نحن شعب يرى الفخر كله والمجد بشحمه ولحمه وعظمه ودمه وجلده في المناصب، كأنما الدنيا كلها محصورة في الكرسي، وكأنه هو الذي وسع السماء والأرض ... إذا قلت لذي مال أو موظف: هذا أديب أو شاعر، يعيرك نظرة بلهاء. أما إذا قلت له: هذا أستاذ أو معلم، فقد يقابل هذا التعريف بهمهمة ودمدمة.
وإذا قلت له: هذا الأمي يملك مليونا فلم يستطع دون السجود له صبرا، كما قال أبو نواس في خمرته ...
وما زال هذا هو تقديرنا لمربي أكبادنا التي تمشي على الأرض، فكيف نرجو أن يكون لنا معلمون مخلصون؟ إن معلما غير مخلص لشر على الأمة من أفعى ضيق صدرها آب اللهاب، وأقرب إلى أذى وطنه من العقرب، ومن ير كرامته ممتهنة في وطن فهيهات أن يخلص لهذا الوطن، إلا إذا كان أديبا مثاليا يظن أنه يعمل لخلق إنسانية كاملة، أو جبرانيا يزعم أن امرأة أخرى ستلده، فيرى في إحدى دوراته الآتية عالمه المنشود.
إن ذوي العقول الثاقبة من وطننا لا يقبلون وظيفة مرب إذا وفقوا إلى أحقر وظيفة في إحدى دوائر الدولة، وما سبب هذا إلا تغاضي الدولة عن شئون المربين، فكأنهم في أعين السادة من سقط المتاع، ومع كل هذا يطلبون من المدارس تهذيبا رفيعا وتعليما دقيقا وتربية وطنية ...
يقولون إن مستوى التعليم ينحدر، ويطلبون من المدارس رفعه، وهل يرتفع المستوى بلا أيد تنهض به؟ فأين هي الأيدي؟ ومن يغذيها؟
يقول المثل اللبناني: «لا ينهض بالركب غير البطن»، وهل ينهض البطن وهو فارغ؟ وماذا يشجع النبهاء ليكونوا معلمين صادقين؟
إني لا أقول ولا أحابي أحدا، إن أكثر من يتقدمون إلى ممارسة التعليم هم من الذين لم يوفقوا إلى عمل آخر، فكأن المدارس أصبحت ملطى للهاربين من وجه قافلة الحياة، فلكي يكون لنا معلمون يجب أن نزيل من العقول هذا الاعتقاد القديم، وهو أن المعلم كائن بليد. وعلى حبي لصديقي، نديمي وسميري، الجاحظ الأديب، أقول: يجب أن نحذف من الوجود كتابه «دفتر المعلمين»، وإن كان أبو عثمان لا يعني إلا معلمي الصبية الذين عرفهم ولابسهم في زمانه.
نريد أن نبني وطنا ثم لا نعنى إلا بقرميده وشرفاته ورفارفه ثم نهمل الزوايا والأسس، إن الوطن لا يبنيه غير المدرسة، والمدرسة بمديرها وأساتذتها، فإذا لم يكونوا للوطن يعلمون أبناءه حبه، فلا يثبت ذلك الوطن، وإذا ازدرينا المعلم دار الدولاب بالمقلوب وحاك لنا ما لا نريد أن نلبس.
إن ابتسامة حائرة من معلم ماكر تزعزع إيمان النشء بالوطن، والطالب يقلد اثنين لا ثالث لهما: أباه ومعلمه. إن الوطن يحتاج إلى مؤمنين ككل رسالة من الرسالات العليا، ولا يبشر بهذه الرسالة ولا يغرسها في النفوس إلا المعلم، فلنعن بالمعلمين إذا شئنا توطيد الوطن حتى لا تكون هذه المهنة - وهي أسمى المهن - ملجأ للمقصرين ... فالمعلم الذي لا يرى في التعليم عمله الدائم لا يثمر عمله، وهو والمدرسة والتلامذة خاسرون.
إن الساعة التي يتقدم فيها منا رجال لهم منزلتهم العلمية والأدبية والسياسية لإدارة المدرسة والتعليم فيها، هي الساعة التي نستطيع فيها أن نسمي أنفسنا مواطنين.
Shafi da ba'a sani ba