هذا مذهبي
التكوين الوطني
أعيادكم بغضتها نفسي
أذنان ولسان واحد
الابتسامة رأس مال
الفقر سلم المجد
الدين إيمان وعمل
اتكل على نفسك
كمال العلم بالحلم
سير العظام تخلق العظائم
نحو عالم أفضل
الحظ أعمى
العام الجديد
عداوة المهنة
بين الأذن والفم
مشاهدات
نماذج شتى
أكلة لحوم البشر
الصبر مفتاح الفرج
مختصر مفيد
المطالعة غذاء الموهبة
حارب على جبهة واحدة
إلى كل امرأة
طيش الأمهات
أشبعوه على الأقل
مأوى عجزة
محل الامتحانات الرسمية
بواريد فاضية
المستقبل لا يرتجل
الدواء في الثكنة
كنيسة العلم والثقافة
فتش عن ذاتك
الأدب الحق
التدقيق
الأخلاق ضمان جماعي
الرجل ابن البيت والبيئة
بلا عنوان
البكالوريا بين المعلم والطالب
متى تستوي الطبخة؟
إذا هبت رياحك فاغتنمها
موسم الرحمة
كن لطيفا
أتكون آلة تدار؟
إن المجد مبتدر
شعرة من شواربك
أزمة التربية والتعليم
وجوه بلا ماوية
ما أحلى أيام المدرسة!
عمودا البيت
الشباب التائه
ارع الجار ولو جار
العفو حبيب الله
كتم السر فلاح
إلى جندي
الميلاد
إلى رجل الغد
أفقره عقله
ضلال الآباء والأبناء
هذا أوان الشد
هذا مذهبي
التكوين الوطني
أعيادكم بغضتها نفسي
أذنان ولسان واحد
الابتسامة رأس مال
الفقر سلم المجد
الدين إيمان وعمل
اتكل على نفسك
كمال العلم بالحلم
سير العظام تخلق العظائم
نحو عالم أفضل
الحظ أعمى
العام الجديد
عداوة المهنة
بين الأذن والفم
مشاهدات
نماذج شتى
أكلة لحوم البشر
الصبر مفتاح الفرج
مختصر مفيد
المطالعة غذاء الموهبة
حارب على جبهة واحدة
إلى كل امرأة
طيش الأمهات
أشبعوه على الأقل
مأوى عجزة
محل الامتحانات الرسمية
بواريد فاضية
المستقبل لا يرتجل
الدواء في الثكنة
كنيسة العلم والثقافة
فتش عن ذاتك
الأدب الحق
التدقيق
الأخلاق ضمان جماعي
الرجل ابن البيت والبيئة
بلا عنوان
البكالوريا بين المعلم والطالب
متى تستوي الطبخة؟
إذا هبت رياحك فاغتنمها
موسم الرحمة
كن لطيفا
أتكون آلة تدار؟
إن المجد مبتدر
شعرة من شواربك
أزمة التربية والتعليم
وجوه بلا ماوية
ما أحلى أيام المدرسة!
عمودا البيت
الشباب التائه
ارع الجار ولو جار
العفو حبيب الله
كتم السر فلاح
إلى جندي
الميلاد
إلى رجل الغد
أفقره عقله
ضلال الآباء والأبناء
هذا أوان الشد
سبل ومناهج
سبل ومناهج
تأليف
مارون عبود
هذا مذهبي
مذهبي في الحياة أن لا مذهب لي فيها؛ فكل أعمالي خبص في خبص، ما أريده لا أفعله، والشيء الذي لا أريده إياه أصنع. أحسبني كرة في يد لاعب جبار يقذفها في الفضاء، فلا هو ولا هي تدري أنى تتوجه، وأين يكون مستقرها! فالحياة في نظري لعبة تتلهى بها قوة سرمدية أزلية تخرج منها أنماطا لا تدرك، ولا يزال في قرارتها غرائب وعجائب لا نهاية لها، كلما تزاوجت أنسلت أقزاما وعماليق، وكلما انفعل الكائن الأزلي تفجرت قواه اللامتناهية، وانبثق إلى الوجود ما يحير كل موجود.
في مذهبي أن الدماغ البشري هو المستودع النائمة فيه - إلى حين - أسرار الطبيعة، وقد عاينته، يبرزها إلى الوجود واحدا واحدا في سبعين عاما، فما كان مستحيلا أمسى ممكنا.
لا أتمثل الحياة إلا مدرسة لا نهاية لدروسها، خريجها يتوارى في الظلمة قبل أن يرى النور الذي ينتظر، ومع ذلك أراني أومن بالحياة إيمانا عميقا لا قرار له، وأحبها محبة كلية ولكنها بدون رجاء.
أومن بالإنسان، ابنها الوحيد، الخالق الأعظم المنبثق من الأرض والسماء، فهو جرم أرضي سماوي في وقت معا. إني أرى الأرض مصدر كل خير وبركة، ومع ذلك يكفر بها الناس، وينكرون فضلها عليهم، ويفتشون عن سعادتهم في غيرها، أما أنا فمذهبي في الحياة هو مذهب طرفة القائل:
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
لا أومن إلا بأني سوف أموت، ولا يعنيني كل ما يقال عني بعد ذلك.
مذهب غيري: القناعة غنى. أما أنا فشعاري الطمع في هذه الحياة، وأرى القناعة من طباع البهائم. أنا في محبة الدنيا على دين معاوية؛ أود لو تكون في يدي بيضة نمبرشت فأحسوها كما هي دفعة واحدة.
مذهبي في الحياة أن أعمل دائما، وهمي أن أسبق من قبلي وأعجز من بعدي، ولكن يا ليت!
أكره القمر ولا أفرح بولادته؛ لأنه بشير زوال، وأنا لا أريد أن أزول قريبا. وأحب الشمس لأنها رمز الديمومة.
أتعد هذا فلسفة؟ أنا لا فلسفة لي في الحياة ولا أومن بالفلسفة، وأعتقد أنني حجر في مقلاع الجبار العنيد، فتارة يضربني وآونة يضرب بي، فخير ما أعمل هو أن أعمل بلا انقطاع؛ لأجد اللذة فيما أعمل لا فيما أفكر.
لي في حياتي مذاهب تتغير وتتقلب مع الأنوار والظلمات، ومع الحر والبرد، وفي العسر واليسر، ولكن الشيء الذي لا يتغير هو الانصراف إلى العمل الذي ينسيني جميع شئوني وشجوني.
فكل أمنيتي ألا أذيب شخصيتي في مستنقعات الآخرين، وأن أظل منسجما مع ذاتي، وأن أبقى ساذجا لا تكلف ولا تعقيد في حياتي، وألا أتخلى عن شيء من بساطة أورثنيها المربي، فأكره شيء إلي التقليد.
لا تسلني عن مذهبي في حياتي؛ لأني لا أعرف ذلك المذهب لأحدثك عنه؛ فكل ما أعرف أنني بدلت أثوابا كثيرة، ولم يبق لي ثوب لأقول هذا يعجبني، فأمري ليس في يدي.
فكل ما أعرفه هو أنني نشأت نشأة زميتة في كنف رجل يرى الضحك جريمة، فكان يهز لي العصا كلما خف وقاري فأعود إلى الترصن، وكان صباي وشبابي رصانة لا قيمة لها؛ لأنها مصطنعة وضد طبعي، فأضعت ذاتي زمنا طويلا ولم أعثر عليها إلا في ظهر العمر، وصرت أخيرا كما يقول أبو نواس: «وشيبي بحمد الله غير وقار.»
أرأيت أنني كلما قلت لك مسير لا مخير؟ كثيرا ما أحاول أن أعدي عن الهزل، ثم لا أجدني إلا انبريت له، فكأني أو كأن الحياة تريد أن تعوض علي ما حرمته في صباي وفتوتي.
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر
يظهر أن هذا الضحك نافعي، يجب أن نضحك كثيرا حتى نقابل جهومة الشيخوخة العتيدة، ونرعبها فترتد على أعقابها وتختفي علاماتها من أمام أعيننا.
ومذهبي الأخير - أقول الأخير الآن، فربما كان لي غدا مذهب غير هذا - هو أن أستهزئ بالموت. وإني لأعجب كيف يخاف الموت من لا يرى أمامه حقيقة ثابتة غيره! نعلم أننا ميتون، وإذا حصل الموت قمنا وقعدنا وتفجعنا كأنما قد حل بنا أمر غير منتظر ولا مقدر، فمن لي بمن يضحك ويقهقه يوم أتوارى؛ لتقر بذلك عيني وتطيب نفسي، كممثل هزلي يسدل عليه الستار بين تصفيق النظارة وعربدتهم الضاحكة؟ وهل الحياة غير رواية هزلية؟!
لا أتمنى على جسدي إلا أن يظل خادما أمينا لما خلق له، وإلا ينذرني قبل أن يخذلني، وإن كان لا بد من عمر طويل فأرضى أن أعيش ما ظللت قادرا على العمل ... ولو كنت واثقا من أنني أطالع وأكتب في دنياي الجديدة، لما طلبت المزيد من حياتي هذه، ولكنني أخشى أن يصح ما يقولون وأمسي وأصبح في جنة لا عمل فيها، من هذا خوفي لا من الموت.
يشغل بال البشرية تطويل العمر، أما أنا فأرى أن محاولة هذا التطويل تحول دون التمادي في العمل، والذي يستريح ليطيل عمره يكون قد قصره من حيث لا يدري؛ فالعمر الذي لا يملؤه العمل هو عمر أجوف كالقصبة. ولعل لي رأيا يخالف رأي غيري، فأنا لا أشغل نفسي بإصلاح ما بعد عني إلا بعدما أصلح ما قرب مني وأبدأ بنفسي؛ ولذلك أحاول دائما أن أنمي رأسمالي الأدبي لعلمي الأكيد أن ما يبنيه الاتفاق يهدمه الاستحقاق.
وأخيرا لست أدري إذا كنت أعربت عن مذهبي، ولكن من أين لي المذهب وأنا - كما قلت - تلك الكرة التي تتقاذفها يد القدر؟ ما قالت الناس عبثا «نحن في التقدير والله في التدبير.»
فليدبر ما شاء، وإذا حالت مشيئته دون مرامي فما في ذلك كبير شأن، ما زلنا نقول إنه ضابط الكل، ووسع كرسيه السموات والأرض.
التكوين الوطني
الأوطان كالأديان كلاهما محتاج إلى مؤمنين، ومؤمن واحد يتعالى إيمانه إلى منزلة اليقين لهو في محيطه كالشهاب الثاقب في الليلة اليتيمة، تنداح حوله دائرة إشعاع بسام تتغامز فيها النجوم الصغيرة وترتجف شفاهها من الشوق، إن كوكبا واحدا دريا يدحر ظلمة الليل، وكم في الوطن من ظلمات لا بد من تمزيقها!
العقائد، دينية ووطنية واجتماعية، تحتاج إلى مناضلين، والحياة تتمشى فيها كتمشيها في الأحياء والأشياء، تارة تسير ببطء وطورا بهجوم مفاجئ تبعا لأطوارها. والمؤمنون بالأوطان كالكريويات في الجسم، لا تدع العراك ولا تهدأ، وكما ينمو الجسم بما يتقد فيه من حرارة متفاعلة، كذلك تنمو الأوطان كلما تعاظمت حرارة الإيمان بها.
إن أول نقطة دم يراق لأجل دين أو عقيدة تستحيل زاوية عظمى في هيكلها الخالد، فنقطة دم من مؤمن بوطنه توطد بنيان ذلك الوطن فتصيره أمنع من الباطون المسلح، وهي أعظم دفاعا عنه من الطائرات والغواصات والدبابات والقنابل من ذرية وغير ذرية، فالحق للإيمان لا للقوة.
فما حيلة الأوطان إذن في خلق المؤمنين؟ إن الإيمان الأسمى لا يعلم كيف يجيء ولا كيف يذهب، أما الإيمان الوطني فطبيعي من البشر، يولد المرء ويولد معه حب الحرية. تأمل الطفل كيف ينازع الأقمطة، ثم كم يقع ويقوم في سبيل الانطلاق، ولا يفتأ يجاهد حتى يدرك غاية مشبوبة في كيانه، لا يطل من باب قفصه على دنياه الصغرى حتى ينشأ العراك بينه وبين أمه، يريد أن يسرح ويمرح في وطنه الأصغر وتأبى الأم عليه ذلك، فيظل يناضل لأجل حريته الأولى حتى يدركها.
ليس الوطن إلا بيت الإنسان الكبير، وكما يأبى الإنسان أن تمس قدسية بيته الصغير كذلك يبذل نفسه بسخاء ليصون بيته الأكبر، وعن حب الرجل مسقط رأسه نشأ حب الاستقلال في وطنه مهما صغر، فلا تقل لوطني مؤمن: وما هو وطنك يا هذا؟ إن استخفافك بوطنه كاستخفافك بذاته، وقد يسكت عن هذا الأمر ولا يسكت عن ذاك.
إن وطننا محتاج إلى مؤمنين، إلى أنصار ومجاهدين. وإن قلت لي: لا تتشاءم، أجبك: صدقت كلنا مؤمنون، ولكن الأوطان كالأديان تحتاج إلى تعاليم، فأين تكون هذه التعاليم يا صاحبي؟ في المساجد والهياكل يناجي المؤمن ربه، ويتذاكر مع إخوانه تعاليم دينه، فما هذا الذي نسميه صلاة إلا صلة بين المؤمن وربه، فأين هي إذن هياكل الوطن؟
هي المدارس يا صاحبي، سمعت وتسمع بمدرسة تحت السنديانة، هي مثل يضرب للاستخفاف، ولكني أؤكد لك أن لمدرسة تحت السنديانة أكبر أثر في نفس المواطن اللبناني، وإن أنكر ذلك أحدنا فدمه يصرخ مكذبا إياه، وضميره يبكته لأنه عق هواء نقيا ملأ رئتيه، ووحيا من طورها هبط عليه؛ فالمدرسة إذن مهما صغرت هي هيكل الوطن المقدس، وبخاصة في عهدنا الحاضر، العهد الذي صهرنا جميعا في بوتقة ليجعل من كل واحد منا مواطنا عامرا قلبه بالإيمان.
قال بسمرك: غلبنا فرنسا بمعلم المدرسة. فلننهض إذن، ولنعلم أن المدرسة هي المعمل الذي يصنع فيه المؤمنون بهذا الوطن، المدرسة هي التي تكون لنا رجالا من طراز الشاعر القائل:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
لسنا نطالب أولياء الأمر أن يقولوا للمدارس والمعلمين كونوا فيكونوا، فلا بد لهذا من وقت، ولكن تفتح العيون على المدارس لتتطور وتماشي الوطن الناشئ فرض واجب.
إن وزارة التربية دعامة كيان الوطن؛ فمنهج موفق يدرب للبلاد جيشا معنويا يتجسد كلمة حين تدعو الحاجة إليه. ولكن مقدمة «المنهاج اللبناني» العتيد لا تنطبق على ما فيه من ثرثرة ... فرب كلمة في كتاب تفتك في عقول أبنائنا فتك مكروب الأمراض السارية!
