أما حين يشيخ داود فيتغير رأيه في إلهه، فيقول في آخر زبوره: «الرب حنان رحيم، طويل الروح وكثير الرحمة، الرب صالح للكل، ومراحمه على كل أعماله.» (مز، 145 : 8).
وكأني بأشعيا الذي جاء بعد داود والذي اعترف أخيرا أن الرب للكل، شاء أن يحلم بعصر سلام، ولكن حلمه هذا كان بعيد المنال لا يمكن أن يكون، فقال متنبئا عن عالم جديد: «ينصف فيه لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد . ويخرج قضيب من جذع يسى يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف للبائسين، فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معا وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدبة ترعيان تربض أولادهما معا، والأسد كالبقر يأكل تبنا، ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده إلى جحر الأفعوان، فلا يسيئون ولا يفسدون؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.»
وقبل أن يخرج قضيب من جذع يسى سمعنا صوتا في اليونان هو صوت فيلسوفها أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة - جمهورية أفلاطون - فتصور عالما مثاليا كما لا يزال الإنسان يتخيل ويتصور ويحاول الابتعاد عن الشر، ولكن تخيلات هذا الفيلسوف العظيم قد ذهبت عبثا، وما زال الناس يتخبطون في ظلمات أطماعهم جارين ذيول الجشع مقتتلين على حطام الدنيا، متعثرين بأذيال الطمع، إلى أن ظهر يسوع وبشر برسالة السلام فسمع العالم صوتا جديدا، صوتا يدعو الناس أجمعين إلى طاعة الله إلهه وإلههم، دعا إلى المحبة دعوة صارخة حتى قال: «من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن طلب رداءك أعطه ثوبك، ومن سخرك ميلا امش معه ميلين.»
ولكن كل هذه التعاليم لم تثمر وظل الإنسان يتدهور في هوة الشر، وينقلب من درك إلى درك، وجاء محمد رسول الله، فعلم أن الله غفور رحيم منزه عما وصف به - سبحانه وتعالى - دعا إلى التسامح والأخوة العالمية مناصبا العبودية العداء.
ثم قام من أتباع عيسى ومحمد رجال كثيرون يدعون إلى نصرة تعاليم المرسلين لهدي الناس، ولكن آذان الناس صمت عن سماع كلام المرسلين، فكانوا كأنهم صم بكم عمي متى لاحت لهم فريسة لذيذة.
فهذه الصوفية تنادي بأن الكون جزء لا يتجزأ، هذا هو أحد فلاسفتها ينحو نحو أفلاطون راسما للبشر عالما جديدا، يشد أزره في دعوته «السلامية» فريق من شعرائنا إلا واحدا منهم فإنه لم يؤمن بالسلام، ما دامت جرثومة النزاع متأصلة في النفس البشرية، فقال في ذلك:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منه
وإن سر بعضهم أحيانا
Shafi da ba'a sani ba