Sufiyya: Nash'ata da Tarihinta
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Nau'ikan
ما نعلمه على وجه التأكيد عن حياة الخراز قليل جدا، باستثناء أنه كان كثير الترحال؛ حيث زار مدنا مقدسة مثل القدس ومكة (التي مكث فيها أحد عشر عاما)، وكذلك زار مصر ومدينة القيروان الموجودة فيما أصبحت الآن تونس. ويخبرنا اسمه أنه على الأقل في مرحلة من حياته عمل كإسكافي، وهذا يشير إلى البيئة الحرفية الحضرية التي سنلاحظ تكرارها بين الصوفيين الأوائل الآخرين. إلا أننا في العموم لا يتوافر لدينا إلا قليل جدا من المعلومات المتعلقة بسيرته الذاتية كي يمكننا الاستعانة بها، ومن ثم فما من طريقة ممكنة لوضع الخراز وغيره من شخصيات هذه الفترة المشابهة له في السياق، إلا طريقة خطابية متمثلة في وضع أفكاره وكتاباته وسط الأنماط الأوسع نطاقا، الخاصة بالجدل وإنتاج الكتب التي شهدنا ظهورها في بغداد في تلك الفترة، لكن مع الوضع في الاعتبار أننا ما زلنا في فترة كانت فيها تلك «الكتب» مكونة من شيء أشبه بملاحظات مدونة في مخطوطات، وليست كتبا مخطوطة باليد مرتبة على نحو رسمي. كان الكتاب الأساسي للخراز هو «كتاب الصدق» الذي يبدو أنه ألفه لنطاق أوسع، وليس لنطاق مذهبي ضيق من القراء، على الرغم من أنه كتب أيضا عددا من الأطروحات الأقصر، أو ما يعرف بالرسائل المخصصة للمسائل الأكثر تحديدا وتعقيدا، وكانت على الأرجح موجهة إلى عدد أقل من القراء الذين يتشابهون معه أكثر في التفكير.
ونظرا لميل كثير من الروايات التي تتناول الفكر الصوفي إلى التخلص من القشرة الثقافية بحثا عن النواة التصوفية، فإنه تجدر الإشارة أولا إلى الطابع الإسلامي المميز لكتابات الخراز. وكما في الأعمال الصوفية التي لا تعد ولا تحصى، التي كتبها الصوفيون في الأجيال التالية، أثبت الخراز وجهات نظره من خلال تقديم اقتباسات مؤيدة من مراجع إسلامية قديمة، سواء أكانت من القرآن أم الحديث أم من علماء وزهاد من القرنين السابقين؛ ومن ثم فقد استخدم الماضي الذي وصفناه بالفعل بأنه كان موردا استخدمه هؤلاء الكتاب. وعلى الرغم من أنه لم يكن يوجد بعد تقليد صوفي مميز يمكن الاعتماد عليه - إذ إن كتابات جيل الخراز ستكون هي نفسها المصادر الأولى لتكوين مثل هذا التقليد المميز على مدار الأجيال القليلة التالية - فقد كان يوجد بالفعل تقليد إسلامي زاخر يمكن أن يعتمد عليه المرء في دعم أفكاره. إن إدراك هذا السياق الخطابي الإسلامي أمر مهم؛ إذ يمنعنا من الانسياق بسهولة وراء الميول القديمة المتعلقة بفهم الصوفيين الأوائل، التي ترى أنهم زهاد يبحثون عن تجربة خام. فمن ناحية، إن النظر بعين الاعتبار إلى المحتوى الإسلامي في كتابات الخراز، يمنعنا أيضا من الانسياق بسهولة وراء التخلص من الأمور التي مثلت للخراز وقرائه الأسس الإسلامية لتعاليمه؛ كي نقدم عمله كبنية أفكار مجردة، كي يكون ممكنا الزعم أن «عمله يشبه كثيرا الأطروحات المسيحية التي كتبها إسحاق النينوي.»
36
ومن ناحية أخرى، من خلال إدراك عملية التناص التي عن طريقها طور الخراز وغيره من الصوفيين نصوصهم، عن طريق الاعتماد على النصوص القديمة الموثوق فيها (أو انتحال بعض أفكارها على نحو سافر في بعض الحالات كما سنرى لاحقا)، فإنه يمكننا تجنب افتراض أن الصوفيين بوصفهم «زهادا» قد ألفوا كتاباتهم في الأساس من هذه المادة الخام المستمدة من تجاربهم المتسامية. والسبب في ذلك يكمن في أن تلك التجارب فسرت واكتسبت معانيها من خلال اللجوء للمصطلحات والمفاهيم التي تكونت من خلال قراءة الصوفيين النشطة للقرآن والحديث؛ بحيث كونت تلك التجارب والنصوص جزءا من التسلسل الإبداعي.
