الإمام متنكرا
لا زال الصوت يدوي والناس تهتف، وأنا واقف فوق المنصة ألقي خطبة النصر، ويرن صوتي في أذني فأدرك أنه ليس صوتي، وإنما هو صوت الرجل الآخر يقاسمني شخص الإمام، وأرى وجهه عاليا في السماء، معلقا فوق أقواس النصر تحت كشافات الضوء، يشد عضلات وجهه المتقلص ليبتسم بفم واسع، يسع حب الله وعبيده فوق الأرض، وأحمد الله أنني أرقد في مكاني بعيدا عن الضوء وعيون الناس، وأحرك ذراعي بحرية وقلبي مملوء بالسعادة؛ فأنا في نظر الشعب والدولة والقوى العظمى لا زلت واقفا أخطب في عيد النصر، ومن حولي أعواني من حزب الله، وزوجتي الجديدة، وكاتبي الكبير، ومعارضي الشرعي، وأعوانه من حزب الشيطان، وأنا في الوقت نفسه راقد مستريح البال، لا أحمل هموم الدولة أو الديون أو الهزيمة أو الإشعاع النووي، ويمكنني أن أرقد هكذا فوق ظهري أو بطني، أو أخلع ملابسي الرسمية وأرتدي ملابس رجل عادي من الشعب، وأسير وحدي دون حاجة إلى حماية رئيس الأمن وأعوانه من أرواح الجان والشياطين. أتمشى الهوينى، لا أسرع الخطى دون حاجة إلى إيهام العالم أن وقتي ثمين، وأستنشق الهواء بملء صدري، وأترك عضلات وجهي مرتخية مستريحة دون حاجة إلى تكشيرة لائقة بهيبة العرش وحزم الإمام، أو ابتسامة تتسع لحب الله والوطن والشعب. أحرك ذراعي في الهواء وأنا أسير متنكرا متخففا من ثقل النياشين والأوسمة، وقميص الوقاية الملفوف حول صدري وبطني كحزام العفة الحديدي، ولا أحد من العالم يعرفني أو يستوقفني راكعا يطلب البركة أو علاوة أو توصية. أحرك ساقي في الهواء داخل سروال قديم من الدمور مثقوب من الخلف، وأتمشى غير مكترث بشيء؛ فلا أحد يعرفني ولا أخاف أن يعرفني أحد، وعضلات وجهي مرتخية غير مشدودة، بلا هيبة أو شجاعة أو خوف أو ضعف أو قوة، وإنما هي الراحة الكاملة وسعادة الآلهة والثقة والاطمئنان إلى أن العالم يسير بدوني، ومع ذلك فأنا موجود، وصوتي تنقله الإذاعات والأقمار الصناعية إلى جميع أنحاء العالم، وأيضا إلى العالم الآخر، وصورتي في كل مكان ترفرف إلى جوارها الأعلام، والهتاف يصل إلي من بعيد وأنا أسير الهوينى. أستمتع بمنصب الإمام دون أن أكون الإمام، وأسمع الهتاف دون أن يؤلم الدوي أذني.
