Na Zama Allah Bayan Tara
وصرت إلها بعد التاسعة
Nau'ikan
أجابني ولم تفارق وجهه تلك الابتسامة الواثقة، وازدادت عينه في البريق كما لو كان يبلغني أنه استشعر قلقي وخوفي مما يحدث: «رئيس الجمهورية»، وبدأنا في حوار طويل تبادلنا فيه الأدوار عدة مرات؛ فكنت ألعب دور الفأر المذعور حينا ودور الفأر المذعور جدا أحيانا. - أي جمهورية؟ - جمهورية مصر العربية (قالها بحزم قاطع) نحن نتابع حركتكم منذ فترة، لكننا لم نكن واثقين من قدرتكم على تغيير نظام الحكم، لكن يبدو أن سيادتك والسادة أعوانك بالحركة قد استعملتم حيلة غاية في الذكاء للاستيلاء على القصر وعزل الرئيس السابق. - لا أعرف عم تتحدث!
مقاطعا: بل تعرف جيدا سيادة الرئيس، ولا وقت لدينا للمناقشة. السادة وزير الدفاع، والداخلية، ورئيس جهاز مباحث أمن الدولة خارج هذه الغرفة، في انتظار مقابلتك، ولديك حل من اثنين: أن أخرج وآمرهم بالقبض عليك، وستتمنى بعدها الإعدام رميا بالرصاص، أو أن أخرج مبتسما وأدعوهم لمقابلة الرئيس الجديد، ولا أعتقد أن لديك الوقت الكافي للتفكير، سيادة الرئيس. - هل لي بكوب من الماء؟ - بالطبع سيادة الرئيس.
تحرك «الراعي» نحو أحد الأبواب الأربعة بالغرفة وفتحه نصف فتحة وأخرج رأسه فقط ثم عاد مغلقا الباب مرة أخرى، وخفت نبرة الحدة من صوته وعاد مجددا للحديث. - لا تقلق سيادة الرئيس، لا تسمح لهم بالأسئلة، واستمع لهم، امنحهم فرصة إظهار الولاء لسيادتك، وبعد رحيل الجميع، سآتي مرة أخرى. - أين تذهب؟ ألا تريد إظهار ولائك بالمكوث معي حتى ينصرف الجميع؟
ابتسم موافقا، وتبدلت صرامة وجهه وأظهر وجها مريحا جعلني أتساءل: كم وجه لهذا الرجل؟! قمت من السرير، وجلست على كرسي فرنسي مذهب بجوار طاولة صغيرة عليها ملف ليس سميكا يشبه ملفات البريد اليومي، عليه خرطوشة فرعونية بها عين حورس، وتحته نسر قوي ينقض على ثعبان، وكتب في المنتصف (تقرير 22 يوليو 1952م، سفارة الولايات المتحدة) وأسفلها عبارة «سري للغاية»، لمحت الراعي ونظره متعلق بالملف فشعرت بأهميته، فأسندت يدي على الملف متظاهرا بالعفوية، فابتسم ابتسامته الشيطانية مرة أخرى. - اسمح لي بإدخال السادة الوزراء، سيادة الرئيس.
أومأت موافقا بتردد خف قليلا بإيماءة منه مغمضا عينيه؛ أي «لا تقلق»، وفتح الباب وخرج تاركا الباب مفتوحا، ثم عاد مرة أخرى ووقف بجوار الباب من الداخل فدخل «محسن رضوان» متمتما: «حمدا لله على سلامتك سيادة الرئيس»، ووقف بالجانب الآخر من الباب، ثم دخل وزير الدفاع بحلته العسكرية المميزة، كدت أقف حين اقترب مني لمصافحتي، لكن غمزة من عين «كمال الراعي» أجلستني مرة أخرى، وتظاهرت بأني أغير وضع جلستي طمعا في راحة أكبر، تحدث «محسن رضوان». - سيادة المشير «محمد سليم بركات» وزير الدفاع، سيادة اللواء «مصطفى نصر» وزير الداخلية، اللواء «منتصر الحفناوي» رئيس مباحث أمن الدولة.
تبادلنا التحية، وعملت بنصيحة «الراعي» وتقمصت دور «آل باتشينو» في فيلم «الأب الروحي»، وضعت ساقا على ساق، وملت قليلا وسندت رأسي على ثلاثة أصابع إبهامي وسبابتي ووسطاي، ولم أقل شيئا بل اكتفيت بالإيماءات، وعقد الحاجبين، أو بسط الوجه ، كان جمهوري الوحيد هو «محمد كمال الراعي» ويبدو من اللحظات الأولى أنه يستمتع بالعرض، نسيت وجوده ونظراته المشجعة حينا والمتشككة أحيانا وتلبستني روح «آل باتشينو» بثقته التي تجتاح ثقة الآخرين، وتوحي بقوة وقدرة تفوق حدود جسده الضئيل، حتى تحول الضيوف الكرام من ذئاب تتفقد فريستها لقطط تحاول إرضاء مربيها وتتمسح بقدميه طمعا في بعض الدلال، نسيت من هم وماذا يقولون، في الحقيقة لم أسمع أيا مما قيل، فقط كنت أتنقل بين أعينهم وأشعر بما في نفوسهم دون أن أسمع ما تنبث به أفواههم.
