي فجأة وجودها). هناك شيء ما ينقصنا؛ معاييرنا، و«الأشياء التي يجب القيام بها». لكن، فيما بعد، يظهر ارتياح آت من هذا الفراغ. هنا لا تجري الأمور كما في «الخارج» حيث تتمسك روحنا بعدد من الأشياء أو المشاريع، أو ربما القيام بفعل ما، أو التفكير بموضوع معين، حيث يبقى انتباهنا منشغلا بمسألة ما.
في هذه التجربة التأملية الخالية من الفعل الظاهري، نحتاج إلى وقت كي نعتادها، لتكون رؤيتنا أكثر وضوحا؛ كما هي الحال في اللوحة، عند مرورنا من الضوء إلى العتمة، نكون حينها قد وصلنا إلى دواخلنا الحقيقية بالفعل. لقد كانت قريبة جدا منا، لكننا لم نجرب الذهاب إليها. كنا نتسكع في الخارج؛ في زمن الضغوط الحثيثة والتنبيهات المتعبة، حيث يبقى التواصل بذواتنا بورا، ودواخلنا مهجورة، بينما كل ما هو خارجنا كان أسهل في الوصول إليه وأكثر وضوحا. في التجربة التأملية، سنجد في دواخلنا غالبا أرضا بلا طرق معبدة. في البهو الذي يتأمل فيه الفيلسوف نجد قليلا من الضوء، علينا إذن أن نفتح عيوننا أكثر. في دواخلنا أيضا، يوجد قليل من الوضوح والطمأنينة، علينا إذن أن نفتح عيون روحنا على اتساعها.
إننا نتوقع أو نأمل أن نجد هدوءا وفراغا، لكننا نجد أنفسنا في سوق كبيرة، صخب، وفوضى. نتوق إلى الوضوح، لكننا نجد الارتباك. وأحيانا يعرضنا التأمل للقلق والمعاناة؛ إنه يعرضنا لما يجعلنا نتألم ونحاول تجاهله بالتفكير بشيء آخر، بالانشغال بمكان آخر.
تهدئة الاضطراب
يبدو الأمر يسيرا ظاهريا، نظن أنه يكفينا أن نجلس ونغلق عيوننا، لكن الأمر ليس كذلك. إنها البداية فقط. بداية لا بد منها، لكنها ليست كافية.
إذن؟ ... إذن يجب البدء بالعمل، أن نتعلم كيف ننظر، وكيف نبقى حاضرين هنا، لكن على بعد خطوة من العالم. هكذا، ونحن جالسون، وعيوننا مغمضة، نتعلم كيف نصفي اختلاجاتنا.
إنها أول خطوة علينا تجاوزها؛ أن نبقى صامتين، دون حركة ما يكفي من الوقت إلى أن يأتي نوع من الهدوء يغطي ثرثرة روحنا الداخلية، ما يكفي كي نرى بوضوح أكثر، دون إصرار، أو رغبة بأن يتحقق الأمر فورا؛ لأن ذلك قد يدفعنا إلى الفوضى. إذن؛ علينا ترك كل شيء كي يأتي تلقائيا من دواخلنا.
أحيانا يجب الانتظار طويلا؛ لأننا لا نستطيع استعجال هذه العملية. نود ذلك، لكن لا نستطيع. فالتأمل يأخذ وقته، وقد تمضي أيام لا يتراءى لنا فيها شيء. هذا فظيع، أليس كذلك؟! خصوصا في زمننا هذا المليء بالوعود الآنية، والنتائج المضمونة. يروي لنا حكماء فلسفة الزن قصصا بهذا الشأن. ومثال على ذلك هذه القصة التي يسأل فيها تلميذ معلمه: «سيدي، كم من الوقت يلزمني كي أصل إلى حالة صفاء الروح؟» بعد فترة صمت، يجيبه الفيلسوف: «ثلاثون سنة.» يقول التلميذ: «أوه ... هذا وقت طويل. ماذا إذا ضاعفت جهودي، إذا عملت بجهد أكثر، نهارا وليلا، إذا لم أفعل شيئا آخر؟» بقي الحكيم فترة طويلة صامتا، وقال في النهاية: «إذن، خمسون سنة ...»
نكون حينها قد وصلنا إلى دواخلنا الحقيقية بالفعل. لقد كانت قريبة جدا منا، لكننا لم نجرب الذهاب إليها.
كيف يمكن أن نرى بوضوح أكثر؟
لقد توقفنا الآن، جلسنا وأغمضنا أجفاننا، ليس من أجل أن ننام، ولا لكي نستريح، وإنما كي ندرك؛ ندرك ما نختبره، ونجلي هذه الفوضى، التي ليست سوى صدى العالم داخلنا. ندرك وجود طريقين؛ ذلك الذي يمر عبر التفكير (التدخل، التصرف، لي عنق الحقيقة حسب هوانا، حسب وعينا أو جهودنا)، وذلك الذي يمر عبر التجربة (إدراك الحقيقة عارية كما هي، تركها تغلفنا، تسكننا، تتشربنا، في حالة من الانتباه الشديد، تاركين كل جهد جانبا).
في كلتا الحالتين؛ التفكير والتجربة، نبقى في تواصل مع العالم، لفهمه واستيعابه بوضوح أكثر. كلا الطريقين مثاليان، لكل منهما طبيعته، ولا فضل لأحدهما على الآخر. إننا نحتاجهما معا، وهما في حالة حركة فعالة.
كي نيسر الأمر، لنقل إن الطريق الأول هو انعكاس تجربتنا الفلسفية، والثاني (احتواء العالم دون التفكير بتفاصيله، والتفكير به دون كلمات، وما وراء الكلمات والمعاني)، هو طريق الوعي الكامل. إن هذه التجربة التأملية في حالة الوعي الكامل هي ما يهمنا في هذا الكتاب.
أن نكون حاضرين بوعي كامل
تقتضي حالة الوعي الكامل تكثيف حضورنا في اللحظة الراهنة؛ التوقف وتشربها بدلا من الهروب منها أو محاولة تغييرها، عبر الفعل أو التفكير.
حالة الوعي الكامل هي هذه الحركة التي يقوم بها الفيلسوف في اللوحة، حين يغض البصر للحظة عن عمله الذهني، منتقلا إلى فضاءات أخرى؛ ربما هضم واستيعاب نتاج تفكيره أو ما اكتشفه في تلك اللحظة، وربما الاستعداد للذهاب أبعد بالتوقف لحظة إدراك.
الوعي الكامل ليس حالة فراغ، وليس حالة تفكير؛ هو أن نتوقف كي نتواصل مع تجربة العيش التي تبقى في حركة دائمة والتي نحن بصدد الشعور بها الآن، وكي نراقب طبيعة علاقتنا مع هذه التجربة، طبيعة حضورنا في هذه اللحظة.
إنها ما يحدث الآن إذا قمتم، وأنتم تقرءون ببطء هذه السطور، بالانتباه إلى أنكم تتنفسون أيضا، وتدركون أحاسيس جسدكم. الانتباه إلى وجود أشياء أخرى في ساحة بصركم غير هذا الكتاب، إلى الأصوات حولكم، إلى الأفكار التي تأخذكم إلى أماكن أخرى، أو تهمس لكم بالثناء على ما تقومون الآن بقراءته أو نقده.
الوعي الكامل هو هذه اللحظة التي تتهيئون أثناءها لطي هذه الصفحة والانتقال إلى الصفحة التالية (ربما تكون يدكم في حالة استعداد الآن، حتى قبل أن تقوموا بالانتهاء من قراءة هذه السطور)؛ فتتوقفون عند هذه الحركة وتراقبون؛ تراقبون تهيؤكم الداخلي لطي الصفحة، أن تقولوا لأنفسكم: «سأقلب هذه الصفحة.» بدلا من أن تقوموا بهذه الحركة دون وعي منكم.
حالة الوعي الكامل، هي هذه؛ أن تبتكروا، للحظة، فضاء صغيرا كي «تروا ما تفعلون». ستقولون لي إن طي صفحة ليس أمرا جديرا بالاهتمام. هذا صحيح، ولكن من ناحية أخرى، سيكون ذلك مفيدا في لحظات أخرى كثيرة في حياتكم.
الجزء
أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
وهكذا، لا تنظر الروح للأمام، ولا للخلف. الحاضر وحده هو موطن سعادتنا.
جوته، «فاوست، الجزء الثاني»
الفصل الأول
أن نعيش اللحظة الحاضرة
إنه الآن، فقط الآن ... بعد قليل هذا أمر آخر؛ سيكون طائر العقعق قد طار، والشمس ستصبح أعلى في السماء، وسيتراجع ظل السياج إلى الوراء أكثر. لن يكون ذلك أفضل أو أقل كمالا؛ سيكون فقط مختلفا.
إذن يجب التوقف الآن، والإحساس بالهواء البارد الواخز في الأنف، والإنصات للأصوات الخافتة. تأملوا هذا الضوء الآتي من شمس شتاء ثلجي، وابقوا هنا أطول فترة ممكنة، دون انتظار شيء محدد. من المهم ألا ننتظر شيئا، وإنما أن نبقى بكل بساطة في محاولة لإدراك هذا الثراء اللانهائي للحظة؛ كتل الثلج التي تسقط من الأشجار محدثة ضجة خفيفة، هذا الضوء الأبيض المائل للازرقاق لظل السياج، تململ الغراب باحثا عن دفء ضوء الشمس. كل شيء ينضح بالكمال. لا ينقص هذه اللحظة أي شيء كي تملأنا بالرضا.
حالة الوعي الكامل، هي أن نكون بكل بساطة حاضرين في هذه اللحظة من النعمة، هذه اللحظة العادية والمضيئة.
لوحة «طائر العقعق» (1868-1869) لكلود مونيه (1840-1926)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,89 × 1,30 متر، متحف أورسيه، باريس.
للحصول على نهار شتائي رائع كهذا اليوم، لا بد من هواء صاف ومتلألئ بندف الثلج؛ ما يكفي من البرد، دون رياح أو القليل منها. ولا بد أن يأتي الدفء مباشرة من أشعة الشمس وليس من ذوبان الثلج. فلا يجب لقوى الطبيعة أن تتراخى.
هنري ثورو، «مذكرات (فبراير 1854)»
أخذ القرار بعيش اللحظة الحاضرة
تعلمنا حالة الوعي الكامل، كيف نفتح عيوننا. إنه أمر مهم؛ لأنه يوجد حولنا باستمرار عوالم لا نكترث لها. هنا والآن. إننا نستطيع ولوج هذه العوالم بإيقاف الجريان التلقائي لأفكارنا وأفعالنا.
من المؤكد أن ما يهيئ هذا الولوج، هي لحظات من إدراك جمال ما حولنا؛ كالشمس، والثلج، وطائر العقعق في لوحة مونيه. لكنه أيضا اتخاذ القرار بذلك، وهذا ممكن في كثير من اللحظات؛ اتخاذ القرار بأن تلمسنا الحياة، أن تتواصل معنا، وأن تصفعنا أيضا. إنها مسألة فعل واع وإرادي. هو أن نقرر فتح روحنا لكل ما هو حاضر، بدلا من الاختباء في إحدى قلاعنا الداخلية؛ التأملات القلقة، التفكير، التأكيدات، التوقعات.
إنه فعل تحرر. إنه تحرر من تفكيرنا بالمستقبل أو بالماضي. إن حالة الوعي الكامل تعيدنا إلى الحاضر. إنها تحررنا من الأحكام المسبقة، لتعيدنا إلى الحضور. إن روحنا مزدحمة بكثير من الأشياء؛ بعضها مهم، بعضها الآخر قد يكون جديرا بالاهتمام، ومنها ما ليست له أي أهمية. كل ذلك يمثل حواجز أمام الرؤية؛ حواجز أمام التواصل مع العالم. إننا بحاجة إلى الماضي وإلى المستقبل، بحاجة إلى الذكريات، والمشاريع المستقبلية. لكننا أيضا بحاجة إلى الحاضر. الماضي يهمنا، والمستقبل أيضا. فلسفة اللحظة ليست أن نقول إن الحاضر «أكثر أهمية» من المستقبل ومن الماضي، وإنما أكثر هشاشة، وعلينا حمايته. هو ما سيختفي من وعينا حالما يهزنا شيء، أو يشغلنا أمر. يجب أن نعطيه مساحة أوسع؛ كي يوجد.
أن نشعر أكثر من أن نفكر؛ الوعي المغمور
التأمل بوعي كامل لا يعني «تحليل» اللحظة الحاضرة، أو على الأقل ليس كما نظن.
إنه اختبار اللحظة، الإحساس بها بكل كياننا، ودون كلام. قد لا نكون معتادين على - أو قد لا يكون مريحا بالنسبة لنا - أن نقضي أوقاتا طويلة من حياتنا دون كلام. من الصعب البقاء صامتين، لكننا نستطيع القيام به. أما مسألة التوقف عن «التفكير» واختبار تجربة التواصل مع أحاسيسنا الداخلية، فأيا كان رأينا فيها، فإننا قد عشنا هذه التجربة سابقا. إن ما يحدث حقا، ويذهب أبعد من الكلام، موصوف بدقة في هذا المقطع من «رسالة اللورد شاندوس»؛ إنها قصة رائعة للكاتب النمساوي هوجو فون هوفمانستال: «منذ ذلك الحين، أعيش حياة سيصعب عليكم اكتشاف كنهها، ما دامت تجري خارج الروح ودون أفكار ... سيصعب علي أن أوضح لكم من أي مادة هي مصنوعة هذه اللحظات الهانئة. ها هي تعجز كلماتي ثانية؛ لأن ما يحدث ليس له اسم، ولا يمكن أصلا تسميته. إنها هذه التباشير التي تأتيني لتملأ، في تلك اللحظات، التجليات اليومية حولي كجرار بدفق طافح بالحياة الكثيفة والمثيرة. لا أستطيع إلا أن أتوقع منكم فهمي دون أمثلة. وألتمس منكم الغفران على هذه التداعيات السخيفة؛ مرش ماء، مجرفة عشب متروكة، كلب يتمدد في حقل، مقبرة بائسة، معاق، بيت ريفي صغير، كل ذلك قد يصبح في لحظة مادة وحي لي. قد يأخذ أي من هذه الأشياء، وآلاف من الأشياء الأخرى، التي قد تغض عنها العين العادية دون اهتمام، وبشكل مفاجئ، في لحظة، ودون قصد مني، وجودا من السمو والتأثر لدرجة أن أي كلمة لوصفه تبدو لي شديدة السطحية.»
يقول أحد الحكماء البوذيين: «لا يقوم الوعي الكامل بالاستجابة لما يراه، إنه يرى بكل بساطة، ويفهم دون كلام.» في لحظات معينة قد تساعدنا الكلمات بشكل كبير؛ تسمية ألم أو فرح ما قد تساعدنا على تحمله، تجاوزه، فهمه، أو تذوقه. لكنها لا تستطيع فعل شيء أمام شرح تعقيد حالة ما نعيشها. حتى إنها قد تمنع، تزور أو حتى تبدد التجربة التي نعيشها. هناك لحظات يفضل فيها ألا نقول شيئا. علينا أحيانا عبور حقيقة ما نعيشه بشكل مختلف، بإحساسه واختباره.
نستطيع أن نتكلم هنا عما يسمى ب «الوعي المغمور» لوصف هذه الحالة الخاصة جدا لوجداننا حين يكون مأخوذا بشكل كثيف، لكن دون نتاج فكري إرادي، حيث نكون فقط «داخل التجربة».
الطابع الكثيف للتجربة
في أحد دروس التأمل بالوعي الكامل، أذكر كيف طلب منا مدربنا القيام بتمرين فريد من نوعه، إنه أحد تلك التمارين التي يفهم سرها حكماء التأمل؛ لقد طلب منا أن نقوم بخطوة نحو الأمام. وبعد عدة ثوان من الصمت قال لنا: «والآن، حاولوا ألا تكونوا قد قمتم بخطوتكم تلك.» حتى تلك اللحظة لم أكن قد سمعت مطلقا، أو عشت، تجربة بهذا الوضوح عن عدم جدوى الندم. ولم أفهم بالضبط قبلها بوضوح هذا الفرق بين التعليم عبر الشرح والتعليم عبر التجربة. في حالة المفاجأة والحيرة تلك، حالة التردد واضطراب الفكر، وجسدي لا يعرف ماذا سيفعل في تلك اللحظة؛ عندها تم إيصال هذه الفكرة عن عدم إمكانية أو جدوى الندم.
يعلمنا الوعي الكامل أن التجربة هي بنفس أهمية المعرفة؛ القراءة عن التأمل ليس كعيشه. الانصات إلى تمارين التأمل من خلال قرص مضغوط ليس كالقيام بهذه التمارين. لا تحل التجربة، بوصفها طريقا نحو ما هو واقعي، محل الوعي أو الذكاء، لكنها تكملهما. وليس هناك ما هو أيسر من التجربة، يكفي أن نعطي أنفسنا الوقت الكافي وأن نتوقف للحظة لعيشها، أن نرى، نسمع، ونشعر. يجب فقط أن نوقف الفعل والحركة. قوموا بذلك الآن. توقفوا عن القراءة. توقفوا الآن. أغلقوا عيونكم، وأدركوا. سجلوا في أذهانكم بماذا هي مجبولة تجربتكم. فقط الآن وهنا. الآن لمدة لحظة. لا يوجد شخص آخر يستطيع أن يقوم بذلك بدلا منكم، ولا يستطيع أي شخص أن يتأمل عوضا عنكم. أغمضوا عيونكم. «الدرس الأول»
العيش هو عيش اللحظة الحاضرة. لا نستطيع العيش في الماضي، ولا في المستقبل. لا نستطيع سوى التفكير بهما، تحليلهما، الشعور بالندم، بالخوف، أو الأمل تجاههما. وأثناء ذلك لن نكون موجودين بشكل فعلي. أن نعي بشكل متكرر غنى اللحظة الحاضرة يعني أن نعيش أكثر. إننا نعرف ذلك، هذا شيء أكيد، فقد قرأناه وسمعناه، حتى إننا فكرنا به. إن كل هذا ليس سوى ثرثرة، يجب أن نقوم بذلك الآن، بشكل فعلي. فلا شيء يحل محل عيش اللحظة الحاضرة.
الفصل الثاني
أن نتنفس
لا يحدث شيء؛ لا حكاية، ولا حكمة. لا شيء سوى سمكة شبوط من ورق، وحيدة في أعلى السارية. وجودها يشعرنا بطراوة الغسق، ونسمع معها همسات المدينة. نطل على كيوتو الجميلة والملغزة برفقة أسد حجري يراقب حركة المارين العائدين إلى منازلهم، وسمكة شبوط أخرى معلقة إلى سارية بعيدة.
لا يحدث شيء، لا نسمع شيئا غير صفق الجسد الورقي للسمكتين في الريح. نشعر بمرور نسيم المساء على جلدنا، إنه يعبر السمكتين ويملؤهما ليعطيهما حياة عابرة. ربما سيتركهما غدا، أو ربما سيمزقهما. لكن في هذه اللحظة، إنهما ما تزالان هنا عاليتين في السماء، وتخفقان بشجاعة.
لا يحدث شيء. لا يوجد سوى الرياح والفراغ. لكن هذا الفراغ يجعل روحنا تتنفس براحة أكبر. إننا نشعر بوجود الهواء في اللوحة، رغم أنه غير مرئي.
كذلك هو نفسنا الموجود في جسدنا.
لوحة «سواري أسماك الشبوط في كيوتو» (1888)، للوي دومولين (1860-1924)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,46 × 0,53 متر، متحف الفنون الجميلة، بوسطن.
الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب.
القديس يوحنا، «إنجيل يوحنا، 3، 8»
التنفس في صميم التأمل
يأخذ التنفس مكانا أساسيا في بدء ممارسة التأمل. إنه الوسيلة الأكثر فعالية كي نركز على اللحظة الحاضرة (أو أن ندرك أننا لا نستطيع التركيز). ولهذا فإن النصائح الأكثر بساطة وفعالية التي يمكن إعطاؤها للمبتدئين هي أن يأخذوا قليلا من الوقت أكثر من مرة في اليوم كي يراقبوا تنفسهم؛ أن يتنفسوا فقط لمدة دقيقتين أو ثلاث.
تأتي أهمية التنفس في التأمل لعدة أسباب؛ فلكي لا يكون موضوع اهتمامنا أثناء تمارين التأمل سببا في انخفاض انتباهنا يفضل التركيز على «هدف متحرك»، وهكذا يكون من السهل تثبيت الانتباه، دون إرهاقه، على موضوع حاضر لكنه في حركة دائمة. لهذا السبب بالضبط نستطيع البقاء طويلا بحالة اندهاش وتيقظ أمام أمواج البحر، أو لهب النار، أو الغيوم المارة؛ إنها دائما هنا، لكنها لا تتشابه أبدا. هكذا هو تنفسنا، إنه في حالة حضور دائم، وحركة دائمة، ولا تتشابه أي حركة من حركاته مع سابقتها أو تلك التي تليها. ولا يجب أن ننسى تلك الرمزية المرتبطة بالنفس؛ النفس هو الحياة!
تأتي أهمية التنفس أيضا، من كوننا نستطيع التحكم به بشكل نسبي ولكن ملموس، بتسريعه أو إبطائه. لكننا لا نستطيع القيام بنفس عملية التحكم بالوظائف اللاإرادية الأخرى لجسدنا، حيث إنه من الصعب علينا تغيير سرعة حركات القلب، أو ضغط الدم، كما أنه وبنفس الدرجة من الصعوبة نستطيع تسريع أو إبطاء حركات الجهاز الهضمي. إن لتمارين التنفس أيضا أهمية؛ كونها تمتلك تأثيرا على شعورنا العاطفي.
يمكن للتنفس أن يهدئ من روعنا، ليس بالتحكم به، وإنما بالتواصل الهادئ معه، ومرافقته بتمهل. وإن القيام بتجربة قبول شعور مؤلم عبر مرافقة التنفس والمراقبة في نفس الوقت لهذا الشعور هي بداية مهمة من أجل الولوج إلى جدلية الإرادة والقدرة على تهدئة أنفسنا، وسنتكلم عن ذلك فيما بعد. عندما نعاني من الاكتئاب أو القلق، عندما نشعر أننا لسنا بصحة جيدة، يصبح تنفسنا واهنا تعبا. صحيح أن تمارين التنفس لن تحل المشكلة في هذه اللحظات، ولن تزيل كل الآلام، لكنها ستخفف من معاناتنا. لماذا إذن لا نستفيد منها؟
الدروس التي يقدمها لنا التنفس
يعرف العالم المسيحي جملة يسوع: «قم وامش.» التي قالها إلى شخص مشلول. يخطر لي أحيانا أن أتخيل شخصا قلقا قدم إلى بوذا يطلب منه النصيحة. سيقدم له بوذا كلاما مماثلا لهذا: «توقف وتنفس.» والحقيقة أن التنفس يقدم لنا العديد من الدروس.
درس في الإدراك:
إنه غير مرئي، ونحن ننسى وجوده معظم الوقت. لكن دوره حيوي جدا؛ فنحن بحاجة مطلقة للتنفس. وفي حياتنا يوجد كثير من الأشياء المهمة مثله، إنها تدعمنا ولا نعي وجودها.
درس في الاعتماد والهشاشة:
إن حاجتنا للتنفس تبقى أكثر وضوحا وآنية من حاجتنا للطعام، للشراب، أو للحب. يعلمنا التنفس أننا مقيدون باعتمادنا على العديد من الأمور. لكن هذه القيود تكوننا وتغذينا في نفس الوقت. إن فكرة الاعتماد والقيد تخيف أحيانا الأشخاص القلقين: «وإذا فقدت كل ذلك؟! وإن لم أستطع في أحد الأيام مواصلة التنفس؟» فيحاولون جاهدين أن ينسوا أو يتناسوا تنفسهم. من المؤكد أن الحل لن يكون بكبت فكرة أن حياتنا متعلقة بتنفسنا، بل بالتوصل إلى قبول هذه الفكرة، التي تعكس الحقيقة فعلا، وذلك بأن نتأملها مرارا، وأن نسمح لها بأن تسير بحرية في ذهننا. وبهذا، تصبح مألوفة لنا، ويخف القلق.
يمكن للتنفس أن يهدئ من روعنا، ليس بالتحكم به، وإنما بالتواصل الهادئ معه، ومرافقته بتمهل.
درس في البراعة:
يتواجد النفس في الداخل وفي الخارج. إنه يخلط الحدود بين الذات وما هو خارجها. إنها حدود وهمية في كثير من الأحيان، وأحيانا أخرى تكون مصدرا للمعاناة. إن التمسك الشديد باليقين بأننا منفصلون عن العالم - أي، له حدوده ولنا حدودنا - ليس بالفكرة الجيدة. حاولوا أن تتأملوا بالتركيز على النسيم الصيفي الحار، وستكتشفون تجربة ذات نكهة عذبة؛ فبعد مرور عدة لحظات سيحصل اندماج بين النفس الحار الداخل إلى رئتينا والنسيم الذي يهب في الخارج.
درس في التواضع:
لكون التنفس إراديا ولا إراديا في نفس الوقت، فهو يعلمنا قبول حقيقة أننا لا نتحكم بكل شيء، وأن الأمر ليس كما يحاول المجتمع تقديمه لنا عن طيب خاطر بأن كل شيء قابل للسيطرة. لكن التنفس يعلمنا أيضا ألا نكون مستسلمين وسلبيين لأننا نستطيع التدخل بشكل متواضع ولكن فعال في كل ما لا نستطيع التحكم به بشكل كامل.
درس في الواقعية:
رغم أهميته، لا يملك النفس هوية خاصة به؛ إنه يتشكل ويتبدد بشكل متواصل. هذا ما يسميه البوذيون ب «الفراغ». لا يعني ذلك أنه غير موجود، لكنه ليس بالحقيقة الصلبة كما نتوقعه أن يكون كي نتعلق به ويشعرنا بالأمان. إنه، كالغيم، كالريح، والموج، أو قوس قزح؛ حقيقي لكنه غير دائم؛ ودائم الحضور، لكنه يكتفي بالعبور.
تنفسنا ذو الحضور الدائم
إن حركات التنفس التي تملأ جسدي دائما موجودة معي، كنبع لا ينضب، وهي تبقيني متيقظا متصلا باللحظة الحاضرة، وأنا أراقبها دون أن أحاول تغييرها.
التنفس هو مرساة حالة الوعي الكامل؛ إذ يساعدنا على الرسو في ميناء اللحظة الحاضرة. إنه يشبه أحيانا ما يسميه البحارة بالمرساة الطافية؛ تلك التي تساعد السفينة على إبطاء سرعتها فلا تنقلب في العاصفة، حين لا تجدي كل المناورات الأخرى. إنه كصديق دائم الاستعداد للمساعدة. علينا ألا نطلب منه المستحيل؛ فلا جدوى من طلب العون منه كي نتخلص بشكل كامل من شعور بالضغط، أو القلق، أو الخوف، أو الحزن، أو الغضب. لكنه سيساعدنا حتما كي لا يبتلعنا شعور ما مضن. علينا أن نستعين به كما نطلب من صديق حميم أن يكون بقربنا كي نتجاوز المحنة.
حين يصيبك مرض، تنفس. وتنفس أيضا في وقت الشدة. في البداية بدت لي هذه التوجيهات ذات أفق محدود. فيما بعد فهمت المقصود منها. فالرسالة الكاملة هي: «ابدأ بالتنفس، وستتضح الأمور فيما بعد.» ستصبح أفكارنا أكثر وضوحا، وسنعرف ماذا سنفعل لاحقا. صحيح أن التنفس لن يغير الواقع، لكنه سيغير نظرتنا لهذا الواقع وسيضمن قدرتنا على التصرف في مواجهته.
بعد الممارسة المتكررة للتنفس، سيختلف الأمر؛ لأننا لن نكتفي بتنفسنا، لكننا سنبدأ بمراقبته، وسيشارك جسدنا كله في عملية التنفس. سنصير داخل نفسنا. سنندمج معه. ونصير هو. ذلك ليس وهما ولا إيحاء. كل ما في الأمر هو أننا وصلنا، باستخدام وعينا لحركات تنفسنا، إلى جوهر آلاف من الظواهر التي تجعل منا كائنا حيا.
وهكذا، يصير التنفس أكثر أهمية مما هو عليه؛ يصير طريقا للتواصل والتبادل مع كل ما هو داخلنا وكل ما هو حولنا، سواء أكان ذلك مؤلما أم عذبا لأننا نستطيع، بالتأكيد، أن نتنفس أمام العذوبة والجمال أيضا. «الدرس الثاني»
هناك فكرة عامة مفادها أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا جديرا بالذكر بظاهرة يسيرة ومعروفة جيدا كالتنفس. أي خطأ هذا؟! على العكس، نحن نستطيع أن نجني فوائد جمة حين نعي تنفسنا؛ هذا يعني أن نعي بسهولة وجوده وكل أحاسيس جسدنا المتعلقة به، دون أن نحاول تغييره، وأن نعيره اهتمامنا، عندما نكون سعداء أو تعساء، دون أن ننتظر منه شيئا أو نطلب أن يحل مشاكلنا. وعلينا أن نفهم حقيقة أننا حين لا نستطيع أن نحل مشاكلنا، من الأفضل ألف مرة أن نعير انتباهنا لتنفسنا بدلا من اجترار هذه المشاكل في ذهننا.
الفصل الثالث
أن نتواصل مع أجسادنا
إنه يقف هناك، بسرواله القصير، وأكمامه الطويلة، والأربطة الحمراء على حذائه. إنه عتيق الطراز حتى بالنسبة لزمنه. تلفت نظرنا هذه الكتلة البيضاء للرداء الحريري المتموج. بييرو يفقأ العين كما يقال. ورغم أنه في وسط اللوحة، لكن أحدا لا يهتم به. يبدو أن الأشخاص الثلاثة الموجودين أيضا في اللوحة يظهرون اهتماما بشخص رابع يصل راكبا حماره ذا النظرة الكئيبة.
يبدو بييرو هادئا وحزينا؛ لا بد أنه يتساءل إن كان المشاهدون ينظرون إليه معجبين أم هازئين. هو غير مبال، ومستسلم؛ لقد اعتاد ألا يكون مصدر إعجاب، وأن يكون منسيا. لكنه يبقى هنا في اللوحة مدركا أيضا أننا سنفهم سريعا أن لا غنى عن وجوده. فالحكاية لا يمكن أن تستمر دونه.
لوحة «بييرو» (1718-1719 تقريبا) لجان-أنطوان واتو (1684-1721)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 1,85 × 1,50 متر، متحف اللوفر، باريس.
إذن، رغم أنه ليس جميلا بالفعل، فإن لديه شيئا ما. حضور ما، يسير وواضح. إن بييرو يذكرنا بما نحن بحاجة لتذكره؛ أنه ليس من الضروري أن يكون جسدنا جميلا قويا أو رشيقا كي نحبه ونفهم إلى أي حد هو أساسي في حياتنا، ولأي درجة يمكن أن يكون دليلنا في فضاء الوعي الكامل.
هل الجسد والروح منفصلان؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأي منهما يجدر بنا أن نختار؟
وودي آلان
التأمل برفقة جسدنا
يظن غير العارفين بالتأمل أنه ممارسة روحية فقط. أي خطأ هذا؟! إنه، في الحقيقة، ممارسة جسدية بامتياز، حتى إن عدة ساعات من التأمل قد تنهك الجسد أكثر من الذهن.
يعد الوعي الكامل من الممارسات التأملية التي ترتكز على تجربة الاهتمام بأحاسيس الجسد. نستطيع التركيز على جسدنا بإيلائه الانتباه والاهتمام. ولا يعني ذلك أن «نفكر» بجسدنا، ونحكم على ما يحدث داخله، ونصر على استرخائه أو التركيز على آلامه. وإنما، بكل بساطة، أن نتواصل معه، بإدخاله في إطار وعينا واهتمامنا. هذا يعني أن يكون في مجال إدراكنا، دون البحث عن تغيير أي شيء فيه، على الأقل في البداية.
نجد في كل مقاربات الوعي الكامل تمارين تركز على الجسد، نستعرض أثناءها باهتمام هادئ أجزاء جسدنا، جزءا بعد جزء. إذ يجب أن يصبح جسدنا مركز جاذبية اللحظة الحاضرة. نستطيع مثلا أن نمارس كل صباح تمارين تأمل تتعلق بوضعيتنا بأن نقوم بعشر حركات شهيق وزفير بوضعية الوقوف محاولين الحفاظ على استقامة جسدنا دون أن يكون متشنجا. سيكون علينا أن نعي هذه الوضعية، وأن نصححها بهدوء وبشكل طبيعي لتصبح أكثر راحة ووقارا. ثم نأخذ الوقت الكافي لكي ندرك ما تقدمه هذه الوضعية لجسدنا من أحاسيس. يمكننا أيضا أن نقوم بحركات شد الجسم ببطء ونحن في حالة وعي كامل. من المؤكد أن هناك عددا لا يحصى من التمارين.
ليست المسألة رياضة بدنية، لكنها طريق إلى معرفة الذات؛ طريق لا يمر عبر الكلمات. قد يكون أكثر غلاظة، لكنه أكثر «بدائية» من الاستبطان الذهني. إنه شكل من أشكال الاستبطان الجسدي الهادئ والخير. إنه يعني أن نقول لأنفسنا بهدوء: «حسنا، لنأخذ بعض الوقت كي نرى ونشعر بما يحدث هنا في الداخل.» قد يساعدنا ذلك حين يكون الذهن مشوشا وتائها؛ فالجسد لن يكذب علينا؛ إنه سيعلمنا بالأمر. ومن المهم بالتأكيد ألا نسخر منه كما يقول نيتشه: «لدي كلمة لهؤلاء الذين يحتقرون أجسادهم. لن أطلب منهم أن يغيروا من رأيهم أو معتقدهم، وإنما فقط أن يخرجوا من أجسادهم، كي يصبحوا بكما.» أحيانا لا يكون الأمر احتقارا للجسد، وإنما نسيانا له. أحيانا ننسى أجسادنا ظانين أنفسنا أذهانا فقط. نعامله كأداة. ننتظر منه الصمت (عندما يكون بصحة جيدة)، والمتعة (في الحواس والأعضاء)، والإذعان (ليخدمنا وينقلنا من مكان إلى آخر). هذا جيد، لكنه كثير. فجسدنا أكثر أهمية من كل ذلك.
الجسد: باب الدخول إلى الروح
الجسد والروح مرتبطان دائما؛ لا يترك أحدهما الآخر. وحين نخفف العبء عن أحدهما، سينعكس ذلك على الآخر، والعكس صحيح. كثيرون هم من يستخدمون هذه الثنائية الديكارتية، وكأن الجسد والروح شيئان منفصلان، لكن ديكارت لم يقل ذلك أبدا. ولم يقله أي شخص آخر. فهذه الثنائية ترتكز غالبا عند الناس على مبدأ الأولوية؛ اقتناعهم بالأقوى بينهما، وأي منهما سيخضع الآخر. يظن الناس عموما أن الروح يجب أن تكون أقوى من الجسد. لكن الأمر، في الحقيقة، هو كما في حالة الزواج؛ يختلف الأمر من فترة إلى أخرى، من مجال إلى آخر. تتغير العلاقة وتتطور. وهذا شيء عظيم.
الجسد والروح ليسا شيئا واحدا، كما أنهما ليسا شيئين منفصلين؛ إنهما حقيقتان مختلفتان، لكنهما مرتبطتان بشدة. إن وعينا بهذه العلاقة يعلمنا الكثير. يعلمنا مثلا أن اختبار تجربة وعي الجسد لا يكون بأن نقول لأنفسنا بشكل خاطف ومبهم : «حسنا، لدي جسد، ومن المهم العناية به.» وإنما بالتوقف في كل مرة تسنح لنا الفرصة كي نلتقط هذا الإحساس بما يحدث داخله في هذه اللحظة. علينا أيضا أن نتواصل معه باستمرار؛ ليس فقط عندما يعاني أو يشعر بالمتعة.
علينا أن نتعلم قراءة أحاسيسنا، وإعطاءها انتباهنا؛ فهي لوحة التحكم التي ستقدم لنا المعطيات اللازمة لمعرفة ما إن كان هناك توازن أم لا في ذهننا. أحيانا حين ندع جسدنا يعيش داخل روحنا، سنختبر أحاسيس غريبة؛ وكأننا نخرج من جسدنا، أو كأن نشعر به يطفو، أو كأنه ثقيل جدا أو أنه يغير من شكله. وفي أحيان أخرى ستتملكنا أحاسيس مزعجة؛ سندرك مثلا آلاما أو شدة خبأناها في انشغالاتنا أو اجترارات تتعلق بأمور خارجية أخرى. من هنا تأتي أهمية الفرق بين ممارسة التأمل وممارسة الاسترخاء. فالتأمل لا يسعى، في أولوياته، للوصول إلى الراحة الجسدية أو الاسترخاء، وإنما إلى حالة وعي، بكل سهولة، لما يحدث داخلنا. وأحيانا يكون ما يحدث مؤلما. يدعونا الوعي الكامل إلى مراقبة وقبول وحتى استضافة هذه الآلام بدلا من الهروب منها.
الفوائد
نحن نعلم منذ وقت طويل أننا حين نقوم بما هو جيد لأجسادنا، فإننا نقدم ما هو جيد لأذهاننا؛ على سبيل المثال، التمرينات البدنية، الراحة والاسترخاء، وأيضا الضحك، والوضعيات المريحة. كل ذلك يعود بالفائدة على الذهن، وله تأثير تراكمي على المدى الطويل؛ فلن يفيدنا انتظار فوائد مباشرة وآنية. إننا لا نستطيع التنبؤ بنتائج التأمل؛ لهذا نطلب من الذين يمارسونه ألا «ينتظروا» شيئا؛ ألا يسعوا للحصول على الاسترخاء، ألا يتوقعوا الشعور بالراحة، وألا ينتظروا الوصول إلى حالة معينة. هذا على الأقل أثناء ممارسة التأمل. ففي هذه اللحظات ليس علينا انتظار شيء محدد، وإنما الانفتاح بكل بساطة على كل ما هو موجود، هنا في هذه اللحظة، واستضافته في وعينا لا أكثر. إن كلمة السر هي إذن «إتاحة الفرصة».
إن إتاحة الفرصة شيء مهم؛ لأنه، منذ عدة سنوات، بدأ الخبراء يرون أن الجسد قادر على «إصلاح» نفسه (انتبهوا، فالأمر لا يعني الشفاء من الأمراض أو الوصول إلى الأبدية). وهذه القدرة تزداد عندما نمنحه المتعة والسعادة، ولكن أيضا عندما نعطيه حيزا من تفكيرنا؛ عندما نستمع إليه، ونسمح له أن يعبر عن نفسه. يبدو أن للتأمل دورا في إبطاء شيخوخة الخلايا، بتأثيره على التيلوميرات، تلك القلنسوات الموجودة في نهايات الصبغيات.
إن إعطاء وقت كاف بشكل متكرر لأحاسيسنا الجسدية دون شك يعود بالفائدة على صحتنا. لهذا، توصي ممارسة الوعي الكامل، مثلا، بتكرار هذا التمرين الذي ينطوي على استعراض كل أجزاء جسدنا بهدوء ولطف؛ وكأننا نسير في الطرقات المتفرعة لغابة كي نلتقط الأغصان اليابسة، ونتأكد من أن كل شيء يسير على ما يرام. وحتى لو كان هذا الجسد مريضا، متعبا، أو هرما، يجب أن نعطيه أفضل ما لدينا، هنا والآن؛ علينا أن نعطيه الانتباه، والعناية، والوقت، والعطف.
ومع الوقت، سنساعد هذا الجسد الذي كان في حالة انتظار، وكان بعيدا عنا. وسنقبله كما هو، فيصبح مسالما، وسيساعدنا هو بدوره، لتصبح روحنا مسالمة وجلية. «الدرس الثالث»
من المثير للغرابة إلى أي مدى قد ينسى كثير منا أجسادهم، أو قد يقلقوا بشأنها بشكل مفرط، مارين من إنكارها الكامل حين نكون بخير إلى الأفكار الوسواسية حين نكون متعبين. يوصينا الوعي الكامل بأن نقوم بزيارات ودية لجسدنا، وذلك بالتواصل مع ما يقدمه لنا من أحاسيس، والقيام بتفقده، باستعراض أجزائه بلطف، قبل أن نخلد إلى النوم، عند الاستيقاظ، وفي وقت الراحة. علينا أن نراقب ما يحدث، وكالعادة، دون البحث عن حل أو محاولة تسكين ألم ما. فقط علينا مراقبته. وسيكون لذلك، بوصفه بداية، فائدة كبيرة، وهي أن نعطي جسدنا مكانا داخل إدراكنا.
الفصل الرابع
أن نغمض عيوننا وننصت
لم يخلق فن الرسم للعيون فقط؛ إذ تستطيع بعض اللوحات أن تهمس لنا في آذاننا. كهذه اللوحة مثلا؛ إنها لوحة رسمت كي ننصت إليها. إنها رسمت لنشاهدها أيضا بالتأكيد، ولكن على وجه الخصوص كي نستمع إليها.
سنجد صراخ الأطفال الذين يلعبون، ونداء أمهاتهم وهن يقمن بتهدئتهم. سنسمع أيضا حفيف أوراق الأشجار الذي تحدثه ريح خفيفة ، وغناء العصافير، وربما النباح البعيد لكلب أو كلبين.
ولكن، تفاجئنا ضجة غريبة، تقترب ببطء؛ تش، تش، تادم ... إنها صوت القطار البخاري الذي يظهر ببطء ثم يملأ المكان بلهاثه، وقرقعة العجلات على السكة الحديدية. تشوت، تشوت ... إنه صوت الصفارة التي يطلقها السائق، بدافع العادة أو الطرب وهو يعبر الجسر. ثم يخفت صوته ويختفي القطار. ما زلنا نسمع ضجيجه من بعيد، وبعد لحظة ... لا شيء. تغيب الضجة وتذوب ببطء، ولا يبقى سوى ذكرى مرور القطار. في أي لحظة بالضبط اختفى صوت القطار؟ كم من الوقت بالضبط قام بلفت انتباهنا؟ قد تكون مثل هذه الأسئلة بلا أهمية. ربما، وقد تكون جديرة بالاهتمام؛ فهي توضح لنا كيف تنصت روحنا للحياة، إن كانت تفعل ذلك.
لوحة «قطار في الريف» (1870 تقريبا) لكلود مونيه (1840-1926)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,50 × 0,653 متر، متحف أورسيه، باريس.
إنها الحياة التي تستمر لحظة إثر لحظة، وببطء تعود إلى ساحة وعينا صرخات الأولاد والأمهات، صوت الريح وغناء العصافير، وربما النباح البعيد لكلب أو كلبين.
أستمع إلى صوت ذلك العصفور، ليس من أجل غنائه وإنما من أجل الصمت الذي يليه.
يون نوجوتشي، «ينابيع الحكمة الشرقية»
أصوات من كل نوع
ما الفرق بين الضجة، والأصوات، والموسيقى؟
الضجة هي كل ما يصل إلى آذاننا؛ أي كل إحساس صوتي. أما الصوت فهو ضجة لها معنى (صوت شخص أو رنين جرس)؛ أي أنه ضجة منتظمة، محددة، قام ذهننا بالتعرف عليها. أما الموسيقى، فهي مجموعة من الأصوات المتراكبة المنتظمة والمتناغمة.
