Sufiyya: Nash'ata da Tarihinta
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Nau'ikan
في الواقع الأليم، كانت الصورة بالتأكيد أكثر تعقيدا وربما أقل جاذبية؛ فعلى الرغم من أن الحب الإلهي النشوان كان جزءا من تعاليم الحلاج، ويظهر على نحو جلي في الشعر المؤثر الذي كتبه، فإن كتاباته النثرية - التي ظلت لفترة قصيرة - تشير إلى قدرة فكرية أكبر على الاستفادة من الأفكار التي طورها شيخه السابق التستري. وكما رأينا، فقد حازت فكرة الفناء في الله على انتشار كبير في حلقات الصوفيين التي تردد عليها في بغداد والبصرة، وكذلك فكرة وجود علاقة خاصة بين الله ونخبة تعرف ب «الأولياء». ورأينا بالفعل كيف كون معتقد الأولياء نموذج سلطة خاصا؛ إذ قدم الولي على أنه يتمتع بقرب خاص من الله، لا يمكن أن يحققه أي قدر من حفظ القرآن أو الحديث. أما من ناحية الاستفادة الاجتماعية من هذا المعتقد، فإن من زعموا أنهم أولياء مثل التستري لم يستخدموا المكانة التي وصلوا إليها من خلال الاختيار الإلهي إلا في جمع حلقات صغيرة من السالكين المتشابهين معهم في التفكير حولهم؛ أما في حالة الحلاج، فقد بدأنا نرى الاستفادة من المقدرة الاجتماعية الكاملة لهذا المعتقد، من خلال تطوير زعم الولاية بالإظهار الخارجي له عن طريق صنع الكرامات. وعندما تعلق الأمر بجذب عدد أكبر من المريدين، كان لتلك الأدلة القائمة على صنع المعجزات لإثبات المكانة الخاصة قدرة أكبر على الحشد، وقد حقق صنع الحلاج العلني لهذه المعجزات هذا الأمر بالضبط. لم يكن الحلاج أول مسلم يعتقد أنه يمتلك القدرة على صنع المعجزات، وكان يوجد بالفعل عدد كبير من الحكايات عن المعجزات التي صنعها الأولياء السابقون والأنبياء، إلا أن الحلاج كان أول صوفي بارز يضم هذه المهارة إلى سجل مهاراته. وعلى غرار الماركسي الذي ينتقل من قاعة ندوات إلى منصة في تجمهر خلوي، فإنه في جمعه للكثير جدا من الأتباع في هذه الأثناء قد غير جذريا الأمور التي كانت مثار جدل في تعاليم الصوفيين.
وكما هو متوقع، فإن الأتباع الكثيرين جدا الذين جذبهم الحلاج إليه جعلوه محط اهتمام سلطات الدولة في بغداد، التي كانت مزاعم شرعيتها - التي أصبحت مبتذلة نسبيا - في ذلك الوقت تتضاءل مع كل جيل من الأفكار الجديدة. وعلى الرغم من أن أسباب القبض على الحلاج وإعدامه في النهاية تضمنت مزيجا كارثيا من المواقف السياسة الحكومية والصراع مع النخب المثقفة، فإن ما جعل الموقف أكثر سوءا كان عبارات الحلاج المتجاوزة، التي ظل بعضها موجودا في كتاباته، وظل بعضها الآخر في اقتباسات موجودة في أعمال كتبها غيره. في هذا الصدد، تجاوز الحلاج النقاش السابق المتعلق بفناء النفس في الله، ليزعم أنه نظرا لأنه لم يتبق شيء الآن من منصور الحلاج، فإن من يتحدث من خلال شفتيه هو الله؛ فنفس الحلاج قد فارقته لتترك فقط روح الله تسكن جسده أثناء سيره بين الشوارع والناس في بغداد. في أكثر مزاعمه شناعة - التي تكتسب قدرا أكبر من الأهمية بسبب اعتقاد المتأخرين أنه قالها بالفعل، وليس لوجود دليل مؤكد على قوله لها - استخدم واحدا من أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين ليقول عن نفسه: «أنا الحق.» ليعلن نفسه فعليا أنه الله. بل الأغرب من ذلك أنه أعرب عن تعاطفه مع الشيطان، الذي رأى رفضه للسجود لآدم فيه نوع من الولاء البطولي لله؛ نتيجة لرفضه الانحراف عن استغراقه في عبادة الله الواحد.