إن المناهج حقول اختبار ومغارس، منها تنقل الغرسات السليمة المنيعة إلى حديقة الوطن الكبرى، فلا يليق أن تظل بورا، لا يليق بوطن فتي أن يظل أبناؤه يتيهون في قفار بسابس كالطلول الدوارس. التعليم في كل أمة وسيلة للتربية القومية، وغاية التربية صقل الغرائز الموروثة، لا خلق أخلاق جديدة. ليس التعليم دهانا وطلاء إنما هو تثقيف ثم صقل، كما يفعل النجار بالخشب الشريف، فلننجر إذن غير الشوح لهذا الوطن الجديد. الطلاء يزول أما العرق الأصيل فلا يمحي ولا يعفو كالطلول.
فأي هدف يصيب من يعلم تلميذه باب التمييز قائلا له: عندي رطل زيتا؟! هذا مثل وضعه النحاة الأولون حين كانوا يكتبون على ضوء مصباح راهب امرئ القيس، فلماذا نردده نحن على من في بيوتهم قناطير زيت؟ أنعلم التلميذ التمييز ونكون بلا تمييز؟!
السيارات احتلت مملكة الدواب واستعمرتها فقبعت الجحاش واجمة، والمعلم ما زال يصيح بالمحبوسين في قفص صفه: قام القوم إلا حمارا! لقد بعد عهد الحمير بالشعير فكيف تقوم يا مولانا؟! لماذا لا تقول: هب الناس إلى الدفاع عن الوطن إلا الجبناء، أو غير الجبناء؟ اختر أنت المستثنى المناسب، فتكون علمت تلميذك وجعلت منه مواطنا شجاعا.
ألم يبلغك بعد قول جون ديوي فيلسوف التربية الأمريكي: «العلم وسيلة لا غاية»؟ فبماذا تتوسل يا زميلي؟ وإلى أية غاية تسعى؟ أنظل نتلهى بعقول بنينا وننقرها ونحشوها كأنها الكوسى والباذنجان؟!
يقول علماء التربية: التلميذ فرن يحمى لا وعاء يملأ. ومع ذلك نرى المعلم يحشو أبدا كأنه يعلف خروفا ... يجلس على منبره مقلص الوجه لا تبين له سن ولو وضعت بين فكيه مخل أرخميدوس، أمجنون هو حتى يبتسم؟! ومن يضمن له هيبته ووقاره إذا ضحك؟!
وجد ليكون رفيقا ومرشدا فصار ناطور ورشة وخفير أسرى حكم عليهم بالأشغال الشاقة وليس لهم أن يقفوا، إن عطس تلميذ عطسة رنانة طار صوابه، وعد ذلك تحديا لهيبته وأبهته، وإن تنحنح أو سعل امتعض على كرسي مجده! فلماذا كل هذا؟ ومن أية الطرق أتته هذه الطباع؟!
مسكين المعلم! حمله ثقيل، عليه أن يبلغ المحج ويؤدي الحساب على البيدر، فالنتائج التي يتوقعها الآباء والمدارس يلحس كرباجها ظهره كلما وقف، فعليه أن يحصل على أكبر عدد ممكن من الشهادات ليربت على ظهره وينام على الثقة مطمئنا. أما التربية والرجولة والتفكير فليست في حساب أحد، قضى الزمن الماضي أن تكون من الأمور التافهة، أما اليوم وقد صرنا بالغين راشدين فعلينا أن نعد للوطن رجالا، وهذا يكون بإعداد المعلمين أولا والمدارس ثانيا والتلاميذ ثالثا. نحن بحاجة إلى فتية يتهيئون منذ اليوم للنهوض بالأعباء الثقيلة التي ستلقى على ظهرهم، إننا نعلم كثيرا ونربي قليلا، فعناية ليس فيها كبير عناء تمكننا من إصابة عصفورين بحجر واحد، إنني لأستطيع القول إن تعليمنا الحاضر ليس بضاعة تنفق في بندر الحياة؛ فهذا الطالب النجيب الحائز علامة جيد جدا في البكالوريا لو كلف عملا آخر غير ما لقن في الصف تأهبا للامتحان، تخاذل وتلعثم. فلو علمته مدرسته ما ينفعه في حلبة الرغيف لكانت نصف مصيبة، ولكنه لا مواطنا صار ولا خبزا أكل، فأساليبنا المتبعة لا رجالا تخلق ولا علماء توجد، نسلمهم للحرب الحديثة بنادق الفتيل والصوان في عهد القذائف والمتراليوز!
قال غوستاف لوبون: إن انتخاب طرائق التربية أولى باهتمام الأمة من انتخاب شكل الحكومة. فلنسرع إذن، فالاستقلال أمانة بين أيدينا ولا يحافظ عليه إلا بخلق مؤمنين به، وهؤلاء لا توجدهم إلا مدارس مخلصة، مدارس مؤمنة بوطنها، ومعلمون مؤمنون بأنهم معلمون، وبأنهم مواطنون، أساتذة يعلمون أنهم يدربون رجل الوطن العتيد، وأن من عندهم وحدهم يخرج قواد الرأي العام.
إن المدارس هي عرق الوطن الحساس، ومنها تتصاعد الصرخات الأولى: نريد الاستقلال، ليحي الاستقلال.
قد يتهم التلاميذ من لا يوافقه هتافهم أنهم يفعلون ذلك تخلصا من دروسهم، أما أنا الذي عجنتهم وخبزتهم فأقول: لا وألف لا، يهتاج الطلاب فتقول: على العلم السلام، حتى إذا هدأت العاصفة خلت أنه لم يكن شيء مما كان.
ليس الإنسان مكنة ملفوفة بجلد، ولكنه مسرح تتحرك عليه أجمل العواطف وأسماها. إن العاطفة دنيا في فكر، وأشوق الأفكار لاقتبال العواطف هي أفكار الفتيان، هؤلاء هم القوارير التي يجب الرفق بها، وهي مستودع الحرية والاستقلال.
أعيادكم بغضتها نفسي
أشعيا، 1 : 14
ترى لو عاد السيد المسيح وتمشى في شوارع مدننا ليلة الاحتفال بعيد ميلاده، ماذا كان يقول؟
ماذا كان يقول حين يرى الديوك الحبشية والبلدية ترقص رقصة الألم، وتغني في القدور أغاني التهليل للمولود الذي حمل إلى الأرض السلام وإلى الناس المسرة؟
ما عساه أن يقول حين يرى علب الملبس والشوكولا تحمل أكياسا إلى الدور والقصور، وأما الأكواخ فتودع شقاء لتستقبل بلاء؛ من قبضة الفاقة إلى مخالب المرض إلى براثن الموت؟
ما عرف يسوع غير بيوت الضعفاء والفقراء، أليس هو القائل: «للثعالب أوجار، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له مكان يسند إليه رأسه»؟
عاش السيد على الفريك في الحقل، فما عساه يقول حين يملأ خياشيمه القتار ويرى سلال الحلوى تتصادم في الشوارع، وهو حين اشتهى قلبه الحلو راح يفتش عنه في تلك التينة التي لعنها فيبست حالا ...؟
ترى لو تنكر السيد وجاء القصور التي تشاد باسمه، فمن يفتح له «الخوخة» ليدخل باحاتها؟ لست أشك أبدا في أنه مهما قرع لا يفتح له، وإذا قال لهم كما قال لتلاميذه في ذلك الزمان: «أنا هو.» صرخوا في وجهه: «لا يا سيد، أما حذرتنا في إنجيلك قائلا: «كثيرون يأتونكم باسمي فلا تصدقوهم»؟ اذهب، اذهب.»
وإذا رد عليهم بقوله: «أنا جوعان فأطعموني، وعطشان فاسقوني.» أجابوه قائلين: «مثلك لا يجوع ولا يعطش، أما صمت أربعين يوما ...؟ لا تحاول خداعنا فما أنت هو.»
أجل، لقد صار عيد الميلاد عيد قصف ولهو، وعيد خمر وزمر وقمر، عيد الخمور المعتقة والديوك المسمنة، بل عيد التخم والبشم. حسبك أن تعلم أننا في يوم هذا العيد كنا نفطر مرتين؛ مرة بعد قداس نصف الليل، ومرة في موعد «الترويقة». ولست أنسى قول أحد أساتذتنا وهو من الآباء الأجلاء: ليت لنا في كل رأس شهر عيد ميلاد! وقد نسي - رحمه الله - ما قاله مار بولس في الذين هم مثله: إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم.
وإذا وقف يسوع أمام مغارة من تلك المغارات التي تزدان بمئات الشموع والدمى والأكياس، ألا يتأسف حين يرى عناكب التقاليد تغطي ذلك المحيا الإلهي الإنساني الذي ملأ الدنيا رحمة ومحبة؟
ولو صادف يسوع في هذه الجولة من يسمونه «بابا نويل» فكم كرباجا كان يأكل قفاه؟ وأي نتف تنتف تلك اللحية الطويلة العريضة؟ لا شك في أنه ينتزع ذلك الخرج عن كتفيه ويدوس هداياه بقدميه ...
أجراس ترن، ونواقيس تطن، وأجواق ترنم وتهلل: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر.
أي رجاء يا سيد، فالذين يصلون يوم عيد ميلادك هاتفين: هللويا آمين ... يفكرون بقنبلة تهلك إخوتك الفقراء المساكين؛ ليرثوا وحدهم الأرض التي دست كنزها بحذائك؟!
جئت يا سيد مبشرا بملكوت الله كارزا بمملكة الروح، فأين هي تلك الأشياء التي بشرت بها وكرزت؟! آه، ما أفقر الكون إلى درهم من علاجك الروحي ! إن ذكرى ميلادك لا تعظم إلا باتباع تعاليمك، وإذا لم نولد ثانية كما قلت لنيقوديموس فعبثا نكرم ميلادك ونمجدك أيها الذي قال: «ليس من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات.»
ليس تكريم الميلاد بأن نعمل شجرة اصطناعية، بينا شجرة أعمالنا يابسة تسمع لأوراقها حفيف الحصاد الذي يتوق إلى المنجل.
إنك لم تدع إلا إلى الرحمة: «أريد رحمة لا ذبيحة.» هكذا قلت، أما هم فيريدون ذبيحة يكون لهم منها حصة الأسد لا رحمة تنكبهم بفلس.
إن هذه الاحتفالات الزائفة لا تنقع غلة ولا تشبع كبدا، إنها لا تسقي البؤساء - إخوة يسوع الصغار - كأس ماء باردة.
قال يسوع: «اصنعوا هذا لذكري.» وكأنه يريد أن تتمالح البشرية جمعاء في تذكاره، لا أن يأكل الأغنياء حتى يبشموا والفقراء حفاة عراة ليس لهم أطمار يسترون بها عوراتهم، اللهم سترك وعفوك عمن يعيدون هكذا!
قال صاحب هذا العيد: «حبوا أعداءكم، وإذا أحببتم من يحبكم فأي فضل لكم؟» أما السواد الأعظم من البشر فلا يحبون إلا ذواتهم، وليس للغير أقل حساب في دفترهم اليومي.
كان الإخوة - الرسل - في ذلك الزمان يتقاسمون الرغيف، أما اليوم فيتنازعون عليه ويتناتشونه مع أنهم أتباع ذلك الذي قال: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.» وقد يزهقون روحا في سبيل قرش، ولو من قروش هذا الزمان، ومع ذلك يعيدون بكل عين بلقاء، محتفلين بذكرى من قال: «لا تعبدوا ربين الله والمال.» فإذا شئنا أن نعيد الميلاد كما يجب أن يعيد، فعلينا أولا أن نطهر قلوبنا لنكون أتباع من قال: «يا بني، أعطني قلبك.» وعلينا أن نعمل حسنا لنستحق من قال: «إن من لا يعمل إرادة أبي فهو لا يستحقني.»
فعلى من يلون الأحكام أن يعدلوا؛ لأن من يحتفون بميلاده كان عادلا رحيما.
وعلى الرعية التي تحتفي بميلاد يسوع أن تحب الجار والقريب، بل الأعداء؛ لأنه هكذا علم.
وعلى المعلم منا ألا ينسى أن يسوع خوطب ب «يا معلم»، فلنحاول الاستيلاء على بعض الأمد الأخلاقي الأمثل لنتقرب من زميلنا المعلم الإلهي.
وإذا كنت يا أخي فلاحا فاحرث الأرض جيدا، وتذكر أن يسوع أحب الزهر والثمر والزرع والشجر، فكن مزهرا مثمرا لئلا تستحق اللعنة التي أنزلها على التينة.
وإذا كنت تاجرا أو عاملا، فانشد الربح الحلال والأجر المكتسب بعرق الجبين. تذكر أن صاحب العيد حث على العمل المنتج فرحب بصاحب الوزنات العشر الذي ربح ضعفها بالمتاجرة، وطرد العبد الكسلان إلى الظلمة البرانية.
عفوا! نسينا السيدات وهن المقدمات في هذا العصر، ليس الاحتفال بالميلاد هو أن تتزيني بالجواهر وتلبسي أثمن الثياب، ولكن الاحتفاء بالميلاد هو أن تقدمي لصاحب العيد ذرية صالحة من البنين والبنات، ولا تنسي أن يسوع الذي تصلين له قارعة صدرك قد قال: «دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم.»
وأما قادة العالم اليوم فأحسن احتفال بذكرى السيد الذي يعظمون يكون في أن يضعوا تحت قدميه قنابلهم الذرية قائلين له: قل يا سيد ماذا نصنع؟
وإذ ذاك يجلجل صوت في الأعالي ويهتف بهم: «ملعون كل من يهدم هيكلا بشريا بغير حق، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون! لا تقاوموا الشر بالشر، ومن طلب ثوبك فاترك له رداءك.»
فلو كان في قلوبنا قدر حبة خردل من الرحمة، لفكرنا بمكافحة البؤس المنتشر حولنا قدر ما نستطيع، متذكرين فلس الأرملة الذي عظمه صاحب العيد، فأي منا لا يستطيع أن يبذل فلسا احتفاء بعيد المعلم؟ فخير هدية ميلادية هي تلك التي تبذل في سبيل المشردين.
أذنان ولسان واحد
منذ بضع عشرات من السنين وأنا صاحب هاتين الأذنين، أما كيف لم يلفتا نظري إلا البارحة فهذا فوق علمي، وأما كيف انسقت إلى هذا التفكير أو انجررت إليه، فهذا من حق القارئ العزيز أن يعرفه؛ لأنه صاحب أذنين مثلي، فإذا أعار قولي انتباها فسوف يشغل باله ما شغل بالي من أمر هاتين الأذنين، إني أؤكد له أن أذني غير طويلتين ولا قصيرتين، بل هما كما يقول المثل: «وخير الأمور الوسط.»
والآن هاكم الحكاية: صرفت نهارا كاملا مفتشا عن موضوع ما، فما وقعت عيني على صورة تسر القارئ وتعجبني، على كثرة صور الحياة وتعددها، فلا تنقضي دقيقة حتى تطوي وتنشر صورا صالحة للمعرض والمتحف؛ فالحياة لا تكل ولا تمل ولا تصاب بتصلب الشرايين وضعف القلب مثلنا، إنها تجري وتجرينا معها في مضمارها وإلى غايتها.