إننا نسبح في عالم لا نهائي من الأصوات الدائمة، لكننا لا نعي وجودها إلا في بعض الأحيان. يستطيع مهندسو الصوت في السينما والإذاعة إعادة إنتاج تلك الأصوات؛ الأصوات الإنسانية (مثل تلك التي توجد في السوق، أو المطعم، أو المكتب) أو أصوات الطبيعة (مثل شاطئ البحر، أو الغابة الخريفية)، إلخ. وحين ننصت بانتباه، ندرك تعقيد وجمال هذا العالم الصوتي.
إننا بحاجة إلى هذه الأصوات، خاصة تلك الأصوات الحقيقية النابعة من الحياة، ومن الطبيعة. إنها الغذاء «الطبيعي» لآذاننا والذي يقدمه لنا بكرم كل من البحر والجبل والريف. لهذا السبب فهي تمتلك قوة مهمة في تهدئة روعنا؛ فهي الأصوات الأقدم لجذورنا الأصلية.
لنسمع، وننصت، ونفكر
حين نسمع نكون في حالة تلق؛ إنها حالة «سلبية» أو بالأحرى لا نكون عندها في حالة تدخل. في الإنصات يكون انتباهنا في حالة استعداد، يراقب بشكل إرادي هذه الأصوات ويحاول تحليلها.
وهنا يبدأ تفعيل الخواطر والأفكار. مثلا، حين «نسمع» صوت سيارة إسعاف، «ننصت» إليه فورا ونعطيه معنى. «نفكر» حينها، بشكل غير واع ربما، أن حادثا ما قد وقع أو أن هنالك شخصا مريضا جدا، وربما سنشعر حينها بالشفقة، أو بالقلق أو بالحزن.
وحين «نسمع» أصوات خطوات في الشقة التي تعلو شقتنا، «سننصت» بانتباه أكبر ونحاول «معرفة» صاحب هذه الخطوات؛ قد نتخيل شخصا محددا (ربما امرأة إذا كانت ضجة حذاء نسائي ذي كعب عال، أو شخص نعرفه ونستطيع التعرف عليه من طريقته في المشي التي اعتدنا عليها). أحيانا نطلق حكما؛ فنحب هذا الصوت أو لا نحبه، ويأخذنا التفكير بكل مدلولاته. إن نتاج أفكارنا هذا انطلاقا من الأصوات التي نسمعها حولنا قد يغني داخلنا أو يفقره. إن سمة الأصوات تدخل في تنافس مع إدراكنا لهذا العالم.
وحالما ننطق بالكلام، نترك حينها التجربة الحسية، فلا نوجد في عالم الأصوات، إننا نتركه لندخل عالمنا الذهني. لا مشكلة في الأمر، حتى إن ذلك ضروري وأحيانا حيوي. فأن نشعر فقط، ليس ذلك كافيا؛ فيجب أن نفهم أيضا. لكن من المهم أيضا أن نفهم ما يحدث داخلنا، كما هو الحال بالنسبة لكل التداعيات التلقائية لذهننا، والتي يجب أن نتجاوزها لنعود إلى الإنصات الحيادي والمتلقي للحياة. فالعودة إلى الإنصات في حالة الوعي الكامل قد تمكننا أحيانا من إدراك «ما هو غير مسموع»؛ ذلك الذي لم نسمعه قط لأننا لم نكن ننصت فعلا.
التلقي الهادئ للأصوات
عندما يكون الصوت موضوع اهتمامنا في حالة الوعي الكامل، نحرص على تلقي كل الأصوات. سنقاوم في البدء رغبتنا في تصفية ما نتلقى («تبا، تشتتني هذه الضجة، فسأحاول ألا أفكر بها»)، والحكم عليه (إنهم مزعجون؛ هؤلاء الذين يحاولون تسخين محرك سيارتهم بالضغط على دواسات السرعة). أذكركم أن حالة الوعي الكامل ليست حالة استرخاء (الاسترخاء يحتاج إلى الصمت والهدوء)، وإنما هي نوع من التأمل (الذي يسعى إلى تطوير إدراك هادئ للعالم). إننا نستطيع ممارستها حتى بوجود ضجة، وحتى لو كنا لا نفضل ذلك، يجب تعلم كيفية القيام به.
نتمرن في حالة الوعي الكامل على إعطاء اهتمامنا للأصوات ببساطة، لما هو أساسي فيها؛ هل هي بعيدة أم قريبة؟ حادة أم منخفضة؟ مستمرة أم متقطعة؟ هل هناك فترات من الصمت؟ إننا نحرص على تلقي صفاتها الأولية وتلقيها كما هي.
من المؤكد أن ذهننا سيحاول تفسير الأصوات («إنه صوت كذا وكذا»)، وإطلاق الأحكام («هذا مريح، وهذا مزعج»)، وتسلسل الأفكار التي تليها («هذا يذكرني ب ...»، «هذا يجعلني أحلم ب ...») كل هذا طبيعي، لا فائدة من الانزعاج منه؛ لأن روحنا تتصرف دوما على هذا الشكل؛ تطلق الأحكام وتلفع بالثرثرة تجاربنا وأحاسيسنا. لن يكون بالأمر سوء ما دمنا نعيه وندركه؛ عندما نركز انتباهنا على الأصوات، سنقوم بمراقبة الكيفية التي يقوم بها ذهننا بالتفريق بينها وبين مدلولاتها الفكرية. ثم لا بد من العودة إلى الاستماع البسيط إلى الأصوات دون مدلولاتها. ستعود الأفكار للتدخل. هذا طبيعي، بل إنه ممتاز. إن ذلك يدربنا على إدراك هذه الحركية الدائمة لذهننا. وعندما تهدأ الأفكار، تتركنا بسلام ونستطيع حينها أن نستمتع من جديد بالإنصات إلى الأصوات حولنا.
في بعض الأحيان، ونحن نقوم بجلسة تأمل علاجي جماعي، يحدث أن يرن هاتف أحد المرضى في الصالة. أقوم حينها، دون أن نوقف الجلسة، بتوجيه المرضى بالطريقة الآتية: «إنها صدفة رائعة، لنبق في تمريننا، عيوننا مغمضة، ولننصت إلى هذا الرنين، ونراقب ما يحدثه لدينا من أفكار؛ «هذا مزعج.» «لا بد أن صاحب هذا الهاتف يشعر بالإحراج الآن.» «هذا ليس جيدا.» «هل هاتفي مغلق؟ أرجو ذلك.» لنراقب بهدوء، ونحن نبتسم، كل ما أحدثه هذا الرنين من أفكار ...» وعندما يصل أحد المرضى متأخرا، وقد بدأت الجلسة، نبقي أعيننا مغمضة ، نستمع له وهو يقوم بتجهيز وضعيته للبدء، ونسلي أنفسنا بتسجيل كل الأصوات التي يحدثها والأفكار التي تليها في أذهاننا. إن أخذ مكان المراقب الهادئ هو جوهر الممارسة في الوعي الكامل.
الصمت
يشبه الصمت في علاقته مع الصوت، علاقة الظلام والضوء، أو النوم واليقظة. إنه وجه آخر لا بد منه. إن الاجتياح المستمر للضجة حولنا له تأثير سيئ. إنه يساهم في تراكم الإثارة والاهتياج الذي تفرضه علينا هذه الحياة «العصرية». وحتى ولو كانت جديرة بالاهتمام (مثل الأخبار المتواصلة في الراديو) وحتى ولو كانت متناغمة (مثل الموسيقى التي نسمعها في كل مكان)، فإن وجودها المستمر يتعبنا، يرهقنا، يمنع روحنا من التنفس، ومن العيش بسلام. إنها تلك الثرثرة المتواصلة التي تأخذ المكان كاملا على حساب أفكارنا.
علينا إذن أن نتذكر قوة الصمت. إنه صدى أصوات الحياة. لا يعني ذلك أن يطغى الصمت طوال الوقت، وإنما أن يوجد بين الأصوات، بين الفترات التي لا نستطيع فيها تلافي الضجيج (كالمرور بالسيارة في المدينة)، أو عندما تكون الأصوات ضرورية (كالحديث مع الآخرين أو الموسيقى في حفلة مسائية). إن فترات الصمت هذه تعتبر لحظات التقاط أنفاس، أو فترات فاصلة. إنها تزيد من أهمية الأصوات التي نحبها، وتريحنا من تلك التي تزعجنا.
مليء بالقوة هذا الصمت، وكذلك قريبه الهدوء. وجودهما لا يعني غياب كل الأصوات، وإنما غياب للأحاديث غير المهمة، والتداخلات المتكلفة. بهذه الطريقة يستطيع كل من الصمت والهدوء مساعدتنا على الإنصات إلى موسيقى الحياة. «الدرس الرابع»
علينا أن نتوقف، ونغمض عيوننا وننصت. لنتلقى كل الأصوات حولنا؛ المرغوبة منها (غناء عصفور) وغير المرغوبة (ضجيج محرك). وأيضا تلك الأصوات داخلنا؛ المريحة (صوت تنفسنا)، والمزعجة (طنين الأذن، وصوت أمعائنا). ليس الهدف من تمارين الوعي الكامل السمعي هذه الشعور بالراحة بشكل مباشر، وإنما أستطيع القول إن الهدف منها هو فتح رؤيتنا على هذه العوالم الصوتية حولنا، وما تحدثه لدينا من مشاعر وأفكار وانفعالات، وبالتأكيد الاستمتاع بالصمت.
الفصل الخامس
أن نراقب أفكارنا
لقد توقف هذا الرجل الذي كان يتنزه، وتوقف حينها صوت الأوراق اليابسة التي كان يطؤها، الصوت الذي كان يهدهد سيره. أخذ يراقب بركة الماء أمامه وهو يقول لنفسه: يبدو أنها أمطرت كثيرا في الآونة الأخيرة، فالأرض لم تعد تستطيع استيعاب المزيد من الماء؛ لهذا تركت ما تبقى منه ينتظر بعض الوقت على السطح. إنها كصاحب فندق مزدحم يطلب من زبائنه الانتظار.
لوحة «الانعكاس (كيف تبدو روحك؟)» (1996) لبيتر دويج (1959-)، وهي لوحة بأبعاد 2,80 × 2,00 متر.
لقد توقف وأخذ يقول لنفسه ... أو بالأحرى هو لا يقول شيئا؛ إن ذهنه هو الذي يثرثر: «جميلة هي كل هذه الألوان.» «يبدو أن بعضها بدأ يتعفن.» «هل سيتلف حذائي إذا مشيت في بركة الماء؟» «كنت أفعل ذلك عندما كنت صغيرا، لكنني كنت أنتعل أحذية من المطاط.» «كم الساعة الآن يا ترى؟» «في يوم من الأيام سأموت مثل هذه الأوراق.» «لقد أحسنت صنعا أنني لبست المعطف الطويل؛ فالطقس بارد، ولقد جاء الشتاء مبكرا هذه السنة ...» ثم بالتدرج سيهدأ داخله، وتهدأ هذه الأفكار المتدافعة، وينتبه إلى تنفسه ثم إلى جسده، ثم تلفت انتباهه، من جديد، ورقة آخذة بالتعفن. ينظر إليها، ثم إلى كل الأوراق اليابسة أمامه. ليس لديه أية رغبة في المغادرة. إنه يبقى ساكنا كما هو. ومن وقت لآخر تعبر أفكار ذهنه؛ إنه يسمعها في نفس الوقت الذي يراقب فيه الأوراق العديدة. إنه حاضر لكنه ينفصل بمسافة عن كل هذا. فكرة تهمس له: «أفكارك مثل هذه الأوراق، يوجد كثير منها، من كل الأنواع، دعها تأتي وتذهب بسلاسة، هذا جيد. إن هذه اللحظة لرائعة!»
ثم، يأتي صمت الأفكار، ونفس اللحظة الأبدية.
هناك عمليتان لا يمكن للإنسان إيقافهما ما دام هو حيا؛ تنفسه، وتفكيره. في الحقيقة، إننا نستطيع إيقاف تنفسنا فترة زمنية أطول من قدرتنا على إيقاف أفكارنا. ومن ثم، فإن هذا العجز عن إيقاف أفكارنا هو قيد مخيف.
جورج ستاينر، «عشرة أسباب (ممكنة) للأفكار الحزينة»
ثرثرة روحنا
عقلنا أداة مذهلة لإنتاج الأفكار؛ مذهلة لكن من الصعب إيقافها. حالما نستيقظ تبدأ أفكارنا بالظهور. يتكلم سينيك في عمله «راحة الروح» عن «عواصف الذهن التي لا تستطيع السكون على أي شيء محدد ...» منذ الصباح، أن نستيقظ يعني أن نبدأ بالتفكير، أو بالأحرى أن نتعرض لدفق من الأفكار التي تحدثنا عن كل شيء؛ الماضي، والمستقبل، وبشكل أقل الحاضر.
وفي الحقيقة إن ما نسميه تفكيرا ليس عملية «إنتاج» الأفكار (فهذه العملية موجودة أصلا خارج إرادتنا أو تدخلنا)، وإنما هو أن نقوم بتنظيم هذه الأفكار، وترتيبها حسب أهميتها، ومحاولة التركيز على بعضها، والعمل على تطويرها، وفي نفس الوقت إبعاد بعضها. لهذا السبب فإنه من العبث الاعتقاد أن ممارسة التأمل ستقودنا سريعا وبإرادتنا إلى حالة من صمت ثرثرة ذهننا، أو غياب الأفكار. قد يحدث ذلك في بعض الأحيان، لكن للحظات، ثم تعود ثرثرة الروح.
يقول بول فاليري: «يصبح الوعي الملك، لكنه لا يحكم.» أحب هذه المقولة؛ لأنها تقول ما هو أساسي على ما أعتقد؛ إنه الفرق بين المقدرة والمقدرة المطلقة. يقارن ماتيو ريكار في التقاليد البوذية بين تدفق الأفكار وقطيع من القردة في حالة اضطراب. إنها تصيح دون توقف. وتقفز من غصن لآخر في حركة دائمة. أي شغب هذا الذي يقود المرء إلى الخلط والارتباك! فما العمل؟! إذ لا يمكن إيقاف هذه الحركية أو التحكم بها. قد يقودنا كل ذلك إلى السعي إلى التركيز على فكرة واحدة طوال الوقت، هذا ما نسميه بالوسواس. طبعا لن تكون الحال أفضل. وهناك خطر آخر وهو محاولة إلهاء أنفسنا؛ لأننا سنحاول ملء ذهننا بأشياء أخرى خارجية، سهلة، ومحددة، وفعالة بما فيه الكفاية لتلفت انتباهنا؛ فنوقف هذه الثرثرة بثرثرة أخرى. هذا ممكن، لكننا نستطيع أن نطور سبلا أخرى.
سنحاول في حالة الوعي الكامل أن نمتنع عن محاولة الهرب من أفكارنا أو السعي لإيقافها. وسنختار مراقبتها، وكأننا نقوم بخطوة جانبا؛ أن نفكر ونراقب أنفسنا ونحن نفكر. إن فلسفة الزن تقترح الصورة المجازية للشلال؛ إننا نقف بين الشلال (تدفق أفكارنا)، والحاجز الصخري للجرف. إننا نقف جانبا، نراقب أنفسنا ونحن نفكر. لسنا تحت تدفقها (انفصال)، لكننا لسنا بعيدين أيضا (حضور). إننا نستطيع بهذه الطريقة أن نستخدم قدرة وعينا المرن، الذي يستطيع أن يراقب ذاته. لكن هل من الممكن فعلا أن نراقب أفكارنا؟ لفترة طويلة من الزمن قلل من شأن علم النفس الذاتي أو الداخلي، أو ما يمكن أن نسميه علم نفس الظواهر. كانوا يقولون: «كيف يمكنك أن تعتبر نفسك طرفا وحكما في نفس الوقت؟» وكان يقول أوجست كونت: «لا نستطيع أن ننظر من النافذة لنشاهد أنفسنا ونحن نعبر الشارع.» عندما يتعلق الأمر بالوعي والإدراك، يكون هذا ممكنا. لكن يتطلب ذلك كثيرا من المران.
مشاهدة أفكارنا وهي تعبر
سنتخلى، كعادتنا في الوعي الكامل، عن كل فعل صدامي أو عنيف. فمن غير المجدي محاولة إلغاء أفكارنا؛ لأن ذلك سيؤدي في معظم الوقت إلى رد فعل عكسي. وفي نفس الوقت من الصعب القول: «إذن سأقوم بمراقبة أفكاري.» سيتملكنا حينها الانطباع بعدم وجود أفكار. ذلك لأننا صرنا «داخلها»، في صميمها، لدرجة أننا «تماهينا» معها وبدت لنا وكأنها الواقع.
يقول لنا الوعي الكامل الحقيقة البسيطة الآتية: لا جدوى من محاولة إلغاء أفكارنا، ولا جدوى من المحاولة الحثيثة للحاق بها، بل الأفضل هو إعطاء مساحة أوسع لروحنا.
للقيام بذلك يجب أن نبدأ تمرين التأمل بشيء آخر؛ أن نجلس بهدوء وراحة وأن نثبت بهذه الوضعية ثم نقوم بالتركيز على اللحظة الحاضرة بمساعدة التنفس، والإنصات إلى الأصوات حولنا، وإدراك أحاسيسنا الجسدية. سنكون عندها في حالة تتيح لنا مراقبة حركية أفكارنا. وهكذا، في الوقت الذي يكون فيه موضوع اهتمامنا أمرا آخر، كالتركيز على تنفسنا، سنلاحظ في لحظة من اللحظات أننا ابتعدنا. كان التنفس موضوع تمريننا، وفجأة بدأنا «نفكر بشيء آخر». لقد تتبعنا، دون أن ننتبه، فكرة عبرت ذهننا. ولم نلاحظ ذلك إلا بعد حدوثه.
مع الممارسة المتواصلة، سنستطيع تحديد الأفكار التي ستبدأ بإعطائنا أوامر حين نحاول تجنبها. وهكذا بينما نقوم، أثناء تمرين الوعي الكامل، بالتركيز على حضورنا، على تنفسنا، أو على الأصوات حولنا، فجأة تأتي فكرة ملحة: «توقف الآن، افتح عينيك، قم بهذا أو ذلك الأمر، إنه أكثر أهمية ...» وإذا حاولنا المقاومة، ستلح علينا أفكارنا: «قم بذلك «الآن» وإلا ستنسى!» سنظن أن ذلك هو ما نريده فعلا وما نحتاجه فورا في هذه اللحظة. لكنني لا أعتقد أن تكون تلك هي الحالة فعلا. الدليل على ذلك هو أننا حين نقرر ألا نطيع فورا وبشكل آلي هذه الأوامر المتنكرة على شكل رغبات، أو تطفلات، أو ضرورات، سندرك غالبا أنها أمور لا تمتلك هذه الأهمية فعلا وأننا نستطيع تجنبها.
في حالة الوعي الكامل، نستطيع أن نقرر بأنفسنا إن كنا سنتبع أفكارنا (إذا أردنا ذلك) أو سنختار أمرا آخر.
من الأمثلة على هذه الأوامر: «قم بحك أنفك.» «افتح عينيك لترى كم الساعة الآن.» «يجب أن تسجل أن عليك مهاتفة أخيك.» إننا نستطيع عدم إطاعتها أو تأجيلها. لكن كي ننجح علينا أولا أن ندرك أن هذه التطفلات ليست سوى أفكار.
في البداية سننتبه إلى هذه الأفكار في لحظة تدخلها واصطحابها ذهننا خارج موضوع التمرين. فلم نعد في موضوع التنفس أو تركيزنا على جسدنا، ولكننا بصدد «التفكير بأمر ما». هذا طبيعي، هذا ما يقوم به ذهننا طوال الوقت. عندها، ودون انزعاج سنعود إلى موضوع التمرين. لكن الأفكار ستأتينا من جديد، وسندرك ذلك فنقوم بالعودة إلى التمرين، وهكذا. إن هذه الحركية هي القاعدة الأساسية في تمارين الوعي الكامل. أفكارنا ليست هي المشكلة، وإنما المشكلة هي ألا نكون مدركين لبعثرة وهياج الذهن، وخاصة هذا الخلط بين الأفكار والحقيقة، وهذا الاستعداد لاعتبار «كل» الأفكار مهمة. وليست المشكلة أيضا في محتوى الأفكار، أو حركيتها بقدر ما هي علاقتنا بها. يجب عدم محاولة منعها أو طردها، ولكن أيضا يجب عدم اتباعها، أو الخضوع لها أو إطاعتها. علينا أن نستقبلها ونراقبها في إطار إدراك أوسع (من هنا، أهمية الرسو والثبات في اللحظة الحاضرة باستخدام النفس، والجسد والأصوات). وبكل بساطة علينا التوقف عن تغذيتها.
وبالتدرج، مع المران، سنرى بشكل أوضح أنها مجرد أفكار، وسنحدد بشكل أفضل أنها ظواهر ذهنية عابرة، وليست ثوابت دائمة. سنراها وهي تظهر، وإذا لم نقم باتباعها، سنراها وهي تختفي، ثم تظهر من جديد . إن «عيش هذه التجربة» هو أكثر أهمية من القراءة عنها والدراية بها؛ لأننا نعرف أن أفكارنا ليست سوى أفكار. لكنها حين تملأ ذهننا فإن هذه المعرفة لن تساعدنا بشيء. إن التمرين المستمر والتجربة وحدهما يستطيعان أن يساعدانا على النأي عن التفكير والتعود على ترك أفكارنا تختفي وحدها.
في حالة الوعي الكامل نستطيع أن نقرر بأنفسنا إن كنا سنتبع أفكارنا (إذا أردنا ذلك) أو سنختار أمرا آخر. يمكن أن نختار مثلا البقاء جالسين، مغمضي العينين، ونحن نتنفس هنا والآن في هذا الدفق من الأفكار التي تقول لنا: «تحرك»، «افعل»، «فكر»، «تعجل». والتي قد تنزعج وتصرخ قائلة: «ألا تظن أن عليك أن تترك هذا التمرين لتقوم بجميع الأشياء المهمة التي تنتظرك. إنك تستطيع العودة إلى التمرين لاحقا ...» ولكن لا، فقد قررنا هذه المرة ألا نستجيب لأفكارنا. سننتظر قليلا لنرى إن كان من الضروري المضي في هذه الاتجاهات. سنتنفس أيضا بعض الوقت، وسنجد أنها ليست مهمة. كم هو حسن ألا نكون عبيد أذهاننا؛ أن نحصل على القليل من الحرية.
أن نتحرر من أفكارنا «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» هذا ما أعلنه ديكارت. لكن بول فاليري أضاف: «أنا أفكر أحيانا، وأحيانا أنا موجود.» ويستنتج الوعي الكامل منهما ما يأتي: «لا يتعلق وجودي فقط بما أنا بصدد التفكير فيه.» ولهذه الجملة معنيان؛ الأول أن وجودي ليس مرتبطا بعملية التفكير، والثاني بمعنى التعلق واللحاق بالشيء؛ أي، أنني لا أتبع طوال الوقت ما أفكر به. هذا ما نسميه «الفصل» في علم النفس المعرفي؛ إنه العمل على تخفيف هذا الخلط بين ما نفكر به وبين إدراكنا. إنه يعني أن نفهم أن أفكارنا ليست سوى أحد عناصر الإدراك وليس الإدراك كاملا؛ وألا نعتمد كليا على أفكارنا، دون أن نرفضها في نفس الوقت؛ ببساطة علينا أن ننشئ علاقة مختلفة معها.
وهكذا فإن هناك فرقا بين القول: «إنني أعيش حياة حزينة.» و«إنني بصدد التفكير أن حياتي حزينة.» حين نعتبر أفكارنا ظواهر ذهنية، سنرى بشكل أفضل أنه يسكنها كثير من الأحكام القيمية، والأفكار التلقائية، والانفعالات، التي لسنا بالضرورة موافقين عليها. إن هذه التجربة، الغريبة قليلا، الخاصة بالافتراق عن حركية العملية الذهنية، وهذا الجهد للاستعانة بالعقل ذاته كي لا نقع في مصيدته، هي بالضبط ما يقترحه الوعي الكامل. إنه يعلمنا كيف ننشئ مساحة تفكير خاصة بنا كي نصقل خبرتنا بوصفنا مراقبين خارجيين. إنه يساعد على الانتباه إلى الفرق بين الضجة المحيطة بنا في سهرة مسائية، وبين الحديث الذي نقوم به والذي يهمنا؛ أو اختيار الخروج وترك هذه الضجة والاستماع لهمسات الليل. «الدرس الخامس»
لنغمض العينين، واضعين النفس مركزا لاهتمامنا. ثم لنقم بتسجيل كيف تتحرك روحنا بسرعة، أو بالأحرى كيف تتدخل أفكارنا لتصبح مركز اهتمامنا، كالأطفال المزاجيين غريبي الأطوار. إنها الأفكار الخاصة بأشياء يجب القيام بها، أو بالصعوبة التي نواجهها للبقاء في تمريننا. وعلينا ممارسة تمرين حالة الوعي الكامل المتعلق بالأفكار، والذي يتلخص في أن نكون واعين لثرثرة روحنا التي لا يمكن كبحها، وأن نعي طاقتها الجاذبة؛ ففي لحظة ما لن نستطيع مراقبة أفكارنا وإنما سنصير داخلها، جزءا منها، مجبولين بها. من ثم، يجب العودة بهدوء إلى التنفس، والبدء من جديد بمراقبتها. وبالتدرج سيبدو لنا جليا الفرق بين: «التفكير بشيء ما»، و«إدراك أننا نفكر بشيء ما». هذا ما يمكن تسميته الوضوح، أو امتلاك قوانا العقلية. وهذا يتطلب المران المتكرر.
الفصل السادس
أن نعطي مساحة لمشاعرنا
إن هذه اللوحة عبارة عن خليط غريب، وصعب التفسير من النظام والفوضى، والذي يضع المرء في حالة مبهمة من الضيق. لا نفهم بالضبط ما يريد أن يقوله لنا الرسام. تمر فترة وجيزة من الانتظار دون أن يصبح الفهم أكثر وضوحا، لكننا نبدأ بعد ذلك في إدراك منظومة اللوحة.
لوحة «الحزن» (1528)، للوكاس كراناخ الأب (1472-1553)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 1,13 × 1,72 متر.
في الجهة اليسرى اضطراب؛ بلبلة عجيبة في الأعلى حيث يهجم جيش من الأرواح أو الأشباح محمول على سحابة. وهناك فوضى عادية في الأسفل حيث يدور عراك بين أطفال عراة وكلب صيد؛ إنه متضايق من إزعاجهم ويحاول تهديدهم ، مظهرا لهم أسنانه، وأذناه للخلف وكأنه يقول لهم: «إذا لم تتوقفوا، فسأقوم بعضكم.»
في الجهة اليمنى هدوء أكثر، لكن الحالة ليست أكثر وضوحا؛ شجرة تفاح تعرض ثمارها الذهبية اللون. قصر يعتلي صخرة ذات منحدر. امرأة وبعض الأدوات عند قدميها. إنها تقوم بتقليم عصا من الخشب، وكأنها تريد إمضاء الوقت. وجهها بعيد، ضجر، يزدري الفراغ، وهي تراقب بحذر هذا الصراع بين الأطفال والكلب.
يوجد في تلك اللوحة ما هو حقيقي وما هو خيالي؛ قلق وهدوء؛ فعل وضجر. هناك أمور نفهمها قليلا، وأخرى تتجاوز قدرتنا على إدراكها ولدينا شعور داخلنا أننا لن نستطيع فهمها أبدا.
لكن أليس هذا بالضبط ما تقدمه لنا تجربتنا الشعورية؟
كل شيء مرتبط ببعض الأفكار التي تخيفنا، والتي لا نستطيع أن نواجهها.
بول فاليري، «كما هي»
التجربة الشعورية
لا تتكلم مشاعرنا، لكنها تعبر عن ذاتها عن طريق الأحاسيس الجسدية، والسلوك، والأفكار التلقائية الحدية والمبسطة.
إننا نعرف الآن أن الكلمات لن تستطيع بالضرورة تهدئتها أو تخفيفها، وإنما يجب المرور عبر الجسد (التنفس) والسلوك (السير إذا كنا قلقين أو حزانى، والاستلقاء إذا كنا غاضبين). إن من أصعب الخطوات التي يمكن القيام بها في حياتنا النفسية أن نأخذ مسافة عن الأفكار المليئة حتى الإشباع بالمشاعر التي لا نستطيع إلا بالكاد كبتها أو إبعادها. يعتقد الآن، أننا نستطيع خلق هذه المسافة بسهولة أكثر عندما نقوم بتلقي ومراقبة حالتنا الشعورية، بدلا من سعينا الحثيث لإلغائها أو، وهذا بديهي، إطاعتها الكاملة. إن اختبار تبدلاتنا الشعورية هو تجربة في التواضع والواقعية؛ فهو في أغلب الوقت أكثر قوة منا، في البداية على الأقل. هذه التجربة في أشكالها الواضحة كما في المشاعر القوية، أو في أشكالها غير المباشرة كما في الحالات المزاجية والتبدلات النفسية تبقى صعبة الإدراك. كتب فرانسوا دي لا روشفوكو: «تمتلك حالاتنا المزاجية مسارات تبدل من إرادتنا دون إدراك منا، إنها تأتي مجتمعة، وتمارس سيطرة سرية على جزء مهم من تصرفاتنا، حتى دون معرفة منا.»
الفوضى العاطفية
قد لا تكون هذه التجربة التي نختبر فيها عواطفنا بالضرورة، تجربة إيجابية أو مفهومة لنا. من المؤكد أن فوضى مشاعرنا قد تكون خلاقة أحيانا، لكنها قد تقودنا أيضا إلى المزيد من الارتباك.
نستطيع حينها محاولة الهرب عن طريق القيام بنشاط ما أو التلهي. وهناك أيضا ذلك السعي للتحكم الكامل بها بأن نمنع المشاعر المضنية من الوجود، ونمنع أنفسنا من اختبارها. إنها محاولات منطقية، لكنها محفوفة بالمشكلات. ففي سعينا هذا، في محاولة منا لقطع كل صلة مع مشاعرنا وأحاسيسنا، سنعرض أنفسنا إلى ما يسميه أطباء الأعصاب «إزالة التدفقات الواردة»؛ أي، القيام ببتر ذكائنا العاطفي. لقد التقيت بمرضى شديدي الحساسية قاموا بتجميد دفق عواطفهم التي تسبب لهم ألما. إن حالتهم تذكرني ب «الجليد السرمدي»، تلك الطبقة من القشرة الأرضية الواقعة تحت الجليد القطبي والتي تبقى طوال الوقت في حالة تجمد مانعة نمو النباتات. إن الحالة العاطفية تكون هنا في حالة من الفقر الشديد بسبب الحماية الزائدة.
الوضوح العاطفي: قبول ما نشعر به
يذهب تأمل الوعي الكامل، عكس ما اعتدنا القيام به بأن نحافظ على ما هو مبهج وإلغاء ما هو مضن. لهذا السبب لن تكون جلسات التأمل وتمارينه لحظات مريحة بالضرورة (وهذا فرق آخر عن جلسات الاسترخاء).
إننا نلتقي في الوعي الكامل مع أحاسيسنا العاطفية السلبية أو المؤلمة، ونسمح لها بالوجود بكل بساطة. وهكذا نستطيع، بدلا من إبعاد الحزن أو محاولة إيجاد حل للقلق، أن نقبل بوجودهما أولا. وهذا لا يعني قبول الرسائل والأوامر التي تريد أن تلقننا إياها. إن قبول الحزن هو أن ندرك أننا حزانى، لكن ليس بالضرورة أن نقبل ما يهمس لنا به الحزن («لا يستحق عيش هذه الحياة، ولا شيء فيها يجدي نفعا»)، أو القلق («هناك خطر ما، ويجب عليك التصرف بسرعة وإيجاد حل»).
لا يعجب المرضى القلقين أو المكتئبين أن نقول لهم إن عليهم أن يبدءوا بقبول مشاعرهم كما هي. إن ذلك يغيظهم بعض الشيء: «كنت أحاول دائما أن أفعل العكس؛ ألا أعاني منها.» كما أنه يخيفهم أيضا: «إذا فتحت صنابير المياه، إن غضضت النظر ، فستأكلني المعاناة.»
إننا نلتقي في الوعي الكامل مع أحاسيسنا العاطفية السلبية أو المؤلمة، ونسمح لها بالوجود بكل بساطة.
ولكن ذلك ليس صحيحا، اطمئنوا، لا تجري الأمور بهذه الطريقة؛ فعواطفنا السلبية هي كالحيوانات (أو البشر) التي نريد تهدئتها، فنقوم بالركض وراءها كي نبعدها أو كي نوثقها ونحبسها. إنها كلما حاولنا الارتماء عليها واللحاق بها، دافعت عن نفسها أكثر وحاولت إيذاءنا.
من الأفضل لنا أن نخلق حولنا مساحة أوسع للسماح لها بالعيش، وأيضا كي نتمكن من مراقبتها: ما تأثيرها على جسدي؟ أي أفكار تحاول فرضها علي؟ أي سلوك هو الذي تدفعني للقيام به؟ ... وهكذا لا نكون في صميم هذه المشاعر وإنما في تجربة عيشها؛ إننا نقبل بها مخففين بذلك من معاناتنا منها. قد يكفينا ذلك لنصبح أكثر راحة وهذا يسمح لنا باتخاذ القرار بالسلوك الذي سنتبناه.
إن المشاعر المضنية هي المصدر الذي يفعل الأفكار السلبية؛ إنها تعطي هذه الأفكار قوتها وتساعدها على أن تكون أكثر صلابة. إن قبول مشاعري كما هي يسمح لي بتفكيك الطاقة التي تمارسها على الأفكار وتدفعها أمامها متخفية. وهكذا أستطيع بسهولة أكبر مراقبة وتحليل أفكاري الغاضبة لو أنا أدركت وقبلت أولا حالة الغضب التي تنتابني الآن، وأستطيع التفكير بالتداعيات المقلقة حين أعترف لنفسي وأقبل حالة القلق. أما إذا بقيت أقول لنفسي: «لا، أنا لست غاضبا، وما يحدث ليس مقبولا.» أو: «لا، أنا لست قلقا، إن ما يهددني حقيقي.» عندها لن أستطيع التعامل مع أفكاري. وما دام الذهن لا يعدها أفكارا، وإنما هي الحقيقة، فمن سيعترض على ما هو حقيقي وبديهي؟!
إعطاء أنفسنا الوقت كي نشعر
علينا إذن أن نمرن أحاسيسنا؛ ليس من أجل إلغائها، وإنما مراقبتها. نستطيع، مثلا، عندما ننتقل كل يوم من نشاط إلى آخر ونحن متعجلون ومنهكون، أن نأخذ قليلا من الوقت، عدة مرات كل يوم، كي نشعر بما يحدث داخلنا؛ علينا أن نخلق حالة من التواصل مع حالتنا العاطفية. نستطيع أيضا أن نستفيد من فترات الانتظار كي ندرك ذاتنا. قد يكون ذلك أفضل من قضاء هذا الوقت في حالة من غياب إدراك الذات، غائبي الذهن، منفصلين عن ذواتنا وأرواحنا، ونحن في مكان آخر نتلهى بالقيام بالأعمال، أو بالاجترارات الذهنية.
الأولوية للهدوء والراحة ومن ثم علينا الاعتياد أولا على حالة هادئة وفضولية من الاستبطان الداخلي. ومن ثم عندما نكون في حالة معاناة؛ حزانى، أو غاضبين، أو قلقين، أو تعساء، يجب ألا نحاول تغيير ما نشعر به، وألا نحاول مواساة أنفسنا أو تهدئتها. ليس فورا، وإنما يكفي أن نكون مدركين لما نشعر به. علينا أن نتنفس بشكل جيد، وألا «نسعى» وراء شيء آخر غير التمسك بتنفسنا، ومراقبة ما يحدث. التنفس، الحضور، الوعي الكامل؛ إنها كضوء القنديل في العتمة. نستطيع أن نرى أين نحن ولو كان الوقت ليلا. وأحيانا، وهذا ما قد يفاجئنا، إننا بقبول أحاسيسنا المؤلمة، بالاكتفاء بقبولها وهي تعبرنا، سنكتشف أن ما يحدث يشبه عبورنا للغيمة؛ ففي النهاية، نجد أن لا شيء صلب داخلها، وعندما نخرج ستنير الشمس من جديد.
الوعي الكامل للمشاعر
لن تكون مشاعرنا، حتى المؤلمة منها، تلك «النباتات الضارة» التي تعرش في أذهاننا. إنها أيضا جزء من النظام البيئي لحياتنا النفسية. لهذا لن يكون قبولها ممكنا وحيويا إلا إذا قمنا في نفس الوقت بإدراكها وفهم آليات تأثيرها القوية والمتخفية. إنها تسعى بشكل طبيعي إلى فرض نفسها علينا. إذن يجب التصرف حيال تأثيرها علينا، وليس حيال وجودها الطبيعي داخلنا. لهذا فإن هدف ما نسميه في علم النفس «التنظيم العاطفي» لا يعتبر الوصول إلى الفراغ، أو الهدوء، أو الزن. ليس فورا على كل حال، وليس بشكل مباشر. وإنما الهدف منه هو الإدراك والوضوح.
يوجد في الوعي الكامل «مهارتان» أساسيتان كي نستطيع السير نحو التوازن العاطفي؛ تقتضي الأولى أن نخلق مساحة داخلية تسمح لنا أن نكون حاضرين في اللحظة الحاضرة. أما الثانية فهي أن علينا تلقي واستقبال هذا الحضور كما هو؛ أن ندعه يوجد. كي نتجاوز ألما أو انزعاجا ما، يجب أولا أن نقبل بوجودهما داخلنا. إننا لا نستطيع ترك مكان ما لم نقبل قبلا أننا وصلنا إليه. ولن نستطيع التخلص من معاناة ما لم نعترف بها أصلا.
بهذه الطريقة فقط، نستطيع في لحظات المعاناة العاطفية أن نستمع وأن نؤمن بما نقوله لأنفسنا من كلام يريحنا. كأن نخاطب أنفسنا قائلين إن ذلك ليس بذي شأن وإن هذه الفترة الصعبة ستمر بخير ... إلخ. وذلك لن «ينجح» إلا إذا قبلنا المشكلة كما هي بشكل كامل، فلا نبقى في حالة رفض لوجودها («لا يمكن ذلك، هذا ليس عدلا»).
لا تنمو بذور الطمأنينة إلا على أرض تجلي الوعي، وليس على الإنكار والكذب على الذات. ولكي يكون الكلام المطمئن مطمئنا فعلا، يجب أن نعطي الوقت الكافي لتلقيه، للإنصات إليه، والشعور به، وحتى عيشه. علينا أن ندعه يحيا داخلنا. بالضبط كما فعلنا قبلا مع مشاعرنا المؤلمة، علينا، بالتأكيد، أن نعطي مساحة أيضا للمشاعر الإيجابية لأن ذلك ليس مستحيلا. «الدرس السادس»
عندما أكون في حالة اضطراب، ارتباك أو قلق، من المهم ألا أحاول التفكير أو الانشغال بأمر آخر ظانا أن ذلك سيحررني ويريحني. بالعكس، فإذا كان لدي قليل من الوقت، يجب أن أراقب ما يحدث داخلي. ما هي العاطفة التي تسكنني؟ بأي اتجاه تدفعني؟ يبدو ذلك سهلا، لكن في الحقيقة ليس الأمر بهذه السهولة؛ فكما في حالة أفكارنا، تسعى مشاعرنا أيضا لفرض نفسها علينا. إنها لا تقدم نفسها على أنها ظواهر نسبية، وإنما تريد فرض ذاتها على أنها بديهيات، حقائق لا تقبل النقاش. إذن يجب ألا أحاول تغيير ما أشعر به أو أسعى جاهدا أن أهدئ من روعي أو أواسي نفسي. وإنما يكفي أن أكون حاضرا. ويجب أن أتنفس بشكل جيد ومريح؛ فلا «أسعى» وراء شيء آخر غير التمسك بتنفسي مراقبا ما يحدث داخلي.
الفصل السابع
أن ندرب انتباهنا كي نزيد حدة وعينا
يبدو كل شيء بسيطا في البداية؛ تظهر اللوحة المقسومة إلى قسمين، من اليمين حاويا متجولا، ومن اليسار جمهورا يراقبه. وطاولة تفصل بينهما. ومن ثم ندخل في التفاصيل؛ تمتعنا الأناقة المصطنعة للحاوي، بقبعته الغريبة المظهر. ثم نكتشف البومة الصغيرة، رمز المكر والنفاق، التي يضعها خفية في السلة التي يمسكها بيده اليسرى، بينما إلى يمينه تظهر لنا كرة أظهرها بلا شك من تحت إحدى القوارير المقلوبة على الطاولة. نلاحظ أيضا الحجم الكبير للرجل المشدوه الذي ينحني فوق الطاولة، وندرك اللص الذي يجرده من محفظته وهو ينظر بشكل غريب إلى الأعلى كما لو أنه يريد تشتيت انتباه الحاضرين. نتساءل: هل اللص شريك الحاوي كما المرأة ذات اللباس الأنيق الأحمر، التي تشير بإصبعها؟
إذن، تشد انتباهنا تفاصيل غريبة؛ الرجل الذي تتم سرقته بينما يسيل لعابه في لحظة انشغاله، والشخصيات الأخرى جميعها تقريبا تنظر باتجاهات مختلفة؛ بعضها ينظر إلى الطاولة وبعضها الآخر ينظر إلى الحاوي، أو إلى الشخص الطويل المنحني، بينما يغلق آخرون أعينهم، وأيضا ذلك المتفرج المنسي؛ ضفدع ساكن جاثم على الطاولة وهو ينظر إلى الحاوي بانتباه شديد.
كما هي الحال دائما عند بوس؛ الرموز كثيرة، ودلالات هذه اللوحة الغريبة عديدة. ولكن شيئا واحدا يهمنا هنا؛ فهذا العمل الفني المثالي يحدثنا أيضا عن الانتباه وعن الوعي. إنه يحدثنا أيضا عن الفائض من الانتباه أو القليل جدا منه، اللذين يتشابهان بأنهما يضيقان ساحة وعينا ويضعفانه مسببين العديد من الإزعاجات لنا.
لوحة «الحاوي» (أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر) لجيليس بانهيديل/هيرونيموس بوس فان أكن (المعروف بجيروم بوس) (1450-1516)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,53 × 0,65 متر، المتحف المحلي، سان جرمن آن لي.
حافظ على جسدك ساكنا.
حافظ على الصمت.
لا تلجم أفكارك؛ دعها تأتي.
ودع وعيك يتحرر.
في حال من الاسترخاء الكامل.
بوصولك إلى هذه النقطة، يختفي تعلقك بالتأمل،
أو بعدم التأمل.
ولا تصير الروح المتحررة من كل التوجيهات العقلية
سوى وعي صاف،
واسع وشفاف.
شابكار، «ذكريات يوجي من التبت»
الوعي
نستطيع تعريف الوعي كالآتي: هو أن نشعر وندرك في نفس الوقت، وأن نعلم أننا نشعر وأننا ندرك. إن الوعي يفترض اليقظة؛ مع أن النائم يشعر ويدرك، ولكنه لا يعلم ذلك؛ إنه غير واع. إن الوعي بلا شك هو العملية الأكثر حساسية وتعقيدا في أذهاننا وقد أجريت آلاف الدراسات العلمية في هذا الموضوع. ولكن ما نحتاجه هنا هو نموذج لمفهوم لا يحمل كثيرا من الخطأ وفي ذات الوقت ليس كثيرا التعقيد. لتبسيط الأمر نقول إنه توجد ثلاثة مستويات من الوعي.
الأول هو ما ندعوه بالوعي الأولي، الذي هو مجموع انطباعاتنا وأحاسيسنا.
