وقد اختلف كبار الأدباء في وصف القراءة، فمنهم من عدها الرذيلة التي لا عقاب عليها، وأكثرهم قالوا إنها التحدث إلى أشرف أهل القرون الخالية. إن الرأيين لعلى صواب، فالقراءة ككل الأشياء ذات وجهين مختلفين، فالقنبلة الذرية تستعمل للإبادة فتفني بالجملة، وهي لو سيرت في سبيل النفع لأتت بأجزل الخيرات وأهمها.
فمتى استعملت القراءة للهو والتخدير والتواري من وجه العمل فهي رذيلة دون شك، فمن يقرأ لأنه يحب أن يقرأ ليتناسى الأعمال وهموم الحياة فهذا لا تفيده قراءته، ومثل هذا إذا فاته الكتاب المفيد تناول جريدة صدرت منذ أشهر وأخذ يقطع أنهارها، تارة يأتي النهر من قبل وحينا من دبر فهو لا يعنيه إلا أن يقرأ.
وهناك قارئ آخر هو من شغف بالمطالعة ووجد فيها متعة عظمى، وهذا خير من الذي تقدم وصفه؛ لأنه يتوخى الاستفادة جهده، فيقابل ويعلل ويحلل ويستخرج العبر.
وهناك قارئ ثالث وهو الممتهن - وأعني به الطالب - فهذا يبتغي من قراءته معلومات معينة لا بد له منها لإتمام تكوينه العقلي، فهو كحصان العربة يسير توا على طريقه المعبدة - أي المنهاج - ولا يستطيع التحول عنها، وإن خرج عنها يمينا أو شمالا تدهورت عجلته، ولم تصل سالمة إلى ساحة الامتحان حيث تلقي أثقالها . فإن كنت أيها القارئ طالبا فعليك أن تقرأ والقلم بيدك والدفتر عن يمينك، وتلخص للمراجعة حين تأتي ساعة الامتحان الرهيبة.
أما إذا كنت مؤلفا فإنك لا تحتاج إلى إرشاد؛ لأن لكل مؤلف طريقته. وعلى كل فلا غنى لأحد عن القلم والورق مهما كانت ذاكرته حادة جبارة. إن للقراءة كغيرها من الأعمال الأخرى قواعد لا بد من اتباعها، فعلينا أولا أن نقرأ الكتاب أكثر من مرة، وقراءة غير سطحية؛ لأن محاسن الأدب كالجمال تبدو لك وتزداد كلما ازددت تأملا، كما قال أبو نواس في وجه أحبه:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
وعلينا أن نؤثر الفصول أو الكتب أو الأبحاث الجيدة على غيرها، سواء أكانت لكتاب معاصرين أو قدماء.
ليس في الأدب قديم وجديد، بل فيه ممتع وطريف، فكم من قديم ينبض بالحياة! وكم من جديد مات ساعة خلق!
واعلم يا صاحبي أنك لا تستطيع أن تقرأ كل كتاب، فاختر - وخصوصا في الكهولة - أنفع الكتب وأمتعها. إن مشاهير الأدباء والعلماء والفلاسفة معروفون، ومع ذلك ترى من يفضل هذا على ذاك، والأذواق والمشارب مختلفة فاختر لنفسك ما يحلو.
Shafi da ba'a sani ba