وأخذت من النارجيلة نفسا ثم غنت:
يا خوجة البنات علمهم
ضرب الآلات ونغمهم
فضحك كمال، ومال نحوها فقبل خدها قبلة جمعت بين المودة والمداعبة، فهتفت: شاربك كالشوك، كان الله في عون عطية! - إنها تحب الأشواك .. - بهذه المناسبة كان عندي بالأمس ضابط النقطة على سن ورمح، ولا فخر، كافة زبائني من سادة القوم، أم تظن أنك تتصدق علي بزيارتك! - يا ست جليلة، إنك لجليلة .. - أحبك إذا سكرت؛ فإن السكر يذهب عنك وقار الخوجة ويردك إلى شيء من أبيك، لكن خبرني ألا تحب عطية؟ .. إنها تحبك!
هذه القلوب التي حجرتها فظاظة الحياة كيف تحب؟ ولكن ماذا كان نصيبه من القلوب التي تجود بالحب وتستطيبه؟ فإما أن تحبه بنت صاحب المقلى فيعرض عن حبها، وإما أن يحب عايدة فتعرض عن حبه .. فقاموس حياته لم يعرف للحب من معنى سوى الألم؛ ذلك الألم العجيب الذي يحرق النفس حتى تبصر على ضوء نيرانه المتقدة عجائب من أسرار الحياة، ثم لا تخلف وراءها إلا حطاما. قال يعلق على قولها متهكما: أحبتك العافية .. - لم تعمل في المقدر إلا منذ طلاقها! - الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. - الحمد لله في جميع الأحوال.
وابتسم ابتسامة ذات معنى، فأدركت معناها وقالت كالمحتجة: أتستكثر على أن أنوه بحمد الله؟ آه منك يا ابن عبد الجواد، اسمع، لا ابن لي ولا بنت، وقد شبعت من الدنيا، وعند الله العفو.
من عجب أن حديث المرأة تتردد فيه كثيرا هذه النغمة الموحية بالزهد! وجعل يختلس إليها النظر وهو يتجرع بقية كأسه، وكانت الخمر تأخذ في نفث سحرها معه من أول كأس. ووجد نفسه يتذكر عهدا مضى أيام كان للكأس فرحة سماوية، ما أكثر الأفراح التي ولت، في البدء كانت الشهوة ثورة وانتصارا، ثم انقلبت مع الزمن فلسفة حمراء، ثم أخمد نشواتها الزمن والعادة، ولم تخل في أحايين كثيرة من عذاب المتردد بين السماء والأرض؛ ذلك قبل أن يسوي الشك بين الأرض والسماء.
ودق الجرس، ودخلت عطية، بيضاء لدنة ممتلئة، لحذائها أطيط ولضحكتها رنين، فقبلت يد المعلمة، ثم ألقت نظرة باسمة على الكأسين الفارغتين وهي تقول مداعبة كمال: خنتني!
ومالت على أذن المعلمة فهمست قليلا، ثم رمقت كمال بنظرة ضاحكة، وسارت إلى الحجرة إلى يمين مجلس المعلمة، فلكزته جليلة قائلة: قم يا نور العين ..
تناول طربوشه ومضى إلى الحجرة. ولم تلبث نظلة أن لحقت به. حاملة صينية عليها زجاجة وكأسان ومزة خفيفة، فقالت لها عطية: هاتي لنا رطلين من العجاتي، أنا جوعانة!
Shafi da ba'a sani ba