موسوعية كاتب جلبي، وربما لا يعدله في هذه الشمولية بين مؤلفاته إلا كتاب "سُلّم الوصول إلى طبقات الفحول" الذي نحن بصدد تحقيقه ونشره لأول مرة. كما تدلنا كتبه التي ضمّنها أفكاره في ذلك العصر، حول حاضر الدولة العثمانية، كما خَبَرَها من خلال عمله في الجهاز البيروقراطي في العاصمة إستانبول، أو عمله الإداري في الحملات العسكرية، على عقلية نقدية موضوعية، ونظرة تحليلية، وإن له من الآراء ما يعتبر شاهدًا حيًّا على الشعور القَلِق بين طبقة المثقفين العثمانيين من التحول في ميزان القوى الذي حصل بين الدولة العثمانية والقوى الأوربية في ذلك الحين، ومن بوادر الضعف والخلل الذي أصاب الدولة العثمانية، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها.
أما البعد الثالث في شخصية كاتب جلبي- والذي نعتبره من أهم العناصر في تكوينه الفكري- فهو انفتاحه على الثقافة الأوربية، واهتمامه بها، وعمله الدؤوب على نقل بعض المؤلفات الأوربية من كتب التاريخ والجغرافيا، ومحاولاته في الاستفادة من المصادر الغربية في كتاباته. وهو بعمله هذا يعتبر من أوائل الرُّواد في الحضارة الإسلامية في عصره، ممن بادروا بالاتصال بالغرب، وحاولوا فهم السبل التي أدت إلى تقدمه، وبداية تفوق الأوربيين على العالم الإسلامي، الذي كانت تمثله آنذاك الدولة العثمانية. ولم يقتصر عمل كاتب جلبي على الترجمة أو النقل من اللغة اللاتينية إلى إحدى اللغتين العربية أو التركية، وإنما كانت له نظرات ومقارنات بين الحضارتين الإسلامية والأوربية، أوردها شذراتٍ متفرقات في العديد من مؤلفاته، مما يدل على إحساس مبكر منه بسبق الأوربيين للعثمانيين في مجال الثقافة.
ومن السمات المهمة التي جعلته يحوز مكانة متميزة هي همه في البحث عن الحقيقة، فهي ضالته التي انشغل بالعثور عليها، ثم شجاعته في عرض أفكاره والدفاع عنها، وشجاعته في التناول المحايد للموضوعات الخلافية والجدلية. ولعل ذلك هو الذي جعله يحظى بمكانة متميزة في الشرق والغرب، فتحدث الغربيون عنه وعن أعماله بالإعجاب الشديد، حتى وصفه أحد المستشرقين بأنه "السيوطي" التركي (١) وقد ترك على الكتاب العثمانيين أثرًا كبيرًا، مما حدا ببعضهم أن يقتفي أثره، ويسير على نهجه، فهناك شهري زاده في كتابه (نو بيدا)، ونعيما في تاريخه. ومع ذلك فإن قيمته العلمية الحقيقية لم تظهر في تركيا إلّا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخاصة منذ كتب عنه عدد من الكتاب والمفكرين الأتراك بعض البحوث والمقالات ابتداءً من الرسائل المستقلة التي كتبها بورصه لي محمد طاهر بك، عن
_________
(١) F. Babinger، Ein turkischer Stiftungsbrief des Nerkesi ...، MOG،١/ ١٦٣، Wien ١٩٢٢
مقدمة / 10