استعرضت صورا كثيرة من صور البشر فرأيت الكثيرين من أبطالي، ولكنني لم تعجبني صورة أحد منهم، فأفلس نهاري ومسائي وألقيت سلاح التفكير، واندمجت بفراشي أتخبأ فيه من وجه تلك الفكرة فلا تقع علي عينها، ولكنها ركبت كتفي كأن لها عندي دينا، ومن محاسن الصدف أو مساوئها وجعتني أذني وجعا أغراني بحكها، فرحت أفركها وأدلكها وهي تقول: «هات ما عندك» حتى كبرت في يدي. وتناولت مرآة صغيرة أضعها عادة حد رأسي، فرأيت أذني قد احمرت وكادت تفخر على أختها بالكبر، وإن كان الكبر في الأذن غير محمود؛ لأنه يشد القرابة بيننا وبين صاحب أنكر الأصوات ... تأملت بالمحكوكة وأختها فجاءني فكر لا أدري كيف جاء عفوا، وإذا بي أسأل نفسي: «لماذا خلقت ذا أذنين، أما كانت تكفيني واحدة؟!»
ظننت أنني أسمع أكثر فسددت إحداهما بأصبعي، فإذا القصة مع الأذنين غيرها مع العينين، فقلت إذ ذاك: «لأمر ما ركبت هاتان الأذنان في هذا الرأس الذي يتعبني حمله منذ عرفت الخير والشر.» وأردت أن أنام ولكنني ما قدرت كأن في أذني برغوثا.
وأطفأت المصباح فما جاء النوم، فضوأت وأخذت أحد كتب مخدتي فما استطاع تحويل تفكيري عن هاتين الأذنين، طار النوم، وتذكرت ما أصاب صاحب لحية طويلة مع بنت خبيثة أو ساذجة لا أدري؛ هال الفتاة استبداد لحية ضيفهم الجبارة واحتلالها صدره العريض، فسألته سؤالا بسيطا: «أين تضع لحيتك عندما تنام، تحت اللحاف أو فوقه؟» فسببت له قلقا مركبا، لولا يصيب أحد رجال الدول لأذيعت النشرات الطبية عن صحته في كل ساعة.
أطرق الكاهن يفكر، وفتحت الصبية عينيها وأذنيها وفمها، أصغت بكل حواسها لتسمع الجواب فكانت كأنها تحدث غائبا عن الحضرة، وظل صاحب اللحية البحترية مرتبكا محيرا، هزته الفتاة هزة اضطرب لها وقالت: «غفيت؟ ما جاوبتني!»
فتنهد كمن حذف عن ظهره حملا ثقيلا وقال لها: «أمهليني يا بنتي، غدا أجاوبك.» وظل يفكر، ثم بارح المكان وهو ما زال يفكر.
وجاء الليل وجاء الويل، ما نام صاحبنا تلك الليلة، تحير أين يضع لحيته، وضعها تحت اللحاف فتضايق مقدمه - كما قال عنترة - وما عرف النوم، وجعلها فوق اللحاف فرآها ممتدة مفرشة.
أرق أرق الأعشى وما أغمض عينيه، فصاحت الديوك وحضرته مستيقظ، وغدت البنت عليه تحمل فنجان القهوة ووكدها في الجواب، فما كادت تطل حتى صاح بها: «حرمتني النوم يا بنتي، يا ليتني نمت في الخان وما نمت عندكم!»
إن هذا ما أصابني أنا تماما، إنني أحمل هاتين الأذنين منذ ثمانية وستين عاما وما فكرت بهما إلا ليلة أمس، تصورت أنني بأذن واحدة وكيف يكون منظري، فقلت: «ربما جعلتا للتوازن؛ فالطبيعة مهندس عبقري، تبدع الأشياء طبقا للبركار والزاوية.» ولكنني عدت وقلت: «في الدنيا مشاهد كثيرة أبشع من منظر إنسان بأذن واحدة، ومع ذلك يتعودها الإنسان ويألفها.»
وأعدت الكرة فامتحنت العينين فوجدت الحالة فيهما غير حالة الأذنين؛ فالأعور غير الأصلم. وبعد تفكير غير عميق انقلبت إلى الشفتين فقلت: «لهاتين حاجة لا تنكر، وكذلك الأسنان، ولكن اللسان لماذا جعل واحدا؟ ولماذا لم نخلق بلسانين؟»
وانقضى الليل وأقبل الصبح وجاء هذا الفكر معه، ولولا انشغالي بما علي من واجبات لأصبحت من أصحاب الفكرة الثابتة.
وكان لي جار تعجبني روحه الخفيفة وذكاؤه الطبيعي، رجل أمي علمه الدهر؛ إذ لم يعلمه أبوه، فما رأيته مقبلا يهدج حتى مرحبته من بعيد، فتهلل وجهه كعادته، ثم أخذ يتهيأ للقعود حدي، وبعد جهد وعناء برك تحت أثقال التسعين، ولما تمكن من مجلسه تنهد ثم قال: «خير إن شاء الله؟ ما وراء هذا السلام الذي رشقتني به؟»
فقلت له: «عقدة لا يفكها أحد غيرك، حرمتني النوم وأفسدت علي يومي، وأخيرا قلت: ما لها غير بو حسن.»
فتأوه وقال: «وماذا بقي من بو حسن؟ خرف عمك بو حسن، صرنا بربع عقل.» - عقلك كامل يا شيخ الشباب، ما عندنا عقول مثل عقلك. - هذا لطف منك، رحنا ...
والتفت لأرى هل ضاعت ثقته بنفسه حقا، فرأيت على وجهه اطمئنانا دلني على أنه لا يصدق ما يقول، وهو يوصوص عينيه كأنه يستجمع قواه ليتلقى الضربة؛ فهو من الذين لا يقولون لا أعرف، فصيح طبعا، وكل فصيح لا يتلكأ عن الجواب أخطأ أم أصاب؛ فقلت: البارحة يا عمي بو حسن فكرت بأذني، وقلت: «لماذا لم تخلقنا الطبيعة بأذن واحدة؟» وقد جربت الأذن فوجدتها بعكس العين.
فقال: «وما سألت نفسك لماذا خلقنا بلسان واحد؟»
قلت: «خطر على البال هذا السؤال، ولكنه كان ضيفا غير ثقيل.» فاستضحك وقال: «مع أن أذنيك غير كبيرتين.»
قلت: «وفهمت من العلم أن الطبيعة خلقت العضو المعرض للخطر مزدوجا، أما اللسان فمحفوظ بين بابين؛ واحد من لحم والثاني من عظم، ومع ذلك خلق واحدا.»
فضحك العم وقال: «بلا علم وبلا بطيخ، خرب بيوتنا العلم، ما خلى العلم ولا بقى، لا وجدان ولا ضمير.»
وسكت قليلا كمن يفتش عن حجة قاطعة مانعة، ثم ضرب بيده فخذي وقال مستهزئا: «يقول العلم الأعضاء المعرضة للصدمات خلقت اثنين اثنين، فما رأي حضرة العلم بالكليتين والرئتين؟ آه من العلم! إذا كان اللسان وراء بابين كما قلت، فالرئتان والكليتان في صندوق. لا يا أستاذ، الله لا غيره خلق لنا أذنين وعينين ولسانا واحدا حتى نسمع كثيرا ونرى كثيرا ونتكلم قليلا، فهمت؟ وضع العينين والأذنين على رأس الجبل - وأشار إلى رأسي - لتنظر وتسمع، ما رأيت أنهما - وأشار إلى أذني - على شكل قمع؟ عملا هكذا حتى يتدهور فيهما الكلام فلا تفلت منه واحدة.
أما اللسان فوضعه خلف بابين، خوفا من أن يفلت هذا اللعين، ففلتة اللسان ما لها دين، في هذا السجن المظلم حبس الله اللسان لأنه أصل كل شر ومنبع كل خير، وعلى صاحبه ألا يريه الهواء والنور إلا بعد ألف حساب.
أفهمت الآن لماذا خلق الله أذنين وعينين ولسانا واحدا لا غير؟ إياك أن تقول الطبيعة فيما بعد! الطبيعة خادم مسخر للسيد يقول له: تعال ورح. تصور أن اللسان حر طليق مثل الأذنين والعينين فماذا كان يعمل هذا المنحوس؟ إنه كان يقلق الأرض ويزعج الهواء حتى يكل عن نقل ما يحدث من أصوات ...»
ثم زفر بو حسن وتنهد وقال: «ومع كل هذا التحفظ الذي عمله الباري لصون اللسان، فإنك لا تقدر أن تحصي مضار اللسان، أصل الشرور كلها كلمة تفلت من اللسان؛ ولذلك قال المثل: لسانك حصانك إن صنته صانك.»
واستراح شيخي من محاضرته البليغة وقد أعجبه وقع حديثه في نفسي فقال: «هذا علمني إياه الاختبار، أنا لا أعرف الألف من المئذنة ولكن من يفكر يجد، في الدنيا بحر من العقد لا تفك منها عقدة حتى تقع على عقدة أبشع منها.»
ثم قال متمهلا: «أتظننا انتهينا من القضية التي شغلت بالك؟ خذ واحدة ثانية: لماذا قصر الله المسافة بين الأذنين والفم، فهي ليست أكثر من مقدار كف؟ جاوبني على سؤالي.»
ففكرت بالجواب، ولكنه تعجل في الأمر وقال: «لا تتعب نفسك، أنا أجاوبك يا أستاذ، وضع الله الأذنين على مقربة من البوز حتى يسمع الإنسان ما يقول، ومع ذلك فأكثر الناس لا يسمعون ما يقولون. كل هذه الأشياء تستحق التفكير، وهي لم تكن صدفة واتفاقا؛ فهناك حكمة علوية صنعت كل هذا.
وبعد كل هذا لست أقول إنني مصيب، ولكن الله أعطانا عقلا ...»
وسمع صوت الجرس فقال: «قم كلم، هذا لسانه طويل، ولكنه لا يحكي إلا اللازم.» فقلت: «صدق المثل الذي أمر من ليس عنده كبير أن يشتري كبيرا.»
فضحك وقال وهو يمشي معي: «هيهات! الكبار لا تباع ولا تشرى، السوق باردة.»
الابتسامة رأس مال
قال لي واحد من أصحابي: «لماذا لا تتفلسف؟» فقلت له: ومن قال لك إنني لا أتفلسف كل ساعة؟ غيري يتفلسف عابسا، وأنا أتفلسف ضاحكا من الفلسفة وأصحابها، أرى أن الطبيعة لم تهبنا خاصة أجل من خاصة الضحك، فهل رأيت أحدا غيرنا من المخلوقات يضحك أو يبتسم؟
ولا يغيظني أحد أكثر ممن يسمي الدنيا وادي البكاء والدموع، وإذا كنت ترتئي ما يرتئيه فأنا أقول لك: ابك حتى تنشق فما تضني إلا نفسك ، أما أنا وقد وهبت خاصة لأنفس عن «آظاني» أو مرجلي فإني ألجأ إليها في أشد الساعات، فبحياتك جرب اتبع فلسفتي. وإذا كنت غير مطبوع مثلي على الضحك فجرب على الأقل أن تبتسم، لا تخيط بوزك حين تقابل الناس فهم لن يهابوك، إذا بكيت فإنما تبكي وحدك، أما إذا ابتسمت وضحكت فالدنيا كلها تشاركك، فبحياتك اضحك حتى في المصيبة إذا أردت أن تتغلب عليها، أتظن أنك ترد ما فات إذا لبست وجهك بالمقلوب؟
اسمع ما يقول الناس في العابسين: فلان كشرته تقطع الرزق، وفلان دخل علينا كأنه قابر أمه، وفلان لا يضحك للرغيف السخن. أما الضحك فيعبر به عن كل شيء جميل، وإذا دخل عليك رجل وسألته كيف الطقس، أجابك بكل بساطة: الدنيا تضحك اليوم.
قالت العرب: بشاشة المعطي خير من العطية. فإذا استقبلت ضيوفا فاستعن بالبشاشة، فخير طعام تقدمه لضيوفك هو ابتسامة طبيعية، قلت طبيعية لأن الزهرة الاصطناعية لا تغش أحدا، إن العبير ينقصها، فلتكن ابتسامتك ذات عبير فواح.
وإذا تركت بيتك لتخالط الناس، فحاول أولا أن تزيل الأكواع من وجهك فتأمن الاصطدام ... إن الزوايا الحادة عدوة الجمال فامحها من محياك، دع همومك في بيتك وأغلق الباب عليها، اقفله جيدا كي لا تلحقك إلى ميادين العمل، فالشفتان المصرورتان لا يأتيك منهما رزق، فافتر عن أسنانك على الأقل إذا كنت غير بسام. لأهل الصين حكمة رائعة يجب أن تعرفها وتتذكرها كلما غادرت بيتك إلى محلك إذا كنت تاجرا أو غير تاجر، قالوا: الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا يصلح أن يكون تاجرا.
ليس للكلب يد يحيينا بها، ولا فم يسعفه على الضحك، فابتسامته تكشيرة، ومع ذلك لم يحرم وسيلة يكتسب بها الأصدقاء، إنه يعبر بذنبه عن تودده إلينا، فيحيينا به أصدق تحية، إنه يفهم الابتسامة وإن لم يقدر على اصطناعها، فإذا عبسنا أو لم نعره اهتماما لف ذنبه وراح يفتش عن غيرنا، أما إذا لاطفناه فتشترك في تحيتنا جميع جوارحه حتى يكاد يخرج من جلده، أفترضى أن نقصر عنه ولنا لسان وثغر وأيد نعبر بها؟ فاشكر من خصك بكل ذلك واستعمله على حقه، لا تدع صاحب الذنب المعقوف أبلغ منك في التعبير، وأدهى منك في خوض ميادين العيش.
كلنا نعلم أن بيوتنا ملأى شئونا وشجونا ولكن رفقتها لا تطيب، فيجب علينا أن نتناساها إلى حين إذا كنا لا نقدر أن ننساها، وإذا سألك صديق كيف حال صحتك، فلا يعني ذلك أن تخبره أنك الليلة البارحة كنت ممغوصا وأن الإمساك يضايقك، أو أنك أكلت ما لا يواتيك فانبشمت. وإذا كان صديقك مهذبا وتركك تمشي على الهينة في حديثك، فلا تذهب إلى أبعد من ذلك وتخبره عن آخر فحص طبي عام عملته، فتفسد عليه نهاره بشرح القاذورات.
أنت يا أخي بين أمرين: إما أن تقلع وجهك المقطب وتلبس وجها غير مغضن، أو أن تظل في بيتك وتعيش وحدك. وإذا قبعت في بيتك فهل تظن أن زوجتك وأولادك يحتملون تعبيسك؟ إنهم يداجونك حتى إذا ما خلوا إلى نفوسهم ضاقوا بك ذرعا.
قرأت في كتاب ألفه ديل كارنيجي - مؤسس معهد العلاقات الإنسانية بنيويورك - قطعة عنوانها «ابتسامة عيد الميلاد»، جاء فيها:
إنها لا تكلف شيئا، ولكنها تعود بالخير الكثير.
إنها تغني أولئك الذين يأخذون، ولا تفقر الذين يمنحون.
إنها لا تستغرق أكثر من لمح البصر، لكن ذكراها تبقى إلى آخر العمر.
لن تجد أحدا من الغنى بحيث يستغني عنها، ولا من الفقر في شيء وهو يملك ناصيتها.
إنها تشيع السعادة في البيت، وطيب الذكر في العمل، وهي التوقيع على ميثاق المحبة بين الأصدقاء.
إنها راحة للمتعب، وشعاع الأمل لليائس، وأجمل العزاء للمحزون، وأفضل ما في حقيبة الطبيعة من حلول للمشكلات.