57
على الرغم من ذلك، فإن السبب الرسمي لإعدام الحلاج كان أحد التعاليم المنسوبة إليه، الذي يقضي بأن الحج إلى مكة، الواجب على كل المسلمين القادرين على أدائه، يمكن أيضا أداؤه رمزيا حول طاولة في المنزل. ومن الناحية الضمنية، فإنه كان يقول إن البعد الرمزي أو الباطني للواجبات الدينية أكثر أهمية من الأداء الفعلي أو الظاهري لها. كان هذا المبدأ في حال تعميمه يهدد النسيج الكامل للتكاليف والواجبات التي على أساسها كان يتطور المجتمع الإسلامي على مدار القرون الثلاثة السابقة. ومع تزايد عدد الأتباع، أصبحت آراء الصوفيين تحمل أهمية كبرى. (8) الصوفية في العراق في أواخر القرن العاشر
مع مرور القرن العاشر تزايد عدد الشيوخ المعروفين بالصوفيين، الذين كانوا يجذبون أتباعا لهم في العراق، وقد كتبوا أعمالا استفاضوا فيها في شرح المصطلحات والمفاهيم التي شهدنا تطورها في كتابات الخراز وغيره. وكما هو الحال مع الشيوخ الذين تناولناهم، والذين كانوا يطلعون السالكين على كيفية القرب من الله ومشاركته في علمه وفي قوته في بعض الأحيان، كان لهذه المعتقدات تبعات اجتماعية وسياسية هائلة، حتى لو أنها في ذلك الوقت لم تكن قد تحققت إلا بالمعنى السلبي المتمثل في إعدام الحلاج. ولعل أوضح مثال على ذلك العراقي محمد بن عبد الجبار، المعروف باسم النفري (نسبة لمدينة نفر) المتوفى بعد عام 977، والذي لا يتوافر عن سيرته الذاتية إلا القليل.
في كتاب «المواقف» اعتمد النفري على النزعة الصوفية - التي شهدنا نشأتها فيما سبق - إلى تأويل «المقامات» أو «الأحوال» الكثيرة الموجودة على الطريقة الصوفية. طور النفري فكرة تقول إن الطريقة تحتوي أيضا على «مواقف» (أي نقاط توقف)، وهي على الرغم من أن بعض المسافرين من الممكن أن يتجاوزوها، فإنها في الواقع أماكن يكشف فيها الله جوانب مختلفة عن نفسه للسالكين الشديدي التقوى، الذين يتحلون بالصبر. وفي إشارة إلى أن السالكين الآخرين فاتتهم تلك «المواقف»، أخذ النفري يصف بتفاصيل مدهشة الكشوف التي منحها الله له في كل موقف من هذه المواقف، التي لا تقل عن سبع وسبعين، بادئا مناقشة كل «موقف» بزعم صريح يقول: «أوقفني الله وقال لي ...»
58
بالنسبة إلى النفري، كانت هذه التجربة الرؤيوية المكتسبة في تلك المواقف أعلى من تعلم الكتب، وكذلك من المعرفة المباشرة المكتسبة على عجل، التي يزعم الصوفيون الآخرون أنهم حصلوا عليها من الله. في هذه العروض المتزايدة التفاصيل لطبيعة ومدى الرحلة إلى الله، لن يكون من المستبعد رؤية نوع من محاولة إظهار الأفضلية الروحانية على الغير. ويرى النفري أن التمكن في المواقف في هذه الرحلة له مكافأة عظيمة؛ إذ يستطيع السالك أن يكتسب من هذه المواقف قدرة الله على الخلق، فيأتي بالأشياء إلى الوجود. وحتى في هذه المرحلة المبكرة لم تكن القدرة على صنع المعجزات - أي القدرة على صنع أشياء لا يستطيع فعلها حتى أقوى الرجال - بعيدة مطلقا عن اهتمامات الصوفيين.
