أدخلته أنت برضاك وقبلته باختيارك، كما يُدخل الملكُ العدوَّ قلعتَه بثغرة يتركها في سورها! فلماذا لا نقوّي نفوسنا حتى نتخذ منها سورًا دون الآلام؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون: فلسفة وأوهام. نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذيانًا. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام: يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحِمْلَ الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنّي فكأنه ما حمل شيئًا! ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرضَ الواحد، فيتشاءم هذا ويخاف ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه، فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويُحكَم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا ويفزع فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلتُه لم يقتله قبل الموت وهمه.
وهذا بسمارك، رجل الدم والحديد وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدَّخينة من الدخينة نهارَه كله، فإذا افتقدها خلَّ فكره وساء تدبيره. وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلاّ دخينة واحدة لم يصل إلى غيرها، فأخّرها إلى اللحظة التي يشتدّ عليه فيها الضيق ويعظم الهم، وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان صابرًا عنه أملًا بهذه الدخينة، فلما رأى ذلك ترك التدخين وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
1 / 19