نظرت في ساعتي بحركة مسرحية أصابت الجميع بالتوتر، كان وزير الداخلية هو من يتحدث وقتها، أومأت له برأسي أن يتابع، فتابع في توتر، حقيقة لم أسمعه، كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء، فما كان يسيطر على ذهني هو تناقض الأحداث العجيب، منذ عدة ساعات كنت أتوق لصداقة «عصام» مندوب الشرطة ليقيني شر لجان المرور بسيارتي المحترقة، والآن يتلعثم وزير الداخلية في كلماته معلق العينين بنظراتي وانفراجات ثغري استحسانا أو استياء، لا أعتقد بأنني وجدت خاتم سليمان، أو مصباح علاء الدين، ولو كنت وجدت أيهما لما طرأ ببالي أن أطلب رئاسة الجمهورية! ما زال الأمر غامضا، أتوقع في أي لحظة أن يدخل الرئيس من أحد تلك الأبواب الأربعة مبتسما حانيا، يصافحني ويشكرني على قيامي بدور البديل، وقد يطري أيضا على أدائي الذي طالما حاول «عماد» إقناعي به، بالتأكيد سيأتي الرئيس قريبا جدا، وقد يمنحني وسام الجمهورية أو وسام العلوم والفنون، لن أقبل بأقل من الطبقة الأولى، كلا سأقبل بأي طبقة بل بأي شيء مقابل فهم ما يحدث، لا، بل مقابل الخروج من هنا سالما، وسأعد الرئيس ألا أحاول فهم ما حدث، بل سأعده أنني سأنساه تماما.
أين أصدقائي الآن؟ تذكرت «أبو ميار» وهو يبرح ضربا، بالطبع لم يكن تمثيلا، برغم صعوبة الموقف لم أتمالك نفسي من ابتسامة فلتت مني عندما تذكرت الصوت الجهوري والحركات المسرحية للرائد «عمر» وهو يشير للنقيب الذي لا أعرف اسمه لينقض هو ورجاله على «أبو ميار»، ويبدو أن ابتسامتي لم تكن في محلها أو كانت ... لا أدري؛ فقد عقد «الحفناوي» حاجبيه وبدا عليه القلق الذي ساور الجميع، تدخل «الراعي» طالبا من الجميع الانصراف، وحفظ الأمن لحين إعلان الخطاب الرئاسي وتجديد الثقة في الحكومة لحين إشعار آخر، تحرك الجميع بلطف شديد للخارج ورافقهم «محسن رضوان»، وقبل أن ألتقط أنفاسي عاد مرة أخرى فأومأ إليه «الراعي» بأن يغلق الباب من خلفه.
مرة أخرى جلست مع «محمد كمال الراعي»، جلس على الكرسي المجاور للطاولة الصغيرة التي سندت عليها يدي فوق ملفاته، كان يليق حقا بهذا الكرسي الفرنسي المذهب، تساءلت بيني وبين نفسي: أكان يشبهني أول يوم له بالقصر؟ لم يتركني كثيرا لتساؤلاتي وابتسم معلنا إعجابه الشديد بما بدر مني مع الوزراء وأنني رئيس بحق وأنه يشرف بخدمتي في الرئاسة. - حسنا سيد «رفاعي»، متى سنبدأ الحديث بجدية؟ - إن كل ما يحدث هو منتهى الجدية، سيادة الرئيس، لقد قمت وزملاؤك بانقلاب فريد من نوعه، واستخدمتم بعض عناصر الشرطة وسيارتين من الأمن المركزي، وتمكنتم من محاصرة القصر، وإرغام قوات الحرس الجمهوري على الاستسلام، وتم نقل الرئيس السابق لمنزله تحت الحراسة لحين مناقشة البدائل المقترحة، والآن قدم لسيادتك وزراء السيادة ولاءهم، وبقية السادة الوزراء بالانتظار في الصالون الأخضر لمقابلة سيادة الرئيس وتقديم الولاء له. - لكنك تعرف أن شيئا من هذا لم يحدث.
ابتسم وسألني: «هل تظنني نسيت تلك الملفات هنا؟» فأبديت امتعاضا؛ فلا يمكن فعلا أن يكون نسيها وأنا أسند يدي عليها كمن وجد كنزا ثمينا بينما تركهم لي لأقرأهم.
Shafi da ba'a sani ba