إنه نوع من الوعي الحيواني (وعي ما قبل النطق عند الطفل)، الذي يساعدنا على التأقلم مع العالم المحيط. على سبيل المثال، إنه ذلك الوعي الذي يجعلك تدرك، في ذات الوقت الذي تقرأ فيه هذه السطور، جسدك، والأصوات التي تصل إليك، والحركات المحيطة بك، إلى آخره.
المستوى الثاني هو وعي الهوية الذي يعبر عن وعينا ل «ذواتنا» نتيجة عن انطباعاتها. إنه الوعي الذي يساعدنا على إجراء تحليل شمولي لما نعيشه، وإدراك أن كل هذه الأحاسيس هي عائدة لنا.
نحن، بالطبع، معتادون على هذه «البديهيات»، لكننا ننساها، وفي بعض الأحيان عندما نمر أمام مرآة، أو عندما نسمع أحدا يلفظ اسمنا، فإننا ندرك فجأة أن هذا هو نحن، ويسيطر علينا ضياع غامض للهوية: «كيف؟ أهذا أنا، هذا الوجه، هذا الشخص الذي ينادونه؟»
المستوى الثالث هو ذلك الوعي الرؤيوي القادر على أخذ مسافة عن هذه «الذات» ومراقبة آلياتها. إنه الوعي الذي يساعدنا على الفهم والتفكير؛ إنه هو الذي يقودنا لكي ندرك أننا كنا أنانيين جدا، أو أننا بدأنا نغضب أو أننا نقلق.
ماذا عن «الوعي الكامل»؟ أين موقعه من كل هذا؟ لنقل إن ممارسته تدمج المستويات الثلاثة بشكل كامل؛ الوعي الأولي ذو الأهمية البالغة لأنه يؤمن لنا شكلا من الإدراك والتأقلم مع الظواهر الجسدية والعاطفية، والوعي الذاتي الذي هو نقطة الانطلاق لمراقبة تسلسل أفكارنا، والوعي الرؤيوي الذي يسمح لأذهاننا أن تنفصل وتتحرر من حركية العقل الذاتية.
الانتباه
يقول ويليام جيمس، أحد مؤسسي علم النفس الحديث، والذي كان رائدا في دراسة الوعي والانتباه: «الانتباه هو استحواذ الذهن، بشكل واضح وفعال، على شيء أو على فكرة من مجموعة أفكار حاضرة في ذات الوقت ... إنه يقوم بإبعاد مواضيع معينة بهدف معالجة مواضيع أخرى بشكل أكثر فعالية.»
الانتباه هو الأداة الأساسية للوعي؛ لا انتباه يعني لا وعي. هذا بلا شك هو السبب الذي يجعل الجملة التي يكررها مرشدو التأمل كثيرا هي: «الآن، ركزوا بهدوء انتباهكم على ...» ولكن الانتباه والوعي هما كيانان مختلفان. في الانتباه نحن نستبعد «ما لا يهمنا»، بينما في الوعي، نحن نتلقي. يقوم الانتباه بعملية استبعاد، بينما الوعي يقوم باحتواء. إنها على سبيل المثال مشكلة القلق والكآبة، اللذين هما بشكل من الأشكال من اضطرابات الانتباه؛ فنحن لا نعير انتباهنا سوى لمصادر همومنا، ونستبعد الباقي. لذلك سيوفر لنا استدعاء الوعي الكامل حلا ممكنا من أجل معالجة هذا الانتباه المريض؛ بأن نوسع حقل انتباهنا في اللحظات التي نشعر فيها بالحزن أو القلق.
نوعية الانتباه
لنعد إلى الانتباه، وعلاقته بالوعي. إننا نستطيع بصعوبة أن نتعامل بطريقة مباشرة مع وعينا. للوصول إلى هذه الغاية يتوجب علينا، بشكل عام، أن نتعلم كيف نعدل انتباهنا. يمكن القيام بهذا العمل وفق اتجاهين.
يقتضي الاتجاه الأول أن نوسع انتباهنا؛ يمكن للانتباه أن يكون مركزا (ضيقا) أو منفتحا (واسعا). نقوم في الانتباه المركز بتوجيه شعاع تركيز ضيق مثلا على فعل ما (أن نركز على ما نفعله)، أو على عرض ما (أن نكون مأخوذين بما نشاهد أو نسمع)، أو أفكار معينة («نستغرق» في انعكاساتها أو تداعياتها). الانتباه المنفتح، هو على العكس، يتجه نحو الاتساع، نحو الانفلات من مواضيع اهتمامه الأساسية، نحو التحرر بهدوء من الاندماج مع الأفكار أو المشاعر، شاملا مواضيع أخرى. هذا ما يحدث عادة عندما نكون في طور مراقبة ما نشعر به داخل جسدنا، فإننا في ذات الوقت نستطيع أن نحتوي بشكل متعاقب الأصوات حولنا، والأفكار، والمشاعر أثناء تمرين وعي اللحظة الحاضرة. هذا الانتباه الأكثر اتساعا يمتد بشكل طبيعي نحو ما يمكن أن نسميه «وعيا منتبها»، والذي يقترب بقوة من الوعي الكامل.
ولكن هناك شيء آخر في حالة الوعي الكامل. لا يركز الاتجاه الثاني الممكن للتمرين على «انفتاح» الوعي فقط وإنما أيضا على «نوعية» وعينا؛ أهو «تحليلي» أم «مغمور»؟ الوعي التحليلي هو ذلك الوعي الذي نستخدمه عندما نركز على حل مشكلة ما، رياضية أو وجودية. يعمل عندها ذكاؤنا بطاقته القصوى، وتتسلسل أفكارنا، وتتطور محاكمتنا، ونقوم بتحليل أسباب ونتائج المشكلة بدقة. أما الانتباه المغمور فإنه يكون في مستوى آخر؛ إنه يجعلنا ننسى ما نفكر به أو ما نفعله. الانتباه المغمور يمكن أن يتعلق بأنشطة بسيطة؛ أن نكون مأخوذين بفيلم مثير، أو بإيقاع خطواتنا أثناء الجري. ولكنه يتعلق أيضا بأمور أكثر تعقيدا؛ هبوط منحدر تزلج، العزف على آلة موسيقية، أو الاستغراق في مسألة فكرية. في كل هذه الحالات، نكون منتبهين بشكل كامل إلى ما نقوم به (وإلا سوف نسقط، أو نعزف نغمة خاطئة، أو سنكون بشكل دائم مشتتين عما نقوم به). حين نكون في حالة من الانتباه الذي ندعوه «مغمورا»، نكون حاضرين بشدة لما نقوم به حيث نكون «داخله» بشكل كامل، دون الحاجة إلى التفكير أو تحليل ما يحدث.
كلما ازداد اتساع انتباهنا وانغماره، اقتربنا من حالة الوعي الكامل؛ إنه حضور مكثف ومنفتح، ليس ذهنيا فقط وإنما عاما (محتويا كامل جسدنا) للتجربة التي نعيشها لحظة بلحظة.
تدريب الانتباه للحفاظ على الوعي
في حياتنا الذهنية، لا تحدث الأشياء فقط لأننا نرغب بحدوثها أو لأننا قررنا حدوثها، كذلك هو الأمر بالنسبة للانتباه.
العمل على الانتباه هو ضرورة اكتشفت منذ زمن طويل، في الشرق كما هو الحال في الغرب. لنستمع من جديد إلى ويليام جيمس: «إن القدرة على إعادة توجيه انتباهنا الذي يتشتت طوال الوقت، بشكل طوعي، تشكل أساس الحكم، والشخصية والإرادة. لا يكتمل الشخص الذي لا يملك هذه القدرة ... ولكن من الأسهل لنا أن نعطي معلومات نظرية عن هذه الحالة المثالية من أن نعطي إرشادات عملية من أجل القيام بها.»
إن هذه القدرة على جعل انتباهنا حاضرا هي في الحقيقة قاعدة أساسية لفعاليتنا العقلية كما لصحتنا النفسية، خصوصا أن طرق حياتنا المعاصرة تنحو إلى إضعافها وإفقارها؛ إننا نتطور أكثر فأكثر في بيئات «مسمومة نفسيا»؛ إنها تشتت انتباهنا عن طريق فرض مؤثرات متعددة (إعلانات الراديو أو التلفزيون أو التدفق المستمر للبريد الإلكتروني أو الرسائل القصيرة)، ومن خلال تقديم مغريات كثيرة وجذابة (التزايد الخطير، مثلا، في السينما كما في التلفزيون، في عدد الصور في الدقيقة الواحدة). المشكلة هي أن عقلنا يميل أصلا إلى هذا الاتجاه، نحو التسلية والتشتت. إن أرواحنا تؤخذ بالصخب والسهولة، كما تميل أذواقنا نحو الطعم الحلو أو المالح فقط.
هذا النوع من البيئات (وغياب وجود جهد لإيجاد حالة التوازن في مقابل ذلك) يجعل انتباهنا يميل إلى العمل دوما بناء على سجل انتباهي ضيق ومحدود. فيعتاد على البقاء في حالة تركيز ولا يفعل شيئا سوى الانتقال من موضوع إلى آخر، ومن هم إلى آخر، ومن تسلية إلى أخرى، إلخ. إننا نعتقد اليوم أن تكون حركية الانتباه هذه، المبنية غالبا على نمط ضيق وتحليلي، هي في الحقيقة مسئولة عن الاجترار الذي يغذي حالات القلق والاكتئاب.
من هنا تأتي الأهمية الكبرى للعمل على تطوير قدرات الانتباه، من أجل حمايته أو ترميمه. إن ممارسة التأمل، من خلال وجهة النظر هذه، يمكن اعتبارها نوعا من تدريب الانتباه، حتى لا نكون بعد الآن مسروقي الوعي أبدا. «الدرس السابع»
إن تدريب انتباهنا لهو في صميم ممارسة الوعي الكامل. اجلسوا، ركزوا على تنفسكم، راقبوا كيف تغادر أفكاركم بعيدا، وعودوا إذن بانتباهكم إلى تنفسكم. مرة، عشر مرات، مئات المرات. لقد احتجتم إلى المئات من الخطوات قبل أن تتعلموا المشي، وأنتم تقومون الآن بمئات الخطوات للحفاظ على هذه القدرة. إنه ذات الأمر فيما يخص قدرات الانتباه؛ فإذا كنتم تعيشون في حالة تشتت وتستمتعون بالاستجابة للمغريات، أو المضي هنا وهناك، تاركين انتباهكم يتبع كل ما يضيء وكل ما يصدر صوتا، ستصير قدراتكم فقيرة جدا. إن تمارين الوعي الكامل، وخاصة «حركية الخروج» من التمرين والعودة إليه (العودة بالذهن في كل مرة إلى اللحظة الحاضرة) تمثل تدريبا ذهنيا استثنائيا. مارسوا، ثم مارسوا، وإلا لا تستغربوا أن يمارس ذهنكم كثيرا من الحيل عليكم.
الفصل الثامن
أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية
إنها لوحة صوتية بامتياز ؛ لكنها ككل لوحات الرسام لا تور، أكثر ما يضج فيها هو الصمت. لا يوجد داخل هذه الغرفة الصغيرة، ولا خارجها، أي كلام، أي حركة أو ضجة. إننا في العمق الأكثر ظلمة لليل.
هناك حوار وحيد، إنه حوار الضوء والظلال. حوار هذا اللهب مع انعكاسه في المرآة. وهذه الشمعة مجاز عن هشاشة حياة الإنسان، وانعكاسها في المرآة تعبير عن وعينا لهذه الهشاشة. كلتاهما، الشمعة وصورتها، محاطتان بالعتمة من كل اتجاه. فإذا أطفأنا هذه الشعلة بأصابعنا، فستطغى الظلمة على كل شيء.
لوحة «مريم المجدلية التائبة» أو «مريم المجدلية الخاصة بآل رايتسمان» (تقريبا 1638-1643) لجورج دي لا تور (1593-1652)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 1,334 × 1,022 متر، متحف المتروبوليتان للفنون، نيويورك.
تظهر الأشياء المحيطة بالشمعة، والملفعة بالضوء الضعيف، وكأنها يتامى. والمرآة لا ينظر فيها أحد؛ فلا يوجد فيها سوى انعكاس اللهب. وهذا العقد المتروك جانبا، يذكر بماضي مريم المجدلية بوصفها عاهرة، والجمجمة تذكرنا بالعبثية ورسالتها الجوهرية؛ تذكر أنك ستموت يوما. لكن لا تخش الموت. تذكر أن الحياة على هذه الأرض قصيرة، هشة، ودون جدوى، وتذكر أن كل ما هو أساسي وجوهري لا يسكنان هذه الحياة الفانية. لكن تذكر أيضا أنه يوجد سبيل آخر لعيشها ... وهو أن تعيها. ربما هذا ما تفكر به مريم المجدلية، بشعرها الطويل وثوبها الأحمر المطوي، وقميصها الأبيض الخالي من الأشرطة أو الزخرفة. فهل تشبه في وضعيتها هذه شخصا محكوما عليه أم شخصا في طريقه لتحرير نفسه من الماضي ومن الذنوب؟ وكل ذلك من أجل الذهاب إلى أين؟ لفعل ماذا؟ ... لاحقا، لاحقا ... يكفي الآن التجرد، والهدوء، وكثافة اللحظة الحاضرة. وضعت مريم المجدلية يديها على الجمجمة. لقد أدارت وجهها عن المشاهد، بل إنها تديره عن العالم أجمع. لكن ما الذي تنظر إليه؟ الشمعة؟ لا. هي لا تنظر إلى أي شيء. لقد غاصت عيناها في العدم الذي يسكن هذا الجدار الموجود خلف المرآة.
لقد توقفت عن الإيمان ب «الأحداث العظيمة» التي يرافقها الصراخ والدخان. وأرجوك أن تصدقني، يا ضجيج جهنم العزيز، أن الأحداث الأكثر أهمية ليست لحظاتنا الأكثر ضجة، وإنما تلك الأكثر صمتا.
نيتشه، «هكذا تكلم زرادشت»
الخشوع
الخشوع ضروري في تأمل الوعي الكامل. إنه يعني هنا العودة إلى الذات؛ أن نسكن ذاتنا من جديد، وأن نتواصل مع أنفسنا، خصوصا أن كثيرا من الأماكن، والأنشطة تلغي هذا التواصل، أو أنها على الأقل تحتكرنا وتبعدنا عن هذه اللحظات التي نشعر أثناءها ب «وجودنا»، نشعر بأننا هنا؛ لأننا أوقفنا كل «فعل».
تساعد بعض الأماكن على الوصول إلى حالة الخشوع هذه، كالكنائس وأماكن الصلاة مثلا. يحدث أحيانا أن يكون لدي بعض الوقت قبل موعد ما، أذهب حينها إلى إحدى الكنائس لأمنح نفسي بعض الوقت للتأمل. لا يهم أن تكون خارج المدينة؛ يكفي أن تكون على بعد «خطوة» من ضجيج المدينة، وشحنتها الزائدة من التنبيهات. والطبيعة بالتأكيد، تعزز لحظات الخشوع. وأعتقد أن هذا الأمر هو من الأسباب الرئيسية التي تجعل التردد المتكرر على الطبيعة من الأنشطة التي تحسن حالتنا الصحية، كما تظهر كثير من الدراسات الحديثة. إن التواصل مع الطبيعة يساعدنا على إيجاد الهدوء، والبطء، والاستمرارية. إنه غذاء لروحنا، يمكننا من الوصول إلى حالة الوعي الكامل.
لكننا نستطيع أن ندخل في حالة خشوع ونحن وسط بلبلة الحياة أيضا، بأن نأخذ القرار بالتوقف. أن نأخذ لحظة من الانكفاء في حمية الفعل. وبسبب طبيعتها المتناقضة قد تكون هذه اللحظات المسروقة من زخم المدينة غنية جدا. فبالإضافة إلى الراحة العاطفية التي تمنحنا إياها، قد تشعرنا هذه اللحظات وبشكل مفاجئ، بوجود مساحة أوسع داخلنا، وأيضا بالمزيد من الوضوح الذهني. كمثل شخص فاجأه وهو يتنزه انهمار وابل من المطر، فقرر الاحتماء بمكان يقيه البلل، وبدلا من أن يلعن المطر والطبيعة، يمكنه الاستفادة من هذه اللحظة لتوجيه وعيه لما هو موجود حوله؛ أن يعتبر توقفه هذا لحظة انكفاء، معتبرا إياها لحظة التقاط أنفاس. سيكون حينها قد اختبر تجربة ذات تأثير إيجابي جدا على حالته الصحية.
الخشوع يعني العودة إلى الذات؛ أن نسكن ذاتنا من جديد، وأن نتواصل مع أنفسنا، خصوصا أن كثيرا من الأماكن، والأنشطة تلغي هذا التواصل.
يمكن أيضا الاستفادة من اللحظات التي تسبق الفعل أو النشاط الذي نتهيأ للقيام به، كأن نبقى واقفين عدة ثوان، نشعر بتنفسنا، ثم نجلس إلى مكتبنا محاولين التواصل، دون كلام أو هدف، مع المدلول العميق لعملنا؛ وأيضا قبل العودة إلى المنزل مساء، أو قبل الذهاب لزيارة صديق، أو استقبال المرضى إذا كنا نعمل في المجال الصحي. لقد وجدت هذه اللحظات سابقا؛ الصلاة قبل قطع الخبز على طاولة الطعام. أين ذهبت لحظات الخشوع هذه في حياتنا الحديثة؟ لن نجدها حتما عندما نقوم بتشغيل التلفزيون أو الراديو لحظة وصولنا إلى البيت، ولا في الشاشات التي تستعبدنا في كل لحظة. كل أشكال السلوك هذه التي صرنا نقوم بها بشكل تلقائي ظانين أنها ستخفف عنا عبء أفكارنا، إنها في الحقيقة تختلف تماما في أثرها علينا عن المعنى الذي يقدمه الخشوع والتأمل.
أتذكر أحد المرضى الذي كان في بداية تعلمه للتأمل بجلسات الوعي الكامل. لقد روى لي بابتهاج كيف استطاع القيام بتمرين يشبه ما ذكرناه آنفا. بدلا من أن يقوم بتشغيل راديو سيارته كل صباح بشكل تلقائي، كان يجلس في السيارة واضعا يديه على المقود ثم يبدأ بتمرين مراقبة تنفسه وإدراك ما يدور في أحاسيسه. وأوضح لي كيف استطاعت هذه اللحظة كل صباح، ولحظات أخرى من التأمل، قام بإضافتها إلى يومه، أن تخفف من قلقه.
وأتذكر أيضا هذا المقطع الغريب، للسيرة الذاتية من دون شك، في كتاب باسكال كينيار «الظلال الهائمة»: «لماذا في أحد أيام أبريل من عام 1994 حيث كان الطقس جميلا والشمس ساطعة، لماذا وأنا أخرج من متحف اللوفر، بدأت بحث خطاي؟ رجل حث خطاه وهو يقطع نهر السين، ناظرا إلى قناطر الجسر الملكي، وإلى النهر المغطى بالبياض اللامع. إنه يرى السماء الزرقاء فوق شارع بون، ثم يدفع راكضا الباب الخشبي الضخم في شارع سيباستيان بوتان، ويستقيل من وظيفته. فالمرء لا يمكن أن يكون حارسا للسجن وهاربا منه في نفس الوقت.» أن نعيش بوعي ليس أمرا دون خطورة، وحالة الخشوع تدفعنا في معظم الوقت نحو التجرد، ليس لزيادة فقرنا الروحي، وإنما لنصير أكثر خفة.
التجرد
التجرد هو الضرورة الثانية لحالة الوعي الكامل. وليس من الضرورة أن نتجرد من ثيابنا أو ماضينا كما فعلت مريم المجدلية، وإنما من بعض عاداتنا النفسية. من الخطوات الهامة بهذا الاتجاه، تخفيف أفكارنا التلقائية، وأيضا توقعاتنا وأفكارنا المسبقة. وهنا نجد أربعة أمور مهمة في الوعي الكامل؛ ألا نطلق أحكاما، وألا نقوم بالانتقاء، وألا نتعلق بشيء، وألا ننتظر شيئا. إنها أربعة أشكال من السلوك علينا أن نعززها في تمارين التأمل بالوعي الكامل، وبنفس الوقت نكون بصدد القيام بأربعة أشكال من العدول.
العدول عن إطلاق الأحكام:
مثلا عدم الحكم على تمرين التأمل الذي قمنا به بأنه نجح أو فشل. هل هذه مسألة صعبة؟ هذا صحيح. «ألا نطلق أحكاما» بالأحرى هو ألا نستسلم للأحكام التي تصل حتما إلى وعينا؛ ألا نترك لها كل القدرة، أو ألا نتوقف عندها دائما؛ كي لا تحتل كل المكان.
العدول عن الانتقاء:
لقد تحدثنا عن ذلك سابقا؛ يتعلق الأمر بالسماح لأحاسيسنا الجسدية، ولأفكارنا، ولمشاعرنا (حتى غير المريحة منها) أن تكون حاضرة معنا. مثلا، علينا أن نتخلى عن الأمل بتوقف الضجيج حولنا بينما نقوم بجلسة التأمل. علينا قبول الأمور المزعجة، ولكن أيضا وبالتأكيد تلقي وقبول ما هو جيد ومريح. هذا يعني ألا نتبع طريق تعذيب الذات أو مذهب المتعة فقط، وإنما أن نكون في حالة من الوعي المنفتح والفضولي، الذي يتلقى كل شيء، لكنه لا يذهب إلا حيث يريد.
العدول عن التشبث:
علينا ألا نبحث دوما عما هو مبهج؛ لأنه تصرف تلقائي لدينا. وعلينا ألا نحاول طوال الوقت أن نستخدم تنفسنا وسيلة للحفاظ على حالة عاطفية جيدة. بماذا ينفعنا هذا السلوك؟ بدلا من التمني بأن تدوم هذه الحالة، علينا أن نتمرن على ألا نقلق من عدم استمراريتها. علينا أن نتجاوز الأمل: «أرجو أن يدوم ذلك طوال الوقت.» والتحرر من قلقنا الموجود بالفطرة، ذلك الذي يتشبث بكل ما هو مريح. إن من الأجدى الاستمتاع بما يقدمه لنا الوعي الكامل من راحة، بدلا من القلق المستمر من أن تغادرنا هذه الحالة فيما بعد. إن «قلق الحفاظ على الراحة» هي تلك الحالة التي يصعب على كثير من القلقين والمكتئبين تجاوزها.
العدول عن الانتظار:
إنه من دون شك الجزء الأكثر إثارة للحيرة لدى المتمرنين الجدد؛ يجب ألا ننتظر شيئا، ألا نأمل أن تكون جلسة التأمل مصدرا للمزيد من الجلاء والراحة. ما زلت أتذكر الشكوك التي أبديتها في البداية: «هل علي أن أتخلص من توقعاتي؟! لكن دون انتظار، دون هدف، لن نصل إلى أي مكان.» هذا هو الأمر بالضبط؛ ففي التأمل بالوعي الكامل نحن لا نسعى إلى الذهاب إلى أي مكان غير ذلك الذي نحن موجودون فيه أصلا.
الصدق
إن الأمر الأخير هو الأصعب. يجب ألا يكون الانتظار فخا نصبناه لأنفسنا (كأن نتظاهر بعدم الانتظار، مخبئين هذا السر في قلوبنا)، وألا يكون حالة من جلد الذات (بأن نكون غير مهتمين بالسعادة). إننا نقوم هكذا بكل بساطة بعملية التفاف على أنفسنا.
إن ما نستطيع الوصول إليه أو بناءه بجهودنا وإرادتنا هو ما قد وصلنا إليه وما قد بنيناه مسبقا. ولكن هناك كثير من الأشياء، خاصة على الصعيد العاطفي، تقاوم جهودنا للتحكم بها أو إخضاعها لإرادتنا، وعلينا أن نحاول العدول عن «الرغبة في إيجاد حل». نستطيع حينها اختبار شيء آخر؛ إنه القبول المجبول بالحفاوة لما هو موجود أصلا، والذي يتلخص بعدم الرغبة في شيء آخر غير وعي اللحظة الحاضرة. إن التأمل بالوعي الكامل هو كل تلك اللحظات التي أشعر فيها، وبشكل عميق، أنني وصلت إلى حيث أريد؛ أن أكون هنا والآن!
حضور محض، وانتباه إلى لا شيء
بمتابعة الممارسة والعمل على التوسيع المتدرج لمجال انتباهنا، والتخلص من توقعاتنا ومن الانتقاء الذي يقوم به ذهننا، سيتحول وعينا إلى وعي كامل. سيصبح أكثر شمولية ولن يركز على موضوع محدد. إنه حضور محض.
هل هو وعي دون موضوع محدد؟ إنها مسألة يختلف حولها أحيانا المنظرون والممارسون. يقول الفلاسفة مثلا إن كل حالة إدراك، هي إدراك لأمر ما . يقتضي ذلك أن يكون الوعي محاولة للتركيز على موضوع ما. لكن الممارسين للتأمل يعتقدون أننا نستطيع ممارسته دون موضوع محدد. لقد اختبروا ذلك مرارا؛ إنه نوع من الوعي الذي يحتوي باتساعه كل شيء. إنه كالحب دون شروط للوجود. إنه أن نرى ما هو هنا معنا، وأن نحبه بأفضل ما نستطيع. وبعضهم يتكلم عن حالة وعي كامل دون خيارات؛ إنها حالة مهمة جدا. إنها ليست أكثر أهمية، على الصعيد الداخلي، من حالات وجودنا الأخرى، وهي ليست أيضا نوعا من الرياضة المجانية لروحنا. لكنها حالة خاصة لأنها فريدة من نوعها، وقد تحمل معها كثيرا من الفوائد على صعيد الشفاء، وحرية الذهن، والوضوح.
يختبر كثير منا حالة الوعي دون موضوع محدد، غالبا بشكل عابر أكثر منه حالة دائمة؛ لأننا لا نستطيع لمس الحضور المحض إلا للحظة. ويمكن لهذا الحضور أن ينقلنا إلى ما هو أبعد. هل هذا وحي أم وهم؟ بكل الأحوال هي حالة من السعادة التي لا توصف!
في البداية تكون لحظات من النعمة التي تأتينا من السماء، أو هي جسور تأتي إلينا بالصدفة. هي لحظات يكون فيها كل شيء كامل البهاء دون أي تدخل منا. وبالتدرج سنعرف كيفية استدعائها، لحظات الحضور المحض هذه. إنها حالة بسيطة التعريف: «أن نكون هنا والآن.» لكن استدعاءها يبقى صعبا ما دمنا لا نستطيع أن نكون كذلك؛ لأننا نتدخل، نفعل، نوجه اللحظة، نحاول فرضها. كل ذلك يقض مضجعنا، والقيام بكل ذلك يريحنا. الفعل، إنه نقطة قوة الإنسان ونقطة ضعفه في ذات الوقت. لكننا نعرف الآن كيف نتوقف عن الفعل، ونتخلص من طريقة عيشنا السطحية. إننا نفعل ذلك بأن نضع جانبا ماضينا ومشاريعنا المستقبلية، كي نلج للحظة إلى اللانهائي، إلى أبدية عابرة؛ تلك الحالة التي تغطيها أفعالنا وأفكارنا. وسيكون كل شيء بها جميلا ومؤثرا في نفس الوقت. إنه اضطراب هادئ. «الدرس الثامن»
علينا أن نستدعي الخشوع، أن نفتح روحنا بشكل متكرر لما نعيشه كل يوم. وعلينا أن نتجاوز الكلام، والأفكار، والأشياء والأفعال. يجب أن نترك «الفعل» للوصول إلى «الحضور»، وأن نستطيع عزل أنفسنا عندما يكون هناك كثير من البلبلة حولنا أو داخلنا، والتخلص من كل أشكال «الرغبة والفعل». علينا ألا نريد شيئا. وعلينا أن نتوقف عن البحث؛ إنه نوع من العدول عن كل شكل من أشكال التفكير أو الفعل ولو للحظات. يجب ألا نفعل شيئا غير أن نكون هنا والآن، وأن نعي فقط أننا هنا تملؤنا الحياة.
الجزء
أن نعيش وعيون روحنا مفتوحة على اتساعها وأن تكون هذه هي فلسفة حياتنا اليومية
لم أفعل شيئا هذا اليوم. - ماذا؟ ألم تعش؟
ذلك ليس أساسيا فقط، بل إنه أيضا أكثر أنشطتك مكانة.
مونتين، «مقالات»
الفصل التاسع
أن نرى كل ما هو عادي
أثناء مرورك، تقرر التوقف؛ لأن شيئا ما مميزا شدك. ربما هو الضوء في هذا الوقت من النهار، عندما تبدأ ظلال الليل بامتلاك المكان، لكن وهج مصابيح الإنارة يصنع ببطء جزرا من الضوء في هذا الظلام. أو ربما هو الهواء العليل. أو أنها هذه الغابة الكثيفة والداكنة المحيطة بالمكان.
ستلاحظ تلك التفصيلة البسيطة؛ إنه الحصان المجنح على لوحة الإعلان المضيئة. ستلاحظ هذا الحصان المجنح الأحمر الكبير هو وإخوته الثلاثة الصغار، وهم يحاولون بنفاد صبر القفز خارج الإعلانات كي يحلقوا في السماء، نحو الليل اللانهائي. وبدءا من هذه الصورة للحصان المجنح كمرساة لانتباهك، تصبح فجأة حاضرا في تلك اللحظة العادية العديمة الأهمية. ستعير انتباهك إلى رائحة البنزين، ثم إلى الموسيقى القديمة والمعروفة التي يصدرها الراديو من المنزل المضاء. لم يكن لا الغرابة ولا الجمال ما استوقفك روحا وجسدا في هذه اللحظة. إنك لا تحتاجهما لتوقف للحظة دفق أفكارك، وأفعالك ومشاريعك. لقد توقفت لأن هذه اللحظة لا مثيل لها. أنك لن ترى مجددا هو بالضبط ما أنت بصدد رؤيته الآن، ولن تعيش هذه اللحظة مرة ثانية أبدا. نعم، هذا هو الأمر، لقد فهمت؛ توقفت لأن ما هو أساسي تبدى لك؛ إنك بصدد لمس قطعة من ثوب الحياة. كيف يمكننا أن ننسى ذلك معظم الوقت؟ ننسى أننا محظوظون بعيش هذه الحياة، وأن كل لحظة في حياتنا هي معجزة. لقد غلبت الليل، وغلبت الموت، وغلبت العدم. كيف يمكننا أن ننسى ذلك! لا تنس أبدا أن تعيش. الآن مثلا، ارفع رأسك، وانظر حولك بعيني طفل ولد للتو، وكأنك ترى كل شيء لأول مرة!
لوحة «محطة وقود» (1940)، لإدوارد هوبر (1882-1967)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,667 × 1,022 متر، متحف الفن الحديث، نيويورك.
لا تنس أن ذواتنا قد تشكلت من خلال تجاربنا الأكثر بساطة. وقول إن أمرا ما مبتذل وبسيط، هو القول بأنه من ضمن الأمور التي ساهمت في خلق أفكارنا الأكثر أهمية.
بول فاليري، «أفكار سيئة وأشياء أخرى»
إنارة ضوء وعينا فترات أطول
يستيقظ وعينا في كل مرة نكون فيها على موعد مع الجمال، مع كل ما هو مؤثر وغير متوقع. لكننا نظل فيما تبقى من الوقت ليس أكثر من رجال آليين نعمل ونحن غائبو الحضور. ومن فترة لأخرى نستيقظ؛ فقد نظم هذا العصر حياتنا واضعا كثيرا من العلامات الإرشادية في كل مكان لتدلنا على الطريق («تفضلوا من هنا ... من هناك») والإعلانات («الآن ... انظروا! اسمعوا! استمتعوا!») واللحظات المحددة بدقة التي «يجب» أن تذهلنا أو تقلقنا (سينما، مسرح، متحف). إنها لحظات حتمية، محددة لنا ... لكن حياتنا ليست زيارة يقودنا فيها دليل! ومن كثرة ما سمحنا لأنفسنا أن نقاد بهذه الطريقة صار ذهننا فارغا، وروحنا ميتة أو في حالة سبات.
أحبوا ما هو عادي وبسيط. انتبهوا إلى هذه اللحظات. احترموها. اشحذوا وعيكم بها. افتحوا ذواتكم لكثافة البساطة؛ فلا يوجد جو خاص كي يلائم الوعي الكامل. بالطبع هناك لحظات وأجواء تسهل الوصول إليه، لكننا نستطيع عيشه في أي لحظة. يكفي أن نتمرن بقليل من الجهد. يكفي أن نبقى كائنات يقظة وكاملة الحضور.
ألا نفعل، بل أن نكون حاضرين
إننا «نفعل» أشياء طوال الوقت؛ فنحن دائمو الحركة، نقوم بالقفز من نشاط إلى آخر. وحتى في صميم الفعل نكون غائبين، وروحنا متخمة بالرغبة بالقيام بنشاط آخر أو بذكرى ما كنا نقوم بها.
هذه هي الحال في لوحة محطة الوقود؛ فكم من الزبائن لم ينتبه لما تظهره اللوحة؟ كم منهم لم ير شيئا؟ «سأطلب تعبئة سيارتي بالوقود، وأدفع، ثم سأذهب متعجلا وأنا أفكر بالوصول إلى الفندق، كي لا أصل متأخرا. سأحجز نفس الغرفة كالعادة، وسأرتب أغراضي، وأنظف أسناني، وأنا أفكر بعملي الذي ينتظرني غدا. سأضبط المنبه على الوقت المحدد صباح الغد، ثم سأشاهد التلفزيون وأنا أقول لنفسي: أتمنى أن أنام جيدا؛ لأستيقظ نشطا غدا ...» كثيرة هي الأيام التي كنت أقوم فيها بأنشطة محددة، وأنا أفكر في نفس الوقت بشيء آخر. لكنني أثناءها لم أعش حقا، ولم أكن حاضرا، ولم أشعر حتى بوجودي ... لقد كنت رجلا آليا!
لكن أن نكون حاضرين بدلا من أن نكون فاعلين، ليس بالأمر الجيد مطلقا. إننا نحتاج لكلتا الحالتين. ولأننا «نحتاجهما كلتيهما»، علينا أن ننتبه إلى أن طريقة عيشنا تنسينا أو تبعدنا دون قصد عن حالة «أن نكون حاضرين». لهذا يهمس لنا الوعي الكامل بأن علينا الخروج من حالة «الفعل»، وأن ننتقل - ولو للحظات قليلة - إلى حالة «الحضور».
لنكن حاضرين: لنعتبر الحياة كأنها تمرين تأمل وعي كامل
إنها مسألة بسيطة؛ أن نكثف حضورنا في اللحظات العادية؛ أن ندع وعينا يسكنها. علينا ألا نبقى أطيافا، وأن نخرج من النسيان؛ هذا النسيان الذي لا يمت للموت بصلة بالطبع، ولكنه نوع من غياب الحياة. يجب أن نكون حاضرين، وهذا يعني أن نكون حقيقة على قيد الحياة.
علينا أن نراقب ذواتنا أثناء التجربة، حيث نحن، وليس فقط حين يتاح لنا الأمر. يجب أن نراقب ذواتنا في اللحظات العادية، وأحيانا في الأوقات الصعبة أيضا. لنفعل ذلك مثلا في الفترات المؤقتة بين نشاط وآخر، وفي فترات الانتظار؛ إذ نستطيع أن نستفيد منها بأن ندرك وجودنا وأن ندرك ما نحن فيه أثناءها. وهكذا لا نكون في حالة «انتظار» وإنما نكون حاضرين هنا! في أحد الأيام بينما كنت مسافرا للمشاركة في مؤتمر، كنت أنتظر القطار على رصيف إحدى المحطات. كنت أنتظر القطار فعلا، وأنظر إلى الساعة ثم إلى الأفق البعيد وأنا أتساءل إن كان القطار سيصل من الجهة اليسرى أو اليمنى. هذا رغم أنني كنت أعرف أنه لن يغادر قبل عشر دقائق. وصرت أتساءل إن كان سيأتي من محطة أخرى أو أنه سينطلق في رحلته بدءا من هذه المحطة؛ لأنني أستطيع عندها الصعود مباشرة. باختصار، كانت روحي مليئة بأفكار غير مهمة وغير مفيدة. لحسن حظي أنني انتبهت إلى ذلك (طبعا أنا لا أنتبه إلى هذه الحالة دائما). وللحظة وجدت نفسي وأنا أنتظر هذا القطار كمثل كلب ينتظر طعامه. قلت لنفسي عندها: لا، لا يمكن أن أعيش حياتي بهذه الطريقة، ولا حتى جزءا منها. لهذا بدأت أفكر بمرضاي وبتمارين الحضور التي كنا نمارسها بشكل متكرر، وقررت أن أفعل مثلهم؛ أن أفعل بالضبط ما كنت أعلمهم إياه بنفسي. وهكذا تركت الفعل (وبالأحرى ابتعدت عن نفاد الصبر الذي كنت أشعر به وأنا أنتظر القطار مراقبا وصوله في أي لحظة) وانتقلت إلى الحضور؛ فتوقفت عن النظر بإلحاح إلى الساعة ثم إلى الأفق في آخر السكة الحديدية، وأعرت انتباهي إلى تنفسي، ثم إلى وضعية جسدي، وبدأت أجعله مستقيما بهدوء. رفعت كتفي ثم رأسي وبدأت أنصت إلى أصوات المحطة، إلى أصوات الناس وضجيج العجلات على السكة الحديدية، وغناء الطيور. راقبت الضوء في هذا اليوم الربيعي، والانطلاقة البطيئة لقطار البضائع في الجهة الأخرى من المحطة. راقبت الغيوم، المحلات، العلامات الإرشادية، الأبنية البعيدة، وأخذت أشم رائحة الحديد البارد. لقد كان ذلك مذهلا. كان حضوري الكثيف لهذه اللحظة من حياتي مثيرا للاهتمام، وباعثا على الراحة. وعندما صعدت إلى القطار كنت شديد الهدوء كما لم أشعر من قبل. لم أكن «أنتظر» حينها، وإنما «عشت» لحظة كثيفة من حياتي، لحظة شديدة الغنى.
أعرت انتباهي إلى تنفسي، ثم إلى وضعية جسدي، وبدأت أجعله مستقيما بهدوء. رفعت كتفي ثم رأسي وبدأت أنصت.
كن حاضرا، بوعيك. انتبه لحقيقة أنك كائن حي. أيعني هذا ألا تفعل شيئا؟ لا، عش اللحظة بوعي كامل. دع كل ما هو بسيط وعادي يلمسك ويهزك. ودع كل ما هو طبيعي وغير ذي أهمية يضيء لك الطريق، ودع الحياة تبهجك وتسعدك. «الدرس التاسع»
علينا أن نكون حساسين وحاضرين لكل ما لم نعد نراه؛ لكل ما هو مألوف وعادي؛ لكل ما لم يعد يثير اهتمامنا. علينا أن ندعه يلمسنا بدلا من استعباده أو وطئه بأقدامنا دون انتباه. يجب أن ندعو العالم لدخول ذواتنا كي نكتشف رقته وتنوعه، بدلا من التركيز في يومنا على المتطلبات الآنية. هذا ليس صعبا؛ يكفي أن نحقق ثلاثة شروط؛ الإرادة (أن نقصد العيش في العالم الموجود وليس الافتراضي)، وإتاحة الفرصة (بتخفيف العبء عن أذهاننا، وتوسيع وعينا)، والممارسة (أن نرفع رءوسنا، ونفتح عيوننا، وننظر بحق).
الفصل العاشر
أن نرى كل هو مخفي
إنها تحدثنا، تهمس لنا، لكن ماذا تقول؟ يجب التوقف للحظة كي نستطيع أن ننصت إليها، إلى همساتها. ثم يجب محاولة فهمها.
علينا التوقف قليلا لمراقبة التنفس، ثم الغوص في تأمل هذه الأشياء الموجودة في لوحة الطبيعة الصامتة هذه. «طبيعة صامتة»، ما هذا التعبير الغريب؟! إنه يعرف أيضا ب «الطبيعة الساكنة» وهذا أقرب إلى الحقيقة. فهذه اللوحة تظهر حياة صامتة، هادئة، مفعمة بالارتياح. وتدعونا إلى الانضمام إليها. إنها تدعونا إلى التوقف للحظة في هذا العالم المليء بالحركة، هذا العالم النفعي لأنها حياة دون حركة، فهي حياة لا نفع منها. لا نفع منها؟! هل لأنها لا تظهر إلا ما هو عادي ومألوف؟
إنها في الحقيقة تظهر لنا ما هو مألوف، ذلك الذي اعتدنا عدم النظر إليه.
لوحة «كوب ماء وركوة قهوة» (1761 تقريبا) لجان-باتيست شاردان (1699-1779)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,325 × 0,413 متر، متحف كارنيجي للفنون، بيتسبيرج.
وإذا نظرنا، فإننا سنجد البساطة بكل حالاتها. هناك حضور كثيف في هذا الجماد. فإذا نظرنا إليه، سنجد أنه ذو أهمية، رغم كونه لا يضيء، لا يتحرك، لا يهتز، ولا يصدر ضجة. سنجد جمالا وذكاء أيضا، وحتى إننا نستطيع أن نرى نعمة البساطة فيه. إنه متاح وحاضر.
أتذكر حديثا لي مع راهب زن كان يوصيني باحترام كل جماد. لكن ما هو الجماد؟ إنه كان يقول لي: «ذلك الذي لا يصرخ عندما نضربه.» إنه كل تلك الأشياء والأغراض التي لا تصرخ أبدا، لكن التي تتحدث أحيانا.
ابحث في كل هذه الأشياء البائسة والمبتذلة في الحياة الريفية، تلك الأشياء الموضوعة جانبا، أو الملقاة والتي لا ينتبه إليها النظر عادة. تلك الأشياء التي لا تثير بوجودها الانتباه، هي ذات طبيعة جامدة، لكنها قد تصبح مصدرا لسعادة غريبة، وصامتة، ولا حدود لها.
هوجو فون هوفمانستال، «رسالة اللورد شاندوس»
دروس الأشياء
أن نعيش حالة وعي كامل، هو أن نأخذ وقتا في تأمل الأشياء، أن ندعها تلامسنا. تلك الأشياء التي نصادفها كل يوم وننسى وجودها لكثرة ما مررنا بها، فلا نعد نراها. علينا أن نتركها تدخل نفوسنا، وأن تسبر دواخلنا. علينا أن نكسر الحدود التي تفصلها عنا، وكأننا نتوحد معها فندعها تخطفنا وتذهلنا، دون هدف ما.
علينا أن نجلس في إحدى زوايا المنزل تاركين أنفسنا لحضور الأشياء الصامت. يجب أن ندرك إلى أي مدى هي مصدر للهدوء، وللبطء وللاستمرارية. علينا أن نقترب منها ونتشربها، وأن نسمعها وهي تهمس لنا بألا نستسلم للحركة («افعل! افعل»)، ولا للسرعة («أسرع! أسرع») اللذين هما بلاءا العصر الحديث. يقول الشاعر بول-جان توليه: «انتبهوا إلى رقة الأشياء ...» نعم؛ لأن هذه الرقة تحملنا بعيدا. لكننا نستطيع أن نقوم بأكثر من «الانتباه» إليها فقط. إننا نستطيع «الحرص» عليها أيضا. علينا أن نحب رقة الأشياء، فطريق اللاحركة هذا سيحملنا في سفر مذهل نحو السكون.