على بعد غير قليل لمح شبحا يتحرك على شاطئ النهر. ظنه أحد أعضاء حزب الشيطان، وقد تعرف عليه ، وسوف يغتاله. كان يخاف أن يتعرف عليه أحد وهو متنكر، وكان يخاف أكثر أن يتعرف عليه أحد وهو غير متنكر. واختبأ وراء شجرة يلهث، عيناه مذعورتان تراقبان الشبح. دقق النظر. بدا له من بعيد كأنه صخرة بارزة في الأرض لا تتحرك. دقق النظر أكثر ورأى أنها تتحرك. بدت حركتها أول الأمر كصخرة تتدحرج وحدها. دقق النظر أكثر. رأى لها أربع قوائم. ظن أنها جاموسة تتمشى على النهر، لكن رأسها لم يكن به قرون، وإنما شعر ملفوف تحت عمامة بيضاء. ظنه شيخا عجوزا يسجد على يديه وركبتيه في خشوع للإمام. خرج من وراء الشجرة مطمئنا إلى أنه أحد أعضاء حزب الله، واقترب منه أكثر فرأى أنه امرأة وليس رجلا. عرفها من وجهها الطويل النحيل وعينيها السوداوين الواسعتين، وجلبابها الأسود الطويل، وشعرها الملفوف داخل المنديل وفي يدها الفأس. كانت تفحت الأرض، ولم تكن رأته بعد، وحلا له أن يراقبها دون أن تراه، ورآها تمهد الأرض بكفها الكبيرة. أبعدت قطع الطوب والحصى. فرشت الأرض بتراب ناعم. انتزعت من صدرها شيئا صغيرا وضعته في بطن الأرض. عمقت له مكانا، ثم ساوت الأرض وغطتها بتراب ناعم. قال لنفسه: واحدة من عبيد الأرض مات زوجها في الحرب أو في الوباء. اقترب منها وحياها وأثنى على جهدها، وسألها عما زرعت، فقالت: شجرة بندق. وكان يعرف أن شجرة البندق لا تطرح إلا بعد مائة عام، وقال: أتمنى لك العمر الطويل والصحة والعافية، لكن أتتوقعين أن تذوقي ثمار ما زرعت؟ وأدركت المرأة دون أن ترفع عينيها إليه أنه الإمام، وقالت: لن أعيش حتى أشهدها وهي تنمو. وقال: إذن لماذا تزرعين وفيم تبذلين من جهد؟ قالت: أنا أواصل الجهد ولم أبدأ الزرع، وأمي هي التي بدأت، ولولا أنها فعلت ما كنت أنا أعيش. وكاد يقول أنا الذي منحتك الحياة وليس أمك، لكنه كان متنكرا ولا يريدها أن تتعرف عليه، وكبح جماح الرغبة في أن يكشف عن سطوته، وقال لنفسه الأفضل أن أجمع عنها المعلومات، وأعرف هل هي في حزب الله أم في حزب الشيطان، ثم أتركها لرئيس الأمن، ورسم على وجهه ابتسامة، وقال برقة فائقة وكأنه يداعب طفلة: أنت في حزب الله أم في حزب الشيطان؟ وظلت صامتة لا ترد ولا ترفع عينيها إلى وجهه، وتصور أنها في حزب الله وتخشى أن تعترف له متصورة أنه الشيطان، أو واحد من أرواح الجان. وسكتت طويلا حتى ظن أنها تتخابث وقد تورطت في الكشف عن نفسها، وأنه سيعرف عنها ما لا تريد أن تبوح به، ودقق النظر إليها ولم ير في ملامحها خبثا، والبراءة مرسومة على وجهها كالطفلة. وكلما رأى البراءة مرسومة على وجهها ازداد يقينا أنها غير بريئة، وأنها بنت حرام تتظاهر بالبراءة، وظل يداعبها ويناولها غصن شجرة، وقال: خذي وقتك يا شاطرة ولا تخافي. إذا كنت في حزب الشيطان فهو حزب بأمر الإمام مثله حزب الله سيان، ولا تظني أنني أجمع عنك المعلومات لأضرك والعياذ بالله، إنما لأكافئك على جهد تبذليه دون مقابل، وهذا بالضبط هو إنكار الذات وفق تعاليم الله والوطن والإمام. وظلت المرأة صامتة وعلى وجهها البراءة تتضاعف، والفرح في قلبها يتضاعف، ورفعت رأسها إليه ولم تكن رأته من قبل. رأت رجلا غريبا رأسه بغير شعر، ووجهه يغطيه الشعر، وحاجباه كثيفان يلتقيان فوق عينيه في زبيبة سوداء، وأنفه مقوس، وفمه كبير معوج على ناحية، وذقنه مثلثة في وسطها حفرة كالثقب يتدلى منه الشعر، وقالت لنفسها: يشبه وجه الإمام كما رأته في الصورة. وكذبت نفسها؛ فالإمام لا يمشي في الطرقات كالبشر، وليس في سرواله ثقب ... وظلت صامتة، وسألها لماذا هي صامتة. قالت: تصورتك الإمام ولست أنت الإمام. واشتد ذكاؤه وتذكر سلاح المعلومات، وقال لنفسه: الآن يمكنني أن أعرف مدى حبها لي ومدى إيمانها بالله والوطن، وهكذا أعرف أغوار قلبها. واشتدت غبطته وهو يدرك أن التجسس على قلبها أصبح في مقدوره، ولم يكن في مقدور رئيس الأمن ولا القوى العظمى أن تتجسس بعد على أغوار القلب. ومن شدة الغبطة نسي أنه متنكر، وتصور أنه الله؛ فهو القادر وحده على كشف القلوب، وكاد يكشف لها عن حقيقته، لكنه خاف أن ينكشف أمره، وهو يريد أن يظل متنكرا حتى يعرف حقيقة شعورها، ومدى الإيمان في قلبها لله والوطن والإمام، وبالغ في تنكره وإخفاء صوته الخشن بصوت آخر ناعم، وإظهار الثقب في سرواله من الخلف. وكلما ازداد تنكرا وإخفاء لحقيقته ازداد يقنيا بأنها ستكشف عن حقيقتها وأغوار قلبها.