وبرغم ذلك فهي لا تشترى ولا تستجدى ولا تقترض ولا تسرق، إنها شيء ما يكاد يؤتي ثمرته المباركة حتى يتطاير شعاعا.
فإذا أتاك رجالنا ليبيعوك ما تحتاج إليه في عيد الميلاد، ووجدتهم من التعب والإرهاق بحيث عز عليهم الابتسام، فكن أخا كرم وامنحهم ابتسامة من عندك، فوالله إن أحوج الناس إلى الابتسامة هو الذي لم يبق له شيء من الابتسام ليهبه.
أجل، إن كيفية اختلاطنا بالناس قد يتوقف عليها رفاهنا وسعادتنا في الحياة، فهناك أشياء كثيرة غير الابتسامة تتركنا مغبوطين وهي لا تكلفنا شيئا، فسبقنا إلى التحية يجعلنا محبوبين ومرغوبا فينا، ورد التحية من الكبير تنعش قلب من هم دونه.
لما ارتقى إكليمنصوس الرابع عشر إلى السدة البابوية انحنى له السفراء مهنئين فانحنى هو لهم، فقال له رئيس التشريفات: كان عليك ألا ترد تحيتهم، فأجابه البابا: لم يمض علي بعد الزمن الذي ينسيني واجبات اللياقة.
ولتر ماء ينظفنا، والمظهر الحسن مصيدة للرزق والاحترام، وكلمة «من فضلك» تقولها للناس إذا طلبت منهم شيئا تجعلك مثال التهذيب، وتجيئك المخابرة التليفونية بسرعة، وكلمة «اعذرني» أو «عفوا» تحول دون شجار طويل عريض.
لا تعبس ولا تتعال حين تخاطب أيا كان من الناس، وخصوصا إذا كنت تطلب منه خدمة بالمجان، ولا تنس الحكمة الفارسية القائلة: «السائل ذليل ولو أين السبيل.»
استعمل كل رقة حين تخاطب غيرك، فلا تتكلم نبرا حين ترد على من يخاطبك في التليفون، صغ عبارة جميلة لهذا المقام واحفظها غيبا فهي تعبر عن لطفك وتهذيبك.
احترم قانون السير كي لا تسمع ما لا يرضيك، ولا تأخذ الناس بدربك فتهان.
إن من لا يكرم نفسه لا يكرم، وإكرامك اطلبه من نفسك لا من الناس؛ فأنت تجلبه لها بسلوكك الدقيق ومحافظتك على كرامة الآخرين، وإذا لم تجد في طريقك من تحترمه فاحترم العتال وحمله.
كان نابليون يسير في سانت هيلين مع سيدة في زقاق ضيق، فمر بهما عامل يحمل حملا ثقيلا فتنحى له نابليون، أما السيدة فلم تبال به، فصاح بها نابليون: سيدتي، احترمي الحمل.
أرأيت يا صاحبي كيف أتفلسف أنا؟ فقبل أن نعد الناس للدنيا الثانية ونفلسفهم بنظريات باطلة، علينا أن نتعلم ونعلم الآخرين كيف يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا؛ ليعيشوا مطمئنين متفائلين. إن لما وراء هذا الكون فلسفة ينظر إليها في حينها، وإذا كان للشيطان - نعوذ بالله منه - يد في مصيرنا هناك، فأنا أظن أننا إذا لاطفناه وابتسمنا له نطفئ من حدة ناره التي لا تطفأ، ومن لذع دوده الذي لا يموت.
أعرف موظفا دخل عليه المفتش فأساء آداب السلوك ولم يكترث له وظل يحاكيه قاعدا؛ فأضمرها له، ولما حان الحين أحاله على التقاعد، وهو لو كان أدق سلوكا لما نزلت به تلك النكبة.
أجل، لقد نسينا مسألة القيام للقادم فهي أيضا تبيض الوجه، وقد عبر عنها أحد الأساتذة النحويين ببيتين من الشعر قالهما في تلميذ لم يقف له:
إذا شاركت قوما في وقوف
لقادم مجلس نلت الوقارا
وإلا كنت مستثنى بإلا
كقام القوم إلا ذا الحمارا
وأخيرا كانوا فيما مضى يقولون لنا: ضحك بلا عجب من قلة الأدب، وصاروا يقولون اليوم: اضحك يضحك لك العالم. أما أنا فعملت بآراء الأقدمين صغيرا، وأراني أعمل اليوم بآراء المحدثين، وإذا لم يضحك لي العالم أضحك وحدي، ولا يهنأ لي عيش حتى أضحك جليسي وأستولي على المبادرة، فإذا كانت الابتسامة تفتح في وجهنا الباب فالضحكة تحلنا في صدر البيت على الرحب والسعة.
الفقر سلم المجد
يقول العوام: «الفقر زنجير الرجال.» وأنا أقول غير ما يقولون، أقول: إن الفقر مهماز يدمي الخواصر، فلو شبع الناس جميعا واكتفوا لم تتقدم الإنسانية خطوة واحدة، ولو لم يشق الإنسان لما بلغ ما بلغ. تصوروا أن أبانا آدم لا يزال في فردوسه الأرضي، وأن الله لم يصدر تلك الفقرة الحكمية: «بعرق جبينك تأكل خبزك»، فماذا كان صار؟ وأين كنا اليوم؟ أما كنا كتلك البهائم التي لا يعنيها من شئون الحياة غير هم البطن؟ «الفقر زنجير الرجال» هكذا قالوا، أما الرجل الطماح فلا يزنجره شيء، لا فقر ولا مصاعب، ولا تقف بوجهه عقبة ما، إن إرادته العظمى استباحت كنوز الأرض فانفتحت له وغرف منها ما شاء، فكل الحصون المنيعة تسقط واحدا بعد واحد أمام المريد الذي يقف على قدميه بعدما يسقط ألف سقطة. وخير عبرة لنا في هذا الموضوع أولئك الرجال المفارد الذين نهضوا من أعمق الأعماق وصعدوا في العقبات، وأخيرا كانت الوثبة العظمى فبلغوا أعلى الذرى.
لقد ضل من يعد الفقر سببا من أسباب تخلفه عن ركب الحياة، ليته يتذكر قول شاعرنا أبي الطيب: «وربما صحت الأجسام بالعلل.»
الفقر علة ولكنها علة تشفي من علل كثيرة، إنه مهماز حاد ينخسك ليل نهار فلا تستقر ولا تهدأ، لقد خلق عباقرة كثيرين، ومن يدريك أيها الشاب أنك لست منهم؟
فالأمير بشير ترك مسقط رأسه غزير وكل ثروته حمل جمل. ومحمد علي كان جنديا بسيطا. وضاهر العمر كان خادما. وهتلر كان دهانا. ونابليون كان لا رأس مال له غير الطموح ثم صار كل شيء، فلو وجد هؤلاء في بحبوحة لعاشوا راضين ولم يفكروا بالعظائم.
أريد منك أيها القارئ الكريم أن تسأل والدك إن كان فقيرا واغتنى، كيف بنى لك البيت الذي تسكنه، وامتلك العقار الذي تستغله؟ فلو ولد في حضن النعمة أما كان ظل حيث هو، أو باع ما ورث وصار من المعدمين؟
نعم الفقر مهماز؛ فأنا وأنت وهو لولا الحاجة ما بلغنا الغاية التي جرينا إليها، الفقر نعمة يا أخي، الفقر سوط يلهب ظهر الطامح، أما المخلع والكسيح فيقضي عليهما لأنهما يثبتان أمامه.
نقرأ كثيرا في الصحف السيارة في هذه الأيام، وخصوصا بعد الحرب الأخيرة، أن الدولة الفلانية تكافح الفقر وتطارده لتقضي عليه، ولو تأملنا بعين الفكر ونظرنا إلى من نبت في حديقة هذه الدنيا من النوابغ والجبابرة وأعاظم الرجال؛ لرأينا أن معظم هؤلاء كانوا من الذين عاشوا في الأكواخ، وأذاقهم الدهر لباس الجوع والخوف.
قال شاعر الإنجليز العظيم: «الفقر سلم الطمع.» والمثل الألماني يقول: «الفقر هو الحاسة السادسة.» وقال أحدهم: «الفقر مخيف وكثيرا ما يخمد عزائمنا.» ولكن ريح الشمال القارسة هي التي تحث الرجال ليندفعوا في ميادين البطولة، وأما النسيم العليل فإنه يجعلنا نستغرق في الأحلام العذبة اللذيذة.
وبعد، فليس الفقر عارا، فلا تخجل إن كنت من الفقراء، بل استح إذا كنت لا تأكل خبزك بعرق جبينك، اخجل إذا كنت لا تأكل لقمتك حلالا، فأطيب لقمة هي تلك التي تؤتدم بالتعب، فما أحلى طعام الفقير وألذه!
إنه طعام سريع الهضم يستحيل دما نقيا، ونشاطا يدفع صاحبه إلى المزيد من الفلاح، ففقرك يا صاحبي لا يدوم ما دمت تعمل، فكد ولا تيأس. اعلم أن فقراء كثيرين مثلك أصبحوا قادة للأمم كما قرأت في صدر هذا الكلام، فما ضرك لو تشبهت بهم، ولم تنظر إلى الغارقين في الثروة حولك وحواليك.
اسمع ما رواه الرئيس هنري ويلسن عن نفسه، قال: «ولدت فقيرا وذقت طعم سؤال الأم قطعة من الخبز وهي ليست لديها لتعطيني إياها، فكم كنت أبكي وأبكي ولا أحصل على غير الدموع المرة المالحة! وأخيرا فررت من بيتنا «الأسود» في العاشرة من عمري، وفي الحادية عشرة صرت خادما، وكان فرحي عظيما بهذا المنصب الجديد. كنت أتعلم شهرا في كل سنة، وبعد إحدى عشرة سنة من العمل الشاق كان لدي زوج عجول وستة خراف أكسبتني أربعة وثمانين دولارا. لم أنفق في عمري فلسا على ملذاتي، بل كنت أقبض بيدي الثنتين على كل درهم أستحوذ عليه ولا أخلي سبيله، هذا كان شأني من يوم نشأت إلى أن بلغت الحادية والعشرين.
مشيت عشرات الأميال لأسأل إخواني البشر عملا أعيش منه. وفي الحادية والعشرين صرت سائق عربة تجرها العجول لأقطع حطبا للمطحنة، وكنت أبكر في نهوضي كل يوم قبل الفجر وأظل أعمل حتى العتمة لأقبض مرتبا قدره ستة دولارات أسبوعيا، وكان كل دولار منها يلوح لي كأنه البدر في الليلة الظلماء.
وانتهزت الفرص لأكتسب التهذيب وأتقدم، فطالعت ألف كتاب مفيد قبل أن أبلغ الحادية والعشرين، ثم تركت المزرعة قاصدا ناتيك ماشيا مسافة مائة ميل لأتعلم السكافة، وبلغ كل ما أنفقته في رحلتي هذه دولارا واحدا لا غير. وما مرت علي سنة حتى انتخبت رئيسا لأحد نوادي المباحثات في ناتيك. وبعد مرور ثماني سنوات ألقيت خطابي المشهور ضد الاسترقاق والاستعباد في مجلس الولاية الاشتراعي، وبعد اثنتي عشرة سنة صرت أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي.»
هذه قصة رجل عاش نصف عمره بائسا أو كالبائس، وأخيرا صار واحدا من عظماء الأمة، فلو لم ينخسه مهماز الفاقة لم يقطع هذا الشوط العظيم من مضمار الحياة.
أرأيت إذن أن الفقر قد يكون نعمة لا نقمة؟ فلا تتأفف يا صاحبي ولا تتذمر، بل رز نفسك وقل: ما ينقصني؟ لماذا لا أكون أنا الفتى الذكي النشيط مثل هنري ويلسن؟ ألا تذكر قول المتنبي الفقير:
عجبت لمن له حد وقد
وينبو نبوة القصم الكهام
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
والعم بشار بن برد ألم يكن من أبناء الفقراء؟ أليس هو ابن ذاك الطيان؟ والجاحظ ألم يكن ابن جمال؟ ألم يكن بياع خبز وسمك؟ ألا يعجبك هؤلاء الثلاثة؟
فإذا كنت من محبي الثروة فكم من فقير أثرى! وإذا كنت تحب الشأن الرفيع فحسبك هنري ويلسن، وإذا كنت ممن رزقوا قريحة وذهنا ذكيا فاقتد ببشار والجاحظ والمتنبي.
إن الفقر هو الذي يصيح بنا دائما: إلى العمل، إلى الكد، فأكثر الذين أمسوا أصحاب ملايين، ومشاهير رجال، وكبار محسنين، ورجال دولة، وعلماء، وأدباء، وشعراء إنما هم من الأشخاص الذين كانوا لا يعلون عليك قيراطا واحدا، ولا تفوق أحوالهم حالك بشيء.
إذا كنت مؤمنا بالآية القائلة:
إن الله يرزق من يشاء
فلا تنس أنه - تعالى - قال:
فامشوا في مناكبها .
ما أحلى قول العوام المنسوب إلى ربهم حين يقولون: قال الله للإنسان: قم حتى أقوم معك!
فلا تنتظر إذن أن يهبط عليك الرزق في قفة، لا تتكل على الحظ، فالحظ لا يأتي إلى البيوت فيزورك كما يزورك المرشحون للنيابة.
الحظ كالنائب الذي يغرقك طوفان وعوده، حتى إذا ما انتخبته وركب الكرسي صار عليك أن تفتش عنه ليل نهار لتصادفه مرة ...
الحظ لا يدرك إلا صدفة، أما العمل فهو في انتظارك دائما، فاعمل ولا تخش الفقر.
لا فقير في الدنيا إلا ذلك الذي لا يملك إرادة ولا نشاطا، فلا تكن هذاك الرجل تقبر الفقر.
الدين إيمان وعمل
نحن في هذه الأزمة التي لا تنفرج أحوج إلى توطيد الفرد منا إلى أي شيء آخر مهما علا وسما، فآفاتنا في شخصيتنا، لقد انحلت عرى الأخلاق وتفككت حلقات تلك السلسلة المفرغة التي تربط المجتمع.
يقول بعضنا إن اختلاف أدياننا يباعد بيننا، كنت أظن ذلك مثلهم، أما اليوم فصرت أبرئ الأديان من هذا، وإني لأتهم التربية إلى أن تظهر براءتها.
ما رأيت دينا من الأديان إلا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فالتعاليم الدينية قوانين سامية وضعت لمقاومة الوحش في الإنسان؛ فالرسل والأنبياء - عليهم السلام - يؤيد بعضهم بعضا في الإيمان، وهم متفقون على أن العمل الطيب هو حجر الزاوية في بناية الإيمان العظمى التي تأوي إليها الإنسانية، وهذا حديث شريف عن أبي هريرة: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد.»
فما بالنا نحن إذا قيل لنا تقوموا، تحابوا، اتحدوا، اعملوا صالحا رحنا نلقي المسئولية على أدياننا؟ فالإنجيل والقرآن متفقان على أن العمل الصالح صنو الإيمان وهما غاية كل دين، ولم يكتف دين ما بالإيمان وحده.
فإذا تلونا القرآن الكريم وتصفحنا السورة الأولى قرأنا:
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات
ثم بعد قليل نقرأ فيها:
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا
ثم
والذين آمنوا وعملوا الصالحات .