روابط سرية
هذه الأغراض المألوفة ليست بالأغراض العادية، بل إنها رائعة. الماء، الكوب، ركوة القهوة، الطاولة، الحائط، ثمرة الثوم. إنه لأمر رائع أن نشرب، أن نأكل، أن نصنع الأشياء، أن ننتمي إلى نوع ذكي، وفضولي وكادح. حقا إنه لشيء رائع أن نفتح عيوننا على كل هذا الغنى الذي نعيش فيه والذي لا يقدر بقيمة ولا تسبر أغواره.
بالتأكيد لا بد من جهد ما؛ جهد بسيط لا بد من بذله. يجب أن يكون هناك قليل من الحضور ومن التأمل كي نتمكن من رؤية ما هو غير مرئي، وكل ما لم نعد نراه. يجب أن ندرك أننا لسنا وحيدين أبدا لأنه عبر آلاف من الروابط نعرف أن أناسا آخرين قد صنعوا هذه الركوة، هذه الطاولة، وبحثوا عن منابع المياه وبنوا القنوات كي نرتوي، وفهموا كيف يمكن صنع الزجاج من الرمل، وقاموا بزراعة وقطف ثمار الثوم. ونعرف أنه منذ عدة قرون قام رجل اسمه شاردان برسم هذه المعجزة لأجلنا، وها نحن ننظر إلى هذه اللوحة كما رآها كثيرون قبلنا وسيراها آخرون بعدنا. ونعرف أن أناسا مثلنا عاشوا تجربة شرب الماء بكل بساطة، وعرفوا رائحة وطعم الثوم وقاموا بلمس سطح الطاولة بأصابعهم.
هكذا فتح البسيط والعادي الطريق نحو إنسانيتنا؛ لأننا قبلنا به، استقبلناه، أنصتنا له، نظرنا إليه، شعرنا به، وأحببناه، دون أن نستبدله أو أن نجمله ولا أن نغير فيه. لقد قمنا بتأمله كما هو.
هكذا فتح البسيط والعادي الطريق نحو إنسانيتنا؛ لأننا قبلنا به، استقبلناه، أنصتنا له، نظرنا إليه، شعرنا به، وأحببناه، دون أن نستبدله أو أن نجمله ولا أن نغير فيه. لقد قمنا بتأمله كما هو وشعرنا بإنسانيتنا وسعدنا بها. إننا سعداء بجلوسنا هنا في زاوية المطبخ وهذه الأشياء العادية أمامنا؛ سعداء بهذا الاتصال الهادئ مع الطبيعة، مع إنسانيتنا، مع تاريخنا. كل غرض تافه يصبح صندوق كنز ثمين حين ننظر إليه كما أتاح لنا شاردان. فهذا الغرض أهداه لنا شخص، وهذا الغرض اشتريناه عندما كنا في ذلك المكان وذلك الوقت، وذاك أتم صناعته أناس يعيشون في قارة بعيدة ذات حضارة قديمة جدا، وهذا الغرض جاء من ...
إن هذه الأشياء تذكرنا بما هو إنساني فينا وحولنا؛ إنها كدين من الفرح وامتنان يتسع حتى اللانهائي. فكيف بعد كل هذا نستطيع أن نكره الآخرين أو نمتلئ بالكبرياء؟
التوجه نحو كل ما هو أساسي
نستطيع أيضا أن نقوم بما هو أبعد.
نستطيع أن نذهب إلى ما وراء كل هذه الأشياء الصامتة، وما بعد كل تلك الحكايات التي تحكيها لنا والتي تعيش في الظل داخل وعينا. إننا نستطيع أن نتأملها ببساطة دون أن نفكر بها أو أن تدفعنا إلى الحلم. إن ما نسميه «تأمل» غرض ما «هو حالة الوعي عندما نكتفي بالتعرف على ما هو موجود، دون رغبة في امتلاكه، أو استخدامه، أو الحكم عليه». إن هذا التعريف الرائع قدمه لنا أندريه كونت-سبونفيل.
إن تأمل الشيء هو أن ننظر دون أن نأمل فيه، أو أن نرغب به، ولا أن نحكم عليه. إنه تبني حالة من التواضع الممزوج بالفضول والانفتاح على العالم المحيط بنا، خاصة نحو هذا العالم الصغير الصامت وغير المرئي. يجب أن نرى الأشياء كما هي مع الابتعاد ببطء عما تحاول أن تقوله لنا. علينا الابتعاد ببطء عن قصصها؛ («أحدهم أهداه لي»، «لقد التقطه»، «اشتريته في يوم ممطر وكنت حزينا») واستخداماتها («سيساعدني على فعل هذا أو ذاك»)؛ ومن حكمنا عليها («هذا جميل»، «هذا بشع»، «هي أغراض غريبة») علينا التحرر ببطء من هذه التداعيات الذهنية؛ أي، عبورها والذهاب أبعد. يجب رؤية الأشياء عبر سر وجودها الهادئ، والاكتفاء بما هي عليه وتلقي حكمتها الصامتة دون أي كلمة.
إن الساكن يبوح بما هو غير مرئي، كما يبوح الصمت بما هو جوهري. فلنحرص إذن على تلقي العالم كما هو قبل أن ندعي تحليله. «الدرس العاشر»
علينا أن نترك أنفسنا تقع تحت تأثير تأمل الأشياء العادية؛ تفاحة، حذاء، غريسة، عشب ... تأثير لمسها، مداعبتها، مراقبتها. علينا أن نترك أنفسنا تنصت في البداية لكل ما تريد قوله لنا هذه الأشياء؛ كثير من الذكاء والجهد مكنها من الوجود، وكثير من الذكريات سمحت لها بالدخول إلى حياتنا والمكوث هنا أمامنا. ومن ثم بهدوء علينا ترك هذه الأفكار تنحسر رويدا لنبقى فقط مع جوهرها دون أن نطلب شيئا سوى وجودها الصامت. غريب هذا الهدوء وهذه الراحة الأسطورية التي تنبعث من وعاء طبخ أو من إسفنجة مهملة منسية، لكنني انتبهت إليها. يجب أن تكون هذه الزيارات المتكررة لكل ما هو تافه وعادي، نوعا من الشكر ورد الاعتبار لحظنا المذهل بأن نكون كائنات بشرية تعيش وتعي.
الفصل الحادي عشر
أن نرى ما هو مهم
إنه عنف مبهج، ودود، لا يحمل أي رغبة بالشر. طوفان فرح من الأشكال والألوان التي تأخذ مكانها في خلفية اللوحة وتفرض نفسها على المشاهد، تدخل عينيه رغما عنه ثم تكمل طريقها إلى الذهن. إنها لوحة جميلة لكنها عنيفة ومستبدة بالحواس. إنها تجبر ذهننا على الانتباه مجذوبا بقوة الصورة، حتى يكاد يرغم على الدوران مع الخطوط الحلزونية، والنجوم، والتموجات والوميض. يقول لنا الباحثون في مجال فسيولوجيا الأعصاب إنه أثناء مراقبتنا للوحة تقوم بعض المناطق الدماغية بخلق أشكال إضافية في الذهن غير موجودة في اللوحة.
إنها لوحة متطفلة وغير مهذبة؛ فهي تفرض ذاتها على وعينا دون استئذان، دون لطف. لكن كان يكفي ألا ننظر إليها بكل بساطة؛ سيقول لنا الآخرون ذلك؛ أي، ألا نكون حاضرين هنا أمام هذه اللوحة. لحسن الحظ نجد هذا الرجل الطويل الذي يبدو جديا بإطلالته وملامحه الحادة وتعبيرات وجهه الجامدة والجدية. لا يبدو أنه مهتم بهذا الضجيج البصري حوله؛ فنظرته مثبتة على زهرة بيضاء جميلة تشبه زهرة الزنبق، رمز النقاء، وكأن عينيه قد خلقتا كي تنظرا إليها فقط. وهكذا، بفضله نفهم فجأة أنها هي ما يهم في هذه اللوحة. بفضله نفهم أن هذه الزهرة الهشة، التي لا لون ولا قوة لها، هي ما يجب أن يعنينا. علينا أن نراقبها ونحميها.
لوحة «القطعة 217. على خلفية منتظمة من المينا ذات إيقاعات وزاويا ونغمات وصبغات (بورتريه فيلكس فينيون)» (1890)، لبول سينياك (1863-1935)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,735 × 0,925، متحف الفن الحديث، نيويورك.
هذا يرجع إلى أن هذه الخطوط الحلزونية المشاكسة، والمتطفلة والاستبدادية هي انعكاس لمجتمعنا الاستهلاكي الجبار والمتلألئ. وإنها لجاهزة لتنويمنا، ولاستعبادنا والتهام أذهاننا، إلا إذا استطعنا الانتباه إلى الزهرة، واستطعنا امتلاك وعينا كاملا.
أوه! كم أنا بحاجة للوحدة! لقد تسلقت الهضبة، عند الغروب؛ كي أرى خطوط الجبال في الأفق.
هنري ثورو، «مذكرات (أغسطس 1854)»
بلبلة وحيل
لا بد أننا نلوم كثيرا من الأشياء في عصرنا هذا. لكن علينا أن نعترف له بميزة مهمة، وهي أنه مثير للإعجاب، ويمتلك غنى لا يصدق. وهو مليء بالتغيرات، بالسرعة والتمازج. إنه يقدم لنا كثيرا من المتعة والإمكانات كما لم نعرف قبلا. كل ذلك بفضل أجيال سبقتنا. لكن ألا يخبئ كل هذا الغنى وكل هذه السرعة نوعا من الخطر؟! أليس من الممكن أن يخبئ كل ما هو متلألئ وبراق، كل ما هو مثير للاهتمام، والذي يشكل كل ما هو خارجي في يومياتنا؛ بؤسا في داخله؟ هذا ما يظنه الشعراء الكبار، الذين رأوا ولادة ونشوء عصرنا الحالي. يقول شتيفان تسفايك: «إن الظروف الجديدة لوجودنا تبعد البشر عن كل حالة تأمل، وترميهم خارج ذواتهم وهم في حالة من الغضب القاتل، كما في حرائق الغابة التي تطرد الحيوانات من عزلتها العميقة.» ويقول نيتشه: «أليست كل مؤسسات العصر تسعى إلى منع الناس من الشعور بحياتهم، بما تسببه من تشتيت لأفكارهم؟»
كي يستطيع وعينا أن يوجد ويتطور، علينا أن نحميه من عالم، مغذ ومنشط بالتأكيد، لكنه متطفل وسام.
تلوث الروح
هناك ما ندعوه بالتلوث الكيميائي؛ إنه ذلك الذي يلوث الطعام، والهواء والماء. وهناك أيضا التلوث النفسي ذلك الذي يصيب روحنا، ويتعدى على خصوصيتنا ويثير الاضطراب في توازننا الداخلي. العلامات الإرشادية، الإعلانات وغيرها من وسائل التلاعب التجاري بعقولنا. يوجد الآن كثير من الدراسات عن هذا التلوث النفسي الاستهلاكي، والذي من المعروف عنه الآن أنه يسبب العديد من النتائج الضارة المختلفة. إنه مثلا يخطف باستمرار انتباهنا، ووعينا، وحتى دواخلنا. فإلى أي حال ستئول روحنا بسبب هذا الاختلاس المستمر لانتباهنا؟ لقد صار انتباهنا سهل الالتقاط ويمكن جذبه وحتى تجزئته وتقطيعه. وصار في النهاية «مدمنا» لكل ما هو صاخب، ولامع وسهل؛ كل ما هو مهيأ ولا يحتاج إلى تفكير. وإلى أي حال ستئول روحنا بعد سرقة وعينا؟ إن ذهننا مليء بأفكار ومشاريع، وأشياء لا أهمية لها؛ إننا نقرأ دون توقف كل الإعلانات التي نصادفها في كل مكان، ونأخذ الخيارات دائما بين «الرخيص» و«الأرخص»، ونبذل جهدا للوصول إلى «صفقات» ترضينا لشراء هذا الغرض أو ذاك. ونملأ وعينا بالأخبار التي تدور حول ذاتها وتتكرر كل يوم. وإلى أي حال وصلت روحنا من شدة ما سرقت دواخلنا؟ إننا نغرق أكثر فأكثر في الملهيات الخارجية والمسرات الاستهلاكية، وفي الأنشطة الفارغة التي تملأ أذهاننا وأفعالنا. وكما أن الصمت ضروري كي يتم الاستماع إلى ما يقال، كذلك لا بد من مساحة ذهنية حرة كي يعبر وعينا ودواخلنا عن ذاتيهما. لكن مع الأسف فإن القرص الصلب لوعينا قد امتلأ بأشياء كثيرة غير مفيدة.
ولأن وعينا ودواخلنا هما شيء واحد، إذن، ما دمنا نسعى نحو ما هو خارجي وسطحي فإن وعينا سيضمر أكثر فأكثر. ومع هذا الاختلاس المستمر لانتباهنا ووعينا سيحدث اختلال في دواخلنا، وستغدو أفكارنا قصيرة المدى، وأكثر سطحية. يقول تيتسيانو تيرتساني: «في هذا العصر، أصبح كل شيء متطلبا لدرجة أن أذهاننا لا تستطيع أن تجد السلام؛ ضجة التلفزيون، صوت الراديو في السيارة، هاتفنا الذي يرن دون توقف، الإعلان المعلق على الحافلة التي تمر أمامنا. لم نعد نستطيع التعامل مع الأفكار على المدى الطويل، ولقد صارت أفكارنا شديدة الإيجاز من كثرة إيقافها في كل لحظة.» نعم صارت أفكارنا قصيرة المدى، كما أنها لم تعد تتجه نحو الداخل، وكأنها مسجونة خارجا في كل هذه البلبلة وهذه الانعكاسات في هذا العالم المصطنع. وببقائها خارجا تختفي مع الوقت أفكارنا الخاصة ولا تغدو سوى محتويات عقلية معلبة آتية من الخارج، ولا تغدو سوى صدى لهذا العالم الخالي من أي روح. كتب الأديب لوي رينيه دي فوريه يقول: «لا توجد أي علاقة بين الإفراط والعوز.» لكن في الحقيقة إن أرواحنا بصدد فقد خصوصيتها من كثرة ما تركت نفسها تمتلئ من الصخب الخارجي الفارغ.
وهكذا عندما نحاول أن نفكر بأنفسنا؛ أي، أن نمارس الاستبطان الداخلي، ونحن في هدوء تام وصمت تام، في حالة من الاستمرارية، لا ننجح. وربما يكون الأمر أكثر سوءا؛ فقد فقدنا هذه القدرة (أو أننا لم نمتلكها قط). عندها يظهر القلق والملل، وتعود الاجترارات الخاصة بالقلق التي تدور حول نفسها دون فائدة؛ لهذا فإننا نحاول الخروج فورا من دواخلنا باتجاه البلبلة الخارجية والانشغال المهدئ. إننا في الحقيقة مصابون بخلل عام في القدرة على التواصل مع دواخلنا لأن مجتمعنا ينقصه كل ما يدعم هذا الاستبطان الداخلي. إننا في حالة عوز.
التمهل، والهدوء، والاستمرارية في حالة من العوز
إن الأمراض الناتجة عن العوز هي أمراض كامنة. إذا كان لدينا عوز في فيتامين ج أو د أو أوميجا 3، أو السيلينيوم، فإن المرض لن يتطور فورا. لن نعاني في البداية، ولن نلزم الفراش لأنه لا يوجد تأثير مباشر لهذا النقص. ولكن وبشكل بطيء تبدأ بعض الأعراض بالظهور. إنها أعراض العوز. بهذه الطريقة تظهر كل أمراض العوز؛ بهدوء، ببطء، بشكل كامن ... ولا تظهر أبدا بشكل مفاجئ!
إن الوعي الكامل يساعدنا على الانتباه إلى هذا النوع من التلوث الذي يؤثر على روحنا، ويحمينا منه أيضا. إنه يسمح لنا بترميم قدرتنا على الاستنباط، وعلى إعادة التواصل مع ذواتنا.
هذه هي حالة مجتمعنا الحالي المليء بكل ما يفيض لكنه يخلق في دواخلنا العديد من حالات العوز، والعلاقة بينهما وثيقة. فإذا أخذنا مثلا أمراض الإفراط، سنجد أنها أمراض العصر. ونعني بها كل ما يزيد عن حاجتنا؛ الأكل الزائد الذي يسبب السمنة، الرغبة بالتملك الزائد الذي يقود إلى الحزن. إن الزيادة في شيء ما تؤدي حتما إلى النقص في شيء آخر، والإكثار سيؤدي إلى العوز. إننا نعرف مثلا أن هذا الطعام الجاهز، هذه الوجبات المحضرة بعناية والمعقمة جدا، مضرة بالصحة؛ بسبب «الإفراط»؛ الزيادة في العرض وسهولة الوصول، الزيادة في السكر، والزيادة في إثارة الشهية؛ ومن ثم الزيادة في احتمال الإصابة بأمراض السمنة والسكري، وأيضا بسبب «العوز»؛ إذ نجد أن بها نقصا في العديد من الفيتامينات، والعناصر النادرة. وهكذا تكون هذه الوجبات مؤذية للصحة بشكل مضاعف. وبنفس الطريقة يصيب العوز صحتنا النفسية لأننا بحاجة إلى الهدوء، إلى التمهل والاستمرارية. من أجلها يجب أن نعمل ونقاوم كي لا نصاب بالأمراض النفسية (الضغوط النفسية، والاضطرابات العاطفية، وتشتت الذهن).
لكن كيف نقاوم عوز التمهل هذا؟ علينا أن نخصص الوقت الكافي لأنفسنا، فلا نركض من نشاط إلى آخر، ولا نقوم بعدة أشياء في نفس الوقت، ونتصرف قدر الإمكان بكثير من اللطف والهدوء. وعلينا أن نقوم بجلسات هدفها «عدم القيام بأي شيء» أو البساطة، أو الهدوء، أو جلسات وحيدة النشاط. ويجب الانتباه إلى طريقتنا الخاصة بملء جدول أعمالنا ومراجعتها، وإلى طريقتنا المجنونة أحيانا الخاصة بملء جدول أعمالنا حتى التخمة في عطلة نهاية الأسبوع أو في العطلات الأخرى ... إلخ. وكيف نقاوم عوز الهدوء؟ نقاومه بالهرب من العنف، من التنبيهات الملحة. علينا أن نصير من جديد حساسين لكل ما هو زائد عن حده؛ موسيقى طوال الوقت، صور طوال الوقت، شاشات طوال الوقت. علينا التخلص من هذه القيود. إنها عملية تحرر! أن نغمض عيوننا عن هذه الشاشات التي تسرق انتباهنا، وتخطف وقتا نستطيع أن نكرسه لذهننا ولراحتنا. وكيف نقاوم نقص الاستمرارية؟ علينا أن نستطيع تحديد كل المنبهات الملحة التي تتدخل في استمرارية يومنا، وأن نرفع مستوى انتباهنا إلى درجة أعلى من مستوى تأثيرها. يجب أن نقاوم النظر المستمر إلى بريدنا الإلكتروني، وإلى رسائلنا على الهاتف، أو الاتصال الدائم بالآخرين والمتابعة الملحة للإنترنت.
إن الوعي الكامل يساعدنا على الانتباه إلى هذا النوع من التلوث الذي يؤثر على روحنا، ويحمينا منه أيضا. إنه يسمح لنا بترميم قدرتنا على الاستنباط، وعلى إعادة التواصل مع ذواتنا، بدلا من البقاء تحت تأثير الالتزامات، والمشتتات والأنشطة الخارجية.
إن ممارسة الوعي الكامل تقترح علينا ألا نقوم بأي فعل. يكفي البقاء هنا والآن، في قمرة المراقبة، في قمرة الاستبطان الداخلي. إنها تساعدنا على التنحي جانبا؛ فلا نبحث عن شيء، ولا نسعى لهدف معين، ونعطي لأنفسنا الوقت، ونقرر - بحرية - أن نتقدم بهدوء. نأخذ الوقت للجلوس، للمراقبة وللتجربة.
إن هذا جيد حتى لو كان ذلك لوقت قصير، للحظات قليلة؛ لأننا نستطيع أن نكون في حالة وعي كامل في أي لحظة نغمض فيها عيوننا ونقرر أن نتوقف عن الفعل. سنعيش حينها لحظة من الحرية.
الممارسة التأملية: الخيار المثالي للتفريق بين ما هو مهم وما هو عاجل
كما خلقت حياة المدينة الحديثة لدينا حاجتنا الجسدية للقيام بالتمارين الرياضية، خلقت المنبهات الزائدة حولنا الحاجة الروحية للتأمل. وكما رأينا، يستطيع الوعي الكامل مساعدتنا على الاقتراب أكثر من الحاجات الأساسية؛ التمهل، الهدوء، الاستمرارية. إنه لأمر مهم أن نستطيع تحقيق هذه الحاجات. المسألة ليست مسألة عاجلة، ولكنها مهمة.
وهكذا نستطيع أن نفرق في حياتنا بين ما هو عاجل وما هو مهم؛ العاجل هو الرد على رسائل بريدنا الإلكتروني، إنهاء عملنا، التسوق، تصليح صنبور الماء الذي ينقط. إذن أنا، إن لم أقم بما هو عاجل، سأعاقب سريعا بشكل من الأشكال عند ظهور بعض المشكلات. أما المهم، فهو السير في الطبيعة، مراقبة الغيوم وهي تمر، الحديث مع الأصدقاء، إعطاء نفسي الوقت لمراقبة تنفسي، عدم القيام بأي شيء، الشعور بالحياة تنبض في عروقي. فإذا لم أقم بما هو مهم، فلن يحدث لي شيء، فورا. ولكن ببطء ستصبح حياتي سطحية وحزينة، أو أنها ستفرغ بغرابة من كل معنى.
توجد معركة يومية في حياتنا بين ما هو عاجل وما هو مهم، فكيف نستطيع ألا نضحي بالمهم لصالح العاجل؟ كيف يمكننا ألا نخضع لدكتاتورية ما هو عاجل حين يحول كل نشاط ليبدو كأنه حالة عاجلة حتى لو لم يكن كذلك فعلا، أو على الأقل ليس للدرجة التي يبدو عليها؟
يمكننا ذلك بأن نعطي أنفسنا وقتا للتفكير، وأيضا للتأمل!
وحتى حين نمارس التأمل بالوعي الكامل، تواجهنا نفس المعضلة. يكفي أن أجلس، أن أغلق عيني لتبدأ الأفكار بمهاجمتي لتحدثني عن كل ما يجب فعله: «تذكر أن ترسل هذه الرسالة الإلكترونية، ولا تنس أن تهاتف ذلك الشخص. انتبه! يجب أن تسجل هذه الفكرة قبل أن تنساها بدلا من البقاء هنا وأنت تحاول ممارسة التأمل. انهض وابدأ بالقيام بكل هذه الأشياء التي تنتظر وإلا ستنساها. والأكثر من ذلك: إن تمرين هذا اليوم غير مجد، وذهنك ليس مهيأ اليوم. هيا! دع ذلك، وانهض، ستجد لحظة أخرى. يمكن للتأمل الانتظار لكن عملك لا يستطيع الانتظار ...»
سيحاول العاجل أن يأخذ مني هذه المساحة الصغيرة التي أمنحها لنفسي لأقوم بما هو مهم. وإذا لم أستطع أن أقول «لا» لكل هذا، إذا لم أستطع القيام بهذا الجهد، فسأضيع. سأعيش ما يمكن أن نسميه اللاحياة، كرجل آلي يتحرك ويفعل لكنه فارغ من الداخل. أهذا ما أريد الوصول إليه؟!
يعلمني الوعي الكامل أن أحمي كل ما هو مهم، أن أقول لنفسي بلطف: «لا، لا. لن أنهض، لن أفتح عيني، لن أوقف الجلسة، سأبقى هنا مغلق العينين، وأنا أتأمل بوعي تنفسي، وتنفس العالم من حولي. إنه أمر مهم، شديد الأهمية، مهم بشكل غير محدود. لا شيء آخر أكثر أهمية من هذه اللحظة التي أبقى فيها جالسا هنا.» علينا تعلم قول «لا» بلطف خلال جلسات التأمل، واكتشاف تجربة ال «لا» هذه وفوائدها؛ لأنها ستوسع منافع هذه الجلسات لتشمل كل مجالات حياتنا. أن نتمكن من قول «لا» سيساعدنا على التخفيف من كل ما هو عاجل، على زيادة الوضوح في أذهاننا أمام تلك الإنذارات المزيفة مثل: «قم بذلك ... هيا بسرعة ... فورا.»
وكل نصر صغير في هذا الصراع سيجعلنا أكثر وعيا وأكثر سعادة. إن فهم هذه المسألة يدعونا للابتسام، ويساعدنا على أن نعطي مساحة أكثر فأكثر إلى كل ما هو مهم. تذكروا ما قاله ثورو الذي غادر كي يعيش سنة في غابات وولدن: «عندما يستطيع المرء أن يحصل على الجوهري، سيجد بديلا عن البحث المستمر عن كل ما هو فائض، وهو أن يغامر في حياة اللحظة الحاضرة.» «الدرس الحادي عشر»
علينا أن نحمي ذهننا بلا كلل من تعديات ومتطلبات الحياة الحديثة. يعني ذلك، من بين ما يجب فعله، أن نطرد باستمرار كل تلك العادات التلقائية بتشغيل الراديو، أو التلفزيون، أو الكومبيوتر. وعلينا الحفاظ بإصرار على فترات زمنية من الاستمرارية (بأن نمنع قطعها بالرسائل الإلكترونية أو الاتصالات الهاتفية). ويجب أن نعتبر أن الهدوء والصمت هما غذاءا روحنا، نحن هذه الكائنات المدنية النشطة، وأن حرماننا منها لفترة طويلة سيؤدي بنا إلى المرض.
الفصل الثاني عشر
أن نكون حاضرين أثناء الفعل
ستكون جميلة هذه الأرضية الخشبية! أما الجدران فقد أصبحت جاهزة؛ إنها رائعة، بيضاء بزخارف ذهبية اللون تمتد بفرح حتى أرابيسك الشرفة. يتقدم العمال الثلاثة بنشاط وهدوء في عملهم، يدفعهم هم التفاصيل الصغيرة والإتقان؛ راقبوا حركة العامل في الجهة اليسرى؛ إنه يتعامل مع مقصه الخشبي بكثير من الإتقان والدقة. في نفس الوقت يتبادل زميلاه الحديث وهما يمرران المسحج على الأرضية. هل هما يتكلمان عن هذه الأرضية الخشبية التي قاما بصناعتها من الخشب الخام؟ أم أنهما يتساءلان عن أجرهما، أم عن التنزه بالقارب الذي سيقومان به يوم الأحد في نهر المارن في منطقة نوجان قرب باريس؟ أم عن الحب، أم الانتخابات، أم الحياة التي تجري؟
لقد رسم كايبوت في هذه اللوحة أشكال الفعل المختلفة؛ العفوي، والمتعمد؛ الفردي والجماعي. إنه يقترح علينا أيضا توقف الفعل بعد قليل؛ إنها فترة الاستراحة المستحقة لعمال الأرضية هؤلاء؛ كي يتذوقوا رشفة كأس نبيذ ممزوجة برائحة نشارة الخشب وعرق التعب.
لوحة «كاشطو الأرضية» (1875) لجوستاف كايبوت (1848-1894)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 1,02 × 1,47 متر، متحف أورسيه، باريس.
عندما أرقص، فأنا أرقص. وعندما أنام، فأنا أنام. لكن عندما أتنزه وحيدا في بستان جميل، تغيب أفكاري مرارا في أحداث غريبة، لكنني أستطيع في لحظات أخرى أن أعيدها ثانية إلى نزهتي، إلى البستان، إلى جمال لحظة الوحدة هذه، وأيضا أعيدها إلي.
مونتين، «مقالات»
ضرورة الفعل للتأمل
أن نكون وحيدين ومنفصلين عن العالم؛ نعم، هذا ما تبدو عليه تمارين التأمل بالفعل. لكن ذلك سيكون لوقت محدد، وكأننا نأخذ نفسا بين نشاط وآخر لأننا نعود دائما لمباشرة نشاط ما. في الحقيقة إن التأمل يحب الفعل بشكل من الأشكال؛ فلولا الفعل لن يكون للتأمل معنى. إننا نتأمل قبل أن نقوم بنشاط، وبعد القيام به. وحتى «أثناء» الفعل نستطيع أن نتأمل، وهكذا نستطيع أن ننهيه، أو لا، ونحن بحالة تأمل بوعي كامل.
يجب علينا أن ننتبه لهذه الفكرة: «التأمل دون أي فعل»، وننظر إليها مثل الخضراوات والحبوب التي دون تربة والتي تنمو في بيوت بلاستيكية في خليط من المواد المغذية الذي لا يشبه بأي من الأشكال التربة الحقيقية. يجب علينا أن نشك دوما بهذه الأفكار النظرية لهؤلاء الذين لا يحتكون بواقع الفعل اليومي. كتب جوته يقول: «يجب أن نضع الفعل تحت اختبار التفكير، والتفكير في تجربة الفعل.» لكن يجب ألا يكون الفعل عبدا للأفكار، بأن يكون محصورا بهدفه فقط («لقد انتهيت تقريبا! هذا يأخذ كثيرا من الوقت ...») أو أن يحدده الحكم عليه («هذا جيد»، «هذا متعب ...»).
علينا أن نحرر الفعل، بأن نسمح له بأن يكون من وقت لآخر ما هو عليه فقط.
أن نحرر الفعل باتباع أسلوب «لا شيء إلا ...»
لنحرر أفعالنا، ونكثفها في نفس الوقت؛ لكي تكون «لا شيء إلا» ما هي عليه. علينا أن نأكل فقط (دون أن نقرأ، أو أن نستمع إلى الراديو في نفس الوقت)، وأن نسير فقط (دون أن نتحدث بالهاتف، أو أن نقوم بالتفكير واستباق ما سنقوم به لاحقا)، وأن نستمع إلى الآخرين فقط (دون أن نحضر أجوبتنا، أو أن نطلق أحكاما على ما يقال لنا). ورغم البساطة الظاهرية لهذا، فإنه صعب المنال بشكل لا يوصف. فقد اعتدنا على القيام بعدة أشياء في نفس الوقت. إننا في الحياة اليومية اعتدنا أن نأكل ونحن نقرأ، أن نسير ونحن نهاتف الآخرين. وفي ذهننا يحدث الأمر ذاته؛ فنقوم بشيء ونحن نفكر بشيء آخر (نأخذ حمامنا في الصباح ونحن نفكر بيوم عملنا الذي ينتظر). ومن ثم، نقوم بعمل كل شيء في حالة من الغياب الكامل، بدلا من الوعي الكامل.
يوصي الوعي الكامل بالتبني السليم والبسيط لأفعالنا، ليس بشكل دائم ولكن بشكل منتظم. إنه يدعونا مثلا إلى تناول وجبة في الأسبوع في حالة وعي كامل (بصمت، دون أن نقرأ، وبلا راديو أو أحاديث)، أو الممارسة المتكررة للمشي في وعي كامل؛ بهدوء، ببطء، ونحن نشعر بجسدنا وهو يسير، ونتلقى كل ما يحيط بنا، في بحر من الأحاسيس التي تعتمر في دواخلنا. علينا أن نسير من أجل السير، دون غضب، دون استعجال. علينا أن نقوم بغسل أواني الطبخ ورمي الأوساخ في حاوية القمامة، ونحن في حالة وعي كامل ... إلخ.
فوائد أن نكون حاضرين أثناء الفعل
لماذا نقوم بكل هذه الجهود؟ لماذا لا نقبل في النهاية أن نعيش حياتين في نفس الوقت، بأن ننجز شيئين في كل لحظة؟ لأننا في الحقيقة، حين نسعى للعيش مرتين، نخاطر بأن نعيش مرتين أقل لأنهما ستخلقان ضغطا مضاعفا، وحزنا مضاعفا، وغضبا مضاعفا، وفراغا مضاعفا.
من المهم النجاة من «جنون إنهاء العمل». وحين نقوم بنشاط ما يجب ألا يكون تركيزنا على «الفعل» فقط، ولكن أن نكون بحالة «حضور» أثناء العمل. إن الحضور أثناء الفعل يزيد إحساسنا بكوننا بشرا، بأننا موجودون في هذا العالم، ويبعد عنا هذه الأفعال التلقائية التي ننسى سريعا أننا قمنا بإنجازها. إنه يساعدنا أيضا على الاقتراب أكثر من جوهر ما نقوم به. أن نكون حاضرين مثلا أثناء تناول وجبتنا يساعدنا على تذوقها بشكل أفضل. والحضور أثناء الاستماع يساعدنا على الإصغاء فعلا إلى ما يقوله هذا الشخص الذي يحدثنا، فلا نقوم بنفس الوقت بالحكم على ما يقوله أو التظاهر بالاستماع ونحن في الحقيقة في صدد تحضير ردودنا.
يساعدنا الحضور أثناء الفعل، في النهاية، على إدراك إلى أي مدى تكون بعض أفعالنا بلا جدوى؛ فمثلا يساعدنا الحضور ونحن على المائدة على إدراك اللحظة التي لا نعود فيها بحاجة إلى الطعام والشراب. إنه يساعدنا أيضا على إدراك اللحظة التي يصير فيها الحديث بلا جدوى؛ أي، في أي لحظة يفضل أن نصمت وفي أي لحظة يمكن أن نتكلم.
عدم إطاعة الإلحاحات
لقد تكلمنا في الفصل السابق عن الإلحاحات التي تدعونا لإيقاف جلسة التأمل كي نقوم بما هو «عاجل». قد يحدث الشيء نفسه أثناء قيامنا بنشاط ما (خاصة عندما يكون هذا النشاط مجهدا، أو مملا، أو مصدرا للضغط). قد تأتينا مثلا بشكل مفاجئ الرغبة بأن نتفقد بريدنا الإلكتروني أو هاتفنا، لعلنا تلقينا رسالة، أو الرغبة بالاتصال بأحد ما، أو أخذ فنجان قهوة، أو ربما الرغبة بالحديث مع أحد الزملاء في العمل، أو تناول قطعة حلوى ... إلخ.
يساعدنا التأمل بالوعي الكامل على الانتباه لظهور هذه الأشياء قبل أن نقوم بإطاعتها، ويطلب منا ألا «نتماهى » معها، وأن نفهمها: «أوه، يبدو أن لدي رغبة بإيقاف ما أقوم به الآن؛ لأنه عمل مجهد.» وأن نقرر بشكل حيادي إذا كنا سنستجيب لها أو لا: «هل من الضروري أن أستجيب لهذه الرغبة الملحة؟» في معظم الأوقات لا يكون الأمر جديرا بالاهتمام أو ضروريا. إلحاح ما فقط، لحظي كالعادة (افعل، افعل، افعل ...) أو أنه رغبة في الهروب مما نقوم به عندما يكون العمل صعبا، أو حين تثيرنا أو تلفت انتباهنا فكرة ما، أو عندما يصيبنا الملل، وحتى في الحالات العادية، حين نكون تحت تأثير منبهات خارجية قوية. وهكذا فإننا سنستجيب بسهولة لهذا الإلحاح أو ذاك عندما يأتي فجأة، ونقوم بالفعل كي نرتاح.
من الأفضل أن ندرك الإلحاحات البسيطة في البداية، وسيساعدنا ذلك فيما بعد على إدراك تلك الأكثر تعقيدا؛ مثلا، الرد بعنف عندما ينقدنا الآخرون، الاجترار الذهني عندما نكون حزانى، القلق في أوقات التردد. إن مرونة الوعي الكامل تساعدنا بكل بساطة على تطوير سلوكنا بشكل أفضل أمام تعقيدات الحياة.
أن نتعلم عدم إطاعة الإلحاحات لهو فعل بسيط في الإيضاح، وفي الحرية الذاتية.
التوقف عن الفعل
ماذا لو قمنا بشكل متكرر بترك أرواحنا تتنفس بين فعل وآخر؟ مثلا، نتوقف قليلا بعد اتصال هاتفي، ولا نجري اتصالا آخر بعده فورا، بل نتوقف، ونغمض أعيننا للحظة؛ كي نشعر بتنفسنا ونفكر قليلا بما قيل في المكالمة. وبعد مغادرة الأصدقاء، لا نقوم فورا بترتيب كل المنزل قبل أن نخلد للنوم؛ بل نتوقف قليلا، ونغمض أعيننا، ونشعر بتنفسنا ونفكر بهذه اللحظة المليئة بالأحاديث والمشاعر. وبعد مشادة مع أحد المعارف القريبين، لا نقوم بإخفاء حالتنا النفسية وحزننا خلف نشاط ما، وإنما نتوقف، ونغمض أعيننا للحظة، ونشعر بتنفسنا ونفكر بما حدث لهذه العلاقة العزيزة على قلوبنا.
وماذا لو نتعلم، بعد القيام بأفعالنا بحالة وعي كامل، الحضور الكامل في لحظة عدم القيام بشيء بعدها مباشرة؟ هذا يعني أن نتعلم التوقف عن نشاط ما لسبب آخر غير التعب؛ أن نمارس اللافعل.
إن اللاحركة في تمارين التأمل تعلمنا كثيرا عن مفهوم اللافعل هذا. فعندما نكون في حالة حضور، جالسين دون حركة، في حالة من اليقظة والتقبل، نفهم أحيانا أن حالة اللاحركة هذه ليست فعلا إضافيا، كما أنها ليست فعلا نقوم به «مجبرين»، وكأنه مفروض على جسدنا وإنما هي فعل «قصدي». وهكذا نتركها تملأ جسدنا، ليس عن طريق التحكم به وإنما عبر الابتعاد والمراقبة؛ مراقبة هذه الفكرة التي تدعوك كي تتحرك، كي تحك أنفك، كي تقف وتذهب. راقبها جيدا، وقرر فعلا بأن تستجيب لها أو لا.
في كل الأحوال، لا تتبعها فورا، مهما يكن، انتظر قليلا. وابق دون حركة. «اللاحركة، هي ليست نشاطا آخر، أفرضه على جسدي، ولكنها غياب للفعل يملأ كياني.» هذا ما يقوله لنا أحد الحكماء في هذا المجال. هذا هو الأمر! إنه هذا السكون الذي يتنفس من خلاله وعينا. إنه مصنوع من العدول وليس من الإكراه.
اللافعل والحرية
لكن العدول عن الفعل، وعدم القيام بأي شيء هي مسألة صعبة التحقيق! يبدو الأمر بسيطا في البداية، لكنه ليس كذلك أبدا. إن حولنا كثيرا من الأشياء التي تنادينا، وكثيرا من الأشخاص الذين يحاولون التواصل معنا! إنهم كثيرون لدرجة أننا يمكننا أن نقضي كل حياتنا ونحن نستجيب لهم. وهكذا نموت دون أن نكون قد عشنا، ونكون قد قضينا حياتنا ونحن نقوم بما يجب فعله. لهذا بالضبط نحن بحاجة إلى اللافعل.
اللافعل هو تنفس النشاط. هو كالصمت بعد الضجة. إنه أن نحاول في عدة أوقات من يومنا عدم المرور بسرعة إلى شيء آخر، إلى نشاط آخر. إنه أن نقرر أخذ ما يكفي من الوقت، ليس كي نفكر، بل كي نشعر، وأن نترك أنفسنا تمتلئ بالإنجاز الذي قمنا به، وأيضا تمتلئ بحضور اللحظة.
إنه يسمح لنا بزيادة مساحة حريتنا. فمع الوقت والممارسة أستطيع أن أشعر بالفرق بين التصرف بردة فعل (أي، أن أستجيب بعمى إلى إلحاحاتي) وبين الاستجابة (بحالة وعي). وسأتعلم كيف أختار الاستجابة لمتطلبات يومي، بوعي كامل، بدلا من القيام بردود فعل دون وعي مني. لهذا السبب تمتلك الممارسات المتكررة للتأمل القدرة على إحداث تغيير جذري في علاقتنا مع العالم، ولهذا السبب أيضا، فإنها توضح ما يسميه بعضهم ب «المواطنة الداخلية». «الدرس الثاني عشر»
علينا الاعتياد على الحضور أثناء كل ما نفعله؛ قبل العمل، أو تناول الطعام، أو الاتصال بأحد المعارف، علينا أن نأخذ عدة لحظات ونقوم بالتنفس بحالة وعي كامل. علينا أن نكون بحالة تواصل هادئ مع ما سنقوم به. إنها ليست رغبة بالقيام بحديث فائق الأهمية أو الوصول إلى حالة عاطفية معقدة، وإنما ببساطة أن نكون في حالة حضور ذهني. ومن المهم أيضا أن نقوم كل يوم وكل أسبوع بتمارين «لا شيء إلا ...» لا شيء إلا تناول الطعام (تناول وجبة ونحن بحالة وعي كامل)، لا شيء إلا المشي (السير دون التفكير بوجهة الطريق)، لا شيء إلا تنظيف الأسنان (دون التفكير باليوم الذي ينتظرنا، أو باليوم الذي قضيناه).
الفصل الثالث عشر
أن نشحذ انتباهنا
نظرة هادئة ومنتبهة. ووجه مفعم بالذكاء الهادئ. إنه لا يبدي تعابير لطف أو عدوانية. لا شيء غير هم الإدراك والفهم الأكثر دقة. إنه توماس مور الذي يبدو حيا بشكل لا يعقل في هذه اللوحة النابضة، رغم أنها رسمت منذ خمسة قرون. إنها لعبة الأبدية! تظهر هذه اللوحة التي أنجزها هانس هولباين صديق توماس مور حدة انتباه مور وقدرته على الغياب والحضور في نفس الوقت. لقد كان رجلا فعالا في حركية العالم؛ شخصا رفيعا وذا شأن. شاهدوا لباسه الفاخر، وهذه السلسلة الذهبية التي تشير إلى الخدمات التي قام بها للملك. كما نجد في يده ورقة صغيرة كدليل ربما على نشاطه الذهني الكثيف. لقد كان أيضا رجلا مليئا بالإنسانية، والشجاعة والشرف، وكان مصلحا وصاحب رؤية في كتابه الشهير «اليوتوبيا»، وصديقا للفيلسوف الكبير إيرازموس. لقد كان أيضا أبا حريصا وعطوفا ولم يكن ذلك شائعا في زمنه. لنقرأ ما كتب يوما إلى ابنته مارجريت: «أؤكد لك أنني، بدلا من أن أتركك تكبرين في الجهل والكسل، أفضل أن أستغني عن كل شيء، وأن أقول وداعا لمتاع الدنيا؛ كي أستطيع الاهتمام بأطفالي، الذين لا يوجد بينهم من هو أغلى منك، يا ابنتي المحبوبة.» هذه الابنة التي ستبقي معها حتى موتها رأس والدها المقطوع.
لوحة «توماس مور» (1527 تقريبا) لهانس هولباين الابن (1497 / 1498-1543)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,749 × 0,603 متر، مجموعة فريك، نيويورك.
فبعد أن كان رجل دولة مهما، حكم عليه بالموت من قبل ملك إنجلترا هنري الثامن؛ لأنه عارض ذلك الوحش الاستبدادي الذي كان لا يأكل إلا اللحم، وكان يغير زوجاته كما يغير المرء قميصه. راقبوا جيدا وجهه؛ انظروا إلى عينه اليسرى المليئة بالعطف والرقة، أما عينه اليمنى فهي حادة الانتباه. فهل نستطيع أن نكون مثل توماس مور، قادرين كل يوم على تحقيق الحالتين؟
إن كنت شاعرا، فستستطيع حتما أن تلاحظ الغيمة التي تسبح فوق هذه الورقة. دون غيمة لن يكون هناك مطر؛ ودون مطر لن تنمو الأشجار؛ ودون أشجار لن نستطيع صناعة الورق. لذا، فإن الغيم أساسي بالنسبة لها؛ إن لم يوجد، فلن يكون هناك ورق.