كان لا يزال واقفا أمامها، وأدرك أنه يرتعد وأنه خائف، ولم يعرف لماذا هو خائف، لكنه أدرك من صمتها ومن عينيها الثابتتين في عينيه أنها لا تؤمن بالله والوطن والإمام، وأنها ليست عضوا في حزب الله ولا حزب الشيطان، وأنها بنت حرام وأمها بنت حرام، وقال لنفسه: إذا كانت بنت حرام فلا عجب أن تفعل أية فاحشة، وليس لها من علاج إلا الرجم.
الفيلسوف
سحر غامض يجذبني إلى هذا العالم الآخر. هربت إليه كاتي حبيبتي القديمة. سمعت عنه الأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة. الشبق في العيون، والذهب السائل في بطن الأرض، وأنا في غرفتي الباردة بغير تدفئة، أنتقل من قطار إلى قطار تحت الأرض. موظف صغير في شركة صغيرة أتطلع لابنة المدير. أحببتها فرفضتني، وتزوجت امرأة رفضها غيري، تكبرني بعشر سنوات، وصدرها أملس بغير أثداء، ردفها نحيل ضامر، ورأسها كبير، وعقلها ساخن، والرحم بارد. تلد الكتاب وراء الكتاب، ولا تؤمن إلا بأطفال الأنابيب. قلت لها: أعظم امرأة ليست من كتبت أعظم كتاب، إنما من ولدت أعظم رجل. قالت: مريم العذراء ولدت ابن الله، وأنا فقدت عذريتي في الطفولة ولا أومن بالمسيح. قلت: وبماذا تؤمنين؟ قالت: أومن بعقلي وبأي شخص يخاطب العقل وليس الرحم. وقلت: عوضي على الله والمسيح. وبقيت معها أدفئها في الشتاء وتبردني في الصيف. وفي الصباح أجري في السراديب تحت الأرض. أركب قطارات طويلة ضيقة كأنابيب الأطفال. الناس محشورة كقطع السردين. ويحملني السلم الآلي، أترك له جسدي وأغمض عيني. يلفحني الهواء فوق سطح الأرض. أجري فوق الأسفلت من فوق رأسي مظلة المطر. أدخل إلى مكتبي أنفض الماء عن معطفي، وأساوي شعري في المرآة . لن يدق جرس التليفون بصوت أنتظره، لا رجل ولا امرأة. لم أعد أنتظر أحدا إلا صوت المدير؛ هذا التقرير عاجل، هذا الخطاب هام، أين الملف؟ عشرون نسخة من هذه الورقة، اطلب هذا الرقم، احجز لي في هذه الطائرة، اكتب هذه المذكرة. أصابعي تتحرك وحدها فوق الأزرار، دقات متكررة كدقات الساعة، لا جديد، لا حب، لا صداقة، لا وقود، لا أمل، واليأس أيضا راح.
