فصرخ في غضب أشد: نريد سلاحا، لم تقترون علينا؟! - اليد قصيرة، وموقف الحكومة دقيق. - وموقفنا نحن! .. وموقف الأهالي الذين خربت بيوتهم؟! - أعلم ذلك، كلنا نعلم ذلك، صبرا، وسنبذل أقصى ما نستطيع. - أم تقنعون بالفرجة؟!
يا لها من غضبة كالنار، ولكن ماذا في القاهرة؟
لا عربة واحدة لتنقله، وفي ميدان المحطة جماهير تجري في كل اتجاه. الغضب يشتعل في الوجوه واللعنات تنصب على الإنجليز. الجو بارد والسماء متوارية خلف سحاب متجهم والهواء ساكن لا حياة فيه، الدكاكين مغلقة كالحداد، وعند الآفاق تصاعد دخان كثيف.
ماذا في القاهرة؟!
وتقدم في حذر، وأشار إلى رجل يقترب ثم سأله: ماذا في البلد؟
فأجابه في ذهول: القيامة قامت!
فسأله في إلحاح: تعني مظاهرات احتجاج؟!
فهتف وهو يأخذ في الجري: أعني النار والخراب.
وواصل تقدمه الحذر البطيء وهو يتفحص ما حوله، وتساءل في دهش: «أين البوليس؟ أين الجيش؟» وفي شارع إبراهيم تجلت حقيقة اليوم بصورة أبشع، خلا الميدان للغاضبين، انفجر مكنون اللاوعي كالبركان ، صراخ جنوني كالعواء، انقضاض على أي قائم على الجانبين، بترول يراق، حرائق تشتعل، أبواب تحطم، بضائع تنتثر، تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة، الجنون نفسه بلا رقيب. ها هي القاهرة تثور ولكنها تثور على نفسها. إنها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها، إنها تنتحر، وتساءل في فزع ماذا وراء ذلك كله؟! واستفحل نشاط غريزته التي تتنبأ بالمخاوف، وأيقن أن مأساة حقيقية سيرفع عنها ستار الغد، ثمة خطر يتهدد صميم حياتنا، يتهددنا نحن لا الإنجليز، يتهدد القاهرة والمعركة القائمة في القنال والحكومة، ويتهدده هو باعتباره جزءا من هذه الحكومة. هذا الطوفان سيقتلع الحكومة والحزب وشخصه في النهاية. هيهات أن يعتصر هذا الخوف من قلبه، هيهات أن يتناساه رغم دوامة الجنون المحدقة به، كأنها أقوى من الجنون والخراب والنار. وإنه ليؤمن بغريزته بهذا إيمانا قاتلا. هي نذيره في أوقات الأزمات السياسية وقبيل الإقالات المتعددة التي أطاحت بحزبه عن كراسي الحكم المرة تلو المرة، لعلها النهاية. وستكون نهاية مميتة لم تسبق بمثيل لها من قبل.
ومضى يقترب من قلب المدينة في ذهول تام. صمم على أن يطلع على كل شيء. إنه مسئول، ومهما يكن من ثانوية مركزه نسبيا فهو مسئول ويجب أن يرى كل شيء بعينه، الضوضاء فوق كل احتمال، كأن كل ذرة في الأرض تصرخ. اللهيب ينطلق من كل موقع، إنه يرقص في النوافذ، يقعقع في الأسقف، يصفر في الجدران، يطير في الجو، والدخان يتربع مكان السماء. رائحة الحريق تقتحم الأنوف كعصارة جهنمية من الخشب والأقمشة وزيوت شتى. هتافات غامضة كأنما تنبثق من الدخان، غلمان يخربون كل شيء في نشوة وبلا مبالاة، جدران تنهار مفجرة رعدا. الغضب المكتوم، اليأس المضغوط، الضيق المتكتل، كل أولئك حطم القمقم وانطلق كزوبعة من الشياطين وقال لنفسه إن أشياء كثيرة يجب أن تحرق ولكن ليست القاهرة. أنتم لا تدرون ماذا تفعلون. إن فرقة كاملة من الإنجليز لتعجز عن إحداث عشر هذا الخراب، انتهت معركة القنال، خسرنا المعركة، قلبي المجرب بالمحن لا يكذب، الحكومة بلا جنود والنار تجري بلا عقبة. هل تلتهم النيران المدينة الكبرى؟ هل يمسي ثلاثة ملايين من البشر بلا مأوى؟ هل ينعق الخراب والمرض والفوضى ويرجع الجيش البريطاني ليعيد الأمن إلى نصابه؟ هل ينسى الناس في محنة الخراب الاستقلال والوطنية والآمال العريضة؟ إن القلق يدب في جذور قلبه كالنمل، وتسود الدنيا في عينيه اللتين زايلهما الطموح والمجد، وعند الأركان في الشوارع الرئيسية لبد رجال يحرضون: احرق ... خرب ... يحيا الوطن!
Shafi da ba'a sani ba