تيك نيات هان
الذكاء التأملي
يقول باسكال: «هناك نوعان من المبالغة؛ إقصاء المنطق، وعدم القبول إلا به.» يتلاقى التأمل والمنطق؛ فالتأمل يسمح للمنطق بتوسيع مجالاته. إن التأمل بالوعي الكامل لا يضعف قدرات الذهن؛ فهو ليس حالة من التأمل السلبي. إنه على العكس غذاء لذكائنا.
أن نمرن ذكاءنا يعني أن نخلق روابط تتلاقى فيها أفكارنا مع إدراكنا لما يحيط بنا كي نخرج بنتائج وقرارات. ولكنه يعني أيضا أن ندرك وجود هذه الروابط، أو أن ندرك إمكانية وجودها. أن نكون أذكياء، يكون أولا بمراقبة ما هو موجود أصلا، قبل أن نبدأ بفرض أفكارنا على ما هو حقيقي. الذكاء هو أن نبدأ بالتواصل مع العالم الموجود حولنا، قبل أن نقوم بربط عناصره بعضها ببعض والخروج بقوانين وأحكام.
إن هذا الشكل من التواصل مع العالم هو أساس التأمل بالوعي الكامل، والذي تكون فيه الممارسة التأملية شكلا من أشكال المختبر الذي نراقب فيه حركية ذهننا (نستطيع التكلم هنا عما يسمى «علم دراسة الذات») وفي نفس الوقت تساعدنا هذه التمارين على تحسين قدراتنا الذهنية؛ كقدرتنا على التفكير، على التركيز، مقاومة المشتتات، الإبداع، المرونة العقلية.
أن نكون أذكياء، يكون أولا بمراقبة ما هو موجود أصلا، قبل أن نبدأ بفرض أفكارنا على ما هو حقيقي.
على سبيل المثال، يسهل التأمل بالوعي الكامل ما نسميه في علم النفس بعملية «المطابقة». لقد قام عالم النفس السويسري جان بياجيه بتعريف وإيضاح مفهومي «المواءمة» و«التمثيل العقلي» التي تصف قدرة الذهن على دمج الفروق بين ماهية العالم وبين فكرتنا عن هذا العالم. وهكذا، إذا غالطت حقيقة ما قناعتي، أستطيع عندها أن أقوم بتمثيلها عقليا؛ أي أنني أقوم بتغيير طبيعة هذه الحقيقة كي يتمكن ذهني من دمجها. أو يمكنني مواءمتها؛ أي، أن أقوم بتغيير فكرتي السابقة كي تدخل مجال الحقيقة.
إليكم المثال الآتي؛ أظن أن شخصا ما من محيط معارفي هو شخص أناني (اعتقاد)، وفي يوم من الأيام يسلك هذا الشخص تجاهي سلوكا يدل على الغيرية (حقيقة). أستطيع حينها أن أقوم بعملية «تمثيل عقلي»؛ فلا أغير فكرتي عنه، قائلا إنه يقوم بذلك لأنه ينتظر شيئا مني؛ أي، أنه يفتعل تصرفه هذا. لكنني أستطيع أيضا أن أقوم بعملية «مواءمة»، قائلا إن هذا الشخص يمتلك أيضا القدرة على التصرف بغيرية وكرم، مغيرا بشكل جذري فكرتي عنه. لكنني أستطيع أيضا أن أضع رأيي جانبا تاركا الحكم للزمن («سأنتظر قليلا وأرى كيف يتصرف كي أفهمه أكثر»).
يبقى التمثيل العقلي أكثر بساطة وسهولة؛ لأن هذه العملية لا تتطلب القيام بجهد نفسي ولا تطرح أسئلة عن صحة أفكارنا (نقد الذات). إنه لا يقدم لنا شيئا غير إضافة الزيت على صدأ بعض أفكارنا الجاهزة التلقائية. لكنه يلجم في نفس الوقت قدرتنا على التحرر من ثوابتنا، وتطوير رأينا وحكمنا على الأشياء. إن تطوير قدرات المواءمة لهو من فوائد الممارسة المستمرة للتأمل بالوعي الكامل. صحيح أنها نتيجة طبيعية لحالة ذهنية من القبول وعدم الحكم، ولكنها تتجلى أكثر عبر التمرين المستمر والممارسة اليومية للتأمل بالوعي الكامل؛ لأن هذه الممارسة تمثل الفرق بين الفهم العام لهذه الحالة وتطبيقها يوما بعد يوم.
كتب فرويد يوما يقول: «إننا لا نصلح عراكا حين نساعد أحد الطرفين على الفوز.» هكذا هو التأمل بالوعي الكامل؛ إنه يعلمنا ألا يكون النصر هدف تفكيرنا أو وسيلتنا لرؤية العالم، وإنما أن نتلقى ونقبل أفكارنا كلها كما هي بثرائها وتعقيدها.
الوصول إلى حالة استرخاء لقراءة أفضل للعالم
يعتبر الاسترخاء من الفوائد الأخرى للتأمل بالوعي الكامل، والذي بدوره يعتبر مهما لذكائنا؛ فذكاء الانفعاليين والعصبيين يتعرض غالبا لحالة من الإقصاء المثيرة للدهشة. من المؤكد أن عواطفهم القوية تعطيهم كثيرا من الطاقة، لكنها تبدل وضوحهم الذهني، وتعرض بعد النظر لديهم إلى حالات متكررة من الاختفاء الشديد. إن تداعيات واضطرابات عقلنا تنقص قدرتنا على اتخاذ الخيارات، وتجعلنا تحت رحمة تبدلات عواطفنا، التي تكون بدورها تحت سيطرة الظروف المحيطة.
من المهم في هذا السياق إضافة أنه يوجد طريقان للتأمل البوذي، والذي جاء منه التأمل بالوعي الكامل. إنهما طريق الاسترخاء والمسمى «ساماتها»، وطريق «النظرة العميقة» والمسمى «فيباسانا». والطريق الأول ضروري لخوض الثاني؛ فلا يستطيع ذهن مضطرب ومتشتت أن يلقي نظرة جلية على العالم. يمكنه أن يشكل نظرة ما عن العالم، لكنه لن يعيشه حقيقة. إنه ذكاء محدود، ضيق، فما فائدته؟
سيساعدنا التأمل بالوعي الكامل على ألا نبقى أمام «صورة انعكاس» العالم؛ لأن النظرة العميقة تساعدنا على سبر حقيقة الأشياء، فلا نبقى مأخوذين بالمظهر. لقد كتبت الفيلسوفة سيمون فاي: «لا يتوجب على الذكاء أن يثبت الأشياء؛ عليه فقط توضيحها.» وهكذا علينا في معظم الوقت أن نوضح في أذهاننا كل العوائق التي تحول دون الوصول إلى نظرة دقيقة وصحيحة للعالم، والذي سيبدو لنا من خلالها كأنه حقيقة محضة. إن الطريق إلى النظرة العميقة بالنسبة للفلاسفة البوذيين لا يعتبر مسألة نظرية أو فلسفية؛ فالطريقة التي نرى بها الحقيقة ونفهمها تتعلق بشكل مباشر براحة وهدوء ذهننا، وفي نفس الوقت تتعلق راحة البال بطريقة رؤيتنا للعالم. فإذا كانت نظرتنا إلى هذا العالم غير متوافقة مع حقيقته أو غير ملائمة، يكون سبب ذلك ماهية العالم بدرجة ما، ولكن أيضا وبدرجة ما بسبب معاناتنا. وهكذا سنجد، في بحثنا عن الوضوح الذهني، عدة مفاهيم أساسية، من أهمها نذكر الاعتماد المتبادل، والفراغ، وعدم الديمومة.
مفاهيم الاعتماد المتبادل، والفراغ، وعدم الديمومة
يقول مفهوم الاعتماد المتبادل بين الأشياء أن لا شيء في هذا الكون يمكن أن يوجد بوصفه وحدة ثابتة ومعزولة. فلا يمكنني أن أكون شخصا منعزلا ومستقلا تماما عن المحيط حولي؛ لأنني مدين بحياتي وبقائي لعدد لا متناه من الأشخاص، وأيضا لكثير من الظواهر الطبيعية الأخرى. وهذه الأفعال والقرارات التي أسميها «أفعالي وقراراتي» والتي تبدو صادرة عن رغبتي وإرادتي فقط، هي في الحقيقة محدودة ومتعلقة بعوامل أخرى خارجة عني. لكن روابط الاستقلال هذه، هي في الحقيقة روابط اعتماد متبادل؛ لأنني أكون في نفس الوقت النتيجة ونقطة البداية لكثير من الدوافع والمبادرات الأخرى، والتي بدورها تمارس تأثيرها حولي. وما دمت لم أفهم وأقبل ضمنيا كل روابط الاعتماد المتبادل هذه؛ ما دمت لم أقبلها فعلا بكل مودة، فسأكون شخصا أعمى، وسأقع بشكل متكرر في فخ الأنا والكبرياء ومن ثم في المعاناة. وبالعكس، بقبولي لها، لن يدفعني ذلك إلى حدود الإذعان للقدرية، ولكن إلى المزيد من التواضع في أفعالي وقناعاتي.
مفهوم الفراغ هو ثاني أهم المفاهيم البوذية، وقد يكون من أكثر المفاهيم التي لم يتم فهمها بشكل صحيح. إن «الفراغ من كل شيء» لا يعني أن لا شيء موجود حقيقة، وإنما أن كل ما نراه لا يمتلك وجودا صلبا ومتماسكا. لنأخذ قوس قزح مثالا؛ فوجوده يعتمد بشكل ما على موقعي، وانحناء أشعة الشمس، وأيضا الغيوم المارة. وعندما تجتمع هذه العوامل، يظهر قوس قزح لي ولكنه لن يظهر لأشخاص آخرين لأنهم في أماكن أخرى. ينطبق الأمر أيضا على مجموعة الأحاسيس القوية التي أحملها تجاه شخص ما لأنه قال أشياء سيئة عني. إنني أشعر بهذا الشخص بشكل حقيقي وهو يجتاح روحي وجسدي، ولكن في حال أنني عرفت أن كل تلك الأقوال التي نقلت لي، لم يكن فيها شيء من الصحة، وأن هذا الشخص في الحقيقة قد قال أشياء جيدة عني، ما الذي سيحدث عندها لتلك الأحاسيس، ولصلابتها التي كنت أشعر بها منذ لحظة؟ إنها ستختفي في لمح البصر. لهذا فإن مفهوم الفراغ فيما يتعلق بشيء ما، لا يعني غيابه بالضرورة، أو عدم وجوده، وإنما أن طبيعته غير صلبة، ومتحركة، ومعقدة، وقابلة للتأويل. وأخيرا، نستطيع أن نقول إن مفهوم الفراغ هو وعينا بتعقيد الأشياء وارتباطها ومن ثم علينا أن نبقى حذرين قبل استلابنا من «انعكاسات الواقع» أو تعلقنا بها. صحيح أن مفهوم الفراغ قد يكون في البداية باعثا للشعور بعدم الأمان، وربما للحزن أيضا وخاصة حين نجربه في تمارين التأمل، لكنه فيما بعد سيكون مصدرا للوضوح الذهني وربما للسرور، تماما مثل مفهوم الاعتماد المتبادل.
لا يمكنني أن أكون شخصا منعزلا ومستقلا تماما عن المحيط حولي؛ لأنني مدين بحياتي وبقائي لعدد لا متناه من الأشخاص.
ثم هناك مفهوم عدم الديمومة، الذي يعلمنا أن لا شيء يبقى دائما، وأن كل حدث هو نتيجة تراكب وتحلل مجموعة عوامل؛ تنظيم وفوضى، وأن كل ذلك آني وسيئول إلى الزوال. وهنا أيضا لا يعتبر هذا الكلام نوعا من الندب، وإنما هو دعوة إلى مزيد من الوضوح والتحرر.
يقول بول فاليري: «ينتقل العقل من تفاهة إلى أخرى كما يطير العصفور من غصن إلى آخر. الأساسي هو ألا نطمئن إلى ثبات أي منها ...» نعم فعقولنا تحتاج إلى قناعات آنية، كحالة العصفور على الأغصان. لكن دعونا نمررها عبر مفاهيم الاعتماد المتبادل، والفراغ، وعدم الديمومة. سنجد سريعا أننا أقل معاناة، وسنسبب معاناة أقل أيضا. هذا لأن هناك مفهوما بوذيا أساسيا آخر لا تعني تلك المفاهيم الثلاثة شيئا دونه؛ إنه العطف أو الغيرية، وهو ما سنتكلم عنه لاحقا.
لقاء مع الواقع
يقول المعلم البوذي تيك نيات هان: «التأمل ليس نوعا من الهروب من الواقع، وإنما هو لقاء هادئ معه.» وهذا اللقاء الهادئ مع الواقع لا يلقن، وإنما نستطيع تطويره مع كل تمرين حين نهدأ ونحن نتنفس، أو عندما نراقب بصبر تجربتنا مع اللحظة الحاضرة، ملفعين بالعطف والإصرار حتى عندما تكون هذه اللحظة مؤلمة، أو معقدة أو مضطربة. وهكذا نستمر بتنفسنا ونحن نراقب دواخلنا، ونقبل فكرة أننا لا نفهم كل شيء، ولا نتحكم بكل شيء، لكننا نستمر بعيش التجربة، والشعور بها، ومراقبتها. وهكذا نتعلم كيف نرى بشكل أوضح هذا العالم الذي هو أيضا مؤلم، ومعقد، ومضطرب، وكيف نفكر بشكل أفضل، وأدق، وأوضح. «الدرس الثالث عشر»
حرروا ذكاءكم من قيوده؛ لأنه قد يتصلب، وقد يكرر ذاته، ويدور في حلقة مفرغة. كل ذلك بسبب كسلنا، وأيضا بسبب تلك القوة غير المرئية للأفكار التلقائية و«الجاهزة». لا يمكننا شرح أو وصف كيفية الوصول إلى ذلك، ولكن يتم العمل عليه وتعلمه. كيف يمكننا شحذ انتباهنا؟ يتم ذلك بالحفاظ على هدوئه وانفتاحه على العالم، هذا أكيد، ولكن أيضا بالشك والتساؤل المستمر عن كيفية إدراكنا لهذا العالم. وهكذا، في كل مرة نستطيع أن نقول لأنفسنا: «هذا ما أفكر فيه أنا فقط.» «يبدو لي أن معي حقا.» «هذا رأيي فقط.» وحين لا تلامس هذه الأسئلة السطح فقط وإنما نقولها بشيء من الحذر وكثير من التواضع، نكون حينها على صلة حقيقية مع ذكائنا، ولا نكون في حالة من العمى.
الفصل الرابع عشر
أن نفهم ونقبل ما هو موجود
كأننا غير موجودين أمامها.
إنها لا تنظر إلينا، لكن حركة يدها الخفيفة يوقفنا ويذهلنا. إننا نقف أمامها دون حركة، ودون أن نزعجها بشيء.
يوجد آلاف من الإشارات في اللوحات التي يقدمها الفن الغربي، لكن هذه اللوحة ليست كغيرها؛ كأننا نرى الملاك جبرائيل آتيا يعلن لها أنها حامل. فلا ندرك في هذه اللوحة سوى العالم الداخلي لوالدة المسيح. نجد مريم الإنسانة، وهي مأخوذة بتجربتها النفسية، وليس مريم ذات الطابع الإلهي وهي تتلقى شكلا من الوحي الروحي.
تظهر اللوحة لحظة محددة؛ إنها اللحظة التي تفهم فيها مريم الأمر، وتقبل به. إنها لحظة معلقة، كصفحة الكتاب التي تركتها للتو كي تشد الحجاب على رأسها، كأنها تغطي نفسها من القدر الذي ينفتح أمام عينيها. إن وجهها يشبه هذا الكتاب الذي أمامها؛ إنه ليس مفتوحا على آخره لكنه ليس مغلقا أيضا . نظرتها تتجه نحو الداخل، داخلها. إنها تفكر، وتشعر، وتتنفس.
لوحة «عذراء البشارة» (أو «البشارة») (1474-1475) لأنتونيلو دا ميسينا (تقريبا 1430-تقريبا 1479)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,45 × 0,35 متر، المعرض الفني الإقليمي لصقلية، باليرمو.
لننظر إلى هذه الحركة الغريبة ليدها اليمنى المرفوعة قليلا كأنها تقول: «حسنا، هذا جيد، نعم، نعم، لقد فهمت، وإنني أقبل بكل ما يرسله الله لي.» إنها هذه اليد المرفوعة التي تتلقى وتعبر عن السكينة، أو البحث عن الراحة، موحية بهذه اللحظة الفريدة في اللوحة حيث يتم فيها قبول ما هو موجود قبل الالتزام به.
هل كانت تستطيع الرفض؟ من يستطيع أن يرفض ملاكا مبشرا أرسله الله؟ لكن كان يمكن لمريم أن تكون أقل ذكاء، وأقل لباقة. لكنها تجاوزت خوفها، ذهولها وشكوكها، وقبلت الإرادة الإلهية. هذه هي اللحظة التي تم رسمها في هذه اللوحة، والتي قالت كل شيء. لم يكن هناك ملائكة، وأبواق وضجة، فقط مغامرة داخلية مذهلة.
اقبلوا! لأنه لا يوجد شيء آخر ...
سوامي براجنانباد، «خبرة الكمال»
القبول
القبول هو جزء مهم في صميم الوعي الكامل. ولا يعني القبول أن نقول إن كل شيء «على أحسن ما يرام» (هذا يسمى استسلاما)، ولكن أن نقول: «كل ما حولنا موجود، إنه موجود بالفعل.»
إننا لسنا مجبرين أن نحب فكرة ما، أو حالة ما، أو شخصا ما، أو تجربة ما، كي نقبل بها. لسنا بحاجة لأن نحب هذه الفكرة (أو هذه الحالة، أو هذا الشخص، أو هذه التجربة)، وإنما فقط قبول وجودها. إنها موجودة، وهي حقيقية في حياتنا؛ لهذا يجب علينا أن نتآلف ونتقدم معها.
القبول هو حالة تتجاوز حالة الانكفاء. هي ليست سلوكا فقط؛ إنها أيضا قرار وجودي وفلسفة حياة. إنها موقف طويل الأمد ونابع عن تفكير، نأخذه تجاه العالم الذي يحيط بنا. في حالة الانكفاء هناك نوع من التنازل؛ التوقف عن كل أنواع التواصل. بينما في القبول يوجد نوع من الرغبة في أن نبقى في الفعل ولكن بشكل آخر؛ بحالة من الوضوح والهدوء. وفي كل مرة يحدث شيء ما، نستطيع أن نقول: «نعم، ها هو، إنه هنا الآن.» إنه القبول الصادق والكامل للواقع حين يأتي كما هو.
لكن هذا التلقي لكلمة «نعم» لا يعني بأي شكل من الأشكال استسلاما أو تنازلا عن التفكير أو الفعل، هو فقط إحدى هاتين الحركيتين المنتظمتين لذهننا كأنهما تنفس روحنا؛ القبول (بما هو موجود) ثم التصرف (حسب ما هو موجود) والقبول (بما حدث) ثم الفعل (بناء على ما حدث)، وهكذا باستمرار. ومع الوقت، كما يحدث في حالات أخرى حين نتقن حالة نفسية ما، تمتلك هذه الحالة بعدا آخر؛ «ليس علينا أن نقبل الأشياء؛ فهي موجودة أصلا.» وهكذا لا نقوم حتى ب «جهد» القبول لأنه أصبح قدرة داخلية صامتة وهادئة، ونشعر حينها أننا صرنا أكثر قوة.
القبول بوصفه التفافا
يعلمنا القبول أن نختار أفضل الطرق للوصول إلى حيث نريد، وهذا الطريق ليس خطا مستقيما بالضرورة. إن هذا يشبه تماما المسير في الجبال؛ فقد تكون فكرة سيئة أن نقرر الصعود إلى القمة مباشرة، فنتبع طرقا تلتف وتحاذي جوانب الجبل دون أن نتخلى عن فكرة الوصول إلى الأعلى في النهاية. إننا نقبل أن نأخذ الممرات المنعطفة والصاعدة سائرين نحو القمة. وبنفس الطريقة، لا نستطيع تجاوز بعض الجهود النفسية إلا عبر قبولنا لها.
قد يكون مثلا من غير المجدي أن نحاول مواجهة بعض أفكار الفشل كالقول: «لن أستطيع القيام بذلك.» عبر تحفيز إرادتنا كأن نرد على أنفسنا: «بلى يجب أن أقوم بذلك.» أو عبر الاستعانة بالتفكير المنطقي: «لا يوجد سبب يمنعني من القيام بذلك.» إننا لن نتعلم أبدا - بإصرارنا هذا - كيف نقبل أفكار الفشل في دواخلنا (من الأفضل أن نتعلم عدم إطاعتها من أن نحاول رفضها أو إلغاءها)، ولن تكف حينها عن أن تسبب لنا حالات من عدم التوازن النفسي بطاقتها القوية. بالإضافة إلى ذلك، لن نكون قد قبلنا أفكار الفشل كأحد الاحتمالات الموجودة. بينما الالتفاف على أفكار الفشل هذه يمتلك في أغلب الأحيان، وعكس ما نظن، تأثيرا كاشفا، ومثيرا للراحة: «نعم، أنا أقبل الأمر، ولا أعرف إن كان ذلك سيجدي نفعا، لكن لدي رغبة بتحقيق ذلك. إذن سأحاول أن أفعل ما بوسعي، وبعدها سأرى النتيجة ...»
يعلمنا الوعي الكامل القيام بالتفاف كهذا عبر القبول؛ أي قبول فكرة الفشل. علينا مراقبة تأثيرها علينا، دون أن نغذيها أو نعطيها الطاقة عبر محاربتنا لها، أو محاولة إبعادها. علينا أن نتركها تترسب داخلنا عبر الاستمرار بالتنفس وترك إدراكنا مفتوحا على آخره، وأن نظل في حالة من الوعي الكامل. ومن بعدها علينا العودة إلى الفعل، والذي سيكون في معظم الأحيان الطريقة الوحيدة للتحقق مما إذا كانت أفكار الفشل تلك حقيقية، أم لا.
القبول بوصفه نوعا من الحكمة «إن أفضل الأماكن التي يمكنك أن تبحث فيها عن الحكمة، هي في الحقيقة تلك التي لا تتوقع أن تجدها فيها؛ إنها أفكار مناهضيك.» صحيح هذا القول، وحقيقي. أليس كذلك؟ لكن من أجل ذلك عليك أن تستمع إلى أفكار مناهضيك، وأن تسمح لها بالوجود (نحن الذين نحلم دائما بألا يكون لنا غير «المؤيدين») حينها ستكون بمنزلة كنز لك، وفرصة لتصير أكثر ذكاء.
يسمح لنا القبول أن نفهم البعد المأسوي للواقع، دون أن نحول حياتنا بالضرورة إلى مأساة. إننا لا ننكر طبيعة الوجود المؤلمة وغير العادلة، وإنما نترك لها مكانا، لكن دون أن نترك لها المكان «كاملا»، بل نحافظ على مكان آخر لكل ما هو جميل وخير.
القبول سيسمح لنا بإدخال العالم كله في ذواتنا، بدلا من محاولة تشكيله على صورتنا، وأن نأخذ منه فقط ما يلائمنا ويشبهنا.
ولأن كلمة «قبول» تزعج الكثيرين؛ لأنهم يفهمون منها معنى «الإذعان»، بحثنا لها عن بدائل. يقترح علينا الفيلسوف ألكسندر جوليان مثلا كلمة «الافتراض» والتي تعني لغويا «الأخذ بالأمر» وقبوله والالتزام به. آخرون اقترحوا كلمة «التوسع»، ويعني إفساح المكان في دواخلنا، طوال الوقت، لكل شيء حتى ذلك الذي يزعجنا ويقلقنا. علينا ألا نستسلم للأمور أبدا، ولكن أيضا ألا نتعلق بها بشكل سلبي عبر رفضها. إن الرفض والكره، مثلهما مثل الخوف، سوف يؤديان إلى الهشاشة والضعف. الأمر إذن، أن نوسع دواخلنا، ممددين بذلك اضطراباتنا ورفضنا في محتوى أكثر اتساعا. وفي كل مرة يزداد شعورنا بالقساوة والرفض، تزداد حاجتنا لوعي أكثر اتساعا، دون أي موضوع؛ وعي يتلقى كل شيء.
وأخيرا قد يقترح القبول علينا خيارا تناقضيا؛ وهو ألا نختار شيئا، وألا نرفض شيئا، وألا نستبعد شيئا؛ حتى هذا «غير المرغوب»، و«غير الجيد»، و«غير الجميل»، و«غير الخير» ... إلخ. فنقرر أن نقبل كل شيء، أن نتلقى ما يحدث، وما هو موجود. إننا بالقبول نفتح مساحة داخلية لا نهائية؛ لأننا عدلنا عن فلترة كل شيء، ومحاولة التحكم بكل شيء، ولم نعد نحكم أو نقيس أو نتحقق. بهذه الطريقة يصبح القبول مصدرا لغذاء داخلي. وسيسمح لنا بإدخال العالم كله في ذواتنا، بدلا من محاولة تشكيله على صورتنا، وأن نأخذ منه فقط ما يلائمنا ويشبهنا. هذا ما كانت تقوله القديسة تيريزا من ليزيو بطريقتها الخاصة: «أختار كل شيء.» «الدرس الرابع عشر»
قبول كل شيء يجعلنا أكثر هدوءا وأكثر ذكاء، ومن ثم أكثر قدرة على تغيير ما يجب أن يتغير. هذا هو جوهر الفكرة.
ثم تأتي التجارب العملية التي من دونها يمكن أن يكون كل ذلك كلاما مرسلا. إن كل إزعاجاتنا الصغيرة اليومية تعد فرصا رائعة للتمرين على القبول.
هل أنت متضايق، ومنزعج، ومتعب؟ ابدأ بالتنفس وأدرك كل ما هو موجود في هذه اللحظة؛ أدرك الوضع، وتأثيره عليك، وأن كل ذلك موجود معك، وأنه لا يمكن إلغاؤه، ومن ثم عليك قبوله. ثم حاول أن تجد ما يمكنك فعله أو التفكير به. إنه أمر سهل الفهم، ورغم ذلك تم قوله وإعادته آلاف المرات؛ حتما لأن الشرح لا يكفي، وإنما تجب ممارسته بشكل يومي. من المؤكد أن الممارسة أقل فخامة وأقل متعة من الكلام الرنان، لكنها أكثر فعالية.
الجزء
أن نتجاوز العواصف بالاحتماء بملاذ اللحظة الحاضرة
ذلك الذي يرى اللحظة الحاضرة، يرى كل ما حدث عبر التاريخ وما سيحدث حتى آخر الزمان.
ماركوس أوريليوس، «تأملات» (6، 37)
الفصل الخامس عشر
أن نتحرر من سجوننا الذهنية
يا له من رجل مسكين! كم يبدو قلقا وحزينا، وتعبا ومنهكا.
يبدو أنه قد تخلى عن محاولة الفهم أو الفعل؛ ومن ثم هناك هذا الانطباع الغريب بأن رأسه قد حشر في النافذة ... وكأنه حين أراد أن ينظر خارجا، ليرى قليلا ما يحدث في العالم، كي يخفف ثقل أفكاره قليلا، ويخرج من حزنه؛ وجد نفسه محشورا. وهو الآن يعاني بصمت، ونظرته هذه تبدو كأنه لا ينظر، أو لا يرى شيئا. إن نظرته لا تتجه نحو الخارج، وإنما نحو الداخل. إنها أيضا مسجونة داخل آلامه وأحزانه.
إنه محاصر، كما قد نكون أحيانا محاصرين بأفكارنا. إنه مسجون في صلابة حجارة النافذة التي تحيط به؛ في صلابة الخشب والزجاج والحديد، تماما كما يحدث مع همومنا أحيانا، حين تزيد من صلابتها اجتراراتنا بسبب القلق، فنسجن داخلها. سيقول لنا هذا الفخ: «انظر، انظر عبر أفكارك القلقة، واجتراراتك التي ستخدع إدراكك. وإذا ذهبت أبعد داخلها، فستسجن فيها. وإذا غذيتها، فستصير صلبة وقوية وكأنها الواقع. وإذا بقيت منتبها لها، فستصير سجينها.»
لوحة «رجل في نافذته»، (1653)، لصامويل فان هوخستراتن (1627-1678)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 1,11 × 0,865 متر، متحف تاريخ الفن، فيينا.
كيف نستطيع التخلص من هذه البلبلة التي نسببها لأنفسنا؟ كيف يمكننا الخروج من هذه المصائد الذهنية، تلك التي نضع أنفسنا داخلها في بعض الأحيان؟ فهل يختبئ الحل في هذه القارورة الصغيرة الموضوعة على حافة النافذة؟ ولكن كيف يمكن الوصول إليها؟
إن التربة العفنة التي تسببها الآلام الصغيرة تؤذي أكثر من أي رض مهما كان عنيفا.
مونتين، «مقالات»
كيف تحتكر المعاناة وعينا؟
يبدأ الأمر بالألم؛ هناك الآلام الجسدية والآلام النفسية، ومن ثم تأتي المعاناة التي هي تأثير الألم على وعينا.
والمعاناة هي أيضا الجزء من الألم الذي نستطيع التعامل معه. أما الألم ذاته، جسديا كان أم نفسيا، وخاصة إذا كان شديدا، فإنه يتطلب معالجة دوائية، للحصول على درجة من الراحة. أما العلاج النفسي، فلا يأتي إلا لاحقا. ويجب أن يأتي، ويجب إنجازه، وإلا فلن تغادرنا المعاناة أبدا.
تحاول المعاناة بطبيعتها أن تمتلك ذهننا. إنها كشمس سوداء ، وكل شيء حولها يدور في حلقة مفرغة. وتضيق معها مساحة وعينا، ولن يكون هناك مكان إلا للآلام ولا شيء آخر. هذا هو معنى المعاناة حين يأخذ الألم كل المساحة ويمنع الأفكار والأحاسيس الأخرى من أن تجد لنفسها مكانا دائما. سيمتص الألم كل طاقتنا الذهنية، ولن يكون هناك شيء آخر غيره.
الآلام الجسدية
هناك كثير من الآلام الجسدية التي يجب ألا نواجهها باستخدام قوة الروح فقط. وعلينا ألا نتعامل مع هذا الأمر بكبرياء؛ لأن مضادات الألم قد تنقذ كرامتنا في هذه الحالات، وإلا فسنصير عندها وحوشا تعصرها الآلام. ولكن ماذا بعد؟ ما الذي يمكنه أن يساعدنا كي نكون أقل خوفا من الألم، وألا نسجن أنفسنا داخل معاناتنا؟ هل يستطيع التأمل بالوعي الكامل أن يقوم بهذه المهمة؟ ربما؛ ربما نستطيع بمساعدته أن نكون أكثر استعدادا لذلك. نستطيع أن نهيئ أنفسنا، دون أن نكون في حالة انتظار للألم، وذلك بالتمرين المستمر على الآلام الخفيفة التي قد تصيبنا.
منذ وقت طويل، لوحظ ارتفاع مستوى القدرة على مقاومة الألم لدى الممارسين ذوي الخبرة الطويلة في تأمل الزن (وهي ممارسة قريبة من ممارسة التأمل بالوعي الكامل). وقد اكتشفت لاحقا لدى هؤلاء الممارسين تغيرات دماغية لها علاقة مباشرة بهذه القدرة لديهم، وأن هذه «المرونة الدماغية» تتناسب مع عدد ساعات التأمل اليومية. إن أحد التفسيرات العلمية يفترض أن بقاء هؤلاء الممارسين في وضعيات ثابتة دون حركة فرضت عليهم مواجهة العديد من التشنجات العضلية والأحاسيس المرتبطة بعدم الراحة، وهكذا تطورت قدرتهم هذه عبر المواجهة الهادئة والطويلة الأمد للآلام الجسدية.
ما زلت أذكر المرة الأولى التي تعرضت فيها لهذا أثناء التأمل. كان ذلك في صباح أحد الأيام، وكنت أمر بفترة صعبة. لم يكن الأمر شديد السوء، بل محنة بسيطة، لكن كان يرافقها كثير من الإجهاد والضغط. عندما جلست على مقعد التأمل، وخلال عشر ثوان، بدأت تشنجات عضلية شديدة في أسفل قدمي اليسرى، وكانت ردود فعلي الأولى هي أن أتحرك كي أخفف الألم، وأن أفتح عيني، وأن أغير وضعيتي، أو حتى أن أوقف الجلسة. ففي النهاية، كان لدي كثير من الأشياء الأخرى التي يجب أن أقوم بها. وأكثر من ذلك، ما الذي يدفعني كي أسبب المعاناة لنفسي؟ ... ومن حسن حظي أن مرضاي ينقذونني في معظم الوقت؛ فقد كنا قد تكلمنا في اليوم السابق في المستشفى بهذا الشأن، وذلك أثناء التأمل العلاجي الجماعي. لهذا قمت بمحاولة مراقبة هذه الفكرة («تستطيع أن تتحرك، وحتى أن توقف جلسة التأمل لتقوم بشيء آخر»). وبدأت أعتبرها فكرة فقط وليست إلزاما. حاولت أن أتلقاها كما هي وأن أنأى بنفسي عنها، معتبرا إياها كإحدى الظواهر التي ينتجها عقلي لا أكثر. إذن اتخذت خيار عدم الوقوع في الفخ؛ ألا أتحرك، وألا أطيع أفكاري التلقائية؛ «أتشعر بألم مضن، إذن انفصل عنه.» وقررت أنني قبل أن أتحرك (وكانت الرغبة قوية) سآخذ وقتي في فحص هذا الألم التشنجي؛ أين يوجد بالضبط؟ هل هو ثابت أم أنه يتبدل؟ ما الذي يحاول أن يجبرني على فعله؟ وبالتأكيد، اختفى الألم بعد دقيقة واحدة، وكأنه تحلل وانتهى.
سمعت عن ذلك قبلا، لكنني كنت مندهشا، وحتى مذهولا أن ذلك قد حدث لي هنا والآن، في جسدي أنا. إنه بالضبط هذا الفرق المذهل دائما بين «المعرفة» و«التجربة». إنهما عالمان مختلفان بعيد أحدهما عن الآخر. بالطبع أعرف أن ذلك لن يحدث في كل مرة. فقد نضطر أحيانا لتغيير وضعيتنا، أو حتى لإيقاف الجلسة، خصوصا إذا كان الألم شديدا. فالتأمل ليس نوعا من تعذيب الذات. لكننا حين نتجاوز معاناة ما، فقط عبر القبول بأنها هنا موجودة معنا، دون التصرف بعصبية، وإنما عبر الوعي بها، فأي راحة تلك التي نشعر بها! إنه لقاء بين ما هو نظري وتعمد الفعل؛ بين الكلام والحقيقة. وحتى بالنسبة إلى الأشخاص ذوي الخبرة في هذا الشأن، فهم لا يملون من اكتشاف هذا الأمر وإعادة اكتشافه. فنحن نشعر بحالة من الانضباط، والأمان، والاتساق. إن هذا ممكن، أعرف ذلك وقد قمت به بنفسي.
إذا كان التأمل يساعد على مواجهة المعاناة، فهذا لأن راحة الذهن لها تأثير مخفف للآلام. إن ذهننا يقوم طوال الوقت بفلترة إشارات الألم الصغيرة كي لا يزعج في كل مرة وعينا. هذا ما نسميه ب «التحكم الهابط». فإذا كنا قلقين أو مكتئبين فلن يستطيع الذهن حينها القيام بهذه الوظيفة بنفس الفعالية، وسنشعر حينها بآلامنا أكثر. أما إذا كنا في حالة من الراحة الذهنية، فسنعاني حينها بشكل أقل من هذا الألم ذاته. إن تلك الحالة من الراحة الذهنية لا نستطيع أن نستدعيها تلقائيا عندما نحتاجها، وإنما يجب أن نتمرن على ذلك حتى قبل أن تأتينا الآلام؛ لأننا لا نستطيع أن نبدأ بصناعة مظلة النجاة في اللحظة التي تتعطل فيها محركات الطائرة.
فهل ينطبق هذا الأمر أيضا على الآلام التي تصيب روحنا؟
آلام الروح
حين نتعلق بأفكارنا المؤلمة، حين نقوم بتكرارها في ذهننا، فإننا نساهم في نفس الوقت في زيادة صلابتها. إننا نعطيها شكلا ونعطيها أهمية، ونجتر آلامنا محولين إياها إلى وحوش.
هذه الاجترارات هي عملية تصليب لثرثرة ذهننا الآلية. فمن حدث ما نخلق معاناة، دون أن نقصد ذلك. وبالإضافة إلى كل ما يصيبنا مسببا حالات من القلق والاكتئاب، تقوم أفكارنا وقناعاتنا (والتي نصدقها ونؤمن بها حتى لتبدو كأنها ثوابت) بزيادة معاناتنا. ومن ثم نتعلق كأمهات بهذه الوحوش الصغيرة التي قمنا بإنجابها.
الأفكار السلبية التي تأتي وتذهب لا تسبب لنا الألم. لكنها تصير مؤلمة حين تجتاح وعينا وتطلق فيه جذورها مانعة الأفكار الأخرى من الوجود. ومع الوقت إذا تركنا هذه الأفكار في عقولنا طويلا، فإنها ستخلق دروبا من المعاناة المخبأة في أذهاننا والتي ستظهر فجأة من جديد في كل مرة نتعرض فيها لشدة ما. وهذا سيحدث ما يسمى ب «الإلحاحات الأليمة»، والتي تكون مضنية، ومحبطة، ويصعب التحكم بها.
مواجهة المشكلات اليومية
كيف يمكننا أن نمنع ذهننا من السير وراء تلك المشكلات؛ من أن يكون مأخوذا بها؟ قد يبدو الحل تناقضيا؛ لأنه علينا بكل بساطة أن نعطي مساحة أكبر لآلامنا، كي نفك ذاتنا من عناقها.
إن لممارسة التأمل بالوعي الكامل تأثيرا على الشدة والمعاناة اليومية؛ إنها تمنع همومنا (التي هي غالبا شكوك مقلقة) من أن تتحول إلى حقائق، وتمنع مشاعرنا (التي تكون في حالتها الطبيعية في حركة دائمة) من أن تكون مزمنة وتتصلب، فتصير نزوات. إنها تساعدنا على ألا نبقى مكبلين، ومحاصرين في حالة ذهنية مؤلمة.
تحت تأثير آلامنا قد نسجن ذواتنا دون أن ندري؛ لهذا علينا قبل تحريرها من سجنها أن نرى هذه الحواجز أولا. إذن خطوتنا الأولى هي أن نقبل حقيقة هذه الشدة. علينا أن نقبل وجودها في جسدنا، وأن نراقب الأفكار التي ترافقها والدوافع التي ستخلق لدينا. إننا لا نحب أن تصيبنا المحن؛ لأنها تؤلمنا وتخيفنا، لكن صوت الوعي الكامل يقول لنا: «ابق معها، لا تخف من أن تحافظ عليها في حقل وعيك. هل هي حقيقية أم لا؟ ليس هذا هو السؤال، بل هو: هل تستطيع أن تئوي هذه المحنة داخلك وهذه الأفكار والمشاعر، والحالات النفسية تلك، دون أن تنهار، دون أن يصيبك ذلك بالذعر، ودون أن تسبب لك المعاناة؟» هذا ما يقوله بالضبط المثل الصيني: «إنك لا تستطيع أن تمنع طيور الحزن من التحليق حول رأسك. لكن لا تدعها تضع أعشاشها في شعرك.»
كي لا نبقى ضحايا اجترارات القلق علينا أن نقبل بوجودها معنا أولا، وبعد ذلك علينا ألا ندعها تشغل كل مساحة وعينا. علينا أن ندعو ضيوفا جددا لدخول هذا الوعي المشغول بالقلق؛ وعينا لتنفسنا، للأصوات حولنا، لجسدنا، وأيضا وعينا لكل الأفكار الأخرى التي تمر، تبقى قليلا ثم تذهب، كي تعود من جديد. ولكي نعطي لأفكارنا من جديد حرية التحرك بطلاقة، يلزمنا مساحة إضافية؛ مساحة أكبر. ليس علينا أن نسعى لمطاردة اجتراراتنا أو إلغائها، بل علينا أن نسمح لها بالبقاء معنا، لكن دون أن تكون وحيدة؛ وأن نتركها تمتزج وتنحل في محتوى أكثر اتساعا كي نخفف من عبئها.
ثم علينا أن نتنفس؛ ففي لغة معلمي التأمل بالوعي الكامل نجد تعابير مثل «تنفس مع»، و«تنفس عبر». هي ليست مصطلحات شديدة الدقة لكنها وصفية جدا؛ فأن نقول «تنفس مع»؛ أي، أننا نستمر في مراقبة معاناتنا واضعين دائما تنفسنا في قلب وعينا (وأن نفعل ذلك بصبر؛ لأن المعاناة ستعود مرارا لتحتل قلب وعينا). وأن نقول «تنفس عبر»؛ أي، أن نقوم بمراقبة تأثير التنفس على آلامنا، وكأنه يعبرها. وبتمريننا المستمر بهذه الطريقة أثناء المعاناة والمحن البسيطة، قد نصبح أقل عجزا إذا أصابتنا المحن الكبرى ... ربما.
عدم ديمومة معاناتنا
قبل كل شيء يجب أن نعي وأن نمارس مفهوم عدم الديمومة الذي يذكرنا أن لا شيء يمتلك صلابة نهائية، وأن كل شيء سيعبر وينتهي، وأن التعلق بحقيقة ما ليس سوى طريقة تفكير مغلوطة قد تعززها المعاناة. إنه يهمس لنا أيضا بنصائح تذهب إلى ما بعد كيفية «إدارة» المعاناة. فكلنا نملك هذا الأمل المجنون بأن يبقى كل ما نتعلق به (أشخاص نحبهم، أشياء نملكها) معنا إلى الأبد. وفي نفس الوقت لدينا هذا اليأس المجنون (عندما نكون قلقين) بأن هذه المعاناة التي نمر بها ستبقى معنا إلى الأبد.
لكن لا شيء يبقى إلى الأبد، لا أفراحنا ولا أحزاننا؛ فلا تعلق ولا سجن. نستطيع أن نفهم ذلك وعلينا أن نختبره. نستطيع في تمارين التأمل بالوعي الكامل أن نراقب كل ما نتعلق به، وأن نبني معه علاقة مختلفة؛ لا أن نتخلى عنه، لكن أن نبحث عن المزيد من الحرية في علاقتنا معه. فما هو عابر ليس بالضرورة دون أهمية، ومن الجنون أيضا القول إننا نستطيع التحرر من كل شيء. كل ما علينا فعله هو مراقبة كيف يمكننا عبور كل الأشياء، وتلقيها، دون أن نكون في حالة من التعلق، مع الاستمرار بالعيش وبالاستمتاع. «الدرس الخامس عشر»
إن أهم مصدر لمعاناتنا الذهنية هو تضييق قدرات وعينا؛ ألا ندرك أننا نغير أحيانا بعض الحقائق ثم نتعلق بكل قوانا بهذه الحقائق المشوهة. يستخدم هنا علماء النفس مصطلحات مثل «تحويرات» أو «اجترارات». ويعرفون أنه يجب علينا القيام فورا بعمليتين؛ الأولى: أن ندرك أن ذهننا بصدد صنع فخ لنفسه، والثانية: أن نخرج من هذا الفخ. في بعض الأحيان وحتى حين ندرك جيدا أننا نؤذي ذواتنا، نحن لا نستطيع أن نخرج من وساوسنا واجتراراتنا. إن رسالة التأمل بالوعي الكامل بسيطة؛ فحين يكون الأمر صعبا جدا علينا أن نعدل عن محاولة طرد هذه الأفكار المؤلمة باستخدام الإرادة؛ وبدلا عن ذلك نستطيع أن نوسع إدراكنا لكل ما هو موجود في لحظتنا الحاضرة. علينا ألا نترك كل المساحة في أذهاننا للاجترارات والوساوس، وأن نجعلها تمتزج وتنحل في محتوى أكثر اتساعا كي نخفف من عبئها. يجب أن يتوسع وعينا إلى ما لا نهاية!