إلا أننا نرى الاهتمام بالدفاع عن سلطة التقليد الإسلامي الجمعي في مقابل التجارب الحضورية الفردية في كثير من أعمال الخراز، التي لم تحاول إطلاقا تجاهل المتطلبات الأساسية للشعائر الإسلامية، بل اشتملت على كتاب قديم مخصص لطريقة الأداء الصحيح للعبادات الأساسية. في نفس الإطار، دافع الخراز عن سلطة الأنبياء (الذين كانوا أمواتا) على أولئك الذين زعموا أنهم أولياء الله (الذين كان كثير منهم أحياء). سوف نتحدث بتفصيل أكبر عن هذه الشخصيات الغامضة - ولكن الأساسية لاحقا - لكن في هذه المرحلة هدفنا هو إدراك تقليدية وامتثالية الخراز. وفي حين اعتمد الخراز على هذه الخلفية الملتزمة بالعرف، ووضع نفسه في إطارها، فقد قدم إسهامات مهمة لتطوير ما سيصبح عما قريب الطريقة المميزة الخاصة بالصوفيين؛ ففي «كتاب الصدق»، حدد الخراز مجموعة من الصفات الأخلاقية اللازم على المسلم الحق اكتسابها إذا كان (وفقا لكلمات القرآن كما اقتبسها الخراز) «يرجو لقاء ربه.»
37
وكان اهتمام الخراز ب «الصدق» صدى لنقد الزهد الريائي الذي رأينا ظهوره بالفعل، وأثناء تسجيل ذلك بنفسه كان هدفه توضيح أن الصدق «علم» (أي معرفة نظرية) وفي الوقت نفسه «فقه» (أي معرفة عملية)، مع فهم هذين الجانبين في إطار التصنيفات الإسلامية التي كانت تظهر في ذلك الوقت بين العلماء المسلمين على اختلاف معتقداتهم، بما فيهم الفقهاء.
38
على الرغم من أننا أصبحنا الآن أكثر تعودا على التحدث في ضوء «التطور الروحاني»؛ فإنه من الأفضل على الأرجح تدبر المبادئ التي حددها الخراز شروطا أخلاقية؛ لأن الحديث عن التطور «الروحاني» في غياب عمل مبذول في العالم يعد إساءة فهم للمعنى الكامل لرسالة الخراز التي يوضح فيها أن التطور الروحاني لا معنى له ، إن لم يكن مصحوبا بالعمل الصالح. لا بد أن يكون العمل الخارجي والنية الداخلية متناغمين كل منهما مع الآخر، والصدق الحقيقي يساعد على ذلك. إلا أن هذه كانت بداية الأمر فحسب، وكان «كتاب الصدق» مخصصا لبسط المضامين والجوانب الدقيقة الغامضة لتطبيق هذا المبدأ الدال وإجادته. وبقيامه بهذا، استخدم الخراز ما سيصبح الاستعارة المحورية للمعتقد الصوفي، والتي تتمثل في أن المنهج الصوفي يمكن اعتباره «طريقا»؛ أي دربا يرشد المرء بأمان في رحلته نحو حالة التناغم مع الله، التي هي الإسلام. ومثل أي رحلة طويلة أخرى، فعلى مدار الدرب يمر المسافر بمجموعة من الأماكن أو المحطات التي تسمى «المقامات»، ومن أجل أن يكون المرء صادقا في النية وفي الفعل أيضا، فإنه يجب أن يمر عبر العديد من هذه «الأماكن» المجازية، التي قد يكتسب فيها الجوانب المختلفة من الصدق؛ وهي: التوبة، ومعرفة النفس، وضبط النفس، ومعرفة حيل الشيطان، ومعرفة الحلال والحرام، والزهد، والتوكل على الله، والخوف من الله، والحياء، والشعور بالعرفان تجاه الخالق، وحب الله غير المحدود، والإيمان بالقضاء والقدر، والشوق إلى الله، وأخيرا مقام القرب من الله.
كانت هذه الاستعارة مهمة؛ لأنه كما هو الحال مع أي رحلة، من غير الممكن الوصول لأي مكان دون المرور أولا بالأماكن السابقة عليه بطول هذا الطريق. إن هذا الأسلوب القائم على رسم هذه «الأماكن» على الطريق نحو القرب من الله سيصبح واحدا من الخصائص الكلاسيكية لكتابات الكتاب الصوفيين، ودليلا - كما يجب أن نفترض - على امتلاك هؤلاء الكتاب لنوع من المعرفة الخاصة بهذه الرحلة جعل المريدين يقبلون عليهم. على الرغم من ذلك، يجب أن نفترض أن هذه التعاليم لم تكن نظرية فحسب، كما تبدو في أعمال تقديمية من أمثال هذا الكتاب، بل لقد كانت أيضا عملية وفاعلة. وعلى غرار الطب، فإنها لم تكن مجرد فرع رسمي من فروع المعرفة، بل كانت وسيلة تجلب الشفاء؛ فالصوفيون لم يدلوا الناس فحسب على طريقة فعل الخير، بل دلوهم أيضا كيف يشعرون بالاطمئنان والسعادة من خلال الرضا الذي يجلبه التوكل الكامل على الله.
Shafi da ba'a sani ba