إلى أن نبلغ الآية المائة والسادسة والسبعين فنقرأ التفصيل:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين .
ثم نسمع في سورة الرعد:
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ؛ فكلمة الإيمان ما وردت قط وحدها لا في القرآن ولا في الإنجيل، الكتابان متفقان على العمل الطيب الذي يقدمه المؤمن، وفي هذا يقول الإنجيل: «ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت الله، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات.»
وإذا انتقلنا إلى الحواريين والصحابة، سمعنا يعقوب يقول في رسالته مخاطبا الإخوة: «ما المنفعة إذا قال أحد إن له إيمانا؟ فهل يقدر الإيمان وحده أن ينجيه إذا كان ليس له أعمال؟ إن كان لنا أخ أو أخت عريانين جوعانين، فقال أحدنا لهما: اذهبا بسلام استدفئا واشبعا، فماذا يكون عمل إذا لم يعطهما شيئا؟ إن الإيمان بلا أعمال ميت في ذاته، أنت تؤمن أن الله واحد، حسنا تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرون؛ فإبراهيم لأجل عمله دعي خليل الله، فبالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده، فكما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان بلا عمل، فالعمل الصالح روح الإيمان.»
والإمام علي - كرم الله وجهه - يقول في هذا: «لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا أكثر الناس صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتمارا، ولكن عقلوا عن الله آخر أمره.»
وفي كلمة أخرى يقول: «إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه عملا يقربني إلى الله، فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم!»
إن كلمة كاهن خائف ربه خطرت لي في هذا المقام؛ جاء هذا الكاهن رجل يعرفه أنه اغتصب بئرا لجاره وتملكها، فقال للخوري: يا معلمي، شربت سهوا في ساعة الظهر أفسد صيامي؟
فأجابه ذلك الخوري، وعيناه في الأرض: رد البئر لصاحبها، واشرب ليل نهار وخطيئتك في رقبتي.
إن الذين يظنون أن هذه الفروض تبررهم هم كثيرون، وأكثرنا يحكمون على الناس بناء على هذه المظاهر التي لم يكن السلف الصالح يقيم لها وزنا، اسمع ما روي عن عمر بن الخطاب: «كان عمر - رضي الله عنه - جالسا للقضاء في الناس فشهد رجل عنده في قضية، فقال له عمر: ائتني بمن يعرفك ويزكيك، فأتاه برجل أثنى عليه خيرا، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟
فقال: لا.
قال: كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟
قال: لا.
قال: عاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل؟
قال: لا.
فقال عمر: أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه طورا ويرفعه أخرى؟
قال: نعم.
قال: اذهب فلست تعرفه.»
فبالعمل الصالح أمرت وتأمر الأديان، وهذا ما كان ينظر إليه دعاتها الأولون الذين تركوا لنا هذا الكلام المأثور الخالد.
وفي الحكايات المأثورة عن الفرس هذه القصة عن العمل الصالح : «رأى رجل ساعة القيامة في منامه، كان المذنبون يحملون خطاياهم على رءوسهم ليقدموا الحساب عنها، وكان الميزان في الوسط، في كفتيه الموازين والأعمال، والناس جميعا من الملوك إلى الدراويش، من الأقوياء إلى الضعفاء مشغولون بأعمالهم، وكان كل نبي يحدث أمته قائلا: لقد بينت لكم أحكام الله، وحدثتكم عن يوم الحساب، وأمرتكم بالمعروف ونهيتكم عن المنكر، ثم دعوتكم إلى عبادة ربكم وطاعته، فبأي الأحكام عملتم؟ وأي الأوامر أطعتم؟
وفي أثناء ذلك رأى النائم رجلا قد اتشح بثوب أزرق وعلى رأسه تاج الجنة، وقد جلس في ظل العرش الأعظم، فمر به الرجل وسأله: أي عمل صالح قدمت في دنياك حتى كانت لك هذه الآخرة الصالحة؟
فأجابه الرجل: حفرت بئرا على حافة الطريق وغرست بجوارها شجرة؛ ليشرب المسافرون والغرباء من البئر وليستريحوا في ظل الشجرة.
فلما استيقظ الرجل الحالم من النوم كان مصفر الوجه من الخوف؛ فحفر بئرا وغرس شجرة وبنى مضيفة للمسافرين من غرباء وفقراء.»
وفي هذه الحكاية ما يذكرنا بالآية الإنجيلية القائلة: «إن من يسقي باسمي كأس ماء بارد فإن أجره لا يضيع، إننا لا نطلب من الناس أن يحفروا آبارا ليشرب الناس منها، ولكننا نرجو ألا يحفروا لهم حفرا يقعون فيها ... وإذا لم يقدروا أن يغرسوا أشجارا فلا يكونوا على الأقل سياجا من العليق والقندول؛ ليقطعوا عليهم الطريق.»
إن الصلاة صلة بين الخالق والمخلوق، وما أشبهها إلا بطبق ذهبي نتقدم به من عرش ذي الجلال وعليه أعمالنا، أما الذي يصلي ولا يعمل خيرا فهو أناني يحسب الصلاة شبكة يتصيد بها نعم الله ليستبد بها.
روي عن الإمام علي أنه مر برجل يقرأ كتاب الله سحابة النهار، فقال له ما معناه: اقرأه في الغداة والعشي، واعمل فيما بينهما.
أما الذين يجعلون الصلاة أحبولة فأستعير لهم بعض ما قاله بديع الزمان في ذلك القاضي: «يسوي طيلسانه ليحرف يده ولسانه، ويقصر سباله ليطيل حباله، ويظهر ورعه ليخفي طمعه، ويغشى محرابه ليملأ جرابه، ويكثر صلاته ودعاءه ليملأ جوفه ووعاءه. وأقسم لو أن اليتيم وقع في أنياب الأسود بل الحيات السود، لكانت سلامته منها أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي، فهو ذئب يفترس عباد الله بين الركوع والسجود.»
أجل، إن السائل الثرثار الملحف يرد، فلنصل ولنعمل فنستقيم كما أمرنا ونكون على خلق عظيم.
الدين إيمان وعمل، ولما صار هم الناس متجرهم حرفوا الكلمة وقالوا: الصلاة عادة، والصوم جلادة، والدين معاملة.
رحم الله كل من يعلم ويعمل، وهدى من يكون كالجزار يذكر الله ويذبح!
اتكل على نفسك
من احترم نفسه اعتمد عليها، أما إذا كان الرجل تكلة فيقضي العمر مغمورا يقنع بالكفاف، والقناعة هنا أحط أخلاق الرجال، وقد قال فيه الطغرائي متهكما:
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا
يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم، هكذا علم - منذ فجر العروبة - الشاعر زهير الذي عده الفاروق أشعر العرب بقوله ومن ومن ومن ... ثم قال بعده صاحب لامية العجم:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
ثم قال بعدهم شاعر مات في ريعان الشباب هذا البيت العاثر:
لا خير فيمن ليس ذا ثقة
من نفسه أسمعت يا نفسي؟
إن الاتكال على الآخرين آفة من آفات الشرق، وداء من أمراضه القتالة؛ فالابن يظل متكلا على أبيه حتى يوارى في ثرى رمسه، والأب متى شق ابنه طريقه إلى العمل قبع هو في زاوية البيت وإن كان لا يزال قادرا ومستطيعا.
الدجاجة تطلق فراخها متى صاروا مستطيعين بأنفسهم، أما نحن فنظل ننظر إلى بنينا ولو اكتهلوا كأنهم ما زالوا قاصرين، بينا أولادهم يكونون قد رشدوا.
لقد قلدنا الغربيين في كل شيء؛ في عاداتنا وثيابنا، في بنيان بيوتنا ومأكلنا ومشربنا، وفي كل شيء من مقومات الحياة إلا في الانفصال عن أولادنا.
الغربي يفصل ولده عنه حين يبلغ أشده، فيتعاملان كصديقين لكل منهما كيس لا يمد الآخر يده إليه.
روى لي أحد أنسبائي المهاجرين أن الأبناء هناك متى بلغوا الواحدة والعشرين فتشوا عن عمل يستقلون به عن والديهم، وإذا ظلوا تحت سقف البيت عوملوا كمستأجر غريب يدفع شهريا ما يترتب عليه من أجرة بيت ولو كان البيت ملك أبيه، ثم يدفع ثمن الأكل كأنه في مطعم. وهكذا ينشئون مستقلين معتمدين على أنفسهم، فإن أثروا فثروتهم لهم، وإن افتقروا ذاقوا نخسات مهماز الفقر الذي يزجيهم في سبل العمل، حتى يصلوا إلى واحة البحبوحة بأنفسهم غير متكلين على أحد.
لا أذكر أين قرأت منذ مدة أن ابن روزفلت - لا أدري أهو روزفلت الأول أم الثاني - أبى أن يعمل في كنف والده رئيس جمهورية أمريكا، وقال: «فلأشق طريقي بنفسي كما شق والدي طريقه، وإلا فلست جديرا بالانتساب إليه.» أما نحن فالأسرة تظل في كنف الوالد ويظل هو مسئولا عنها ولو صارت مثل النمل. إننا نسيء بهذا إلى بنينا؛ إذ يظل الولد ولدا ولو شب وشاب، ولا يحترم نفسه ولا يعتد بها ويعتمد عليها، فاحترام النفس هو الذي يؤدي إلى الثقة بها، وهاتان المزيتان هما اللتان تخلقان أعاظم الرجال، وقد قيل: كن صديقا لنفسك يكن الآخرون أصدقاء لك. ناهيك أن احترام الرجل لنفسه هو أول لجام يمنع النفس من التدهور والسقوط في مهاوي العيوب والنقائص والرذائل، وهو الذي يؤدي بنا إلى التعويل عليها.
فالأمير بشير الكبير حين ترك مسقط رأسه غزير لم تكن ثروته غير حمل جمل، ولم يكن له رفيق غير خادمة ورثها عن أبيه وكانت له كالمربية، ولكن همته وعصاميته وثقته بنفسه واعتماده على عبقريته الشخصية بلغته الحكم فكان أميرا كالملك، وفي ظل حاجبيه يتفيأ الموت إلى أن يقول له قم فيقوم.
فإذا ورثت ثروة أو سلطة أو جاها، فقد تضيع جميعها إذا لم تكن لك نفس تعتمد عليها في صيانتها، أما إذا كانت لك نفس تثق بها فثق أن العظائم تصغر في عينيك كما قال المتنبي في مدح أميره.
أما كيف نحصن تلك النفس، فهذا لا يكون إلا إذا كانت موجودة، وإذ ذاك نحوطها بسياج من التقدير والاحترام، ولكن ليس إلى حد الغرور الجنوني؛ فكم كان الشاعر أبو فراس محترما نفسه ومعتمدا عليها حين قال:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وأبو الطيب المتنبي، وإن غالى في احترام نفسه وتبجح في مدحها وتعظيمها، فهو مصيب في ذلك، ولولا هذا الاعتداد العظيم ما بلغ ما بلغ من الشهرة.
قد تخاله مجنونا حين تسمع قوله:
وإني من القوم الذين نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
ولكن الافتخار هو الذي وقف حاجزا حصينا دون المتنبي ودون الرذائل التي تمرغ بها أكثر الشعراء.
وليعلم كل واحد منا أن قيمة نفسه مكتوبة على صفحات وجهه كما تكتب أسعار البضاعة عليها، فإذا رأى الناس أن سعرها رخيص فلا يكلفون نفوسهم بتقويمها أكثر مما قومتها أنت، فكن محترما نفسك واثقا بها ليحترمك الناس ويعتمدوا عليك بمقدار ما تعتمد أنت على نفسك، وثق وتأكد أن عدم الثقة بالنفس هو سبب أكثر ما يصيبنا من فشل؛ فاعتقاد المرء بقوته قوة له، والذين لا ثقة لهم بأنفسهم أو بقواهم هم أضعف الناس وإن كانوا أقوياء. أما ما يظهر لنا من أنانية البعض - وإن كان بشعا منكرا - فهو في الغالب دليل على ما فيهم من المقدرة على تحقيق رغائبهم، بل ربما كانت الأنانية ضرورية للرجال الممتازين، فإن الطبيعة تولد في المرء رجاء شديدا لئلا يتردد قبل أن يدرك الغرض السامي الذي انتدبته له؛ ولهذا تجعل فيه هذه الأنانية المفرطة التي تشمئز منها الناس أحيانا.
إن هذه الثقة بالنفس لهي قوة احتياطية لا بد منها لمجاهد كالذي يقول: «ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل.»
إن من يكون مقتنعا كل الاقتناع بمقدرته على إدراك أمجاد معينة لا يلبث أن يدركها فعلا، قال أحدهم: «إن الشجرة يجب أن تمد جذورها في الأرض قبل أن تزهر وتثمر، وعلى الإنسان أن يقف على رجليه مستنكفا من كل صدقة أو مساعدة، إنهما تذلان أكثر مما تعزان.» وقد قال المتنبي في وصف أسده العبقري:
أنف الكريم من الدنية تارك
في نفسه العدد الكثير قليلا
وقد قال أحدهم: «إن الاعتماد على النفس من أعظم أركان الأخلاق ، وهو يجعلنا أنسباء للرجال الذين أثبتوا حقهم الإلهي بالخلود في ذاكرة البشرية.»
أما الضعفاء المتكلون على سواهم فهم كما قال شكسبير: «لا يعرفون ولا يستطيعون أن يعرفوا مزية الشمم والإباء.»
إن من يخلص لنفسه يستطيع أن يكون مخلصا للآخرين، والعكس بالعكس. قد يسأل واحد: وماذا يجب أن يرافق اعتمادنا على النفس كي ننجح؟ نعم يا سيدي، قال الذين صحبوا الدنيا قبلنا: هيئ الرفيق قبل الطريق، يجب أن تكون الحماسة والنخوة أو الطاقة رفيقة هذا الدرب؛ لأنك إذا كنت رخوا فلا يمكنك أن تعتمد على نفسك لأنك بلا نفس، فالنفس هي دينمو الطاقة، وبقدر ما يكون هذا الدينمو مولدا تكون الاستطاعة وافرة.
علمتني الأيام أن ليس في شرع العزم شيوخ وشبان، وقد يوجد العزم في الشبان والشيب، فإذا كان رافائيل وبيرون وبو ماتوا في السابعة والثلاثين تاركين ميراثا أدبيا فنيا خالدا، فهوميروس نظم الأوديسا في شيخوخته، والجاحظ كتب بخلاءه في التسعين. فإذا كنت آمنت بالاعتماد على النفس، فزن نفسك بميزان حميتك ونخوتك، وإياك أن ترجح فما تخدع إلا نفسك ...
كمال العلم بالحلم
عندما زرت دمشق أول مرة أعجبت بصناعتها النحاسية المزركشة، ولفتت نظري الكلمات الجامعة المحفورة والمنزلة في صدور تلك الأواني الطريفة، فاشتريت منها واحدة ما زلت أحتفظ بها لأجل كلمة رائعة وهي: «كمال العلم بالحلم.»
ومر بمخيلتي حينئذ ما قالت العرب في مدح الحلم وكيف كانوا يعدونه رأس صفات خلفائهم وأمرائهم وأولي السلطان منهم، فهذا الأخطل يقول في أحبابه بني أمية: «وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا»، كما قال قبله زهير في الناس أجمعين:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
أما المتنبي العنيف فلم يقبل الحلم على علاته، بل راح يقول:
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
كما قال عن نفسه هو: «ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن.»