قبل أن ننتقل لاستعراض المنطقة الجغرافية الرئيسية الأخرى التي تكونت فيها الصوفية، جدير بنا الانتظار قليلا لإلقاء نظرة على التطورات التي حدثت في العراق في نهاية القرن العاشر. بداية، لقد رأينا تطورا من فترة كان فيها مصطلح «صوفي» أو «لابس الصوف» مجرد لقب لخليط غامض من السالكين، إلى فترة استخدم فيها المصطلح للإشارة إلى طريقة محددة لاكتساب المعرفة أطلق عليها صوفية؛ وهذا يعني أن المصطلحات اكتسبت معنى جوهريا ومحددا أكثر؛ ففي السابق كان يوجد فحسب أشخاص يطلق عليهم صوفيون، والآن أصبحت توجد طريقة عملية ونظرية يطلق عليها الصوفية. كانت العوامل التي أتاحت هذا التطور عديدة، بعضها اتضح بعد قرون، وبعضها كان أكثر غموضا. أما العامل الأكثر وضوحا، فكان إنتاج نصوص طور فيها الصوفيون المصطلحات المفاهيمية التي فسرت أفكارهم وأوضحت تجاربهم وتجارب مريديهم، وربطتهم بمصادر المعرفة الشرعية المتمثلة في القرآن والحديث. وبحلول القرن العاشر تقريبا، تراوحت أنواع النصوص الصوفية ما بين تفسيرات للقرآن، ورسائل حول موضوعات معينة، وشعر عاطفي، وخطابات توجيهية، وأقوال مأثورة موحية، وسرد لتجارب رؤيوية. وفي كثير من الحالات، كانت تلك الأعمال البالغة التعقيد والإيحاء، في أغلب الأحيان، إبداعات نخبة مثقفة تكتب لأتباعها. وفي فترة كانت السلطة الشرعية والأخلاقية على المجتمع الإسلامي يكتسبها تحديدا أولئك المتعلمون الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «علماء»، كانت هذه المكانة الاجتماعية للمنهج الصوفي الجديد مناسبة للغاية.
هذا لا يعني أن الأتباع الأوائل للصوفيين كانوا كلهم أعضاء في هذه النخبة المثقفة الحضرية؛ لأن كثيرا من الأشعار والأقوال المأثورة والقصص التي ظهرت في الكتابات انتشرت بسهولة بين غير المتعلمين من خلال الحفظ والكلام. بل المقصود أنه لولا مساعدة هذه النخبة المثقفة ذات النفوذ المتزايد، لأصبح استمرار الصوفية بعد هذه الفترة وتوسعها خارج العراق أكثر صعوبة. إن الكتابات التي أنتجها مثقفو العراق كانت فعالة في حد ذاتها في العملية التي من خلالها انتشرت واستمرت الصوفية؛ فهي لم تنقل الأفكار عبر الزمن فحسب (حيث اكتسبت تلك الإنتاجات مكانة أكبر مع مرور كل جيل من الأجيال، باعتبارها من نتاج عصر روحاني ذهبي)، بل نقلتها عبر المكان أيضا (حيث نشرت طريقة بغداد الجديدة الرائجة في أقاليم إمبراطوريتها). وبقدر ما يمكن اعتبار الصوفية نوعا من «التصوف» تحظى فيه التجربة بأهمية بالغة دائما، فعند تحديد سبب نجاحها لا بد أن ندرك أن الأمر كان أيضا يرجع إلى حد كبير للكتابات. وبالنسبة إلى المؤرخين على الأقل، فإن تلك الأعمال أكثر أهمية؛ لأنه عند انقضاء هذه التجربة الخاطفة يبقى ما يكتب عنها؛ فكما يقال: «الحروف المكتوبة تبقى.»
Shafi da ba'a sani ba