Zababbun Shafukan Waƙoƙi
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
Nau'ikan
مثل الشعراء أنفسهم في أول الأمر ما كتبوا من قصص ولكن ما كاد التمثيل يرقى بعض الرقي حتى ظهرت طائفة الممثلين تخصصت لهذا الفن وارتاح لذلك الشعراء، فكانوا يتقسمون فيما بينهم آثار الشعراء فيدرسونها ويأخذون أنفسهم بتمثيلها وتفسيرها، يتقاضون على ذلك أجرا من الدولة. وما زالت هذه الطائفة ترقى ويتميز أفراد منها بالإجادة في الفن حتى أحرزوا في الجمهور مكانة عالية، واضطر الشعراء إلى أن يحسبوا لهم حسابا حين ينظمون قصصهم، وكثيرا ما أنشأ الشاعر قصة من القصص ليلعبها بين يدي الجمهور ممثل بعينه.
يبدأ التمثيل كما قلنا مطلع الشمس ويستمر النهار كله، ثم يعود فيبدأ من غد ومن بعد غد؛ ثلاثة أيام، لكل شاعر يوم، وفي كل يوم ثلاث قصص إلى القصة الصغيرة الستيرية التي أشرنا إليها آنفا. فإذا تم التمثيل انتخب الرئيس الذي وكل إليه تنظيمه قضاة عشرة لا يستشير في انتخابهم إلا القداح. ثم حلف هؤلاء القضاة ليحكمن عادلين غير جائرين ولا متبعين للهوى. فمن حكموا له بالأولية فهو الفائز الظافر، ثم يأتي بعده الثاني الذي يليه إجادة وإتقانا، أما الثالث فمقهور مغلوب لا حظ له من المكافأة.
وليس معنى اختصاص هؤلاء القضاة بالحكم أن صوت الجمهور لم يكن ذا قيمة ولا خطر؛ فإن القضاة أنفسهم كانوا من هذا الجمهور يتأثرون بما يتأثر به، وما كان أشد تأثر الجمهور الأثيني، وما كان أسرعه إلى إظهار ما يشعر وأعنفه في إظهاره، فكان يصفق ويصيح مشجعا حين يعجب ويسر، وكان يصفر ويصيح مزريا ساخرا حين لا يروقه ما يرى أو ما يسمع. وكثيرا ما حصب الممثل وكثيرا ما طرده. ومن هنا أصاب التمثيل في أثينا كثيرا من الأحيان ما أصاب السياسة من تنافس في كسب الجمهور واستباق إلى اشترائه وابتغاء رضاه.
تظفر القصة من القصص، فلا يكون هذا الظفر ولا ما استتبع من جائزة موقوفين على الشاعر وحده، أو الممثل وحده، أو عليهما معا. وإنما هو حظ مقسوم بينهما وبين هذا الذي علم الجوقة وأنفق عليها. ولا يكاد يعلن هذا الظفر حتى يخلده أثر مادي ما تنقش عليه نتيجة المسابقة وأسماء الفائزين، وهذه الآثار نفسها هي التي استخدمها مؤرخو الآداب في العصور اليونانية حين حاولوا إنشاء تاريخ التمثيل والممثلين.