والعرب ضربت المثل بحلم معاوية حتى رووا عنه الحكايات الكثيرة، منها: أنهم خاطروا رجلا مرة على مال يؤدونه له إذا أضحك معاوية وهو في موكب الجمعة، فاجترأ ذلك الرجل عليه وسلم من العقاب، ثم مضى معاوية لسبيله وقام ابنه يزيد فخاطروا الرجل على مثل ذلك فلقي حتفه، فقال فيه من شهد المشهدين: «قتله حلم معاوية.»
قال الفرزدق يصف رهطه:
أحلامنا تزن الجبال رزانة
وتخالنا جنا إذا ما نجهل
أما معاوية فكانت أيام ولايته حلما فقلما غضب، وإن كان للغضب وقت فعند معاوية لا مجال لدخول الغضب إلى أعماق نفسه، فكأن بيت عنترة - إذا صحت نسبته إليه - كان دستور ذلك الخليفة الداهية، قال عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وقال معاوية معربا عن حلمه ودهائه: «لو أمسكت العرب بشعرة من طرف وأمسكت بها من طرف لما انقطعت، فإذا أرخوا شددت وإذا شدوا أرخيت.» وهكذا ضرب المثل بشعرة معاوية.
أما الغضب الذي يتمجدون به - إذ لا يعقل أن تكون الحياة كلها حلما لا غضب فيه - فهو الذي يكون عند نصرة الحق المهضوم والثورة للشرف الجريح، ولذلك وصف به الشاعر جماعته فقال:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
وكأني بالعرب قد فرقوا بين الغاضبين، فلم ينعتوا من لا شأن لهم بالغضاب بل سموهم سفهاء وجهالا، على هذا كانوا في الجاهلية.
أما الكتب السماوية فتشجب الغضب وتحذر الناس منه لأنه منبع الشرور، والحكيم الحكيم هو ذاك الذي يتجنبه ويتقيه إذا شاء أن يحيا سليما من الأذى.
وهؤلاء حكماء التوراة ينهون عنه في كل موقف حتى تجرأ النبي داود على ربه وهتف في ضيقته: «إلى متى يا رب تغضب كل الغضب، وتتقد كالنار غيرتك؟!» أما ابنه سليمان فيوصي الإنسان بالرفق واللين، فيقول في سفر الجامعة: «لا تسرع بروحك إلى الغضب.» واليوم نقول نحن: «عد العشرة.»
أجل إن الحلم يذهب شرور الغضب الكثيرة، وقد جاء في أمثالهم: «الجواب اللين يصرف الغضب»، تصور رب بيت ضيق الصدر فإنه يحول مأواه إلى ساحة صراع وقتال، فزوجه وبنوه يكونون منه في جهد جهيد فينغص عيشهم وتهجر السكينة والطمأنينة ذلك البيت، إن صاحب الأعصاب المجهدة يجب أن يداوي هذا الداء العضال بالأناة والتروي، وقبل أن يشعل نار غضبه فليفكر، فليطالع سير الرجال الذين اتصفوا بالحلم، ويحاول أن يتجمل بأخلاقهم ما استطاع، فيصبح من بيته في نعيم مقيم، أليس أفضل له من أن يعيش في جحيم؟!
قال المثل العربي: «إذا عز أخوك فهن.» وإذا مرت عاصفة غضب على البيت فعلى أهل ذلك البيت أن يستنيموا لها حتى تمر، وإلا فلا يعرف أحد ماذا تقتلع وماذا تهدم، إن الكلمة اللينة لهي مثل كأس ماء بارد يصب في قدر فائرة، أما إذا قابلنا الغاضب بغضب كغضبه فإننا نزيد النار اتقادا.
قد يغبى عليك من كنت تعرفه إذا ما تملكته سورة الغضب فتنكره كل الإنكار، فالغضب يعمي الأبصار والبصائر فيقضي على المثل العليا، ويخفي معالم الحق ضبابه الكثيف.
وإذا كنا نريد أن يجري كل ما في الحياة على هوانا كيلا نغضب، فهذا أمر لا يتحقق. شاء الفرس أن يجنبوا الناس الغضب فأنشئوا هذه القصة الطريفة وجعلوا بطلها إبراهيم الخليل، قالوا:
اشتهر إبراهيم الخليل بالكرم وحسن الضيافة، وقد حدث أن مضى أسبوع ولم يحضر مآدبه أحد أبناء السبيل، فخرج من بيته وسرح نظره في كل وجهة من أطراف الوادي حتى رأى رجلا في الصحراء طويلا كالسرو وقد اشتعل رأسه شيبا كأن الكبر قد كساه بثلجه.
فنادى إبراهيم عابر السبيل، ولما أقبل عليه حياه ورحب به، وأعد الطعام فعزم على ضيفه فقبل الرجل شاكرا، وكان يعرف كرم إبراهيم ويسمع أخبار مضيفته، وأقبل الخدم فأجلسوا الرجل في مكانه من المائدة بالتجلة والتكريم، فلما اكتمل الجمع وأخذ كل مكانه بدءوا بذكر اسم الله الرحمن الرحيم، ولكن الضيف لم يذكر الاسم الأجل، تعجب إبراهيم من ضيفه الشيخ الكبير واستغرب أن لا يذكر اسم ربه قبل أن يضع الخبز في فمه، فسأله لماذا لم تفعل كما يفعل الشيوخ في إخلاص وإيمان؟
فقال الرجل: «لا أستطيع أن أفعل شيئا لم أسمع عنه في سدنة بيت النار.»
فأدرك إبراهيم أن ضيفه مجوسي من عبدة النار، فاستولى عليه الغضب وأمسك بالرجل فرفعه من مكانه وطرده؛ حرصا منه على ألا يشارك الأتقياء أكلهم، فبعث الله جبريل إلى إبراهيم يقول: يا إبراهيم، أنا تحملت هذا الشيخ ومنحته الحياة والقوة مائة سنة، أما أنت فلم تستطع احتماله لحظة واحدة، إذا كان الشيخ يسجد للنار، فما بالك أنت تكف اليد التي بسطها الله لك بالجود؟!
إن الأديب الفارسي كتب هذه القصة ليصيب عصفورين بحجر واحد، فهو يعلمنا ألا نغضب ثم ألا نغضب لما لا يعنينا ولا يمسنا مباشرة.
وفي حكاية النبي يونان - يونس - مع ربه وأهل نينوى عظة كبرى لأهل الغضب؛ حرد يونان لأن ربه لم يضرب مدينة نينوى كما وعده، فانتحى مكانا قصيا، صنع هذا النبي لنفسه مظلة شرقي المدينة، وقعد تحتها يراقب ما يحدث في نينوى، فخلق الله له يقطينة تظلله ففرح بها وبعد حين سلط الرب على اليقطينة دودة فأيبستها، ثم أرسل ريحا شرقية حارة فضربت الشمس رأس يونان فذبل وتمنى الموت.
فناداه الله - حسب قول التوراة - وقال له: «هل اغتظت حقا من أجل اليقطينة؟!»
فأجاب يونان: «اغتظت حتى الموت.»
فقال الرب: «إذا كنت أنت أشفقت على يقطينة، أفلا أشفق أنا على مدينة؟!»
لم تقل التوراة كيف راح غضب يونان، فلا شك في أن حوت هذه الموعظة قد ابتلع ذلك الغضب ... وعلم يونان الحلم.
اللهم نجنا من الشرير، فلا نغضب للا شيء، ثم لا يرضينا شيء!
اللهم لا تكثر بيننا إخوة يونان فنغتاظ حتى الموت لذهاب يقطينة، ولا يطيب لنا عيش حتى نخرب مدينة ...! إن العمر قصير، والغضب الحامي يقصره أكثر، فما علينا إلا أن نداوي هذا الداء بالحلم، وإذا لم نستطع أن نطفئ ناره المتأججة فلا أقل من أن نتجنبها.
كانت امرأة إبراهيم لنكولن حمقاء بل مجنونة، تغضب لأقل بادرة تصدر عن زوجها، وقد عجز ذاك الرئيس العظيم عن الإقلال من غضبها، فبينما كانا يفطران يوما إذا بها ترميه بفنجان القهوة فتحرق وجهه وتبلل ثيابه، واتقى شرها بالصمت طلبا للسترة، ولكنها لم تكف عن السب واللعن حتى سمعت شتائمها المارة.
أما كيف كان يداوي لنكولن هذه المرأة السبابة الشتامة، فيروي مؤرخوه أنه كان ينام في الفنادق النائية؛ لأنه كان يخاف المجيء إلى بيته حيث لا يسمع غير الشتم والسب واللعن. هذا ما يورثه الغضب أهله، فإنه يؤذي الغاضبين والمغضوب عليهم، ولا دواء لهذا الداء إلا الحلم، فهو الذي يخفف مرارة الحياة وقسوتها، ولو لم يكن الغضب شر الشرور لما جرى ذلك الحوار بين النبي يونان وربه في التوراة، حوار يدل على أن الله ندم على غضبه على نينوى ولم يشأ أن يخربها، فغلب حلمه غضبه ونجت المدينة.
وفي القول الذي نسبه الجاحظ إلى معاوية والحسن بن علي تصديق لقولهم «كمال العلم بالحلم.» قال معاوية: «إذا لم يكن الهاشمي جوادا لم يشبه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تياها لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليما لم يشبه قومه.» فبلغ قوله الحسن بن علي فقال: «ما أحسن ما نظر لقومه! أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يديه، وتزهى بنو مخزوم على الناس فتبغض وتشنأ، وتحلم بنو أمية فتحب.»
سير العظام تخلق العظائم
نحن قوم خياليون يروعنا مشهد الحقائق عارية فنلجأ إلى الخيال نتذرى به، وإلى الصوفية فتشغلنا عن العمل المثمر، تهنا في دنيا أحلام اليقظة مكتفين بما عندنا من ميراث تاريخي، ثم تمادينا في غرورنا فأمست تلك الأحلام الهرمة الشائخة رسالة، وأصبحنا جميعا رسلا وفلاسفة.
فماذا تنفعنا العزلة يا أخي، بل ماذا يجدينا وقوفنا في عرض الطريق غير مرور القوافل بنا ضاحكة هازئة؟ ما رأيت عظيما واحدا قعد كالدرويش في واحة الأحلام والأماني، ولكنني رأيت مواكب العظماء ضاربة في عرض الصحراء متخبطة في غمار البحار، ولولا المغامرات لما كان في الدنيا عظيم، بل كانت الدنيا سواسية كأسنان المشط ...
فنصيحتي لكل قارئ هي أن يضع سير الرجال العباقرة موضع قصص المغامرات المصنوعة وحكايات الحب، التي لا تزيد على أنها حوادث تتكرر بصور مختلفة.
لقد أصبح التعليم اليوم عمليا، فلماذا لا تكون قراءتنا مثله عملية؟ فلنقرأ في أوقات فراغنا سير رجال نهضوا بأوطانهم من الحضيض إلى الذرى فصاروا هم قمما إنسانية خالدة، إن قراءة قصة هؤلاء تدفعنا إلى المحاولة، فنصيب ولو بعض الشيء مما أصابوا.
فإذا قرأنا تاريخ رجال البر والإحسان وماشيناهم في طريق حياتهم، فلا شك في أن تلك المرافقة تحرك فينا عاطفة الإحساس إلى البؤساء والمساكين. وإذا تصفحنا سيرة مثالي رفيع الأخلاق، حاولنا أن نقتبس من فضائله شيئا تزدان به شخصيتنا.
لهذه الغاية النبيلة كتبوا السيرة النبوية وكتاب الاقتداء بالمسيح، فعلينا نحن في هذا العصر أن نكثر من قراءة سير الأبطال، ففي السياسة أبطال نبلاء حرروا الأمم والشعوب، وفي الأدب فلاسفة وكتاب وشعراء مروا عجالى في مجاهل التاريخ ولكن خطواتهم الرصينة عبدت الطريق للذرية. فإذا قرأت - مثلا - سيرة فتى نجم من كوخ متداع ثم صار زعيما مطاعا وقائدا أكبر لأمته، أفلا يحرك ذلك همتك مهما كانت ساكنة؟ ألا تتمنى في قعر نفسك لو تستطيع أن تعمل ولو بعض الشيء؟ فاقرأ كثيرا من أخبار هؤلاء فلعلك واجد عند بعضهم ما يلائم ميولك وأهواءك.
لا تحتقر نفسك ولا تقل من أنا، فأعاظم الرجال ليسوا خيرا منك إلا بجدهم وثباتهم وسعيهم الحثيث نحو الغاية.
اسمح لي أن أصارحك القول: إن أجل ما أقرأ فائدة هو ما تنبئني به الكتب عن هؤلاء العباقرة، وخصوصا من كانوا يسقطون في معترك الحياة ثم ينهضون ليدخلوا في معترك جديد.
قد يستولي علي الكسل صباحا، فأتذكر مثلا أن أحد هؤلاء الرجال كان ينهض في الساعة الفلانية ويعمل ساعات، فأنهض حالا إلى عملي متشبها به وإن لم أدرك ما أدرك. إن تاريخ الرجال العظام هو خير مدرسة للناس، فعلى السياسي أن يقرأ سير السياسيين، وعلى التاجر أن يقرأ سير أكابر رجال الأعمال، وعلى الأديب أن يقرأ سير الأدباء، ففي هذه السير دروس عظيمة الفائدة وهي ما تدفعنا دائما إلى الأمام.
إذا كنا نحب كثيرا بطل قصة خيالي ونتشبه به، فكيف بنا إذا قرأنا سيرة رجل عرفنا أنه عاش كما نعيش نحن وعمل ما نعمل؟ فلو لم يتشبه نابليون بمن تقدموه من أبطال لما كان ذاك القزم من عمالقة التاريخ، وكذلك قل في جميع الرجال على اختلاف أشكالهم ومشاربهم وميولهم.
ليس تاريخ الأمة إلا تاريخ بضعة من رجالها، فهؤلاء الرجال العظام هم الذين يوجدون أمة لم تكن، أو يبعثون أمة شاخت وهرمت حتى دفنت حية في ظلمة تاريخها ...
من يستطيع أن يتخيل النهضة العربية دون أن تمر أمامه صورة أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية وهارون والمأمون وعبد الرحمن وغيرهم؟ ومن يتمثل أثينا بدون ديمستين وسقراط وأفلاطون وأرسطو؟ وهل تاريخ رومية غير قيصر وشيشرون وأوريليوس ويوستانيوس؟ وهل كانت قرطاجنة لولا هانيبال؟
لا تعجب إن رأيتني أخلط لك رجال السيف برجال القلم، إنني أنحو بذلك نحو فولتير، كتب فولتير إلى أحدهم عندما كان يعد كتابه «تاريخ لويس الرابع عشر»:
إنني لما طلبت منك بعض نوادر عن عصر هذا الملك لم أعن الملك بقدر ما عنيت الفنون التي نمت وازدهرت في زمانه، فأنا أوثر التفاصيل التي تتعلق براسين وبوالو وموليير وبوسيه وديكارت وأمثالهم على ما يتعلق منها بمعركة ستنكرك، فإن الذين يقودون الجحافل والأساطيل لا يبقى بعدهم إلا اسمهم، وأية نتيجة حصلت للجيش البشري من الفوز في مائة معركة؟ أما الرجال العظام الذين ذكرتهم فهم من أدخلوا المسرة والبهجة في القلوب، ولا تزال آثارهم تقوم بذلك.