الفصل السادس عشر
أن نتخلى عن إصرارنا
ليس جسدها العاري هو الذي يفاجئنا في البداية، وليست هذه التفصيلة الغريبة للغطاء الأبيض المفروش على تل مليء بالحصى، حيث بدأت بعض الأعشاب بالظهور. ولا هذه الوضعية الجميلة والمرتبكة لقدميها. لا، إن ما يفاجئنا، هي نظرتها، ووجهها الخالي من أي انفعال وكأنه وجه منتصر. إنه تعبير اليقين المطمئن هذا. وهذه النظرة كأنها تقترح علينا أن ننظر إلى يدها اليسرى، وغصن الزيتون الذي تحمله كغنيمة نصر أو إثبات أو حجة؛ غصن الزيتون الذي يشير إلى السلام والأمل.
خلفها جبل ممزق. حين ننظر إليه عن قرب نكتشف أنه ليس جبلا من الحجارة وإنما أبنية مهدمة. وهذا السياج الذي يحيط بالحقول هو قبور عليها صلبان بائسة.
لوحة «الأمل» (1870-1871) لبيير بوفي دي شافان (1824-1898)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,705 × 0,82 متر، متحف أورسيه، باريس.
رسم بوفي دي شافان هذه اللوحة بعد سنة واحدة من الحرب الفرنسية-البروسية عام 1870 والتي أهين فيها بلده بخسارة سريعة، مؤدية إلى سقوط الإمبراطورية الثانية. لقد سماها «الأمل»، وتلقى عليها كثيرا من النقد. ولكن ما الذي كان يريده النقاد؟ هل كانوا يريدون أن تحمل سلاحا بدلا من غصن الزيتون، كي تذهب إلى الحرب، أو ربما مجرفة كي تعيد بناء ما تهدم؟
إنها لا تبالي الآن وأبدا بأي نوع من الانتقام. لا تبالي في هذه اللحظة بفكرة القيام بأي فعل. هذه الفتاة التي لا تملك قوة إلا جسدها النحيل والعاري. إنها تأخذ وقتها، وتعي. إنها تشعر، وتنقل ما تشعر به عن المصائب التي مرت ، وعن وعيها أيضا للزمن الجديد الآتي.
ونلاحظ أخيرا بالقرب من يدها اليمنى، التي تضعها برقة على الغطاء الأبيض، أن هناك شجيرة سنديان صغيرة تندفع نحو السماء.
أين هو وجعي؟
لم يعد لدي وجع.
إنه ليس سوى لغط
على حافة الشمس.
بول فور، «أغنية عند الصباح»
التوقف عن المقاومة
عندما نمر بصعوبات فإننا نسعى بشكل طبيعي لحلها. نحاول التخلص منها، أو تغييرها، أو حتى الهروب منها. ولكن هناك صعوبات لا تجدي معها هذه المحاولات نفعا؛ كتلك الصعوبات الموجودة داخلنا (بعض أفكارنا ومشاعرنا)، أو تلك المحن التي لا نستطيع حيالها شيئا، أو تلك التي لم تحدث بعد (توقعاتنا القلقة). إذن قد يكفينا أحيانا أن نتوقف عن الاعتراض والمقاومة؛ أن نتخلى عن عاداتنا السلوكية أمام الآلام، ونقبل أنها لن تفعل شيئا أكثر من تعقيد المشكلات، وجعلها أكثر إرباكا وألما.
عندما تسيرون على شاطئ رملي تاركين أقدامكم تغوص في الماء ثم في الرمل تحته، فإن الرمل سيشكل غيوما صغيرة معكرا الماء. إذا أردتم أن يصير الماء صافيا من جديد، تعرفون جيدا أنكم لا تستطيعون أن تزيلوا غيوم الرمل الصغيرة هذه بأقدامكم أو بأيديكم؛ لأنكم عندها ستقومون بتشكيل غيوم رملية أخرى. وكلما حاولتم أكثر، صار الماء عكرا أكثر. فلا حل آخر غير البقاء دون حركة، والسماح لهذه الغيوم الرملية بالبقاء، وانتظار سقوطها من جديد. عندها تستطيعون مراقبة الماء الصافي حول أقدامكم. الغيوم الرملية هذه هي التجارب المؤلمة في حياتنا. ولكي نرى بشكل أوضح ينصحنا التأمل بالوعي الكامل بأن نتوقف عن محاولة التحكم بها، وبأن نكتفي بمراقبتها، وهي تستقر ببطء في قعر الماء.
كتبت الفيلسوفة سيمون فاي: «لنحاول تخفيف المشكلات باستخدام النيات وليس قوة الإرادة ... إن الطريقة الوحيدة هي مناشدة الذات لأنها ستساعدنا على تخفيف تصلب العضلات التي لا علاقة لها بالأمر. فلا شيء أكثر غباء من تقلص العضلات وشد الفك بسبب فكرة، أو قصيدة شعر أو مشكلة!»
ولكن إذا لم تكن أفعالنا هي الحل وإنما النيات، فإلى أين يجب علينا أن نتجه عندما نكون محاصرين ، وكأننا نغوص ببطء في النهر؛ عندما نتوقف عن التقدم، ولا نستطيع التراجع. ماذا نفعل إذن؟
التوقف كي نتنفس
أمام المعاناة والشدة علينا قبل كل شيء أن نبدأ بالتنفس.
لكننا نفضل عادة التفكير في المشكلة وتأنيب أنفسنا؛ لأن ذلك سيبدو لنا أكثر ملاءمة وأكثر واقعية أو أكثر فعالية، خصوصا حين نكون في صلب المشكلة. وبعد فترة قصيرة ندرك أن قلقنا كان عبثيا. ولكننا ندرك ذلك متأخرا، ونفضل في أغلب الوقت أن ننسى الأمر برمته، والتفكير بشيء آخر، وذلك بانتظار المشكلات اللاحقة حيث سيبدأ كل شيء من جديد.
يقترح علينا التأمل بالوعي الكامل أن نبدأ دوما بالتنفس، وأن نتمرن على التعامل مع المعاناة عندما تأتي. وفي اللحظة التي تكون فيها موجودة، علينا ألا نسعى إلى إلغائها، أو إيجاد حل لها، أو حتى السعي لأن نكون أحسن حالا. فقط علينا البقاء حيث نحن بمرافقة النفس، كصديق قديم لا يعرف بعد كيف ينصحنا، لكنه هنا معنا، وسيبقى بقربنا. وعلينا أن ندرك أن وجوده، هذا الوجود الجميل، ربما هو أكثر أهمية من المشكلة ذاتها.
ومع الوقت، سيعطي تنفسنا بوعي كامل تأثيرا مرخيا. وفي الوقت الذي تزيد فيه الاجترارات من صلابة أفكارنا ومشاعرنا، فإن التأمل بوعي كامل سيزيد من طراوتها، كما يزيد اللهب من طراوة الشمعة. فلنبق تجاربنا المزعجة في ضوء الوعي الكامل، حتى عندما نشعر أننا متعبون وواهنون، وأن ذلك لن يغير المشكلة. لماذا يجب دوما «البدء» بمواجهة المشكلة؟ ماذا لو نبدأ، من وقت لآخر، بتغيير طريقة استجابتنا للمشكلة؟
لماذا يجب دوما البدء بمواجهة المشكلة؟ ماذا لو نبدأ، من وقت لآخر، بتغيير طريقة استجابتنا للمشكلة؟
ملجأ اللحظة الراهنة
حين نتوقف كي نتنفس، وحتى عندما يكون كل شيء مؤلما، نستطيع أن نشعر كأننا نحتمي في ملجأ؛ كقارب يحتمي من العاصفة في ميناء أو خليج. صحيح أن العاصفة مستمرة، لكننا في أمان. هو ملجأ غير مثالي ومؤقت، لكنه يبقى ملجأ. بتنفسنا نفهم أننا أحياء، وأن ذلك جوهري، وأن كل شيء آخر يمكنه الانتظار، على الأقل بضع لحظات .
أن نحتمي في اللحظة الحاضرة لا يعني أننا حللنا المشكلة، أو أننا وجدنا حلا. لا، فالمشكلة لا تزال موجودة، والحل لن ينبثق من النفس، وقد لا يكون هناك حل. ولكن رغم بقاء المشكلة، فقد وجدنا مكانا آمنا نستطيع من خلاله مراقبتها دون أن نناضل ضدها خوفا من أن نغمر بها أو أن نغرق.
أن نتنفس أثناء المحن، هو أن نضع روحنا في مكان آمن، ليس من أجل الهرب من الواقع، وليس كي ننتقل إلى الفعل، وإنما كي نختار أن نرى بشكل أوضح؛ أن نختار إفساح المجال للهدوء، وإعطاء فرصة لذكائنا. مهما فعلت ومهما فكرت، ستبقى المشكلة، إنها هنا الآن. لكنني أنا هنا أيضا، موجود وحي. وبقدر ما أستطيع، سأستمر بالعيش، وسأستمر بالتنفس لأن شيئا ما سيتغير. يجب علي فقط قبول أنني لا أعرف بعد ما الذي سيتغير ولا متى. «الدرس السادس عشر»
ماذا يعني العدول عن الإصرار؟ إنه ليس الهروب من الواقع عبر صرف الانتباه («هيا، علي أن أبدل أفكاري»)، أو الإقناع الذاتي («استرخ، وكل شيء سيكون على ما يرام»)؛ هذه أشياء نقوم بها دائما، ونعرف أن ذلك قد ينجح أحيانا، لكن ليس دائما. إن العدول عن الإصرار هو شيء آخر، وقد يكون شديد المنفعة أيضا؛ إنه البقاء هنا حاضرا، في حالة عقلية خاصة. إنه أن نبقى حاضرين، وأن نتوقف عن محاولة السيطرة على المشكلة أو إيجاد حل لها. فقط علينا البقاء هنا، والوثوق بما سيأتي. دون سذاجة، وإنما بفضول، ويقظة دائمة؛ كالسباح الذي يوقف كل جهد، ويترك نفسه يحمله تيار النهر. إنه ليس حالة من الكسل، وإنما حالة من الحضور.
الفصل السابع عشر
أن نبقى حاضرين في هذا العالم
لا يحدث شيء استثنائي هنا. يحرث الفلاح أرضه، ويحرس الراعي خرافه وهو يراقب الغربان، وينتظر الصياد أن يأكل السمك الطعم. وتبدأ سفن رحلتها. ومن بعيد، نجد خليجا، جزرا وموانئ. يبدو كل شيء في مكانه. ولكن إلى ماذا ينظر هذا الراعي فعلا؟ هناك رجل بأجنحة في الأعلى! إنه دايدالوس، وحيدا في السماء. إنه يدير رأسه إلى يمين اللوحة وكأنه يبحث عن شيء ما أو عن شخص.
إنه لا يزال يطير، لكنه تحلى بالحذر ولم يقترب كثيرا من الشمس. وقد أدرك توا أن ولده إيكاروس لم يعد بجانبه. إنه يبحث عنه في السماء. إنها لحظة من تلك اللحظات التي تبدو عادية، ولكنها تسبق الكارثة. نبحث معه عن ابنه؛ لا شيء في السماء غير الضوء الباهر للشمس الحارقة. ماذا إذا نظرنا إلى الأسفل؟ نعم إنه هناك؛ ألا ترون قدم المسكين إيكاروس التي لم تغص بعد في البحر.
لوحة «سقوط إيكاروس» (تقريبا 1590-1595) لبيتر بروجل الأكبر (تقريبا 1525-1569)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,63 × 0,80 متر، متحف فان بورين، بروكسل.
إنه سوف يموت غرقا أو محطما إثر سقوطه. لقد انتهى كل شيء بالنسبة إليه، ولكن بالنسبة إلى الآخرين فإن الحياة تستمر. تستمر الحياة. هذا ما يقوله لنا بروجل؛ فقد بقي كل شيء كما كان. لا أحد يهتم لموت إيكاروس؛ لا الفلاح، ولا الراعي، ولا الصياد، رغم أنه قد سقط قريبا جدا منهم. وحتى حين يعلم الجميع بموته، هل سيختلف الأمر كثيرا؟ فنحن نجد الموتى، الموتى المساكين، كل يوم وفي كل مكان. لكن الأرض ستستمر دوما بالدوران.
هل هذا شيء فظيع؟ لا. إنه حدث ما؛ بعض من الزبد على شاطئ البحر. ولكن الأرض ستستمر في الدوران، ولربما ذلك من حظنا. فماذا ينفعنا لو أنه في كل مصيبة تحل بنا سيتهدم العالم معنا؟
عليك أن تطور روحا واسعة وسع الفضاء، حيث يمكن للأحداث الجيدة والسيئة أن تظهر وتختفي دون نزاع، دون مقاومة أو ألم. اجعل روحك واسعة كالسماء.
بوذا، «مجموعة النصوص المتوسطة الطول»
علينا ألا نفقد العالم
يأخذ الألم كل المكان؛ إنه يجتاح وعينا، أو أننا نحن من ينكفئ عليه، خاصة في حالات الحداد والفقدان لأن الألم يرتبط مباشرة بمن فقدناه، وقد يزيد شعورنا بالفقد إذا نحن توقفنا عن المعاناة. سلوك الانكفاء هذا هو نوع من البحث عن «وضعية مخففة للألم» كما يقول الأطباء، ولكنه أيضا نوع من التعلق بما بقي لنا. لكننا، عندما نتصرف بهذه الطريقة، بانطوائنا على ذواتنا، على آلامنا وذكرياتنا، سنكون حينها في خطر لأننا سنكون حينها قد خرجنا من العالم. تتكلم الفيلسوفة سيمون فاي عن «درجة الألم التي نفقد عندها عالمنا». إذن كيف نستطيع في لحظة ما العودة إليه؟ كيف نستطيع إذن أن نتلقى معاناتنا بصدق، حين لا نستطيع (وأحيانا لا نريد) إبعادها، وأن نبقى في نفس الوقت متواصلين مع العالم الذي يحيط بنا؟
كي لا ترمينا الآلام الكبيرة خارج الحياة، علينا أن نتمرن في حالات الألم الخفيفة على البقاء على صلة مع العالم في أوقات الكآبة واليأس اليومية. علينا أن نتمرن في أوقات الحزن البسيط كي نتهيأ قدر الإمكان أمام المشكلات الكبيرة.
في البداية علينا توسيع وعينا
علينا أن نحرص على ألا تكون المعاناة موجودة بمفردها، وألا يكون انتباهنا مركزا عليها، بل أن يكون هناك عناصر أخرى حاضرة في وعينا؛ بإتاحة المساحة لتنفسنا، لأحاسيسنا الجسدية، للأصوات حولنا. علينا أن نوسع الوعاء الذي يحتويها، فلا ندع الألم يأخذ كل مساحة وعينا. ويجب أن ندعو كل قصاصات الحياة التي ما تزال في متناول أيدينا.
علينا بعد ذلك مراقبة أفكارنا، التي ستكون هي أيضا مثبتة على الألم. علينا أن نجلس، ونغلق عيوننا ونتنفس، ثم أن نأخذ وقتا كافيا كي نرى إلى أين تحاول أن تدفعنا معاناتنا؛ إلى أي نوع من الانطواء والعزلة، وأن نستمر في نفس الوقت بالتنفس، وبالإحساس، وبالعيش. وعلينا ألا نوقف تنفسنا مغلقين حياتنا على المعاناة والآلام.
هل تمر بعض الأحزان بمفردها؟ أكيد دون شك، وربما بشكل أسرع إذا اتبعنا هذه الطريقة. بكل الأحوال فإن تلك المعاناة التي سنتعامل معها بالوعي الكامل لن تترك فينا أخاديد جاهزة كي تمر بها آلامنا اللاحقة. إنها لن تكون سوى ذكرى مزعجة بعض الشيء، وليس قنبلة موقوتة مستعدة للانفجار.
المواساة
أن نكون وحيدين في المعاناة، إنها مسألة حقيقية وثابتة؛ فلن يعاني أحد بدلا عنا، ولن يستطيع أي شخص أن يأخذ أوقية واحدة من آلامنا، لكن هل يعني ذلك أنه من المستحيل أن تتم مساعدتنا؟ ألا توجد مواساة ممكنة؟
الأمر ليس كذلك فعلا. الحقيقة هي أننا نحن من لا يريد أو لا يستطيع أن يتلقى المواساة. إننا لا نستمع إلى مواساة الآخرين لأننا نظن غالبا، وبشكل مسبق، أنها لن تجدي نفعا. وبالتأكيد سيكون ذلك صحيحا. إنها لن تجدي نفعا إذا أردنا أن تعود الأمور كما كانت عليه تماما؛ أي، أن تختفي المأساة. لكننا إذا أدركنا أن إصلاح كل شيء غير ممكن، وأنه لا يوجد بالضرورة حل لمعاناتنا، فقد ننصت حينها إلى مواساة الآخرين، وقد نتعلم حينها شيئا آخر، وهو أنه يوجد دائما إلى جانب معاناتنا، حياة مستعدة لاستقبالنا.
إذا قمنا بهذا الجهد، فسنكتشف أنه خلف المواساة يوجد أيضا العطف. إنه ليس الدواء الشافي للمصائب، لكنه قارب نجاة. إنه تشجيع على الاستمرار في الحياة رغم كل شيء. إنه يوسع وعينا لندرك وجود الحب والاهتمام من حولنا. وتصلنا الرسالة البسيطة الآتية: أحيانا لا يكون هناك من إمكانية أمام القريبين منا غير عجزهم وحضورهم. إنهم عاجزون عن «إصلاح» ما حدث، لكنهم حاضرون ليذكرونا أن علينا أن نظل بشرا في خضم الحياة؛ فيجب ألا نتحول إلى وحش يعتصره الألم، وألا ندمر ذواتنا، وألا نصلب أرواحنا، وألا نترك العالم، وأن نبقى أحياء.
هل علينا الاستمرار بالبكاء؟
هل سيتوقف دايدالوس عن الطيران؟ أم أنه سيستمر بالطيران حالما بابنه؟ هل سيستمر بتأمل جريان الشمس والغيوم، وجمال الأرض والبحر، والرسم الجميل للزبد على الشاطئ؟ أم أنه سيختار أن ينكفئ على ذاته ليبكي إلى آخر العمر؟
حلق يا دايدالوس، حلق واجعل ذكريات ابنك تحلق معك وتعيش معك. ماذا تستطيع أن تفعل غير ذلك؟ وعندما تحلق لا تحاول كتم أو كبت معاناتك. عليك فقط أن تفتح روحك على السماء اللانهائية. استقبل بكثافة في داخلك هذا الجمال الذي ينزلق تحت جناحيك. كن حاضرا بملء قواك في مشهد العالم. ولا تخف من أن تدع معاناتك تسكن داخلك أثناء طيرانك. حاول أن ترى ما كان يراه ابنك، أن تشعر بما كان يشعر به . حاول أن تتنفس من أجله، أن تبتسم من أجله، وأن تحب هذا العالم من أجله.
هذه الحياة التي تستمر، هذه الحياة التي تؤلمك، ستكون أيضا خلاصك. كل شيء هنا، إيكاروس ما زال هنا. إنه يحلق معك. «الدرس السابع عشر»
حين نعاني كثيرا، سنكون تعساء جدا، وسنفصل أنفسنا عن العالم. لن نكترث له، وسنجده غير مبال، وحتى عدائي. ولكنه مع ذلك، وبطريقته هو، سيحاول مساعدتنا أو إنقاذنا. وكلما عانينا أكثر يجب أن نتأكد أكثر من بقائنا على تواصل مع كل ما يحيط بنا؛ فالمعاناة تزداد قسوة، وتمتد في الزمن أكثر عندما نقطع علاقاتنا ونبتعد عن محيطنا، وننطوي على ذواتنا. تمرين: عندما أشعر أنني حزين، سأحاول أن أحافظ على حساسيتي لجمال هذا العالم، حتى حين لا يخفف ذلك من ألمي، وحتى عندما لا يساعدني مباشرة؛ ففي لحظة ما كل شيء سيصير مختلفا، وسينقذني!
الفصل الثامن عشر
أن نستمر بالتقدم رغم جروحنا
إذا ألقينا نظرة عابرة ونحن نمر بسرعة، نجد أن هذه اللوحة تظهر لحظة ريفية عذبة؛ صبية يافعة تستلقي على العشب وتراقب بيوتا في أعلى التل.
لكننا إذا توقفنا لحظة، سنشعر حينها أن شيئا ما لا يجري على ما يرام؛ يبدو العشب مسفعا من الشمس في سهل واسع مقيت لا ينتهي. البيوت بعيدة وداكنة جدا. وحتى هذه الفتاة تعطي انطباعا غريبا. ننظر إليها بتمعن ونبحث من أين يأتي انزعاجنا هذا؛ ربما من وضعيتها التي لا تبدو طبيعية تماما. إنها ليست وضعية شخص مسترخ وهو ينظر إلى السهل دون هم. يبدو أنها وضعية شخص يزحف على الأرض. ثم هناك ذراعاها النحيلتان جدا، ومرفقها الذي يبدو أنه مريض ومغطى ببقع على الجلد، ويدها اليسرى التي تتمسك بالعشب والتي تعاني من التورم والتشوه ... ماذا يحدث هنا؟ ما الذي يريد أن يقوله لنا كل هذا؟ إليكم قصة هذه اللوحة؛ هذه الصبية التي في اللوحة مريضة ومشلولة. إنها لا تتأمل الطبيعة. هي بصدد العودة إلى بيتها زاحفة لأنها ترفض أن تستخدم العكاز أو الكرسي المتحرك. بالإضافة إلى ذلك، هي ليست صبية صغيرة السن، وإنما امرأة عمرها أربع وخمسون سنة. وايث الرسام يعرفها جيدا؛ إنها كريستينا أولسون، جارته في قرية كوشينج في ولاية مين.
لوحة «عالم كريستينا» (1948)، لأندرو وايث (1917-2009)، وهي لوحة تمبرا على جص، بأبعاد 0,819 × 1,213 متر، متحف الفن الحديث، نيويورك.
إذن إننا نفهم الآن، بشكل أكثر وضوحا سبب انزعاجنا أمام هذه اللوحة. إنها تظهر لنا معاناة خفية، كاشفة الغم والوحدة. لكنها تحكي أيضا قصة هذا الملجأ الذي يوجد عند الأفق، والذي يجب علينا الاقتراب منه ما استطعنا. وأخيرا هي تطرح سؤالا عن السؤال الذي يطرح نفسه علينا دائما في حياتنا؛ هل نستسلم، أم نكمل؟ هل نزحف ونتقدم رغم جروحنا؟
يجب ألا نسعى إلى إلغاء كل معاناة، أو تخفيفها وإنما يجب ألا نتأثر بوجودها.
سيمون فاي، «الجاذبية والنعمة»
الجروح المخفية
هناك الجروح الجسدية الظاهرة. وهناك أيضا جروح الروح، وحالات الضعف الناتجة عن الفقد، أو مآسي الماضي. إنها هي غير مرئية، ولكنها مسجلة في أرواحنا وأجسادنا. قد نعيها أحيانا، وأحيانا أخرى تكون نائمة. هذه الهشاشة تجعل منا أناسا يعيشون بين عالمين؛ طبيعيين في الظاهر، ومريضين في السر.
لقد حلمنا طويلا ألا تكون هذه الجروح، أو تلك الهشاشة، موجودة. ثم حلمنا أنها قد تختفي يوما ما؛ في خضم الحياة والحب ومع الوقت. والآن ورغم الجهود ومرور السنوات يجب أن نعترف لذواتنا بما يأتي؛ أنها ما تزال موجودة معنا، ولوقت طويل أيضا، وربما دائما.
إذن سنحاول أن ننساها، وألا نفكر بها، وأن نتظاهر بذلك. في معظم الأحيان قد ننجح. لكنها من وقت لآخر، وتحت تأثير هزات الضغوط والحزن، ستستيقظ من جديد وستخرج الأشباح من خزانة الثياب.
استيقاظ الشياطين القديمة
إذا كنا قد عانينا من الاكتئاب، أو من القلق، أو من اضطرابات عاطفية أخرى، فإن آثارها ستبقى نائمة داخلنا، ونكون حينها فيما يسمى «مرحلة نقاهة» لأن الوقت يمضي ولأننا تغيرنا، وربما لأن الحياة صارت أكثر لينا. لكنها عندما تقسو من جديد، ستفتح عندها الجراح ويعود إلينا الإحساس بأننا قد ننهار، هكذا أمام الجميع . إن هذه الفترات التي يمتصنا فيها من جديد كل ما هو مؤلم داخلنا، هي فترات تشبه مفارق الطرق؛ وسيكون بمقدورنا أن نتصرف ونواجه، حتى لو لم نكن نؤمن بذلك.
لهذا السبب قمنا بنقل ممارسة التأمل بالوعي الكامل إلى علم النفس العلاجي لدعم ما نسميه «الوقاية من الانتكاسات». إن العلاجات التقليدية، كالعلاج بالتحليل النفسي، وتفكيرها المتعمق حول أصل معاناتنا، لم تعد تكفي. أما العلاجات الجديدة كالعلاج المعرفي السلوكي فهي أكثر نجاحا، ولكن بشكل نسبي فقط. لهذا قمنا بإضافة التأمل بالوعي الكامل إلى كل هذه الحلول وهذه الخطوات التي نقوم بها. ويبدو حتى الآن أنها كانت فكرة جيدة؛ لأنه يبدو أن الانتكاسات لدى هؤلاء الذين يمارسون التأمل بالوعي الكامل أقل تكرارا وأقل عنفا.
عندما نعي الأفكار المضنية حين تعود إلى نشاطها تحت تأثير الصخب اليومي، فإن ذلك سيساعدنا على عدم الخضوع لها، على الأقل ليس بشكل كامل. نستطيع حينها أن نقوم بخيار حقيقي وهو أن نصغي إليها، ثم ننتقل إلى شيء آخر. إن هذا الشيء هو أن نتقدم وأن نحاول، حتى وهي تهمس لنا بأن ذلك غير مجد؛ وحتى حين تقول لنا إن ذلك أقوى منا؛ وحتى حين تصرخ فينا بأن نتوقف عن القيام بهذه المحاولات. من المهم ألا ننصت إليها.
يساعدنا الوعي الكامل على ألا نترك أنفسنا تحت تأثير التهديد القادم من عمق ذواتنا. عندما لا نكون على ما يرام، فإننا بممارسة التأمل نقوم بوضع خوفنا وقلقنا في مساحة الوعي الكامل. وأيضا بالممارسة، عندما لا نكون على ما يرام ولكن ليس بشكل كبير، فإننا نواجه الأمواج الصغيرة كي نستعد بشكل أفضل للعواصف.
التقدم خطوة خطوة، مترا مترا
علينا بعد ذلك ألا نفقد الهمة؛ فهناك أصدقاء للوعي الكامل، الفعل على سبيل المثال. نستطيع أن نقوم بنفس الشيء كما في حالة المسير المنهك؛ أن نخفض رأسنا وأن نتقدم خطوة خطوة، مترا مترا. نستطيع أن نفعل وأن نتقدم حتى ولو لم نكن واثقين من أن ذلك سيجدي نفعا، حتى دون يقين. علينا ألا نخضع لأفكار العجز التي تتدافع حولنا. وعلينا أن ندرك أن هذه الأفكار التلقائية التي ستخرج من الماضي ستحاول بسط سيطرتها، وأن علينا أن نستمر رغم ذلك.
والأهم ألا نقطع تواصلنا مع العالم. علينا أن نرفع رأسنا، وأن نتشرب كل ما يحيط بنا. علينا أن ننتبه إلى انقضاض أفكار اليأس والانهيار، ولكن دون أن نبقى مسجونين معها في دواخلنا. ويجب أن نفتح أبواب ونوافذ أذهاننا على اتساعها أمام العالم الذي يحيط بنا.
التقدم حتى الوصول إلى ذلك الملجأ
تصل كريستينا أخيرا إلى بيتها. تجلس على عتبة المنزل وتراقب غروب الشمس. إنها سعيدة بوجودها، رغم كل شيء. إنها سعيدة رغم شللها، وتعبها، ويديها اللتين تؤلمانها، رغم الحزن الذي لا يوصف والذي يغمر حياتها طوال الوقت. يطلب منها الرسام أن يرسم لها لوحة أخرى وهي جالسة على عتبة الدار في ضوء الشمس. وهي توافق. وتنظر إلى الشمس مرة أخرى وتشعر أن تنفسها يهدأ بالتدرج. تتنهد، ثم تبتسم وتلك هي اللحظة التي يختارها الرسام لرسمها فيها. «الدرس الثامن عشر»
أحيانا نعاني لدرجة أننا نلجأ إلى الفعل فقط. نصير حيوانات تعمل بجهد كثيف للاستمرار بالحياة؛ دون تفكير لأننا نعرف أن التفكير في ظل الألم قد يسبب مزيدا من البؤس والعمى. أن نفعل يعني أن نعرف ما هو جيد وأساسي بالنسبة لنا، وهذا يعني أننا قد فكرنا قليلا ومن ثم تصرفنا، وبتواضع كامل. إننا نفعل لأننا نعرف أن ذلك سيساعدنا على الاستمرار. يمكن أن نمشي، أن نهتم بنباتات الحديقة، أن نرتب، أن نصلح، وأن نذهب إلى العمل. إننا نفعل ليس للهرب أو للشعور بالراحة، ولكن لأننا لا نستطيع القيام بشيء آخر، وإن لم نفعل شيئا، سننهار. قد لا يبعث هذا الكلام على الراحة أو الشجاعة، لكن توجد لحظات كهذه في حياتنا.
الفصل التاسع عشر
أن نقبل الغموض
في المهجع الشمالي لدير سان ماركو في فلورنسا، توجد لوحة فريسك الغريبة والرائعة في نفس الوقت تغطي أحد جدران الغرفة رقم 7. إنها من أكثر اللوحات إثارة للاضطراب والدهشة من بين تلك التي رأيتها.
في جو من الحلم والخيال، وفي حالة من السلام السماوي نجد المسيح وقد عصبت عيناه، ويتم في نفس الوقت إهانته؛ ليس من قبل أشخاص حقيقيين، وإنما عبر صفعات وبصقات، وضربات عصا، وكلها آتية من أيد غريبة معلقة في الهواء. إنهم يقومون بمضايقة المسيح، لكنه في نفس الوقت متربع على عرش، ويحمل صولجانا من قصب، وكرة يحملها عادة ملك العالم. كيف يمكننا أن نتعرض للإهانة ونكون مكللين بالنصر في نفس الوقت؟
لوحة «السخرية من المسيح وهو بصحبة مريم العذراء والقديس دومينيك» (1438) لفرا أنجيليكو (تقريبا 1400-1455)، وهي لوحة فريسك، بأبعاد 1,87 × 1,51 متر، متحف سان ماركو، فلورنسا.
تجلس عند قدميه والدته مريم، والقديس دومينيك. هي تستسلم لحزن عميق وحالم، وهو يقرأ. إنهما كعادتهما، يهتمان لحال المسيح؛ لأن حزن مريم هو من أجل ابنها، ومن المؤكد أن دومينيك كان يقرأ قصة حياة المسيح في الإنجيل. إنهما يهتمان بأمر المسيح، لكنهما لا يأبهان بآلامه على ما يبدو. هما لم يهجراه؛ لا يزالان على تواصل معه؛ مريم بأفكارها، ودومينيك عبر قراءته. لكنهما لا يحاولان مساعدته أو مواساته. لماذا؟
رغم الضوء الساطع في هذه اللوحة، فلا توجد أشياء كثيرة يمكن للمنطق أن يتمسك بها، ومن ثم، يبدو كل شيء غامضا. ولكن أليس هذا هو الوضع في أغلب الأحيان في حياتنا، حتى لو حاولنا إقناع أنفسنا بالعكس؟
الحقيقة أرض بلا طرق.
تيتسيانو تيرتساني، «رحلة الحياة الكبيرة»
علينا أن نتمسك بإنسانيتنا رغم المعاناة
إننا، كالمسيح المرسوم في اللوحة الفريسك، قد نغرق ونختنق، وترهقنا كل أنواع العنف التي قد تسقط على رءوسنا. إن تجربة اليأس تجربة تعمي الأبصار؛ لأنها تضيق رؤيتنا وأفقنا، فلا نرى سوى طوفان المحن الذي يحل بنا. إنها تنزع عنا إنسانيتنا؛ فنصير حيوانات يملؤها الألم، ونصبح مجنوني معاناة. وعندها لن نتمكن من التواصل مع العالم لأن آلامنا الشديدة ستعزلنا وتكبلنا وتجمدنا. إنها ستخلق حالة غرق داخلي، بالإضافة للمصائب الخارجية. وتصير حياتنا محطمة من الداخل كما هي من الخارج.
إذن علينا أن نحاول أن نبقى، بكل ما أوتينا من قوة، أناسا حساسين. علينا أن نتمسك بإنسانيتنا وبكل ما يمكنه أن يوقظها من حولنا؛ كالطبيعة والجمال. علينا أن نستمر بفتح وعينا على أشياء أخرى غير معاناتنا؛ ليس لكي نخفي المحن وننساها، وإنما كي لا تحكم وحدها في حياتنا ووعينا كملكة مطلقة. يجب أن يكون الحال كما في هذا المقطع من كتاب لأحد الناجين من معتقل داخو وهو الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل: «حدث ذلك في مساء أحد الأيام، حين كنا جالسين على الأرض الترابية للزنزانة، منهكين من التعب بعد نهار طويل من العمل، وبأيدينا قصعات الحساء. في لحظة ما أتى زميل لنا، راكضا متوسلا أن نأتي حالا رغم التعب ورغم البرد، وأن نخرج كي نراقب غروب الشمس البهي.» هذا ليس نوعا من الهروب، أو إحدى وسائل الدفاع للنجاة من الرعب، وإنما هو سلوك نابع من الوعي والذكاء الأسمى؛ ففي اللحظات التي تحيط بهم فيها أمواج الموت، استطاع هؤلاء الناس توجيه أرواحهم نحو ما هو جميل أيضا في هذا العالم. إنهم تائهون، عاجزون، ومغلوبون على أمرهم، لكنهم لم يتخلوا عن إنسانيتهم. «ثلاث قدرات سلبية»
في الرسالة المشهورة التي وجهها الشاعر البريطاني جون كيتس إلى إخوته في 22 ديسمبر عام 1817، دعا إلى تطوير ما سماه ب «قدراتهم السلبية». إنه يجد فيها نوعا من النضج والكمال النفسي: «كثير من الأشياء تتابع في ذهني، وفي هذه اللحظة، فاجأتني صفة تساهم في صناعة الرجل المكتمل النضج، وبشكل خاص في مجال الأدب. يبدو أن شكسبير كان يمتلكها بشكل كبير. أريد أن أكلمكم عن القدرة السلبية؛ هي عندما يكون الرجل في حالة من عدم اليقين، والغموض، والشك لكنه لن يركض ساخطا للبحث عن توضيح أو منطق.»
عدم اليقين، والغموض، والشك ... كيف يمكننا أن نطور قدرتنا على تحمل فقد السيطرة على دواخلنا، أو فقد الوضوح، دون أن نحاول فورا التعلق بما هو منطقي ومحدد؟
كيف نتحمل عدم اليقين؟ إن عدم اليقين مصدر للقلق؛ حتى إنه يمكننا أن نقول إن كل حالة قلق قد يكون سببها حالة من عدم اليقين. لهذا السبب يربكنا كل من الموت والمستقبل، فهما دائما مجهولان. لهذا فإننا نحاول دائما في حياتنا أن نضع حدا لكل ما هو غير مؤكد؛ بأن نحصل على ضمانات واحتياطات، وأن نقوم بالتحقق من كل شيء، رغم كل ما يمكن أن يسببه ذلك من إرهاق لذواتنا من كثرة أشكال الحماية والحواجز التي نضعها في حياتنا. إننا نحرص على ملء روحنا بكل ما هو مؤكد، دون أن يطمئننا ذلك؛ لأننا نعرف في أعماقنا أن كل ذلك دون جدوى. كل هذه الجهود، كل تلك التعويذات والابتهالات ليست سوى سلوك دون هدف؛ لأن الحقيقة هي ما يأتي؛ توجد في حياتنا مشكلات لا حل لها، وعلينا أن نقبل بها لكن دون أن نتوقف عندها، بل يجب أن نستمر بالعيش والسير قدما، حاملين هذه المشكلات في حقائبنا.
كيف نتحمل الشك؟ علينا أن نقبل المرات التي لا نعرف فيها كيف نفكر أو ماذا نفعل، وأن نعدل عن هذه الحاجة إلى التعلق بأحكام أو أفعال ثابتة، أو تبني أفكار غير فعالة لكنها مريحة؟ علينا أن نتوقف عن أخذ الخيارات، أو اعتبار أن خياراتنا هي دائما الخيارات الصحيحة؟ أحيانا لا يكون أمامنا حل سوى أن نقول لأنفسنا: «لا أعرف، لا أستطيع أن أعرف، لا أستطيع إلا أن أشك.» لكن يجب ألا يمنعنا هذا الشك عن الاختيار، أو الفعل إذا تطلب الأمر ذلك، وعلينا ألا نعيش فيما بعد في حالة من الشك، من جديد، وألا نبقى في حالة «ماذا أفعل؟» وإنما في حالة «هل فعلت ما هو صحيح؟»
كيف نتحمل الغموض؟ كيف نستطيع أن نتحمل ما هو غير مفهوم، أو ما يتجاوز فهمنا؟ قد يبدو ذلك سهلا؛ لأننا نشعر دائما أن الغموض يبقى خارج نطاق إدراكنا، إذن نقبله بشكل أفضل. لكن الغموض ليس الفوضى؛ لأنه قد يكون وراءه منطق ما، حل ما، معنى ما. لهذا نظل بحالة سؤال إلى الأبد. لكن في حالات الغموض الملفعة بالحزن، بالمعاناة، بالظلم، لن يكون هناك غير سؤال واحد: لماذا؟ دون جواب. وربما ذلك أفضل لأنه عندما تأتي الأجوبة تكون غالبا أجوبة خطيرة؛ كونها محملة بيقين كاذب تصلب في مغطس من الآلام: «إنني ملعون، لا شفاء لوضعي، لا يوجد حل.» ربما من الأفضل ألا نحصل على أجوبة كهذه. وربما من الأفضل أن نتعلم، في بعض حالات الشدة، ألا نطرح أسئلة عندما نكون في خضم المعاناة. ربما من الأفضل حينها أن نتنفس، وأن نفتح روحنا.
اللحظة الحاضرة والفوضى
كيف يمكننا إذن أن نتصرف أثناء المحن، نحن الذين لا يمكن أن نمتلك هذا اليقين الذي يمتلكه المسيح؟ نستطيع أن نلجأ إلى اللحظة الحاضرة، وأن نتمرن على استضافة الشعور بعدم المعرفة أو الاستطاعة أو الفهم. علينا أن نراقب هذا الإحساس غير المريح، وكيف يحاول أن يخنقنا بموجات من الشدة ونبضات مشوشة للذهن؛ «هيا تحرك، افعل شيئا، لا تبق هكذا.» علينا أن ننمي ونطور قدرتنا على احتمال هذه التجربة. وتماما كما يحدث عندما نستمع إلى صديق، يجب علينا في بعض المرات أن نستمع إليه دون أن نشعر أننا مجبرون على حل مشكلاته أو محاولة إيجاد حلول بدلا منه. علينا أن نتحرر من «ضغط إيجاد حل ما» قد يسبب مزيدا من المعاناة. لنفعل الشيء نفسه عندما نفكر في مشكلاتنا؛ لنراقب بهدوء حالتنا، الآن وهنا، قبل أن نمتلئ عنادا بضرورة امتلاك زمام الأمور؛ فهذا سيأتي لاحقا.
ومن المهم أيضا أن نعتبر هذا العدول عن محاولة الفهم والتحكم بالأمور، حالة تحرر وخيارا، وليس هزيمة أو إجبارا. علينا أن نعدل عن السعي إلى التحكم ولكن أن يكون ذلك بشكل فعلي، دون تأوه أو ندم. ويجب أن يتم ذلك بعقلنا وجسدنا وروحنا أيضا، ولا يجب أن نبتعد بجسدنا (بأن «نستسلم» ولا نفعل شيئا) ولكن روحنا تتأوه. علينا أن نراقب إلى أي درجة يبعث هذا العدول على الراحة.
ولكن لننتبه؛ إذ يجب ألا يكون هذا هو سلوكنا الأول في كل مرة. علينا أحيانا من دون شك، أو حتى في معظم الأوقات، البدء بالبحث عن حلول. ولكننا إذا لم نجد حلولا، أو أنه رغم وجودها، عادت المشكلات، فقد يعني ذلك حينها أن طريق الخروج يكمن في مكان آخر.
إن ذكائي ومنطقي هما الضوء الذي ينير لي ويساعدني على فهم مشكلاتي، وإيجاد حلول لها. ولكن أحيانا، قد لا يكفي هذا الضوء، أو حتى إنه سيسجنني ويحجب عني طرقا أخرى. فعندما تسطع الشمس، يعطينا نورها انطباعا أنه يكشف لنا كل ما هو موجود أمامنا. ولكنها عندما تغيب ويحل الليل، نفهم فجأة، أمام هذا العدد الهائل من النجوم أنه توجد أشياء أخرى لم نرها بسبب ضوء الشمس. «الدرس التاسع عشر»
يجب ألا نضع أنفسنا في حالة ضعف أو عجز. لكننا لا نملك الخيار دائما. إذن هل نستطيع أن نهيئ أنفسنا للحظات كهذه؟ ربما. عندما نمارس تمارين التأمل بالوعي الكامل بشكل متكرر، سنعرض أنفسنا حينها إلى ذهن لا يفعل إلا ما يحلو له، وإلى مشاعر وأحاسيس تؤلمنا. ولكننا عندما نقرر البقاء هنا، رغم كل هذا؛ أن نبقى بالتمرين رغم عدم الراحة والفوضى، فإننا سنملك قدرة مهمة؛ إنها قدرتنا على تحمل الإحساس بالفوضى وفقد السيطرة. أن نبقى رغم الألم ليس نوعا من محاولة جلد الذات، أو حب تعذيبها؛ بل هو فقط أن نقبل إمكانية حدوث ذلك يوما ما في حياتنا، وأن نكون مستعدين لذلك ولو قليلا.
الفصل العشرون
أن نلمح السعادة وهي تبزغ ببطء
إنها كالوعد الذي يظهر ببطء من بعيد. جمال ساحر نراقبه ونحن نقترب في مياه الخليج الضحلة. إنها مدينة البندقية. قريبا سنصل إليها، قريبا سنضع أقدامنا على أرضها الهشة، سنكتشفها، ونزورها كاملة، هذه المدينة ذات الجمال الذي يخبو رويدا. تبدو الشمس كأنها تستقبلنا وهي تقدم آخر خيوط الضوء والحرارة. إنها تملأ سماء الخليج بشعلة صفراء ذهبية اللون.