قلبي جدره ثلج أبيض. كوب القهوة بارد في يدي. جدران غرفتي داكنة؛ لون رمادي قاتم تشوبه زرقة باهتة. منذ عشرين عاما لم أجدد الطلاء. ادخرت مبلغا من المال، نويت تجديد الطلاء في عيد الكريسماس. جاء العيد وذهب ولم أجدد الطلاء. أرسلوا الصواريخ في الليل، لن تبقي الحرب النووية على جدار، فما بال الطلاء؟ جداري خال من الصور، لا أب ولا أم. صورة أبي في خيالي كما وصفته لي جدتي يرتدي الزي العسكري. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حملني واختفى في جوف البحر. رست السفينة عند جبل الثلج. تركني مع أمه وسافر إلى حرب أخرى. مات دون أن يحكي لي قصة ولادتي، وجدتي لم تعرف شيئا. وإذا سألتها تقول: كنت طفلا وسيما داخل الأنبوبة. وفي أحلامي أسبح في الأنبوبة باحثا عن أمي، يبتلعني حوت ضخم وأصحو من النوم مبللا بالعرق.
أطراف أصابعه مثلجة حول الكوب، قهوة سوداء بغير لبن، يبتلعها كل صباح على معدة خاوية. شهيته للطعام راحت، وشهيته للحب راحت وشهيته للقراءة. لم يعد يقرأ إلا عنوان الصفحة الأولى في جريدة الصباح، ينتظر خبرا واحدا من ثلاث كلمات: إعلان الحرب النووية.
الساعة التاسعة إلا خمس دقائق. لم أعد قادرا على النهوض، ولماذا أنهض؟ ليس خارج غرفتي إلا الشارع الأسفلت والمطر وسراديب الأرض، وقطارات كأنيب الأجنة الصناعية، والسلم الآلي يستسلم له جسدي، والأزرار أدق عليها بأصابعي، وصوت المدير تقرير عاجل، خطاب سريع، اكتب هذا، لا هذا الملف. مقعد في الطائرة الدرجة الأولى بدون تدخين. هو يدخن لكنه لا يحب رائحة دخان الآخرين. دعاني مرة على العشاء. قال إنه معجب بذكائي. وعيناه على امتداد ساعة العشاء تمتد إلى جسدي. بعد العشاء حوطني بذراعيه. أبعدت وجهي عن أنفاس دخانه. قلت: أشكرك على الحب، لكني أحب شخصا آخر. سألني: امرأة أم رجل؟ قلت: ليس من حقك أن تعرف شيئا عن حياتي الخاصة، وماذا يهمك من أحب إذا كنت لا أحبك أنت؟ ولم أكن أحب أحدا، لا امرأة ولا رجل. تحررت من الحاجة إلى الحب. تحررت من الانتظار، والوعود دون تحقق. لم يعد جسمي ملكا لأحد، ولا أريد أن أمتلك أحدا. لا زلت أحتاج إلى مبلغ من المال كل شهر، أسدد إيجار الغرفة وأشتري القهوة والخبز. إذا فقدت وظيفتي فلن يكون لي مورد آخر. وحين حوطني بذراعيه في اليوم التالي همست في أذنه بالحب، وسألني هل أنت بخير، وجهك غير الأمس. وتذكرت أنني مريض، وفي حلقي مرارة القهوة السوداء. قال: هل ذهبت إلى طبيب نفسي؟ قلت: لا. قال: اذهب؛ فهذه أعراض الاكتئاب.
سألني الطبيب النفسي عن حياتي. حكيت له كل شيء. قال: علاجك السفر؛ فأنت في حاجة إلى دفء الحب والشمس، وجريان المال بين أصابعك. وأعددت الحقيبة وقلت لزوجتي سأسافر. قالت: إلى أين؟ قلت: إلى العالم الآخر. قالت: أي عالم آخر؟ وأشرت بطرف إصبعي إلى الخريطة. ارتدت نظارتها السميكة كقعر الزجاجة، وقالت: وراء البحار هناك؟ قلت: سأعود إليك محملا بالجواهر. قبلتها فوق فمها الخالي من الشفتين، وانطلقت بدونها إلى حبي القديم وحياتي الجديدة. قلبي يخفق لرنين الذهب، وفي المرآة أرى نفسي الملك شهريار. أغتصب كل ليلة عذراء، وقبل الفجر أقتلها قبل أن تقتلني. •••
Shafi da ba'a sani ba