فمن يتطلب في حياته شيئا واحدا لا يتعداه إلى سواه يقدر أن ينجزه قبل أن ينقطع حبل حياته، وأما من يطلب كل شيء فلا يحصد من الآمال التي يزرعها هنا وهناك إلا حسرات عميقة.
فالذي يقضي به الوقت الحاضر هو أن يعمل الإنسان عملا واحدا بملء قواه، لا أن يتحول إلى أعمال عديدة فيعملها كيفما اتفق له عملها أي بدون إتقان.
كنا فيما مضى نجد في حانوت ما أو مخزن واحد جميع ما نحتاج إليه ... أما في هذا العصر فقد اختص كل مخزن ببضاعة، وكل سوق بأصناف دون سواها، لا يعني من يتاجر بها إلا التجويد وانتقاء الأفضل.
كان الطبيب فيما مضى يعالج المرضى بالجملة، يكتفي بجس النبض والإنصات إلى دقات القلب، ثم يصف الدواء والله الشافي من كل داء ... أما في هذا الزمن فأصبح لكل عضو طبيب وإلى جانبه من يفحص له كل مادة؛ ولهذا قل الموت وطالت الأعمار وتدارك الناس الخطر قبل استفحاله.
كل هذا بفضل الاختصاص الذي عم كل شيء في هذا الكون حتى لم يبق سبيل إلى النجاح بدونه، فإذا أردت أن تفوز في معركة فهيئ لها سلاحا ماضيا من الاختصاص.
أما من يتبع الخطط القديمة كأن يكون نجارا وحدادا وخياطا وطيانا وبناء، فهو لا يجيد عملا من هذه الأعمال.
أعرف كاهنا كان ثاقب العقل وقد اشتهر بحدة الذهن وسرعة الفهم، كان خطاطا ومصورا ودهانا وعالما وكاتبا وشاعرا يتكلم ستة ألسن وما أكل بواحد منها خبزا، لم يتقن عملا من أعماله، ولا لغة من اللغات التي ألم بها، فكان من المصورين الدون يرسم أشباحا، وقد قال له أحدهم مرة: هذه ليست صورة والدي، فأجابه بروحه الخفيفة: تتعود عليه، ومع مرور الزمن يصير ...!
وكان دهانا أقل من وسط، وخطاطا عاديا، وشاعرا رديئا، وكاتبا مبتذلا، وعارفا باللغات معرفة أقل من سطحية، وأخيرا مات وما على جلده قميص؛ لأنه أراد أن يكون كل شيء فكان لا شيء.
قال الإمام علي: «من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل.» أي من أراد إدراك كل شيء لا يدرك شيئا.
وقال كارليل: «إن أضعف مخلوق يستطيع أن يعمل عملا إذا جمع قواه حول موضوع واحد، في حين أن أقوى الناس إذا وزع قواه على مواضيع متعددة لا يكون نصيبه إلا الفشل والخيبة، فالقطرة بتكرار سقوطها على الصوان تبقي عليه أثرا، وأما السيل السريع فإنه يكر على الصخور بضجيج وصخب ويذهب كأنه لم يمر فوقها.»
Shafi da ba'a sani ba