لقد بدأ القمر صعوده عند الأفق في الزاوية اليسرى من اللوحة، حاملا معه قليلا من البرودة. بعد قليل ستغوص الزرقة في ظلام الليل، وعندما سنصل إلى المرفأ تكون الشمس وضوءها قد غابا. إن هذه اللحظة تهزنا وتبعث القشعريرة فينا. لقد غمرنا هذا النهار بالسعادة، وكذلك فعل الغسق. فماذا سيحدث الآن عندما تغيب الشمس؟
لوحة «الاقتراب من البندقية» (1844) لجوزيف مالورد ويليام تيرنر (1775-1851)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,62 × 0,94 متر، المعرض الوطني للفنون، واشنطن.
في كل لحظة، يمكننا أن ندخل الجنة ... أو نخرج منها.
كريستيان بوبان
السعادة والوعي
كل شيء يبدأ بشعور الرضا؛ الشبع، الهدوء، الدفء، غياب أي تهديد. إنه من الرائع أن نمتلك شعورا كهذا. إنه شعور أساسي لكل الحيوانات والكائنات الحية، بما فيها الإنسان. يمكننا البقاء هنا، لكن هذا الشعور هو ليس بالضبط السعادة؛ فما نسميه سعادة هو شعور أبعد من ذلك.
إذا أدركت هذه اللحظات من الرفاهية، وقلت لنفسي: «إن ما أعيشه في هذه اللحظة هو فرصة، وأعجوبة، ونعمة.» فحينها سيحدث شيء آخر، عندها ستسمو الرفاهية لتصير سعادة. عندما أفتح روحي، وأتذوق بكامل إدراكي كل ما يحدث لي من أشياء جيدة وأنا كامل الحضور لها، فإن تأثير ذلك سيكون مضاعفا بشكل لا يقاس. إنه سيتجاوز كثيرا حالة إرضاء حاجاتي الجسدية والنفسية. وسيكون قادرا على إرضاء أو تخفيف تطلعاتي أو إرهاصاتي الفكرية؛ المعنى، الانتماء، الحب، السلام، الأبدية ...
دون وعي ذلك، لن توجد السعادة. لن يكون سوى ذكراها، كما في هذا البيت الشعري للشاعر والكاتب المشهور ريمون راديجيه: «أيتها السعادة، لم أعرفك يوما إلا عبر هذه الضجة التي تحدثينها وأنت تذهبين.» دون وعي الحاضر سنندم على حالات الفرح التي مضت والتي لم نعرف كيف نعيشها. إنها تلك السعادة التي تموت عند ولادتها؛ لأننا لم نعطها الحياة بوعينا لها. هذا ما يحدث لنا عندما يتدافع أمامنا الوجود، عندما يكون لدينا كثير جدا من الأشياء التي يجب أن نقوم بها لدرجة أننا لا نأخذ الوقت الكافي كي نفتح عيوننا على كل احتمالات السعادة التي تصادف طريقنا. وهذا ما يحدث لنا عندما نكون حزانى أو قلقين؛ إننا لا نسكن حينها الحاضر، وإنما تأخذ روحنا مكانا في قلق المستقبل أو ندم الماضي. أما السعادة، فلن نستطيع إلا أن نأملها أو نبكيها، لا أن نعيشها.
يستطيع التأمل بالوعي الكامل مساعدتنا على التذوق الكثيف «لفرص» السعادة العديدة في يومياتنا. فإذا قمنا باجتيازها وروحنا في مكان آخر (في أفكارنا ومشاريعنا ومشكلاتنا)، فإننا لن نرى ولن نشعر بأي شيء. أما إذا قمنا وبشكل متكرر بفتح وعينا على كل ما يحيط بنا، دون بحث حثيث، فإننا سنرى لحظات السعادة تلك. ودون أن نقصد، ستلمسنا نعمة تلك السعادة. وفي أغلب الأحيان ستصلنا السعادة على شكل قطع صغيرة، على هيئة لحظات خاطفة، في سياق يومياتنا؛ فهي تكون خفيفة الطابع، قصيرة المدة، غير كاملة ولكنها عديدة، مغيرة، مليئة بالحياة، ومتكررة. إنها لحظات مرشوشة بغبار السعادة؛ لحظات قصيرة من الفرح بكل بساطة.
الوعي والسعادة الهشة
إن وعينا الذي سيصنع السعادة، هو نفسه الذي سيخلق خوفنا من فقدها. عندما نكون فرحين، سنعي بشكل واضح أننا لن نبقى كذلك لفترة طويلة. لا يمكننا أن نمتلك السعادة إلا عبر فواصل ومن ثم فإنها لن تبقى مستمرة طوال فترة حياتنا، فهي ستظهر وتختفي. لا يكمن السر إذن في محاولة التمسك بها دون تركها، بالقلق أو الخوف أمام فكرة ذهابها القريب، وإنما في تذوقها، وقبول كسوفها المتكرر والاستعداد لعودتها كل مرة؛ لمرورها حتى لو كان سريعا.
لا يحتمل المستسلمون لليأس والقلقون قبول غياب السعادة المتكرر، ومن ثم فهم يرفضون الاستسلام لها، وإلى كل ما هو جيد في حياتنا؛ لأنهم يعرفون أن ذلك لن يدوم. إنهم على حق لأنها لا تدوم. ولكن، أليس علينا أن نتذوق الفرح أكثر لأنه سيغادرنا حتما؟ لدينا الخيار بأن نكون سعداء لفترة وأن تغادرنا هذه السعادة، أو أن نحرم منها للأبد؛ أن نتنفس السعادة لوهلة، وأن نعاني من ألم متشنج لنمنع عن أنفسنا قدوم السعادة ومن ثم غيابها بعد لحظة. بالنسبة إلي، فأنا قد أخذت قراري. فماذا عنك؟
أثبت العلم أننا حين ندرك أننا نعيش لحظات سعادة أخيرة، فإن فرحنا بعيشها لا ينقص وإنما يصبح أكثر تعقيدا. إنه يزداد كثافة؛ يصير أكثر حدة، أكثر وعيا. ولكنه يبقى فرحا؛ فرحا هشا، يسكن صميم مأساة الحياة، دون أن ينكرها، ولكن دون أن يستسلم لها أيضا. إذن ، هل السعادة فكرة تراجيدية؟ بالطبع!
السعادة وسط الحزن
لماذا يرتبط الفرح دوما بغياب المعاناة واللاوعي؟ لماذا لا يوجد أيضا إلى جانب الجزء الحزين من الحياة؟ إننا نتمرن في التأمل بالوعي الكامل على تلقي وقبول كل شيء؛ الآلام ولحظات السعادة. نتعلم أن نحتمل ونستقبل التجارب الصعبة، الهشة والمزعجة، كما في حياتنا الحقيقية؛ ليس تلك الحياة التي نحلم بها، بل تلك التي نعيشها فعلا؛ تلك التي تفرض نفسها علينا وتعري أحلامنا. ومن حظنا أنها تفرض علينا نفسها؛ فهي الشكل الأكثر إثارة.
في الفرح أيضا، ومرة أخرى لا يدفعنا التأمل إلى الهروب من العالم، وإنما إلى استقباله بشكل أفضل كما هو. والحقيقة هي أن الفرح والحزن يبقيان في معظم الوقت جنبا إلى جنب؛ كالظل والضوء. وما من شك أن هذا ما كان يعنيه ألبير كامو عندما كتب: «لا أريد بعد الآن أن أكون سعيدا، وإنما فقط أن أكون واعيا.» سنحاول إذن أن نجمعهما معا، وأن نعمل على وعينا، ليس لكي يستعيض عن السعادة وإنما ليقوم بتوضيحها وتكثيفها وإدخالها عالمنا. هذا ما يسميه أندريه كونت-سبونفيل «الحكمة»: «تكمن قمة السعادة في قمة الإدراك.»
أتذكر تلك الدراسة الرائعة، التي تظهر أن الأشخاص الذين يمرون بحالة حداد ويستطيعون أن يبتسموا عند ذكر شريكهم الغائب («أي معاناة هذه أنني فقدته! ولكن أي سعادة هذه أنني عرفته!») هم الأشخاص الذين سيتحسنون أكثر من غيرهم بعد عامين من الفقد، وذلك لقدرتهم على حماية سعادتهم من الغرق في بحر ألمهم. إنهم قادرون على فهم أن الحياة تؤخذ بكليتها، وأن التعاسة لا تلغي كل لحظات السعادة الماضية، ولا تأخذها منا. هذا لأننا قد اكتسبنا لحظات السعادة تلك إلى آخر العمر، ولدينا الحق لأن نبكي ونبتسم في نفس الوقت. هذا لأننا قبلنا بهذا العالم، وقررنا أن نحبه بكل قوتنا.
علينا أن نستسلم ونحن في حزننا لقصاصات السعادة؛ حتى لو كانت قصيرة، حتى لو كانت هي نفسها ملفعة بالحزن، ولو كانت مجزأة.
لقد قررنا أن نحبه كما أحببنا مدينة البندقية بكل طاقتنا، هذه المدينة التي تهرم منذ قرون عديدة وستختفي يوما تحت البحر.
لقد قررنا أن نحبه كما أحببنا من كل طاقتنا إتي هيليسم التي حبست في معتقل فيستربورك، أول معتقلات الموت، والتي كتبت: «الحياة والموت، الألم والفرح، تشققات الأقدام المؤلمة والياسمين خلف البيت، الاضطهاد، الأعمال الوحشية التي لا تحصى، كل ذلك يقبع داخلي معا، ويشكل كلا قويا أقبله ككل لا يتجزأ.»
لقد قررنا أن نحبه كما أحببنا بكل طاقتنا يفجينيا جينزبورج وهي في قاعة المحكمة السوفيتية التي جرت إليها دون أن تفهم بماذا يتهمونها، وأخذت تنظر إلى الخارج وهي تنتظر حكم الإعدام أو معسكر الأشغال الشاقة: «وراء النوافذ تقف أشجار كبيرة قاتمة اللون. أسمع بفرح الهمسات السرية للأوراق، وكأنني أسمعها لأول مرة، وأشعر كأنها تلامسني.»
إن هذا قمة الوعي الكامل، وقمة الإنسانية. لسنا قادرين على فعل ذلك بالتأكيد، ولكننا نستطيع التعلم منهم. علينا أن نستسلم ونحن في حزننا لقصاصات السعادة؛ حتى لو كانت قصيرة، حتى لو كانت هي نفسها ملفعة بالحزن، ولو كانت مجزأة. وعلينا ألا ننتظر منها راحة إلا تلك الراحة غير المستقرة واللحظية؛ لأننا حالما نبدأ من جديد بالعيش والتفكير قد يعود حينها الحزن من جديد. ولكننا نعود فنبدأ من جديد أيضا وهكذا، دون تعب. علينا أن نبدأ دوما بتنفس حزننا، ووضعه بجانب الحياة؛ أي، بجانب السعادة. «الدرس العشرون»
فيما يخص السعادة، يعلمنا الوعي الكامل ببساطة ما يأتي؛ بما أن السعادة لا تنفصل عن الحزن، وأن الحياة لن تتوقف عن وضعنا في مواجهة المأساة والضيق، فعلينا إذن ألا نحلم بالسعادة الكاملة والدائمة، وإنما أن نتعلم تذوقها على شكل أجزاء صغيرة. علينا أن نترك لها مكانا رغم المحن والهموم، أثناء مرورها بنا وليس عندما تكون قد غابت أو اختفت (أن نشعر في يوم ما أن كل مشكلاتنا قد حلت، هذا الطرح غير موجود، وخاصة إذا كنا قلقين أو مكتئبين). علينا أن نحافظ على لحظات السعادة الصغيرة في المحن؛ خصوصا أثناء المحن لأنها اللحظات الأكثر حميمية، والأكثر روعة، والتي لا يستغنى عنها .
الجزء
أن نكون أكثر انفتاحا ويقظة وندرك أن ذلك هو أكثر الأسفار بعدا
جسدك اليوم حقيقي أكثر من روحك، وغدا روحك ستكون حقيقية أكثر من جسدك.
جوستاف تيبون، «الوهم الخصب»
الفصل الحادي والعشرون
أن نعمل
ما نراه غير موجود، أو على الأقل ليس بهذه الطريقة. تعرض هذه اللوحة مجموعة من الأجزاء المعمارية وقد أزيلت بعض الجدران لإظهار ما هو أساسي داخل منزل كبير من العصر القوطي؛ مما يسمح لنا باكتشاف أسراره ويسمح لنظرتنا أن تتجول في ثلاثة مستويات متراكبة داخله.
في الوسط نرى القديس جيروم يعمل في مكتبه. لا تظهر هذه اللوحة قدسيته وإنما عمله، عبر كل المخطوطات التي تحيط به، وتظهر أيضا إنسانيته عبر العديد من التفاصيل المؤثرة؛ حذائه الذي قام بنزعه قبل صعود المنصة، القط الذي ينام بقربه. وحوله هيكل بناء ضخم يوحي بأنه دير؛ إنه بناء صلب يحميه من شرود الذهن، لكنه في نفس الوقت يسمح للحياة بدخوله. أترون في يمين اللوحة، داخل ممر الدير هناك أسد يتجول في الظل. يقال إن القديس جيروم قد شفى هذا الأسد الذي تبعه حتى الدير وهناك قام ساكنو الدير بتبنيه.
لوحة «القديس جيروم في مكتبه» (تقريبا 1475) لأنطونيلو دا ميسينا (تقريبا 1430-تقريبا 1479)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,457 × 0,362 متر، المعرض الوطني، لندن.
أما المستوى الثالث في محيط الدير فإنه ينفتح على العالم؛ ففي القسم الأمامي من اللوحة بالقرب من المشاهد يوجد بوابة ضخمة نجد على درجاتها طائر حجل وطاووسا. أما في الخلف، فنجد نوافذ واسعة تكشف مناظر ريفية، ومدينة في الأفق، بينما تنفتح نوافذ أخرى على السماء التي تحلق فيها طيور عديدة.
بين العمل الداخلي والعالم الخارجي هناك محيط آمن، لكنه مفتوح في نفس الوقت. إن هذه الفكرة هي ما يجذب في هذه اللوحة. هذا ما أحاول أن أدفع اللوحة إلى قوله، وهذه هي الطريقة التي أردت قراءتها بها لتخدم قصدي. عندما نظرت للقديس جيروم الموجود في اللوحة، جعلني أفكر بممارسة التأمل بالوعي الكامل، بهذا التناوب المنتظم بين العزلة المتأملة للذات، والانفتاح على العالم، وأفكر أيضا بالعمل الصبور والمنتظم.
كل شيء يبدأ بالحاجة وكل شيء يجب أن ينتهي بالحرية.
موريس زاندل، «الحياة، والموت، والقيامة»
تمرين الذهن
من أين تأتي إذن هذه النزعة المذهلة إلى الاعتقاد أننا أسياد أذهاننا؟ واعتبار قدرات الانتباه والوعي قدرات ثابتة وكاملة، دون الحاجة للعمل عليها؟
لماذا نرى أن ذهننا، على عكس كل العضلات في جسمنا، لا يحتاج للتمارين، ولا يمكن تطويره أكثر، رغم أننا نقبل بهذه الفكرة وبشكل بديهي بالنسبة لجسدنا؟ فنحن نعرف أن التمارين الرياضية تطور تنفسنا وعضلاتنا، وأن غذاء متوازنا سيعود بالفائدة على الجسد وهكذا. ولكننا يصعب إقناعنا، أو ربما لم نتعلم بعد، أن نفس الشيء ينطبق على عالمنا النفسي؛ إن تمرين أرواحنا، أو نستطيع أن نقول تمرين الذهن، لذو أهمية قصوى؛ فهو يستطيع على الصعيد العقلي «تطوير» قدرات التفكير والتركيز، وعلى الصعيد العاطفي يخفف من ميلنا العفوي نحو القلق، والتعب النفسي، والغضب، وكل ما يدفعنا إلى الانزلاق النفسي في يومنا. تخضع معظم قدراتنا النفسية لمبدأ التعلم؛ فكلما تمرنا أكثر، تقدمنا أكثر.
في الحقيقة إن هذا بالضبط ما يحدث لنا بشكل عفوي؛ كلما غضبنا أكثر، صرنا أكثر قدرة على الغضب. كلما مارسنا اليأس أكثر، صرنا أكثر خبرة في فرض اليأس على الآخرين وعلى أنفسنا. وكلما قلقنا أكثر، أصبحنا خبراء في ممارسة القلق ...
من المؤكد أن الهدف ليس إبقاء ذهننا مقيدا بحبل، وممارسة سيطرة كلية عليه، وإنما فقط تحقيق توازن قوى؛ أن نتمكن مثلا من الحصول على تركيز أو هدوء ملائم في اللحظات التي نحتاج لأي منهما فيها.
هل نريد أن نطور ذواتنا في اتجاه آخر؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن المهم أن نبدأ بالعمل. إننا نقبل ذلك كي نتعلم اللغة الإنجليزية، أو التزلج، أو العزف على آلة موسيقية. ولكن يصبح ذلك أقل سهولة عندما يتعلق الأمر بالتركيز وصفاء الذهن. قد يقول بعضهم: «لماذا يجب أن نتمرن كل يوم؟ ألا تكفينا خبرة الحياة؟ ألا تكفي العزيمة والإصرار؟»
لا، كل هذا لا يكفي. لأننا إذا بقينا عند هذه الرغبة الواهية بالتغيير، فإننا لن نستخدم أبدا أذهاننا بشكل صحيح، سنبقى دائما ضحايا تشكو لكنها تقبل بكل ما هو تلقائي، وهكذا سنحافظ على تلك الأفكار القصيرة نفسها، وتلك المشاعر الخارجة عن سيطرتنا. لهذا السبب تكون ممارسة التأمل بالوعي الكامل، من جملة ما تكون، شكلا من رياضة الذهن. وهي رياضة مهمة للجميع، وخصوصا لهؤلاء الذين يدركون إلى أي مدى تهرب منهم أفكارهم، ولا تطيعهم. من المؤكد أن الهدف ليس إبقاء ذهننا مقيدا بحبل، وممارسة سيطرة كلية عليه، وإنما فقط تحقيق توازن قوى؛ أن نتمكن مثلا من الحصول على تركيز أو هدوء ملائم في اللحظات التي نحتاج لأي منهما فيها. لا أعتقد أنه هدف طموح أو صعب المنال، ومع ذلك هل نستطيع تحقيقه دائما؟
إن تمرين الذهن بشكل يومي لهو سلوك صحي؛ إنه بالضبط كرياضة الجمباز لوعينا.
إنه ينظف أيضا كل الأوساخ الاجتماعية؛ فهو بمنزلة ترتيب داخلي متكرر لذواتنا. وكما في حال الترتيب «الحقيقي»، إذا قمنا به بشكل متكرر فلن نشعر به لأننا سنعتاد على الإحساس الجيد. ولكن إذا لم نقم به، فإننا سنرى ذلك سريعا، أو بالأحرى سنشعر به. وربما ذلك هو «الخطر» الأكثر أهمية لممارسة التأمل بالوعي الكامل؛ أننا نصير معتمدين عليها، فإذا أوقفنا الممارسة فسنلاحظ بالتدرج عودة تبدلات المشاعر غير المستقرة، والأفكار المتطايرة.
الممارسة هي أيضا نوع من الزهد؛ فوراء بساطة الممارسة تكمن صعوبة المواظبة. هي أيضا مدرسة في الصبر؛ إذ يجب دوما العدول عن الحصول على نتيجة آنية. وهي أيضا مدرسة في التواضع؛ فالممارسة لن تضمن لنا شيئا؛ لأنه بعد حماسة البداية، والإحساس - أحيانا حتى الحصول على نتائج واضحة - بأن التمرين المنتظم ساهم بتخفيف هشاشتنا النفسية، نكون شبه متأكدين أننا قمنا بتحقيق تقدم (وطبعا ذلك صحيح)، ونصير واثقين أن هذا التقدم فعلي ودائم (لكن ذلك ليس صحيحا)؛ لأننا ننتكس من جديد. إن تلك «الانتكاسات التي تصيب الممارسين» هي القاعدة، إنها جزء أساسي من الطريق؛ فبعد نجاحاتك وحماستك، ستسقط من جديد، تحت تأثير صفعات الغضب، والكآبة، والقلق ... هل السقوط شيء مثير للخجل؟ هذا فقط إذا استخدمت تقدمك بالتأمل للافتخار، وأكثر إذا عرضته على الجميع، وقلت لهم إنه الترياق، وحملت «حالة الزن» الجديدة خاصتك كقلادة. وهل يكون السقوط مثيرا لخيبة الأمل؟ نعم، فقط إذا فرحت بشكل زائد، وحتى إن كان ذلك سرا، «في داخلك». وهل هو مسل؟ نعم، إذا قبلت أن ذلك سيحدث يوما ما، وإذا استطعت، في ذلك اليوم، أن تتلقى خيبة الأمل بهدوء، وبوعي كامل لأنك كنت تعرف أن ذلك سيحدث، ولأنك قبلت به قبلا. إن كل ذلك لا يعني أكثر من أن نقول: استمروا بالممارسة، استمروا دوما.
التمرين والممارسة
أقصد ب «التمرين» ممارسة التأمل بالوعي الكامل دون وجود سبب أو حاجة مباشرة؛ في الوقت الذي تسير فيه حياتنا بشكل طبيعي، دون معاناة محددة. ويوجد ثلاثة مستويات للتمرين: الممارسة المنهجية، والممارسة القصيرة الأمد، والمستوى الثالث هو عيش الحياة نفسها، ولكن بحالة وعي كامل.
تتألف التمارين المنهجية من تمارين طويلة الأمد، يجب ممارستها بشكل متكرر؛ بشكل يومي بالنسبة للمبتدئين، ثم مرة كل أسبوع وبعدها مرة في الشهر. نتعلم في بعضها أن نمرر في الذهن كامل أعضاء الجسم، دون محاولة تغيير الأحاسيس الموجودة فيها وإنما فقط إدخالها في إطار إدراكنا بهدوء واحترام؛ هذا ما نسميه ب «التصوير الطبقي للجسم» لو استعرنا المصطلح الطبي. في تمارين أخرى نتواصل مع حركات تنفسنا، أو مع الأصوات حولنا والحركية الدائمة لأفكارنا؛ هذا ما نسميه ب «الوعي الكامل للأصوات والأفكار». وهناك العديد من التمارين الأخرى. نستطيع البدء بالتمرين وحدنا بمساعدة مقطع صوتي، وهذا يساعدنا على البدء في تأمل الممارسة وتحديد فوائدها وصعوباتها. ولكن في لحظة من اللحظات سنحتاج إلى النصيحة، وإلى أجوبة على أسئلتنا، إذن لا بد من المشاركة بجلسات تمرين يديرها «معلم» لديه خبرة في التأمل بالوعي الكامل. إن مصطلح «معلم» يؤكد على أن هذه التمارين ليست علاجا نفسيا (رغم أن العلاج بالتأمل بالوعي الكامل يمكن وصفه للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية) وإنما هو شكل من أشكال التعلم. إنه مجموعة من «الإرشادات» التي تساعد الشخص على الممارسة الذاتية لاحقا.
أما الممارسات القصيرة الأمد (عدة دقائق)، فإننا نستطيع القيام بها عدة مرات في اليوم. وهي يمكن أن تكون على شكل حضور واع «بسيط» في لحظات محددة: مثل الحال في بعض الأديرة البوذية عندما يقرعون الجرس مرة كل ساعة، أو التمارين التي يمكن للطبيب أن يقوم بها بين كشفين على المرضى، أو عندما يقوم موظف بإنهاء عمل ما والبدء بآخر، أو في أوقات الانتظار ... إلخ. ويمكن أن نقوم بها في أوقات الشدة والمعاناة، بدلا من تجاهلها أو السماح للاجترارات المعتادة الخاصة بالقلق بالظهور. سنحاول إذن أن ندركها ونستقبلها في روحنا التي ستكون مفتوحة على اتساعها أثناء تلقيها لتجربة اللحظة الحاضرة؛ فمثلا هناك ما نستطيع تسميته «فضاء تنفس»؛ عندما نشعر أننا نمر بفترة صعبة، نستطيع حينها، وكلما سنحت لنا الفرصة، أن نتوقف ثلاث دقائق وندعو ما هو غير مريح داخلنا للحضور، وفي نفس الوقت نبقى حاضرين لحركات تنفسنا، وبعدها نعود إلى نشاطنا الذي كنا نقوم به، مستفيدين حينها من «حالة الوعي الكامل» التي فعلناها خلال عدة دقائق.
العيش بوعي كامل
وأخيرا، لدينا هذا المكان الأكثر رحابة للممارسة، إنه الحياة نفسها. الحياة التي تعاش بوعي كامل. لقد قمنا بذكرها في كل أجزاء هذا الكتاب؛ هي، وبكل بساطة، أن نعبر أكبر عدد ممكن من لحظاتنا وعيون وعينا مفتوحة على مصراعيها. إنها أن نتوقف بشكل متكرر لثوان، أو لدقائق، أو أكثر لنشعر - بكثافة ودون أي كلمة - كل ما يحدث داخلنا وحولنا؛ وكأننا في حالة مضغ وهضم هادئ لوجودنا (بدلا من التهام وابتلاع كل لحظات حياتنا دون وعي). ويكون ذلك في اللحظات التي تبدو «عادية» أو تلك المهمة؛ العادية مثل الأكل، المشي، الشرب، العمل، الكلام، الانتظار، عدم القيام بأي شيء؛ والمهمة مثل المناسبات (لأن الوعي الكامل سيساعدنا على إعطاء المناسبة حقها، بدلا من الخضوع للمشتتات الخارجية، أو ثرثرة روحنا الداخلية؛ أعياد الميلاد، حفلات الزواج، المآتم ... إلخ)، واللحظات التي نواجه فيها الطبيعة، أو الجمال ...
ملاذ ونقطة مراقبة
إذا مارسنا هذه التمارين بشكل متكرر، فسيصبح الوعي الكامل عندها ملاذا داخليا مهما في حالة المعاناة. أولا سيصبح كملجأ؛ ملجأ اللحظة الحاضرة في وجه كل أنواع الشدة، ثم كوسيلة لثبات انتباهنا لنستطيع من جديد القدرة على الاستقبال والمراقبة ومن ثم أخذ القرار بما يخص سلوكنا.
ولكن يمكنه أن يكون أيضا نقطة مراقبة؛ عندما لا نفهم بشكل واضح ما يحدث، وعندما لا تكفي رغبتنا، أو عندما لا نستطيع أن نتحكم باضطرابات وفوضى دواخلنا. المرور حينها عبر الوعي الكامل سيساعدنا. سيساعدنا على ألا نعيش كيفما اتفق، وألا «نبتعد» عما يعنينا.
ينطبق الشيء نفسه على حسن الحال؛ يساعدنا الوعي الكامل على السمو بحسن الحال نحو السعادة. لقد ذكرنا ذلك. إنه يساعدنا على تكثيف رؤيتنا في اللحظات السعيدة، وزرعها أعمق في دواخلنا، وإدخال فرحنا في جسدنا، وإعطاء هذه السعادة حقها فقط، بأن نراها كما هي غير دائمة، دون أن يكون ذلك بحثا عن الحزن أو الانفصال عن هذه اللحظات، ولكن لنحبها ونقدرها أكثر، وندرك جمالها. يساعدنا الوعي الكامل على فهم أن السعادة تشبه الزهور، يجب استنشاقها ثم تركها. هي لا تشبه القطع الذهبية، نتمسك بها ونجمعها. إنها زهور رائعة وهشة وسريعة الزوال مثل حياتنا. إنه يساعدنا على العيش، بكل بساطة، وأن نعي في كل تمرين أننا أحياء وأن ذلك شديد الروعة. «الدرس الحادي والعشرون»
ينصحنا ممارسو التأمل الخبراء أن نبدأ يومنا وننهيه بالبقاء بضع لحظات بحالة وعي كامل؛ عندما نفتح أعيننا في الصباح، وفي المساء عندما نتهيأ لإغماضهما، علينا أن نعي لحظتنا الحاضرة (جسدنا، وتنفسنا، وثرثرة أفكارنا، وحركية عواطفنا ...) وعلينا أن نقوم أثناء يومنا بإدخال لحظات متكررة من الوعي الكامل (عندما نكون في قاعة انتظار، أو بين نشاطين). وأخيرا، وإذا أردنا الذهاب أبعد، يجب أن نقوم بتمرين منهجي طويل مرة كل أسبوع، على مدى نصف ساعة أو ساعة كاملة، وسيكون ذلك أكثر سهولة إذا قمنا به ضمن مجموعة وبحضور معلم خبير.
الفصل الثاني والعشرون
أن نتأمل
وصل المسافر إلى أعلى الجبل، بعد أن قضى يوما كاملا بالصعود.
لقد انطلق في الصباح الباكر، قبل بزوغ الشمس بوقت كبير. وخلال طريقه الطويل للوصول كان يتقدم وروحه خفيفة؛ منصتا لصوت حذائه، لنبضات قلبه، ولتنفسه، لانتظام وقع خطواته، ولضربات المعدن في نهاية عصاه على الصخور. كل ذلك يملأ روحه بأصوات مهدئة. أحيانا تأتي أفكار لتحدثه عن الصعوبات التي تنتظره، لكنه يفتح وعيه على اتساعه للحظة الحاضرة؛ مسيره، الأصوات حوله، الأضواء الأولى للفجر. تختفي حينها الأفكار، ثم تعود، ثم تختفي من جديد. إنها ليست أكثر ثباتا من ريشة في الريح، أو هذا الضباب على رءوس الجبال.
لوحة «مسافر فوق بحر من الضباب» (تقريبا 1818) لكاسبر ديفيد فريدريتش (1774-1840)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,948 × 0,748 متر، معرض الفن، هامبورج.
الآن إنه على القمة، وقد بدأ بالاستمتاع بالنصر: «لقد نجحت. لقد قمت بذلك!» يجب دائما الاستمتاع بانتصاراتنا. وعلينا الشعور بالزهو، بالفخر والفرح؛ أن نتلقى هذه المشاعر كاملة، ونترك أنفسنا تمتلئ برحيقها حلو المذاق واللاذع بعض الشيء، ثم ننتقل إلى شيء آخر أكثر أهمية. علينا أن نذهب أبعد من كل ذلك؛ لنترك أنفسنا مأخوذة بهذا الجبل، يجتاحها هذا الكون الذي يحتضننا ويقدم لنا حسن ضيافته. علينا أن نفتح وعينا على كل ما هو موجود، في هذا الأفق الرائع؛ الهواء النقي، والصمت الذي يسكن الجبال، وصوت الريح.
في كل شهيق، يشعر هذا المسافر أنه يمتلئ بالجبل بالكامل. وفي كل زفير يتلاشى جسده وروحه فيه. إنه يشعر براحة لا متناهية، وكأنه في المكان الصحيح بشكل كامل وكلي.
هذا الذي يحقق هدفه يكون قد فشل في كل شيء آخر.
إحدى مقولات الزن
التزام وانفصال
يساعدنا التأمل بالوعي الكامل على أن نلتزم بالنشاطات التي تهمنا، ومن ثم يساعدنا على الانفصال عن العبودية لنتائجها.
إنه الفرق بين «الغاية» و«الهدف». فعندما يتمرن رامي السهام، فإن الغاية تعني الرمي بشكل صحيح، أما الهدف، فيعني إصابة الهدف. إن الغاية تتعلق بي حيث يمكنني إدراكها بالتمرين، بينما الهدف يتعلق بعوامل أخرى أيضا؛ قوة الرياح التي ستحمل السهم، أو ضجة مفاجئة قد تدفعني للحركة في اللحظة الأخيرة.
بنفس الطريقة؛ يتطلب التمرين على التأمل بالوعي الكامل أن أبقى وبشكل متكرر جالسا، مغمض العينين وأن أكرس نفسي لتلقي ومراقبة تجربتي الخاصة. ولكن يجب علي أن أقبل حقيقة أن نتائج تجربتي بالجلوس قد تختلف بين يوم وآخر. الشيء الثابت الوحيد هو أنه كلما جلست بشكل متكرر أكثر وبقيت في وضعيتي هذه فترة أطول، وصلت إلى هدفي أكثر.
إن هذه الطريقة بالالتزام بتمارين الوعي الكامل تسمح لنا، ونحن نعيش حياتنا اليومية، بأن نواجه ما هو جوهري فيها. إن هذا يحدث عبر الالتزام ثم الانفصال كمسير بطيء وجاد باتجاه الجوهر الذي يتجاوزنا جميعا. لكن تعاقب الالتزام والانفصال ليس بالشيء اليسير.
في البداية، عندما نبدأ تماريننا على حالة الانفصال، فإننا سنقوم بذلك بشكل سطحي لأننا لا نكون فعلا منفصلين، وإنما نريد فقط أن نحمي أنفسنا من المعاناة، وأن ينقذنا الانفصال من المعاناة والفشل، ومن الهجران والمشكلات اليومية. ولن نفكر بالانفصال عن النجاح، والحفاوة، والمجد! إذن إننا نتعامل بمكر؛ نتظاهر! إنه تواضع كاذب، ولامبالاة وابتعاد غير حقيقيين، وفي الحقيقة، في دواخلنا، فإننا نضحك على أنفسنا ونخادع. ولكننا إذا واظبنا، وقررنا أن نتمرن على كل ذلك باستمرار؛ إذا قمنا في كل مرة، وبعد كل نجاح بالجلوس لنصفي ذواتنا بدلا من الانفعال عند الاحتفال، وأن نفعل الشيء نفسه بعد كل فشل، بدلا من الغضب وتأنيب الذات، عندها وبالتدرج ستحدث أشياء غريبة في دواخلنا، سيهزنا حينها بشكل أقل نتائج ما نقوم به، وسندرك أنه يوجد ما هو أكثر أهمية وراء كل ذلك؛ سنشعر كأننا على قمة جبل.
الوعي الكامل، والروحانية والتصوف
يمكن للحياة الروحية أن توجد خارج الممارسات الدينية. الروحانية هي بكل بساطة أرفع شكل لحياتنا النفسية، وهي التي نواجه بها المطلق وكل ما يتجاوزنا. إنها تذهب أبعد من الأنا، وتبقى مفتوحة على كل شيء؛ إذ إنها تنفتح أيضا على ما هو غير مدرك، وإلا فالأمر سهل جدا أن تكون روحنا مفتوحة على كل ما هو معروف، ومنطقي ومقبول؛ على المتوقع. إنها لا تهرب أمام ما يتجاوزنا، وإنما على العكس، تنفتح عليه بوعي كامل. ما هذا الذي يتجاوزنا؟ إنه هذا التيه الثلاثي؛ اللانهائي، والأبدي، والمطلق.
تفترض الروحانية باستمرار هذه الحركية الثنائية التي ذكرناها؛ التزام وانفصال. إننا نمارس ونستمر بالتقدم حتى النقطة التي نترك فيها كل شيء، حتى اللحظة التي نتخلص فيها من كل حقائب جهودنا وأهدافنا. ثم نترك أنفسنا للتأمل. في الديانة المسيحية، يعني التأمل «النظر طويلا بإعجاب»، ويتطلب ذلك قبلا «السلام وصفاء القلب». يعني ذلك بشكل أبسط الهدوء وعدم الحكم؛ أي، الوعي الكامل.
أما بالنسبة للفيلسوف أندريه كونت-سبونفيل، فتقود حالة التأمل إلى ممارسة التصوف: «يرى المتصوف الحقيقة وجها لوجه؛ إنه لا ينفصل عن الواقع عبر الكلام (أتكلم هنا عن الصمت)، ولا عبر العوز (أتكلم عن الامتلاء)، ولا عبر الزمن (أتكلم عن الأبدية)، وأخيرا عبر ذاته (أتكلم عن البساطة؛ فكرة «الأناتا» [أي، غياب الذات] البوذية). حتى الإله نفسه يقوم بذلك؛ إنها تجربة المطلق الآن وهنا.»
ويكون الوعي الكامل بهذه الطريقة حقيقة تصوفية علمانية؛ السعي إلى ما وراء الكلمات ومعانيها؛ استعداد للتنور وللمطلق، دون أن نأمل بها شيئا؛ لأن لا شيء يمكن عمله غير تركه يمتلئ بنا وينيرنا. وهذا ما يوصلنا أحيانا إلى حالة من النشوة الخفيفة، والهادئة والصامتة أحيانا.
النشوة، والافتتان، وحالة الوجد
النشوة هي الخروج من الذات والاندماج بشيء أكثر اتساعا؛ بوح إلهي، وأحيانا جسدي؛ إنها دخول في عالم آخر مختلف عن المعتاد، وبحالة من الوعي المختلف أيضا. إنها نوع من السقوط، أو القفز، أو الالتفاف لأننا عندما نعود، نكون بحالة من السمو؛ نكون في المطلق.
الافتتان هو حالة من السقوط في الذات، حيث نكتشف أن كل شيء موجود فيها. إنه الهدوء الذي سمحنا له بالخروج من الداخل؛ انفجار بركاني داخلي من الصفاء. إنه لمؤثر جدا أن نشعر بهذه الراحة التي نصنعها بأنفسنا، وأن ندرك كيف يربطنا هذا الهدوء «الداخلي» بالعالم بدلا من أن يفصلنا عنه، تاركين حالنا يتبدل، بدلا من السعي والمحاولة دائما لتغيير ما يحيط بنا.
يحدث كل هذا في لحظات الوجد، تلك اللحظات التي غالبا لا نتوقع قدومها. إنها لحظات من النعمة التي لا تنبثق إلا عندما نكون بوعي كامل، وبحضور كامل لما هو حقيقي، كما في هذه اللحظة التي ذكرها الشاعر كريستيان بوبان: «كنت أقشر تفاحة حمراء قطفتها من الحديقة عندما أدركت أن الحياة لا تهب لي ذاتها إلا بعد المشكلات الرائعة التي لا حل لها. بهذه الفكرة، دخل إلى قلبي محيط من السلام العميق.»
ليس علينا أن نتسلق الجبال؛ فتفاحة تكفي. «الدرس الثاني والعشرون»
لا يطلب منا الوعي الكامل أن نقطع صلتنا بالعالم، أو أن ننعزل داخل صومعة، ولا أن نكون الحكيم غير المبالي بشيء. إنه يحثنا على أن نتذوق طعم حياتنا، وأن نتخذ خياراتنا وأن نتبع أهدافنا، ولكن دون أن نخلط ذواتنا بها، ودون أن نتمسك بقوة بالنجاح أو بالكمال. فهل من الممكن أن نكون بحالة سعي بالخارج، وحالة انفصال بالداخل؟ نستطيع ذلك بأن نقوم بأفضل ما لدينا بكامل الوعي وكامل الحضور، ولكن دون أن نخضع جهودنا، التي تعتمد علينا وحدنا، للنتائج النهائية التي لا تعتمد علينا وحدنا. وبدلا من محاولة تجاوز أنفسنا (أو الآخرين)، علينا أن ننجز ما يهمنا فقط، وألا نهتم في حياتنا بالنصر أو الفشل، وإنما بخوض تجارب تنضجنا.
الفصل الثالث والعشرون
أن نحب
إن سمعان قد فهم الأمر منذ وقت طويل؛ فهم أن هذا الطفل هو السيد المسيح، وأنه سيغير كل شيء على هذه الأرض. لقد عرف كل ذلك سمعان، وقد عرف أيضا أنه لن يكون ذلك دون تلك الآلام اللانهائية للمسيح، ومن ثم لوالدته. ومن ثم، سيقول لمريم: «وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف.» لقد عرف أن المسيح سيحمل ثورة الحب للأرض. ولم يسبقه أحد بإعلان أن الله هو الحب، وأن الله يريد أن يسود الحب دون مشاركة. لم تكن الآلهة القديمة تهيمن على قلب الإنسان إلا بالقوة والخوف. لكن المسيح تكلم عن إله الرحمة اللانهائية، والمملكة التي ستأتي معه. إن هذه الرسالة - أولوية الحب المطلقة - ستغير العالم الغربي. في نفس الوقت ، في الشرق، كانت رسالة بوذا تتحدث عن أهمية العطف، وعن ذلك الطريق الذي سيخفف آلام البشر جميعا.
لوحة «سمعان في المعبد» (1669) لرامبرانت (1606-1669)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,985 × 0,795 متر، المتحف الوطني، ستوكهولم.
عندما كان سمعان يحمل يسوع بين ذراعيه ليقدمه إلى المعبد، كانت لديه رغبة عارمة بمعانقته وتقبيله. أراد أن يشكره على كل ما سيحمله معه، وأن يواسيه على كل الآلام التي سيعانيها. لكنه لم يفعل ذلك في البداية. لم يكن يتوجب عليه أن يلمسه بيديه العاريتين، وإنما استخدم الغطاء الخاص بالصلاة عند اليهود، والذي تحول فيما بعد، في الطقوس المسيحية إلى الحجاب الطقسي الذي يحمل به القس جسد المسيح في القربان المقدس. إنه شديد التأثر كونه قد رأى أخيرا السيد المسيح الذي انتظره طويلا، ويقول البركة التي ننشدها في صلاة النوم والتي هي كالآتي: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام؛ لأن عيني قد أبصرتا خلاصك.» يستطيع سمعان أن يموت الآن في سلام لأن الحب سينتشر.
لن أتكلم ولن أفكر في شيء؛ ولكن الحب اللانهائي سيصعد إلى روحي ...
آرتور رامبو، «إحساس»
حليب الرقة الإنسانية
إنه تعبير شكسبير، في مسرحية «ماكبث» تقوله الليدي ماكبث نادمة على امتلاك زوجها لهذه الصفة الإنسانية، وهي تدفعه لقتل ملك اسكتلندا دنكان: «أخاف من طبيعتك؛ إنها مليئة بشكل زائد بحليب الرقة الإنسانية، وستمنعك من سلك الطريق الأقصر.» إن «حليب الرقة الإنسانية» هذا تراه باعتباره شيئا يجب أن يوبخ عليه أو يندم على وجوده فيه. إنه لن يمنع عملية القتل، لكنه سيقود ماكبث إلى الندم، وزوجته إلى الجنون. يذكرنا هذا التعبير أننا كائنات تعتمد على التواصل والحب. فبدون هذا الغذاء العاطفي، سنكون في خطر، فلن نكبر، ولن نزدهر. وبدون حب سنعيش الألم؛ سنتصلب، ونغوص في الجنون والمرض.
قد تدفعنا الحياة إلى نسيان أو إهمال هذا البعد لدينا؛ لهذا يدعونا التأمل بالوعي الكامل إلى التواصل معه بشكل متكرر. علينا أن نفعل ذلك كي نستطيع أن نخفف آلامنا وآلام الآخرين، ولكي نفهم ونستخدم طاقته الرائعة بشكل أفضل .
يوجد حولي عدد هائل من الأشخاص الذين يحبونني، ويساعدونني، ويضحكون في وجهي ويعطونني. هم يقومون بذلك الآن، وسيقومون به غدا. علي أن أكون واعيا لهذا الدين، وأن أفرح به وأعبر عنه بالامتنان. ويجب أن أبقي وعيي بشكل متكرر حاضرا لذلك، حتى الشعور به جسديا؛ إنه تأمل الامتنان. يوجد ثلاث خطوات في تأمل الامتنان؛ إدراك أهميته، والتوقف للحظة كي نذهب أبعد من التفكير به فقط، وتركه ينتشر في جسدنا، بوصفه شعورا وليس فكرة فقط؛ ثم بالتأكيد التعبير عنه أمام هؤلاء الذين يحبوننا ويساعدوننا. فهو فكرة، وشعور، وسلوك.