فالرجال العظام لا ينحصرون إذن كما زعم فولتير فيمن ولوا الأحكام وحكموا الشعوب، بل هم في نظر هذا الفيلسوف من وفروا السعادة للبشر، وهدوا الناس سبل الحرية ودعوا إلى كل ما يحقق المثل الإنسانية العليا. وهؤلاء نجدهم بين الملوك أيضا، فقد وجدت على قبر ملك مصري عاش منذ أكثر من أربعين قرنا هذه الكلمات:
إنني لم أوذ ولدا، ولا ظلمت أرملة، ولا أهنت راعيا، ولم يكن في أيامي شحاذون، ولا مات أحد من الجوع، ولما جاءت أعوام المجاعة زرعت أراضي مملكتي كلها حتى أقصى حدودها الشمالية والجنوبية، وأطعمت كل سكانها موجدا لهم القوت فلم يمت أحد فيها جوعا، وقد جعلت الأرملة تعيش كما لو كان لها بعل.
فمن يقدر في عصرنا أن يقول هذا القول أو يدعي هذا الادعاء؟ أليس في هذه «القبرية» تاريخ حقبة من الزمن، وما هي إلا قطعة من حياة رجل عظيم أخلص لأمته وأدى الأمانة التي في عنقه؟ فلو قرأ هذا من ألقيت إليه مقاليد الشعب ألا يدفعه مثل هذا الكلام إلى العمل المجدي بدلا من طلب الجاه الذي يذهب مع طالبه إلى غير رجعة؟ هذي هي فائدة مطالعة السير، إنها تمزق برقع الغرور عن أعيننا فنرى الحقيقة كما هي.
إن في الكون أناسا طبعوا على الشرف والنبل، فرافق هذا الشرف نفوسهم فكانوا خيرا وبركة لأمتهم، وزانوا تاريخها كما تزين الجوهرة العقد الثمين. وسير هؤلاء يجب أن تطالع، فالرجال العظام الحقيقيون هم من يتجسم الشرف في أعمالهم وتنطق به ألسنتهم فيمسي سنة وشريعة، وهم يحيون مع هذا النبل وفيه وبه، إن التسامي عندهم إله معبود وهو الذي جعلهم عظماء مقدمين مستقيمين.
قال أحد المشاهير العظام: «لم يصل أحد إلى العظمة الحقيقية إلا وقد شعر بأن حياته مختصة بأبناء جنسه، وأن ما أعطاه الله فقد أعطاه إياه ليخدم به البشرية.»
إن مثل هذا الشعور لا يولده فينا إلا اطلاعنا على سير من اتصفوا به، وبهذا نصحنا فيلسوف المعرة قائلا: «خذوا سيري فهن لكم صلاح»، ولم يقل «خذوا علمي» لأنه يعلم أن القول غير العمل. قد يختلف الناس في أقوال المعري، أما سيرته فإنسانية فاضلة، وهؤلاء الأفاضل هم سرج الأزمنة ومنارات الدهور والأجيال؛ فلنتعرفهم لكي نفلح.
نحو عالم أفضل
1
وجد الناس فكانوا ولا يزالون يتخبطون في ظلمات السعي وراء إنشاء عالم جديد، عالم يستريحون فيه، عالم كله سلام وطمأنينة يأتيهم فيه رزقهم رغدا كما كان جدهم في الجنة يعمل بقول الحطيئة: «واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي» ... أما نواميس الحياة فكانت دائما تقطع عليهم الطريق فيظلون مسيرين غير مخيرين.
إن هذا الموضوع «حول عالم أفضل» الذي كثر التحدث عنه في هذه الأيام، يوجه الكاتب إلى التفكير بخلق عالم مثالي لا شر فيه. وعندي أنا أن الشر ضربة لازب بخلاف ما قال النابغة في ممدوحيه الغساسنة، وإذا عدنا إلى ما وراء التاريخ رأينا أن آلهة البشر الأولى كانت آلهة حرب، وتلك الآلهة هي التي خلقت هانيبال والإسكندر، وبالرغم عن أحلام أشعيا وأفلاطون بعالم فاضل منقى من جميع أدران الشر.
فإذا نظرنا في أساطير الأولين رأينا أن آلهة فينيقية واليونان وجميع الآلهة القدماء آلهة تتطاحن فتزعج السموات والأرض، يقاتل بعضها بعضا قتالا لا هوادة فيه، يخلقون العدد اللازمة ارتجالا؛ لأنهم آلهة يقولون للشيء كن فيكون.
فهذا هركيل - الذي عبدته فينيقية زمنا طويلا - زعمت أساطير الأولين أنه زحف على المغرب بجيوش لا تحصى جمعها من كل جهات المشرق، وكان هو على رأس تلك الجيوش الجرارة، فافتتح قبرس والجزائر المجاورة وجزر الأرخبيل وبلاد اليونان، وكل ما عمر ربنا من بلدان فاستولوا عليها، ثم عاد هركيل بعد تلك الحرب الأولى العظمى ليموت حتف أنفه في قادش.
ولم يكتفوا بفحول الآلهة الذكور فجعلوا مينرفا إلهة حرب، زعموا أنها ولدت من جوبيتر فخرجت من دماغه لتجعل ربة الحكمة والفنون الحربية، حتى زعم فانيلون - وهو يكاد يكون من المعاصرين بالنسبة إلى العصور التي نتحدث عنها - فوصف لنا جمال وجه منيرفا كأنه كان معاصرا لها، فقال إنه لم يكن فتانا يهيج الشهوات في الناظر إليه كجمال فينيس، ولكنه كان جمالا طبيعيا خاليا من التصنع يحرك على الاحتشام، وكل ما فيها كان موقرا شريفا مملوءا من العزة والشهامة. يقول هذا فانيلون متحدثا عن إلهة خرافية كأنه جاد غير هازل، والأساطير تجعل شعار هذه الإلهة مجنا ودرعا مصنوعين من جلد أحد الجبابرة الذي غلبته، وهوميروس شاعر اليونان الأعظم جعلها مدربة ومساعدة لليونان في حرب طروادة.
ثم يأتي مارس إله الحرب العظيم فيكون في عون الطرواديين، وقد قال في وصفه الشاعر أشيل: إنه إله ميال إلى الإتلاف والخراب، ولا شيء مقدسا لدى قساوته وتحت يده الثقيلة، وبالاختصار حميت المعركة، وانتقلت ساحتها من بين بني البشر فصارت بين آلهتهم ومعبوداتهم، وها هي منيرفا ترمي الإله مارس بحجر فجرحته، فضج ضجة عشرة آلاف رجل ... ولما سقط على الأرض غطى بجسده مساحة سبعة فدادين.
وتنتقل فكرة الحرب في ظلمات تلك العصور حتى تبلغ عصر بني إسرائيل، فإذا إلههم إله حرب أيضا يصفونه بأنه ينتصر لقومه وينتقم لهم، كما جاء في سفر الخروج، يقول الرب: «إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر؛ من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة. خذوا باقة من زوفا واغمسوها في الدم ومسوا العتبة العليا، حتى إذا اجتاز الرب ورأى الدم على العتبة يعبر عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب.»
وها هو داود يترنم في زبوره، يسبح ويمجد «يهوه» ويسميه دائما رب الجنود فيقول: «في ضيقي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه؛ فارتجت الأرض، وارتعشت أسس الجبال، صعد دخان من أنفه ونار من فمه آكلة، برد وجمر نار، أرسل سهامه فشتتهم، وبروقا كثيرة فأزعجهم.»
وفي مزمور آخر يقول في وصفه: «الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال، ويكسر الرب أرز لبنان، كما يقول داود، إكراما لسواد عيون شعبه إسرائيل.»
ويتطوح داود فيقول لربه: «خاصم يا رب مخاصمي، وقاتل مقاتلي، امسك مجنا وترسا وانهض إلى معونتي، واشرع رمحا وصد تلقاء مطاردي.»
وفي مكان آخر يقول أيضا: «عجت الأرض، زعزعت الممالك، أعطى الرب صوته فذابت الأرض، رب الجنود معنا ...»
أما حين يشيخ داود فيتغير رأيه في إلهه، فيقول في آخر زبوره: «الرب حنان رحيم، طويل الروح وكثير الرحمة، الرب صالح للكل، ومراحمه على كل أعماله.» (مز، 145 : 8).
وكأني بأشعيا الذي جاء بعد داود والذي اعترف أخيرا أن الرب للكل، شاء أن يحلم بعصر سلام، ولكن حلمه هذا كان بعيد المنال لا يمكن أن يكون، فقال متنبئا عن عالم جديد: «ينصف فيه لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد . ويخرج قضيب من جذع يسى يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف للبائسين، فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معا وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدبة ترعيان تربض أولادهما معا، والأسد كالبقر يأكل تبنا، ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده إلى جحر الأفعوان، فلا يسيئون ولا يفسدون؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.»
وقبل أن يخرج قضيب من جذع يسى سمعنا صوتا في اليونان هو صوت فيلسوفها أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة - جمهورية أفلاطون - فتصور عالما مثاليا كما لا يزال الإنسان يتخيل ويتصور ويحاول الابتعاد عن الشر، ولكن تخيلات هذا الفيلسوف العظيم قد ذهبت عبثا، وما زال الناس يتخبطون في ظلمات أطماعهم جارين ذيول الجشع مقتتلين على حطام الدنيا، متعثرين بأذيال الطمع، إلى أن ظهر يسوع وبشر برسالة السلام فسمع العالم صوتا جديدا، صوتا يدعو الناس أجمعين إلى طاعة الله إلهه وإلههم، دعا إلى المحبة دعوة صارخة حتى قال: «من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن طلب رداءك أعطه ثوبك، ومن سخرك ميلا امش معه ميلين.»
ولكن كل هذه التعاليم لم تثمر وظل الإنسان يتدهور في هوة الشر، وينقلب من درك إلى درك، وجاء محمد رسول الله، فعلم أن الله غفور رحيم منزه عما وصف به - سبحانه وتعالى - دعا إلى التسامح والأخوة العالمية مناصبا العبودية العداء.
ثم قام من أتباع عيسى ومحمد رجال كثيرون يدعون إلى نصرة تعاليم المرسلين لهدي الناس، ولكن آذان الناس صمت عن سماع كلام المرسلين، فكانوا كأنهم صم بكم عمي متى لاحت لهم فريسة لذيذة.
فهذه الصوفية تنادي بأن الكون جزء لا يتجزأ، هذا هو أحد فلاسفتها ينحو نحو أفلاطون راسما للبشر عالما جديدا، يشد أزره في دعوته «السلامية» فريق من شعرائنا إلا واحدا منهم فإنه لم يؤمن بالسلام، ما دامت جرثومة النزاع متأصلة في النفس البشرية، فقال في ذلك:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منه
وإن سر بعضهم أحيانا
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء للقناة سنانا
فهو يرى أن الشر طبع فينا، وأن النضال مستمر ما استمرت هذه الميول في النفس البشرية.
وفي الحقبة الأخير من عصرنا الحاضر، الذي يسمونه عصر النور، يفكر الناس بقطع دابر الشر، وخلق عالم جديد يستريح فيه الإنسان من متاعب الحياة ومشقاتها، ومن الحروب وضرباتها وويلاتها، فيخلقون مؤتمر لاهاي ثم جامعة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة، وأخيرا الأونسكو.
أما ما يكون فهذا علمه عند الله - عز وجل - ولكن الطبخة الطيبة تبين من العصر، فلا أظن أن العشاء يكون كما نتخيل ونتفهم.
أما العالم الذي أراه أنا فهو هذا العالم الذي نعيش فيه، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وكلما بعد عهد الإنسان بالآلهة المحاربين الذين عبدهم في أظلم العصور، اقترب الإنسان من أخيه الإنسان وفهمه. إن عالم الاختراعات التي قربت شقة السمع والعيان بين البشر هي التي ستقرب بينهم وتؤلفهم، فيتفاهمون ويأتلفون ويطل علينا عالم جديد.
إنني أرجو منك منذ الآن أيها القارئ الكريم ألا تطمع بالنوم على ظهرك ليلا نهارا، وأن يأتيك رزقك إلى البيت مطبوخا وما عليك إلا أن تلتهمه، فلا غصة ولا فواق ولا ولا ... يجب أن تعلم أنك لا تلتذ ما لم تتعب، ولا تترقى ما لم تنافس وتناضل، فلا بد لك من عرق جبينك لتأكل خبزك.
2
عاش الناس قبلنا حالمين، عاشوا في دنيا أساطيرهم وخيالاتهم مترجين عالما أحسن وأفضل، وقد ضرب صاحب «ألف ليلة وليلة» الرقم القياسي فيما ترجى، فجعل المستحيلات عصا يتوكأ عليها أبطاله ويقضون مآربهم الأخرى. حقا إن الإنسان عمل كثيرا واكتشف أسرارا كثيرة وخطيرة إلا سرا واحدا لم يستطع اكتشافه، ألا وهو سر العدالة والسلام والقناعة والرضا بما قسم له.
فمن عهد تلك القميص التي خاطتها حواء من ورق التين إلى عهد فساطين الدنتلا والبوبلين، لا يزال الإنسان إنسانا لا يهدأ ولا يقر له قرار ينظر إلى جاره بعين محمرة، ويحاول القبض والاستيلاء على ما يملك.
ما لي وما لغيري؟ فلأحدثك عن نفسي: قد لبست الغنباز والشروال والعباءة والعقال كما ألبس اليوم ما صنع على مثال آخر طراز، ومع ذلك ما وجدت تغيرا في ملاذي وراحتي وعواطفي وإنسانيتي، وسكنت البيوت الرفيعة العماد كما أويت إلى البيوت المتواضعة، ورتعت في قلب المدينة الكبرى كما عشت في القرية النائية، فما رأيتني في تلك خيرا مني في هذه.
وركبت الحمير والخيل والبغال والعجلات والسيارات - ولا أقول الطائرات فما طرت بعد - فما زادتني الأخيرة نشاطا ولا منحتني قوة ولا وفرت لي لذة.
قد تقول: هذا رجل رجعي، لا يا عزيزي فما أنا ذاك، إن أنا إلا رجل يماشي الزمان، وإن شئت فقل يسبقه ولا تخف.
إنني أروي لك ما أشعر به وما أحسسته، فكل ما أحدث في زماني من اختراعات ما رأيته غير شيئا من أخلاق الناس وميولهم، فالبغض ظل بغضا وزاد، والطمع استحال جشعا وكلبا. هذا اعتراف مني أمامك وقد سجلته على نفسي.
إن ما كنا نعده خرافات وأوهاما قد صار على عهدي حقائق ملموسة، كان أستاذنا الذي علمنا الأدب العربي يرتبك في شرح هذا البيت الذي كان يعجبه جدا، إلا أنه لم يكن يرتاح إلى ما فيه من مبالغة:
غنت سليمى بالعراق فأطربت
من كان في أرض الشآم نشيدا
فيحاول أن يخفف من إغراق الشاعر وغلوه، إلى أن جاءنا ذات يوم يقول لنا: «قد تحقق زعم شاعر سليمى التي غنت بالعراق واخترعوا الفونغراف.» فصحنا: «الفونغراف! وما هو الفونغراف؟!» وأخيرا رأيناه وسمعناه، وعندما جاءنا الراديو بعد الحرب الأولى ترحمت على الأستاذ وقلت: «الراديو يحقق الفكرة أكثر، فليت أستاذنا ظل حيا ليراه ويسمعه!»