11
أشرنا إلى أن التراجيديا إنما تولدت من الشعر الغنائي حين كان يتناول تمجيد ديونوزوس، وذكر حياته وما ملأها من لذات وآلام، وإلى أنها كانت وما زالت نوعا من العبادة لهذا الإله. فكان من الطبعي إذن أن يكون موضوعها دائما حياة هذا الإله أو غيره من الآلهة. وقد بدأت كذلك. ولكنها لم تكد تتكون وترقى بعض الرقي حتى تركت الآلهة جانبا وبحثت عن أبطال العصور الأولى الذين تغنى بهم الشعر القصصي، فاتخذت منهم لقصصها موضوعا. فهذا العدول عن موضوعها الطبعي خليق أن يعلل ويبحث عن سببه. وليس من العسير الاهتداء إلى هذا السبب والوقوف عليه؛ ذلك أن الآلهة على قربهم من البشر في تصور اليونان كانوا لا يزالون آلهة يخالفون البشر في طبيعتهم وحياتهم وما يملؤها من عمل وما يجري فيها من خير ومن شر. فلم يكن من الميسور اتخاذهم موضوعا للقصص التمثيلية ولا إلى أن يجد الشاعر في حياتهم ما لا بد منه لجمال القصة من درس العواطف وتحليلها ووضعها موضع النقد والإنكار. فإذا لاحظنا إلى هذا أن التمثيل إنما نشأ عند اليونان في العصر الذي ارتقى فيه العقل وأخذت فيه الفلسفة تمد ظلها على كل شيء وتتناول أجزاء هذا العالم بالبحث والتمحيص. عرفنا أن الآلهة لم يكونوا يصلحون موضوعا للتمثيل لبعد ما بينهم وبين الحقيقة الواقعة، ولما في وضعهم موضع البحث والنقد من خطر على مكانتهم الدينية أن تتزعزع، وعلى سلطانهم أن يظهر باطله فيزول، ولأن إظهارهم على مسارح التمثيل يتحاورون فيما بينهم أو يحاورون الناس لم يكن يخلو من غرابة لا يسيغها العقل ولا تطمئن إليها النفوس.
ولقد حاول «أيسكولوس» تمثيل الآلهة في قصة سيراها القارئ في هذا السفر وفي قصة أخرى هي الأمنيدس ولكنه لم يعد إلى ذلك كأنه آنس من الجمهور شيئا غير قليل من الدهش لما يرى والقصور عن فهمه وتذوقه. فآثر أن يجعل الآلهة من قصصه بمكان المشرف عليها من كثب المدبر لما يقع فيها من حادثة. ومضى على سنته غيره من الشعراء.
جل الآلهة عن أن يكونوا موضوعا للتراجيديا وقصرت الحوادث المعاصرة للشعراء عن هذا أيضا. فإنا لا نرى فيما بقي من آثار الشعراء الممثلين ولا فيما حفظ التاريخ الأدبي من عنوانات قصصهم الدارسة ما يؤذن بأنهم مثلوا حياة الأمة اليونانية المعاصرة لهم إلا مرات معدودة، فشلوا في بعضها وحفظتهم ظروف خاصة من الفشل في بعضها الآخر. فقد مثل فرنكوس سنة خمس وتسعين وأربعمائة بين يدي الأثينيين سقوط ميليه في يد الفرس فأبكى الشعب وأحزنه، ولكنه لم يلبث أن عوقب على ذلك، ثم مثل سنة خمس وسبعين وأربعمائة قصة الفينيقيين، ومثل أيسكولوس سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قصة الفرس، فظفر كل الظفر لا لشيء إلا لأن الأثينيين خاصة واليونانانيين عامة كانوا في هذا الوقت سكارى بما نالوا على الملك الأعظم من تفوق وانتصار.
فإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الإعراض عن الحوادث المعاصرة وجدناه يكاد ينحصر في شيئين: الأول أن الحوادث كانت تملأ النفوس وتؤثر في القلوب بمجرد وقوعها؛ فلم يكن اليونان في حاجة إلى قوة الشعراء وبراعتهم ليستقصوا كل ما كان فيها من جمال وروعة أو من خير وشر، والثاني أن التراجيديا كانت عملا دينيا قبل كل شيء، فلم يكن بد من أن يمت موضوعها إلى الدين بسبب، ومن الظاهر أن هذه الحوادث لم تكن من الدين في شيء.
مكان التراجيديا من الدين وحرص اليونان على سننهم الموروثة - لا يغيرونها مهما ظهر من فسادها - حالا بين الشعراء وبين اختراع الموضوعات الطريفة لقصصهم التمثيلية. وقد حاول بعضهم ذلك فلم يفلح ولم ينل إعجاب الشعب ولا رضاه.
Shafi da ba'a sani ba