وبشكل أوسع أيضا، إنه لأمر جوهري أن نعي الأهمية القصوى والمطلقة للحب بكل أشكاله (الإيثار، والإعجاب، والحنان، واللطف، والعطف، والكرم ...) ومن المهم جدا أن نختار الحب موضوعا للتأمل، وأن نمارسه كل يوم. هذا السعي لمساعدة البشر يسمونه في المسيحية «الإحسان» وفي البوذية «حب الغير». ولكن من الواضح أن الأمر يتعلق بنفس الفعل؛ إنه فهم، وتلق، وممارسة حب الآخرين.
التأمل وصلات الحب
تقوم عادة التعاليم البوذية، التي دونت حالات الحب، بمقاربة ممارسة حب الغير عبر أربعة أنواع من التمارين التأملية، التي يجب فهمها على أنها لحظات تحضير لممارسة فعلية لاحقة.
لدينا، أولا، تمارين التأمل الخاصة بحب الآخرين، والتي تقوم على التفكير بالأشخاص الذين نحبهم، والشعور بهذا الحب بشكل فعلي في هذه اللحظة. ليس هذا أن نقول فقط إننا نحبهم، وإنما أن نترك هذا الحب (أو هذه العاطفة، أو التقدير) يكبر في داخلنا، وذلك حتى نشعر بتأثيراته الفيسيولوجية في جسدنا. تشبه هذه الحالة تلك اللحظة التي تراقبون فيها طفلا نائما، أو تنظرون فيها إلى شخص تحبونه. سيشارك حينها كل جسدكم حالة الحب هذه وليس فقط أفكاركم. في هذه التمارين التأملية، سنحاول أن نعطي هذا الحب أكبر مساحة ممكنة في وعينا، ونسعى كي يكون جسدنا شديد الحساسية لتلقي صدى هذا الشعور.
يجب ألا نملك فقط «أفكارا» حول العطف، أو «الرغبة» بالتعاطف، وإنما أن نمتلك بشكل فعلي «مشاعر» الشفقة هذه.
ثم لدينا تمارين التأمل الخاصة بالعطف، والتي نوجه فيها تفكيرنا نحو المعاناة التي يشعر بها (أو يمكن أن يشعر بها) الأشخاص القريبون منا. يجب أن نترك هذا يملأ وعينا حتى يسكن داخلنا. ونتمنى من كل قلبنا أن تخف عنهم أو تزول. هنا، أيضا، يجب أن يذهب هذا التمني إلى أبعد من أن يكون فكرة سطحية وعابرة. يجب أن يخرج منا، ونحس به بكليتنا، لا أن نملك فقط «أفكارا» حول العطف، أو «الرغبة» بالتعاطف، وإنما أن نمتلك بشكل فعلي «مشاعر» الشفقة هذه. عندما نعلم أن شخصا يعاني، أو أنه مصاب بمرض ما أو أنه قد توفي، ماذا نفعل حينها؟ هل نتوقف من أجله ولو عدة دقائق؟ هل نأخذ فعلا وقتا كي ندع صورة هذا الشخص تدخل فينا؟ أو الوقت الكافي كي نمتلئ بمشاعر العطف والحب نحوه؟ خذوا وقتكم للقيام بذلك؛ إنها تمارين التأمل الخاصة بالعطف.
أما تمارين التأمل الخاصة بالفرح الإيثاري، فهي أن نعتاد وبالتدرج على أن نفرح بصدق لسعادة الآخرين. إنه الابتهاج أمام ما هو جيد للآخرين. إنه أن نفرح عند رؤية الأطفال حتى لو لم يكونوا أطفالنا، والضحك والفرح عندما نرى عاشقين متعانقين، أو أناسا يتحدثون أو يساعد بعضهم بعضا. ألا يوجد شيء آخر؟ ... ماذا نفعل تجاه العنف والتعامل السيئ؟ إن تمارين التأمل الخاصة بالفرح الإيثاري تساعدنا على ألا ننسى، حين نرى العنف وسوء المعاملة، أن هناك أيضا اللطف، والسعادة، والحب. إننا نعلم ذلك لكن ممارسته والشعور به في وعي كامل يعطي قوة أكثر لقناعاتنا.
وأخيرا، هناك تمارين التأمل الخاصة برباطة الجأش، التي تدعونا كي نتمرن لكي نبقى قادرين على تمني الخير للإنسانية جمعاء، وحتى لهؤلاء البعيدين جدا عنا، وللذين لا نعرفهم، وحتى لذوي الطباع السيئة والذين سببوا لنا المعاناة. إنها تدعونا أن نتمرن على أن نتمنى لهم الخير، ونتعاطف معهم، ونفرح لهم عندما يكونون سعداء. تعطينا هذه التمارين التأملية بشكل غير مباشر الشعور والقناعة بأن المعاناة هي دائما سبب السلوك السيئ. فإذا كان الإنسان سعيدا ولم يكن يعاني كثيرا، فإنه لن يسبب المعاناة لمن حوله.
أي نوع من البذور نريد أن نزرع في دواخلنا؟
نستطيع أن نصير أبطالا في اللامبالاة، والحسد والغيرة، والأنانية في مشاعرنا. يكفي ألا نقوم بأي جهد عندما تظهر هذه المشاعر داخلنا وأن نترك لها كل المكان، وأن تملأ بشكل كامل وعينا. حينها سنكون متأكدين أنها ستصير أكثر قوة وحضورا. أن نتركها حرة داخلنا لن يهدئها؛ بالعكس ستشبث جذورها عميقا في أرواحنا. إن التنفيس لن ينفع عندما يتعلق الأمر بالمشاعر المثيرة للاضطراب.
لكننا نستطيع أيضا أن نصير أبطالا في الغيرية، وتمني الخير للآخرين، والتعاطف ورباطة الجأش. يكفي أن نقوم بشكل متكرر وعميق بإعطاء كل هذه المشاعر مكانا في دواخلنا. وهذا كل ما في الأمر. «الدرس الثالث والعشرون»
يعطي التأمل بالوعي الكامل تجسيدا لنياتنا الجيدة. ستزداد دوافعنا الخيرة تجاه القريبين منا والبعيدين عنا عندما نعبر عنها بالسلوك والكلام. ويمكنها أيضا أن تكتمل في السر في دواخلنا. علينا أن نأخذ الوقت الكافي، وبشكل متكرر، كي نشعر بالحب، وبالعطف، وبالشكر، وبكل العواطف الجميلة التي وهبتنا الحياة. يجب ألا يكون هذا على هيئة نيات غير واضحة («يجب أن أقول له ذلك») أو أفكار سريعة ونفعية («من حسن حظي أن هناك من يحبني») وإنما حالات تأملية طويلة، ومتكررة ومتجذرة في أجسادنا. وسيغير ذلك كل شيء.
الفصل الرابع والعشرون
أن نختبر تمدد الذات وانحلالها
ماذا يحدث هنا؟ ماذا تفعل هذه اليد اليسرى تحت الطاولة؟ من أين أتى هذا الحجر الغريب الشكل، بفجواته الصغيرة؟ هل جاء من القمر؟ ولماذا اليد اليمنى ساكنة هكذا كعنكبوت، وقد توقفت عن الحركة ولم يعد لها أي دلالة؟ ثم نجد رأس هذا الرجل الأنيق، الذي ينحل بالتدرج في كرة من ضوء أصفر، وكأنها شمس عقلية تسطع فجأة ... إنه يشبه الضوء الذي كان يسطع في نافذة الفيلسوف الذي يتأمل، في لوحة رامبرانت. هل تتذكرون؟ إنها لوحة تحكي قصة اختفاء، أو حالة تحول. وبعد قليل سيبدأ هذا الطقم الأنيق (الحياة الجدية) بتفريغ محتواه بالكامل. وهذه الروح التي تغلي كالشمس (الحياة الغامضة) سوف تفيض عن هذا الجسد وتتركه . إنها لوحة عن توهج الذهن، وسرعان ما سيكون هناك ضوء فقط على القماش، ثم لا شيء.
لوحة «مبدأ اللذة» (1937) لرينيه ماجريت (1898-1967)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,79 × 0,635 متر، مؤسسة إدوارد جيمس سابقا، ساسيكس.
تنتشر حياتي وتتبخر وتصبح كأوراق الشجر، وإبر الجليد التي تتلألأ كأحجار كريمة على العشب والقش في صباح شتوي ... وعبر بساطة ما نسميه عادة الفقر، تتكثف حياتي وتترتب، وتصبح كونا شاملا لا شكل له، كما كان عليه في البداية.
هنري ثورو، «مذكرات (فبراير 1857)»
تمدد
يبدو الوعي الكامل كأنه امتداد لذواتنا؛ لأننا نمتص كل ما حولنا، نتشربه ونصير هو؛ كدائرة تتوسع حتى تحتوي كل شيء. نحن في مركز هذا العالم، لكنه بقي عالما غير واضح الحدود، وبدت حدوده كلها مثيرة للخوف.
يبدو أن الحال لم يتغير؛ فقد بدأت تمريني شاعرا بالضيق، ومنكمشا حول أفكار، أو انفعالات، أو آلام عميقة، فقمت بالتوقف للحظة، وجلست وأغمضت عيني. هناك الآن طنين في الأذنين؛ انزعاج، ارتباك، فوضى، تشتت. كل هذا الجهد للوصول إلى هنا؟ سأوقف التمرين؟ لا سأكمل. وأكمل تمريني، لكنني لا أصل إلى شيء. لا أستطيع أن أغير ما أشعر به الآن، لا أستطيع أن أمنع شيئا أو أحمي نفسي مما هو موجود الآن. كل هذا، ربما، بل بالتأكيد، له سبب وجيه لبقائه. إذن علي أن أفتح ذاتي، أن أوسعها، أن أدعو وأطلب من ضيوف آخرين ليحضروا في وعيي، فلا أبقى وحيدا في هذه الفوضى العارمة، ولكن يجب أن أسمح لها بالوجود أيضا. يجب أن أتنفس، وأعي تنفسي.
توجد أصوات حولي. يجب أن أعيها، وأعي كل جزء صغير من جسدي. علي أن أبدأ بالشعور بأن الضيق بدأ ينفك عني، وأشعر أنني أستطيع أن أفتح عيني، كي أتأمل الجدار، الأشياء، السماء. وأمتص كل ما يمر. وأجد أن الفوضى، والضيق، والأحاسيس غير المريحة لا تزال هنا، وكذلك كل الإزعاجات الخارجية التي سببتها؛ لكن تبدو كلها أصغر حجما، وأقل أهمية. وأستمر بابتلاع كل ما حولي، مثل العملاقين جارجانتوا وبانتاجرويل؛ غول نفسي يبتلع ببطء العالم والواقع ، وكلما التهمت شعرت أنني أكثر هدوءا. ولكن بعد فترة وجيزة يحضرني سؤال ما: من يبتلع من؟
انحلال
كثيرا ما نختبر في التأمل بالوعي الكامل أحاسيس تتكرر في تمارينه، إنها تلك المتعلقة بانهدام الحواجز بيننا وبين الخارج؛ إنها أحاسيس بالاندماج مع ما يحيط بنا، بانتشار العالم في دواخلنا. هل هذا الشعور يثير الخوف؟ بالعكس، إنه شعور مريح ومطمئن لأننا ندرك إلى أي حد يكون الانعزال مع الأنا في النهاية خيارا سيئا.
تذكروا عندما ذكرنا كيف تطرح البوذية في لغتها التصويرية والشعرية ما يسمى «النظرة العميقة»، التي تساعدنا على إدراك الطبيعة الحقيقية للظواهر، وخاصة «فراغها»؛ إننا كأقواس قزح؛ نوجد، ونتحلل، ونتشكل من جديد.
يأتيني هذا الشعور خصوصا عندما نقوم بجلسات تأمل في حديقة مستشفى سانت-آن عندما يكون الجو لطيفا. نخرج من القسم، لنجد أنفسنا فورا واقفين على العشب بأقدام عارية، مغمورين بالضجة البعيدة لباريس التي تصل إلينا من وراء الجدران العالية للمستشفى، وفي مسبح الضجة هذا الذي لم نعد نميز فيه أي حدود. إنه تمرين التمدد، والحضور الكثيف، دون الأنا. إنه يشبه الخروج من الذات، دون أن يكون ذلك موتا. إننا لا نشعر أننا متنا، ولكننا بالعكس أحياء بكثافة. ولا نشعر أننا سنختفي، وإنما على العكس ننتشر في كل شيء حولنا، ويصير وجودنا جليا. نشعر كأننا «مثل السنابل التي تنمو أو المطر الذي يسقط»، وذلك بحسب كلمات إتي هيليسم.
اهجر كل شيء. اهجر كل ما تعرفه، اهجر، اهجر. ولا تخف من أن تبقى دون أي شيء؛ لأنه في النهاية سيكون هذا اللاشيء بقربك ...
تحرر
نشعر أننا حينها خفيفون لدرجة العدم. ولكن لا، ليس الأمر كذلك بالضبط. ليس الأمر نوعا من الحركة باتجاه العدم، وإنما نحو انتماء يتجاوزنا.
يذكرني ذلك بمصطلح «مجال النو» للباحث اللاهوتي المسيحي تايار دي شاردن. فكما نذكر المجال الجوي لطبقة الهواء المحيطة بالأرض، أو المحيط الحيوي للطبقة الحية من النباتات والحيوانات التي تغطي سطح الأرض، نستطيع أن نتكلم عن مجال النو («النو» في اللغة الإغريقية تعني الذكاء، والعقل ، والفكر) لكي نتحدث عن الطبقة غير المرئية، غير الملموسة ولكن الحقيقية، لكل أفكار البشر، والتي تشكل «الذكاء الكلي»، الذي هو مجموع ذكاء جميع البشر.
هذا يذكرني بالصورة المجازية للطوافة وعبور النهر؛ فبعد عبور النهر، أو البحيرة، أو المحيط، تصبح الطوافة، التي كانت حتى هذه اللحظة شديدة الأهمية، غير مفيدة ومزعجة. ولكي نكمل طريقنا في الأرض الجديدة التي وصلنا إليها، يتوجب علينا أن نتركها مكانها دون ندم ونأخذ معنا ما هو أساسي فقط.
أذكر كلام الحكيم الذي قال: «اهجر كل شيء. اهجر كل ما تعرفه، اهجر، اهجر. ولا تخف من أن تبقى دون أي شيء لأنه في النهاية سيكون هذا اللاشيء بقربك ...»
أذكر أيضا هذا القول لسيمون فاي: «إن المرء الذي تأخذ روحه الكون أجمع جسدا، يصير هو هذا الكون.» وأفكر بهذا الفرق بين الأبدية والخلود. إننا نعرف أن الخلود لن يكون من نصيبنا، لكننا حين نعيش ونختبر اللحظة الحاضرة بوعي كامل، ونشعر أننا قد حققناها، فهذه هي الأبدية. إنها موجودة، ونحن نشعر بها. «الدرس الرابع والعشرون»
يهدم الوعي الكامل الحدود غير المفيدة، كتلك التي تفصلنا عن بقية العالم. إننا نخاف أن نختفي يوما ونتحلل، ولكننا إذا اختبرنا ذلك عشرات المرات، فبالتأكيد سنكون أقل خوفا. إن التأمل بالوعي الكامل هو أن نتواصل مع العالم بقوة لدرجة أن المسافة بين ذاتنا وما هو خارجها يصير بلا معنى، بلا فائدة، وزائدا عن الحاجة. علينا أن نهيئ أنفسنا للعودة من حيث أتينا، كموجة ستختفي عما قريب في المحيط. إذن لا توجد حدود بعد الآن، وإنما روابط فقط.
الفصل الخامس والعشرون
أن نصل للوعي الكوني
وداعا، وتذكر أن الإيمان أكثر جمالا من الرب.
كلود نوجارو، «ريشة ملاك»
لوحة «حقول التبييض في الريف، بالقرب من هارلم» (تقريبا 1670) لياكوب فون رويزدال (تقريبا 1628-1682)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,625 × 0,552 متر، متحف كونستهاوس، زيورخ.
كنت هناك.
كنت هناك، يا ياكوب فون رويزدال، في خريف عام 1670، عندما كنت ترسم هذه اللوحة. كنت هناك معك على هضبة هيت كوبج، على كثبان بلومندال، في شمال غرب هارلم. كنت هناك، ومثلك، أسرتني هذه السماء الخلابة التي تهب ذاتها لنا كعرض فائق الجمال، كسيمفونية. كنت هناك في ثنايا فرشاتك، في قطرات الماء داخل الغيم، في هبوب الريح، في ألياف الكتان المنشورة في الحقول البعيدة، في تنفسك، ودخان غليونك، وتلك الذبابة التي تزعجك - هل تتذكر؟ - وهي تدور حولك.
أنا هنا.
أنا هنا في هذا الكتاب، في هذه الورقة، وهذه الحروف المطبوعة، وفي الأفكار التي تمر في ذهنك. وأنت أيضا تستطيع أن تشعر بشيء مني، أنت أيضا موجود في روحي، في هذه اللحظة التي تقرأ لي فيها. وعندما سترفع رأسك وتذهب إلى النافذة كي تراقب السماء، ستكون نفس السماء التي أنظر إليها أيضا، وسنتنفس الهواء ذاته، وسننظر لنفس الأرض. وفي هذه الليلة، أو في الليلة القادمة، سنجد النجوم ذاتها، الكون ذاته.
أدرك كل ذلك.
كن حاضرا.
الآن.
ودائما.
تنزيل تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
تستطيعون، إذا رغبتم، الاستماع للتمارين المصاحبة للكتاب باستخدام هاتف ذكي أو جهاز لوحي.
ولتنزيلها، ما عليكم سوى نسخ العنوان الآتي في شريط برنامج التصفح الخاص بكم:
http://j29j06.arenes.fr/ .
10 تلميحات للتأمل باستخدام تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
(1)
إن التأمل بالوعي الكامل طريقة تأمل بسيطة ويمكن للجميع ممارستها، إلا أن ممارستها المنتظمة تحتاج إلى بعض الجهد! (2)
بداية، علينا التوقف والجلوس وإغلاق أعيننا (أو إبقاؤها نصف مغلقة، دون النظر إلى أي شيء محدد)، ثم علينا ملاحظة كل ما يحدث داخل أجسادنا وعقولنا والترحيب به. (3)
ليست هناك حاجة إلى أدوات خاصة لبدء التأمل: فقط ملابس مريحة وكرسي. (4)
في البداية، من الأفضل التمرن في مكان هادئ ومنعزل. وبعد ذلك، يمكننا التأمل تقريبا في أي مكان. (5)
إن التمارين الإرشادية المرتبطة بالكتاب، سواء كانت قصيرة أو طويلة، تعد مناسبة لكل المستويات. (6)
هناك مقدمة قصيرة تشرح كل تمرين تأمل ثم علينا الاستماع إلى التمرين. (7)
سيتم توجيهنا أثناء التمارين. حاولوا أن تشعروا بدلا من أن تفكروا؛ أن تكونوا حاضرين بدلا من أن تفعلوا. إن لحظات الصمت ستسمح لكم بالتواصل مع تجربتكم. (8)
يمكن للتأمل في بعض الأحيان أن يهدئ من روعنا، لكن في أحيان أخرى يكون غير مريح ويعلمنا تكوين علاقة مختلفة مع ما يجعلنا نعاني؛ لهذا، من الأفضل ألا نتوقع أي شيء محدد منه؛ فهو أحيانا يكون ممتعا، وأحيانا يكون أقل إمتاعا. لكن إن بقينا واعين بتجربتنا، فسيكون دوما مفيدا. (9)
كل الأوقات مناسبة للتأمل، لكن بدء اليوم ببضع دقائق منه يسمح لنا بإيقاظ قدراتنا الخاصة، بالتركيز وإحداث التوازن الشعوري، وتعزيزها. (10)
كما هي الحال في كل أشكال التعلم، كلما زادت الممارسة، زاد التقدم. لكن من الطبيعي، في بعض الأيام، أن يكون من الصعب ممارسة التمارين، وأن يبدو في بعض الأحيان أنها لا تسير على نحو جيد. ومن الطبيعي أيضا في بعض فترات حياتنا أن نتوقف عن الممارسة، قبل أن نعود إليها مرة أخرى. لقد مررنا جميعا بهذا.
قراءات إضافية
عن التأمل بالوعي الكامل:
أشعار
Kabat-Zinn J.,
Où tu vas, tu es. Apprendre à méditer pour se libérer du stress et des tensions profondes , Paris, J’ai lu, 1996.
Kabat-Zinn J.,
L’Éveil des sens. Vivre l’instant présent grâce à la pleine conscience , Paris, Les Arènes, 2009.
Kabat-Zinn J.,
Méditer. 108 leçons de pleine conscience , Paris, Les Arènes, 2010 (avec un CD d’exercices, lu par Bernard Giraudeau).
كتب بوذية
Khyentsé Rinpoché D.,
Le Trésor du cœur des êtres éveillés , Paris, Le Seuil, coll. “Points”, 1996.
Nhat Hanh T.,
Le Miracle de la pleine conscience. Manuel pratique de méditation ,
Vénérable Hénépola Gunaratana,
Méditer au quotidien. Une pratique simple du bouddhisme , Paris, Marabout, 1995.
Mingyour Rinpoché Y.,
Bonheur de la méditation , Paris, Fayard, 2007.
Ricard M.,
L’Art de la méditation , Paris, NiL, 2008.
Ricard M.,
Chemins spirituels.
,
كتب علمية
Hanson R. et Mendius R.,
Le Cerveau de Bouddha. Bonheur, amour et sagesse au temps des neurosciences , Paris, Les Arènes, 2011.
Rosenfeld F.,
Méditer, c’est se soigner , Paris, Les Arènes, 2007.
كتب علاج نفسي
Fehmi L. et Robbins J.,
La Pleine Conscience. Guérir le corps et l’esprit par l’éveil de tous les sens , Paris, Belfond, 2010.
Maex E.,
Mindfulness: apprivoiser le stress par la pleine conscience , Bruxelles, De Boeck, 2007.
Kabat-Zinn J.,
Au cœur de la tourmente, la pleine conscience , Bruxelles, De Boeck, 2009.
Segal Z. et coll.,
La Thérapie cognitive basée sur la pleine conscience pour la dépression , Bruxelles, De Boeck, 2006.
Williams M. et coll.,
Méditer pour ne plus déprimer. La pleine conscience, une méthode pour mieux vivre , Paris, Odile Jacob, 2009 (avec un CD d’exercices, lu par Christophe André).
مواقع إلكترونية مفيدة
عن الوعي الكامل في العلاج النفسي:
Association francophone (avec une liste de praticiens):
www.association-mindfulness.org/
Site de l’université de Louvain-la-Neuve, en Belgique, dédié à la pleine conscience:
www.cps-emotions.be/mindfulness/index.php
Site de l’université du Massachusetts, aux États-Unis, dédié à la pleine conscience:
www.umassmed.edu/cfm/index.aspx
Site de l’université de Bangor, au pays de Galles, dédié à la pleine conscience:
www.bangor.ac.uk/mindfulness/
المراجع
مقدمة
الحضور ... لا الفراغ
Une belle étude scientifique sur la manière dont Rembrandt faisait voyager à sa guise l’œil des observateurs dans les différentes parties de ses tableaux: DiPaola S. et coll., “Rembrandt’s Textural Agency: A Shared Perspective in Visual Art and Science”, Leonardo , vol. 43, n° 2, avril 2010, p. 145-151.
Schama S.,
Les Yeux de Rembrandt , Paris, Le Seuil, 2004.
Wallace B.A. et Shapiro S.L.,
Mental Balance and Well-Being: Building Bridges Between Buddhism and Western Psychology, American
, vol. 61, octobre 2006, p. 690-701.
الجزء الأول: أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
الفصل الأول: أن نعيش اللحظة الحاضرة
Wildenstein D.,
Monet: Vie et œuvre , tome 4, Lausanne, Bibliothèque des Arts, 1985.
Vénérable Hénépola Gunaratana,
Méditer au quotidien. Une pratique simple du bouddhisme , Paris, Marabout, 1995.
الفصل الثالث: أن نتواصل مع أجسادنا
Sur le tableau de Watteau: Cheng F.,
, Paris, Flammarion, 2008.
Davidson R.J. et coll., “Alterations in Brain and Immune Function Produced by Mindfulness Meditation”, Psychosomatic Medicine , vol. 65, juillet-août 2003, p. 564-570.
Epel E.S., Daubenmier J., Moskowitz J.T., Folkman S. et Blackburn E.H., “Can Meditation Slow Rate of Cellular Aging? Cognitive Stress, Mindfulness, and Telomeres”, Annals of the New York Academy of Sciences , vol. 1172, août 2009, p. 34-53.
Jacobs T.L., Epel E.S., Lin J., Blackburn E.H., Wolkowitz O.M., Bridwell D.A., Zanesco A.P., Aichele S.R., Sahdra B.K., MacLean K.A., “Intensive Meditation Training, Immune Cell Telomerase Activity, and
, octobre 2010.; DOI: 10.1016/j psyneuen. 2010.09.010.
الفصل الرابع: أن نغمض عيوننا وننصت
La citation de Yone Noguchi est extraite du recueil
Sources de sagesse orientale . Genève, Weber, 1975.
الفصل الخامس: أن نراقب أفكارنا
Collectif,
Contemporary Artists , Londres, Phaidon, 2006.
Ricard M.,
bonheur , Paris, NiL, 2003.
الفصل السادس: أن نعطي مساحة لمشاعرنا
Brinkmann B.,
Cranach , Londres, Royal Academy of Arts, 2008.
Raes F. et coll., “Mindfulness and Reduced Cognitive Reactivity to Sad Mood: Evidence From a Correlational Study and a Non-Randomized Waiting List Controlled Study”, Behaviour Research and Therapy , vol. 47, juillet 2009, p. 623-627.
Farb N.A.S. et coll., “Minding One’s Emotions: Mindfulness Training Alters the Neural Expression of Sadness”, Emotion , vol. 10, février 2010, p. 25-33.
الفصل السابع: أن ندرب انتباهنا كي نزيد حدة وعينا
Marijnissen R.-H.,
Bosch , Paris, Gallimard, 1996.
Shabkar,
Autobiographie d’un yogi tibétain , tomes 1 et 2, Albin Michel, 1999. Et aussi:
Shabkar , Paris, Albin Michel, 2001.
récentes et les plus passionnantes, lire par exemple Christof Koch,
À La Recherche de la conscience, une enquête neurobiologique , Paris, Odile Jacob, 2006. Ou bien Antonio Damasio,
L’Autre Moi-même, les nouvelles cartes du cerveau, de la conscience et des émotions , Paris, Odile Jacob, 2010. Et aussi une synthèse accessible et rigoureuse de Philippe Presles,
Ce qui n’intéressait pas Freud. Les nouveaux mystères de la conscience , Paris, Robert Laff ont, 2011.
La phrase de James sur l’attention: “[Attention is] the taking possession of the mind, in clear and vivid form, of one out of what seem several simultaneously possible objects or trains of thoughts. [...] It implies withdrawal from some things in order to deal effectively with others.”
est extraite de
The Principles of
, vol. 1, 1890, chap. 11, “Attention” , p. 403-404. Pour une introduction en français à l’œuvre de William James:
, Paris, Les Empêcheurs de penser en rond, 2003.
MacLean K.A. et coll., “Intensive Meditation Training Improves Perceptual Discrimination and Sustained Attention”, Psychological Science , vol. 21, juin 2010, p. 829-839.
Il existe de nombreuses études sur les entraînements attentionnels dans les troubles anxieux et dépressifs. Un bon exemple en français, appliqué à la peur de rougir, est proposé dans l’ouvrage d’Antoine Pelissolo et Stéphane Roy,
Ne plus rougir et accepter le regard des autres , Paris, Odile Jacob, 2009.
Sur les environnements psychotoxiques: André C. “Consommer moins pour exister mieux!”,
Cerveau & Psycho , n° 36, mai-juin 2010, p. 16-17.
الفصل الثامن: أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية
Cuzin J-P. et Salmon D.,
Georges de La Tour, histoire d’une redécouverte ,
Quignard P.,
Georges de La Tour , Paris, Éditions Galilée, 2005.
Saint Augustin,
Les Confessions , Paris, Garnier Flammarion, 1964.
Claudel P.,
,
De Mello A.,
Un chemin vers Dieu. Petits exercices pour apprendre à prier , Paris, Albin Michel, 2006.
Saint Ignace de Loyola,
Exercices spirituels , Paris, Desclée de Brouwer, 1992.
Quignard P.,
La Nuit et le silence , Paris, Flohic Éditions, 1995.
الجزء الثاني: أن نعيش وعيون روحنا مفتوحة على اتساعها وأن تكون هذه هي فلسفة حياتنا اليومية
الفصل العاشر: أن نرى كل هو مخفي
Bott G.C.,
Nature morte , Cologne, Taschen, 2008.
Comte-Sponville A.,
Chardin, ou la matière heureuse , Paris, Adam Biro, 1999.
Chardin, la matière silencieuse , Paris, Gallimard, coll. “Découvertes”, 1999.
Schneider N.,
Les Natures mortes , Cologne, Taschen, 2009.
الفصل الحادي عشر: أن نرى ما هو مهم
La citation sur les “pensées courtes” est extraite de l’ouvrage de Tiziano Terzani,
Le Grand Voyage de la vie. Un père raconte à son fils , Paris, Le Seuil, coll. “Points”, 2009.
Thoreau H.D.,
Journal 1837-1861 , Paris, Éditions Pierre Terrail/ Édigroup, 2005.
Thoreau H.D.,
La Vie sans principe , Paris, Mille et Une Nuits, 2004.
Thoreau H.D.,
Walden ou la vie dans les bois , Paris, Aubier, coll. “Bilingue”, 1967.
Cioran,
Cahiers ,
Des Forêts L.-R.,
jusqu’au dernier , Paris, Mercure de France, 2001.
Sur le matérialisme: Kasser T.,
The High Price of Materialism , Cambridge, MIT Press, 2002. Pélegrin-Genel E.,
Des souris dans un labyrinthe. Décrypter les ruses et manipulations de nos espaces quotidiens ,
“Dietary Variety, Energy Regulation, and Obesity”, Psychological Bulletin , vol. 127, n° 3, mai 2001, p. 325-341. Schwartz B.,
Le Paradoxe du choix,
, Michel Lafon, 2006.
De Foucauld J.-B.,
L’Abondance frugale. Pour une nouvelle solidarité , Paris, Odile Jacob, 2010.
Quelques sites de lutte contre le matérialisme:
www.commercialfreechildhood.org
www.simpleliving.net
http://simplicitevolontaire.info
www.bap.propagande.org
الفصل الثاني عشر: أن نكون حاضرين أثناء الفعل
Du principe de l’art et de sa destination sociale , 1865.
La citation sur l’immobilité est extraite de l’ouvrage de Jacques Castermane,
La Sagesse exercée , Paris, La Table Ronde, 2005.
Sur l’usage de l’action en psychothérapie:
coll.,
Behavioral Activation for Depression. A Clinician’s Guide , New York, Guilford, 2010.
Vaincre la dépression. Une étape à la fois , Montréal, Les Éditions de l’Homme, 2009.
الفصل الثالث عشر: أن نشحذ انتباهنا
Buck S.,
Hans Holbein, “Les Maîtres de l’art flamand” , Cologne, Könemann, 1999.
Moore A. et Malinowski P., “Meditation, Mindfulness and Cognitive Flexibility”, Consciousness and Cognition , vol. 18, n° 1, mars 2009, p. 176-186.
Nielsen L. et Kaszniak A.W., “Awareness of Subtle Emotional Feelings: a Comparison of Long-Term Meditators and Nonmeditators”, Emotion , vol. 6, août 2006, p. 392-405.
La Représentation du monde chez l’enfant , Paris,
2003.
La citation de Freud est extraite de son ouvrage
Introduction à la psychanalyse , Paris, Payot, coll. “Petite Bibliothèque”, 2004.
La citation de Thich Nhat Hanh est extraite de son ouvrage
Le Miracle de la pleine conscience , Paris, J’ai Lu, 2008.
La citation de Simone Weil (ainsi que celles qui sont présentes dans ce livre) sont extraites de son ouvrage
La Pesanteur et la grâce ,
Rinpoché D.,
Le Trésor du cœur des êtres éveillés , Paris, Le Seuil, 1996. Nhat Hanh T.,
Le Cœur des enseignements du Bouddha , Paris, La Table Ronde, 2000. Midal F.,
ABC du bouddhisme. Apprendre à méditer, travailler sur soi, ouvrir son cœur ,
le “miroitement du réel”). Midal F.,
Quel bouddhisme pour l’Occident ?, Paris, Le Seuil, 2006.
الفصل الرابع عشر: أن نفهم ونقبل ما هو موجود
La citation “
Vous n’avez pas à accepter les choses: elles sont déjà là ” est extraite du livre de Prakash S.
L’Expérience de l’unité. Dialogues avec Svâmi
, Paris, Accarias L’Originel, 1986.
La citation sur “sagesse et opposants” est extraite de l’ouvrage de Jonathan Haidt,
L’Hypothèse du bonheur. La redécouverte de la sagesse ancienne dans la science contemporaine , Bruxelles, Mardaga, 2006.
Ouvrages permettant d’approfondir la réflexion sur l’acceptation: Comte-Sponville A.,
De l’autre côté du désespoir. Introduction à la pensée de Svâmi
, Paris, Accarias L’Originel, 1997. Castermane J.,
La Sagesse exercée , op. cit. Krishnamurti, Se libérer du connu, Paris, Stock, 1969. Prakash S.,
L’Expérience de l’unité. Dialogues avec Svâmi
, op. cit.
الجزء الثالث: أن نتجاوز العواصف بالاحتماء بملاذ اللحظة الحاضرة
الفصل الخامس عشر: أن نتحرر من سجوننا الذهنية
Sur la douleur: Les modifications observées chez les méditants zen expérimentés sont un accroissement de l’épaisseur du cortex, notamment dans les zones du cortex cingulaire antérieur et du cortex somatosensoriel, impliquées dans la perception de la douleur. Grant J.A. et coll., “Cortical Thickness and Pain Sensitivity in Zen Meditators”, Emotion , vol. 10, février 2010, p. 43-53. Speca M. et coll., “A Randomized, Wait-List Controlled Trial: The Effect of Mindfulness Meditation-Based Stress Reduction Program on Mood and Symptoms of Stress in Cancer Outpatients”,
, vol. 62, septembre-octobre 2000, p. 613-622. Morone N.E. et coll., “Mindfulness Meditation for the Treatment of the Chronic Low Back Pain in Older Adults”,
, vol. 134, n° 3, février 2008, p. 310-319.
Sur les modifications cérébrales liées à la pratique de la pleine conscience: Luders E. et coll., “The Underlying Anatomical Correlates of Long-Term Meditation: Larger Hippocampal and Frontal Volumes of Gray Matter”, NeuroImage , vol. 45, avril 2009, p. 672-678. Lutz A. et coll., “Long-Term Meditators Self-Induce High-Amplitude Gamma Synchrony During Mental Practice”, PNAS , vol. 101, n° 46, novembre 2004, p. 16369-16373. Rubia K., “The Neurobiology of Meditation and Its Clinical Eff ectiveness in Psychiatric Disorders”, Biological Psychology , vol. 82, n° 1, septembre 2009, p. 1-11.
La citation sur “prison et barreaux” est extraite du livre d’Alexandre Jollien
Le Philosophe nu , Paris, Le Seuil, 2010.
Sur les ruminations, pour les professionnels de santé: Papageorgiou C. et Wells A. (éds),
Depressive Rumination , John Wiley, 2004. Davey G.C.L. et Wells A. (éds),
Worry and Its Psychological Disorders , John Wiley, 2006.
الفصل السادس عشر: أن نتخلى عن إصرارنا
Lemoine S. (sous la direction de),
De Puvis de Chavannes à Matisse et Picasso. Vers l’art moderne , Paris, Flammarion, 2002.
الفصل السابع عشر: أن نبقى حاضرين في هذا العالم
Marijnissen R.-H.,
Bruegel. Tout l’œuvre peint et dessiné , Paris, Éditons Charles Moreau, 2003.
الفصل الثامن عشر: أن نستمر بالتقدم رغم جروحنا
d’études classiques ou récentes sur l’usage de la pleine conscience dans les troubles anxieux ou dépressifs: Teasdale J.D. et coll., “Prevention of Relapse/Recurrence in Major Depression by Mindfulness-Based Cognitive Therapy”, Journal of Consulting and Clinical
, vol. 68, n° 4, août 2000, p. 615-623. Kuyken W. et coll., “Mindfluness-Based Cognitive therapy to Prevent Relapse in Recurrent Depression”, Journal of Consulting and Clinical
, vol. 76, n° 6, décembre 2008, p. 966-978. Segal Z. et coll., “Antidepressant Monotherapy Versus Sequential
Archives of General Psychiatry , 2010. Barnhofer T. et coll., “Mindfulness-Based Cognitive Therapy as a Treatment for Chronic Depression: A
Therapy , vol. 47, n° 5, mai 2009, p. 366-373. Kenny M. et Williams J.M.G., “Treatment-Resistant Depressed Patients Show a Good Response to Mindfulness-Based Cognitive Therapy”, Behaviour Research and Therapy , vol. 45, n° 3, mars 2007, p. 617-625.
Et pour nos lecteurs non-professionnels de santé, cette recommandation: à ce jour, la méditation, quelle qu’en soit la forme, n’a pas fourni assez de preuves lui permettant d’être considérée comme un outil de traitement des maladies psychiques (ni des autres d’ailleurs). Elle a par contre démontré qu’elle est un bon outil de prévention des rechutes, c’est-à-dire de maintien en aussi bonne santé que possible, en tenant compte des fragilités et du passé de chacun. Si vous souffrez (ou l’un de vos proches) d’une maladie psychiatrique, la méditation pourra vous aider, mais non vous soigner.
Berghmans C. et coll., “La méditation comme outil psychothérapique complémentaire: une revue de question”,
Journal de thérapie comportementale et cognitive , vol. 19, n° 4, décembre 2009, p. 120-135.
الفصل التاسع عشر: أن نقبل الغموض
Hood W.,
Fra Angelico at San Marco , New Haven, Yale University Press, 1993.
Spike J.,
Fra Angelico , Paris, Liana Levi, 2003.
La citation de Viktor Frankl se trouve dans le bel ouvrage de Tzvetan Todorov,
Face à l’extrême , Paris, Le Seuil, coll. “Points”, 1994 (p. 99).
Lire aussi, de Viktor Frankl,
Découvrir un sens à sa vie. Avec la logothérapie , Montréal, Éditions de l’Homme, 2006.
Trois capacités négatives , Paris, L’Olivier, 2009.
La métaphore des étoiles cachées par le soleil est d’André Comte-Sponville, dans son ouvrage
L’Esprit de l’athéisme. Introduction à une spiritualité sans Dieu , Paris, Albin Michel, 2006.
الفصل العشرون: أن نلمح السعادة وهي تبزغ ببطء
André C.,
Les États d’âme. Un apprentissage de la sérénité , Paris, Odile Jacob, 2009.
Y.,
Le Bonheur selon Confucius. Petit manuel de sagesse universelle , Paris, Belfond, 2009. Jullien F.,
Nourrir sa vie à l’écart du bonheur , Paris, Le Seuil, 2005.
La citation de Camus sur bonheur et conscience est extraite de son ouvrage
L’Envers et l’endroit , Paris, Gallimard, coll. “Folio essais”, n° 41, p. 118.
La citation d’Etty Hillesum est extraite de son ouvrage
Une vie bouleversée ,
La citation d’Evguénia Guinzbourg est extraite de son ouvrage
Le Vertige , tomes 1 et 2, Paris, Le Seuil, coll. “Points”, 1997.
Wood A.M. et Joseph S., “The Absence of Positive Psychological (Eudemonic) Well-Being as a Risk Factor for Depression: A Ten Year Cohort Study”, Journal of Affective Disorders , vol. 122, n° 3, mai 2010, p. 213-217.
Brown K.W. et Ryan R.M., “The Benefits of Being Present: Mindfulness and Its Role in
, vol. 84, n° 4, avril 2003, p. 822-884.
الجزء الرابع: أن نكون أكثر انفتاحا ويقظة وندرك أن ذلك هو أكثر الأسفار بعدا
الفصل الحادي والعشرون: أن نعمل
Espèces d’espaces , Paris, Éditions Galilée, 1974.
Barbera G.,
Antonello de Messine , Paris, Gallimard, 1999.
Zundel M.,
Vie, mort, résurrection , Montréal, Éditions Anne Sigier, 2001.
La “cloche de la pleine conscience” est une institution du célèbre Village des pruniers, fondé par Thich Nhat Hanh. Informations:
http://villagedespruniers.net/ .
الفصل الثاني والعشرون: أن نتأمل
Hofmann W.,
Caspar David Friedrich , Paris, Hazan, 2005.
La citation d’André Comte-Sponville est extraite de son
Dictionnaire philosophique , Paris, Presses Universitaires de France, 2001.
Dictionnaire des mots de la foi chrétienne , Paris, Les Éditions du Cerf, 1989.
La citation de Christian Bobin est extraite d’une de ses chroniques pour
Le Monde des religions : “Le prophète au souffle d’or”, mai-juin 2010.
Jossua J.-P.,
Seul avec Dieu. L’aventure mystique ,
1996.
Le Silence du Bouddha. Une introduction à l’athéisme religieux , Arles, Actes Sud, 2006.
Sur le lien à la nature et la biophilie: Éric Lambin,
Une écologie du bonheur , Paris, Le Pommier, 2009.
الفصل الثالث والعشرون: أن نحب
La parole de Siméon à Marie se trouve dans Luc 2, 34-35.
Roscam Abbing M.,
Rembrandt , Paris, Gründ, 2006.
Les méditations sur l’amour altruiste sont notamment détaillées dans l’ouvrage de méditation de Ricard M.,
L’Art de la méditation , Paris, NiL, 2008.
Sur l’utilisation de la compassion en psychothérapie, voir pour synthèse: Gilbert P.,
Compassion Focused Therapy , Routledge, 2010. Gilbert P. (éd),
Compassion. Conceptualisations, Research and Use in Psychotherapy , Routledge, 2005.
Ainsi que cette recherche originale montrant que la méditation altruiste améliore le lien aux autres: Hutcherson C.A. et coll., “Loving-Kindness Meditation Increases Social Connectedness”, Emotion , vol. 8, n° 5, octobre 2008, p. 720-724.
الفصل الرابع والعشرون: أن نختبر تمدد الذات وانحلالها
Magritte, la pensée visible , Cologne, Taschen, 2005.
Gohr S.,
Magritte. Tentation de l’impossible , Anvers, Ludion, 2009.
Sylvester D.,
Magritte , Arles, Acte Sud, 2009.
Meuris J.,
René Magritte , Cologne, Taschen, 2007.
Teilhard de Chardin P.,
Le
, Paris, Le Seuil, 1965.
La citation “Abandonne tout, abandonne tout ce que tu connais ...” est extraite de l’ouvrage de Tiziano Terzani,
Le Grand Voyage de la vie , op. cit.
Comte-Sponville A.,
L’Esprit de l’athéisme. Introduction à une spiritualité sans Dieu , op. cit.
Lenoir F. et Tardan-Masquelier Y.,
Le Livre des sagesses. L’aventure spirituelle de l’humanité , Paris, Bayard, 2005.
Une étude (parmi d’autres) montrant comment nombre de douleurs psychologiques sont liées à une focalisation excessive sur soi: Way B.M. et coll., “Dispositional Mindfulness and Depressive Symptomatology: Correlations With Limbic and Self-Referential Neural Activity During Rest”, Emotion , vol. 10, n° 1, février 2010, p. 12-24.
الفصل الخامس والعشرون: أن نصل للوعي الكوني
Büttner N.,
L’Art des paysages , Paris, Citadelles & Mazenod, 2007.
Shafi da ba'a sani ba