وكان هذا الأستاذ عينه يهز برأسه حين يشرح لنا «التمني والترجي» ويردد هذا البيت:
أسرب القطا هل من معير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير!
فيقول: «ما أقل عقل الإنسان وما أطمعه! اسمعوا يتمنى أن يطير، فما عليه لو مشى على مهله؟!» ثم رأيت طائرة فدرين تحلق لأول مرة في سماء الشرق، فقلت: «أين أنت يا معلمي لترى مطامع الإنسان تتحقق؟»
وإني لأتخيل جدي وقد استيقظ ورأى المخترعات الجديدة، أفلا يصيبه ما أصاب رجال الكهف؟!
قد شهدت بيروت تستضيء شوارعها بالكاز والغاز، وشهدتها مضاءة بالكهرباء، وشهدت أناسا من ماضين وحاضرين فما رأيت هؤلاء أسعد حالا ولا أفضى بالا.
رأيت الناس يلبسون الخام المصبوغ، ويجلسون على مقاعد من الخيش والجنفيص، رأيتهم في القصور الحاضرة المنيفة، حتى إذا سألتهم عن حالهم هذا وحالتهم تلك فما سمعت إلا تأوها.
يقولون إننا مقبلون على عالم تخدمنا فيه الآلة، فتغنينا عن الخدم والحشم. وزعموا أننا سنعيش على «الخلاصات» فلا نضطر إلى مضغ وبلع، وإذ ذاك ندرك السعادة والنعيم المقيم. أما أنا فما أرى أن العالم يصلح أكثر إذا خلا من العمل، ولعمري كيف تدرك لذة بلا تعب؟! أما خبرونا عن أغنياء العالم الذين لم يذوقوا طعم التعب أنهم يتسلقون الجبال العالية ليشعروا بلذة الراحة بعد التعب؟
الطائر يلتذ بالإسفاف كما يلتذ بالتحليق إلى أبعد مدى يستطيع إدراكه، وكذلك الإنسان فلا يعيش عيشة لذيذة إذا لم تتنوع حياته بين بؤس ونعيم وهناء وشقاء، وقد قال أحد القدماء: «لا تأكل لقمتك إلا مغموسة بعسل» أي لا تأكل إلا بعد تعب وجوع فتستطيب الأكل مهما كان رديئا.
إن الحياة الخالية من كل شر وعناء لهي أغنية على وتيرة واحدة، ومن تروق له مثل هذه الأغنية؟! فالحياة لا تحلو وتطيب ما لم تتنوع. وإنني لا أتصور حياتي الهانئة في الجنة حيث النعيم المقيم إلا وأخشى مللها وإن كان يترجاها غيري ويتفانى في سبيل إدراكها.
إن من يطلب عالما لا شر فيه كمن يطلب لحما بلا عظم، ونارا بلا دخان، ونورا لا يحرق. والذي أراه أن خير ما في هذا العالم هو هذا التقلب الذي فيه، فلا تحلو الطبيعة إلا بهدوها وثوراتها، ونسيمها وعواصفها، وبردها وحرها. ما أصدق قول أبي تمام:
وإني رأيت الشمس زيدت محبة
إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
أعرف رجلا عاش فقيرا وكان أسعد الناس، يحمل حملة حطب لم تحمل أعظم منها امرأة أبي لهب، ولما رزق مالا استراح واسترخى وترهل وجاء الموت، وقد سئل أي الحياتين هي أحب إليه، فأجاب: لولا هاتيك ما شعرت بلذة هذه.
فالعالم الأفضل الذي يصبو إليه الإنسان ويحلم به لن يكون إلا هذا العالم، فكل راحة نكسبها نجد متاعبها منها وفيها، وهيهات أن نجد عالما بلا شرور ودواهي، ولا إخالني أكفر إذا قلت: «إنه لا بد من الشر لأنه من مقومات الحياة.» تصور إنسانا لا يطمح ولا ينافس، ويرضى بالحالة التي هو فيها، فأي تقدم يدرك؟ وماذا تجني الإنسانية من وجوده؟!
اخترع الله سفينة لنوح ليحفظ الجنس البشري من الفناء، وها هو الإنسان الذي حفظه الله يخترع المدرعات والنسافات والغواصات والطائرات والحاملات، وأخيرا القنبلة الذرية فالهيدروجينية ليقتل ويدمر، ومع ذلك ما زال الناس يعيشون كما كانوا يعيشون في عهد الكبش والمنجنيق.
وما أرى الشقاء في الحياة إلا كالسموم التي هي في دمائنا، لا بد لنا من كمية منها وإلا فلا تصلح دماؤنا، إن القليل من السم دواء أما كثيره فيقتل، ولا شك في أن عالم اليوم خير من عالم الأمس، كما أن عالم الغد سيكون خيرا من عالمنا شكلا، وأما الجوهر فواحد. لا بد للإنسان من الشقاء ليدرك لذة الحياة، فاللذة تصبح شقاء والإنسان يسأم ويضجر.
وخير ما أختم به مقالي هذا هو حكاية سمعتها أو قرأتها صغيرا:
كان رجل تقي يسكن كوخا تقوم إلى جانبه تفاحة، وكان ذاك الرجل لا يملك من أشجار الدنيا غيرها، ولكنه قلما ظفر منها بثمرة، فلا تكاد أن تنضج واحدة حتى يقطفها أحد الصبيان. وفي إحدى أمسيات الصيف استضافه درويش عليه سيماء رجال الخير والصلاح، فسأله أن يبيت عنده فعشاه على فاقته ومد له فراشا لينام، فركع الدرويش ليصلي ثم انفتل من صلاته وقال لمضيفه: «تمن علي، فأسأل الله أن ينيلك ما تبتغي!»
فضحك الشيخ ولم يصدق ما يسمع، فقال له الرجل: «جرب فأنت لا تخسر شيئا إذا لم يستمع ربي إلى صلاتي.» فاستضحك الرجل وقال لضيفه: «اسأل لي ربك ألا ينزل من يصعد إلى تفاحتي إلا بإذني.»
فصلى الدرويش لربه بحرارة وإلحاح شديدين، ولما وثق من استجابة الله - تعالى - له نام ملء عينيه، وعند الصباح ودع مضيفه شاكرا سائلا له الثواب من الله - تعالى - لأنه آوى في بيته أحد أبناء السبيل.
وقضى الرجل نهاره يراقب الغزاة الذين يشنون الغارة على تفاحته، وما جاء الليل حتى سمع حركة في التفاحة فأضاء قنديله ليرى فوقعت عيناه على صبي قد ملأ عبه تفاحا، وهو يحاول النزول ولا يستطيع، فتذكر ضيفه تلك الليلة وأدرك أنه نبي وقد استجاب الله لطلبته، فقال للولد: «عاهدني يا بني على ألا تقرب تفاحتي لكي آمرك بالنزول.»
وكان العهد وكان النزول، فطار الخبر وابتعد الناس عن التفاحة المرصودة، ونعم الرجل بأكل التفاح زمنا. وفي ذات ليلة جاء الموت فظنه صاحبه الذي صلى في قديم الزمان، فقال له الزائر: «لا ... أنا عزرائيل جئت لأقبض روحك.»
فتنهد الرجل الشيخ وقال بألم: «نعم، حان الوقت ... طال عمري وكبرت جدا. ولكن لي رغبة يا عزرائيل أسألك إياها، وهي أن تصعد إلى التفاحة وتأتيني ببضع أثمار، فأنا شيخ لا أستطيع التسلق»، فخف عزرائيل إلى التفاحة وقطف بعضا من ثمارها، ولكنه لم يستطع النزول، فضحك الشيخ - الذي هو «الشقاء» - وقال له: «عاهدني يا عزرائيل على أنك لا تجيئني إلا عندما تنتهي من قبض أرواح جميع الناس» فعاهده، وصدر أمر الشيخ بالنزول.
قال الراوي: «وهكذا سيظل الشقاء ما بقي إنسان على وجه الأرض.»
القصة حكاية خرافية، ولكننا كثيرا ما نرى في الخرافات روح الحق، فقد نتصل بالمريخ وقد ... وقد ... ولكننا مهما عملنا فلا نستطيع أن نمحو الشقاء لا من الأرض ولا من العوالم التي نكتشفها، فسعينا وراء عالم أفضل لنستريح من الشقاء والألم لسنا ببالغيه مهما سعينا ومهما رسمنا من الخطط لهذا العالم، وكأن الفرزدق قد عنانا نحن بقوله لجرير:
ولئن رغبت سوى أبيك لترجعن
عبدا إليه كأن أنفك دمل
الحظ أعمى
يمشي الإنسان من المهد إلى اللحد، ويعيش معه ثلاثة؛ اثنان لا يفارقانه أبدا، وواحد قد يدركه وقد لا، أما الأول وهو الأمل فمستقر أبدا في هوة الفكر الإنساني التي لا قرار لها، يظل يمنينا ويحثنا ويطول لنا الحبل وينخسنا دائما بمهمازه، ويدفعنا إلى السعي وراء الشخص الثالث المجهول محل الإقامة، ولا يعلم إلا الله متى نلتقي به.
أما الثاني فنراه معنا حيث نكون، وهو ذو أسماء متعددة، يسمى في المصائب الصبر، ويدعى في الأعمال الثبات، ويقال له في الشدائد الحزم، فحيثما مشى الإنسان مشى معه الأمل والصبر لعلهم يلتقون بالحظ الرفيق الشارد، كثيرون زعموا أنهم ماتوا وما التقوا به، وأشهر هؤلاء شاعرنا المتنبي الذي قال في رثاء جدته: «طلبت لها حظا ففاتت وفاتني ...» بعدما قال أيضا في شرخ شبابه:
أقل فعالي بله أكثره مجد
وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جد
كما قال أيضا:
هو الجد حتى تفضل العين أختها
وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
لا بد أن تتساءل: وكيف تفضل العين أختها؟ وكيف يكون اليوم سيدا في الأيام؟ اسمع أقل لك؛ يسود اليوم إذا وقع فيه حادث خطير وأصبح عيدا، فيصير الأربعاء مثلا سيد الخميس أفلا يوجد سادة إلا في البشر؟ إن لكل شيء سادة حتى النمل كما روى الجاحظ. أما كيف تفضل العين أختها فهذا يقع كثيرا، كأن يكون الرجل مارا فتصيبه ضربة تذهب بإحدى كريمتيه فتفضل السليمة أختها المصابة، وهذا عمل الحظ عند المتنبي. قضى المتنبي حياته القصيرة يطاعن خيلا من فوارسها الدهر، وهو يرى أن الدهر والحظ متحالفان على قهره، وقد بلغ هذا الاعتقاد الأوج حين قصد مصر وتمثل له شخص كافور، فغضب على الدهر تلك الغضبة الكبرى، رأى الحظ يجعل من العبد كافور سيدا صاحب حول وطول يقهر القاهرة، ويضرب من الكنانة بأسهم، فصرخ:
هل من فتى يورد الهندي هامته
كيما تزول شكوك الناس والتهم؟
لم يشبع المتنبي ما ناله من مجد أدبي فظل يشكو وهذا شأن البشر، فما أقل الذين يرضون بقسمتهم ونصيبهم! كل واحد يرى أنه مظلوم من دنياه، فلا تسمع على الألسنة إلا سب الدهر وابنه الحظ، فكل من يقصر يجعل خطيئته في رقبة الدهر الذي لم يسلمه رسن الحظ ...
إذا قصر أحدنا تأفف وقال: «حظ.» وإذا سعى وراء مطلب وخاب يقول: «حظ.» حتى إذا ضربت له موعدا وفاته لأنه أبطأ وتكاسل يقول: «حظ»! فتأمل يا صاحبي كم في ذمة الدهر والحظ من ضحايا! لقد قل في الناس من رضي بحظه، فالبحتري الذي قطع درب الرزق على ابن الرومي حتى استأثر بجميع الجوائز، لم يقنع بكل ما أصاب من الخلفاء فراح يقول لنا في سينيته المشهورة بعدما شبع مالا واعتبارا:
أتسلى عن الحظوظ وآسى
لمحل من آل ساسان درس
وإذا تركنا البحتري يسقيه ابنه أبو الغوث في أبيض المدائن ليتسلى عن الحظوظ، رأينا خصمه ابن الرومي الشاعر البائس الجوعان العريان يصرخ في كسر بيته إن كان أرجع إليه:
الحظ أعمى ولولا ذاك لم نره
للبحتري بلا عقل ولا أدب
أفلا تحار مثلي في تعليل ما قاله البحتري بعدما سمعت قول معاصره المسكين ...؟ وأعجب من هذا وذاك قول شاعر النيل حافظ إبراهيم في سقوط السلطان عبد الحميد:
لا رعى الله عهدها من جدود
كيف أصبحت يابن عبد المجيد؟
ماذا تراه يطلب حافظ من الحظوظ أن تعمل ليرعى عهدها؟ أيطلب للسلطان عبد الحميد حكما أطول من ثلث قرن يكمن فيه الموت بين شفتيه؟
وشاعر العرب الذي قال:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
كيف استولى عليه اليأس والقنوط في ساعة لم تهضم فيها معدته ما أكل؟ حتى راح يجتر فكرته الكبرى وقال:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الحظ والفهما
أشهد أن المتنبي على محبتي له قد ضل هنا، وإذا صدقناه أن الحظ والفهم لا يجتمعان احتقرنا النبوغ في جميع ميادين الحياة، كان هدف المتنبي المال والحكم ولأجلهما سب الدهر وغضب على الحظ، وهو لو لم يدرك ما تمنى ولم تجر الرياح بما لا تشتهي السفن كما قال لكان أتعس الناس حظا وما كان فاز بهذا الخلود، لقد كان الحظ في خدمة المتنبي، والمتنبي لا يدري، وهكذا كان يشقى في النعيم بعقله كما قال.
والذي يتراءى لي من حديث البشر عن الحظ هو أنهم لا يعنون إلا المادة، فما سمعناهم قالوا عن رجل كبير العقل وافر العلم أنه صاحب حظ إذا لم يكن في يده المال، فالإنسان في عرفهم لا يكون محظوظا ما لم يحصل على المال من أية الطرق كانت، فكأن العقل لا قيمة له في نظرهم. إذا أثرى واحد كان عند هؤلاء من الذين خدمهم الحظ، أما كيف أثرى ومن أين، فهذا لا وزن له ولا اعتبار، يقولون لك: «حظ»! فاسرق وانهب ولا ترد يدك عما تصل إليه ليسموك صاحب حظ، فهم لا يفكرون قط بما قاله عاشق الحظ:
ولا أقيم على مال أذل به
ولا ألذ بما عرضي به درن
وبعد، فلماذا كثر ذكر الحظ في أدبنا وخصوصا الشعر منه؟ ما وجدت لذلك سببا غير تواكل شعرائنا وأدبائنا حتى ملئوا شعرهم أنينا وطنينا، والذي يظهر لي أننا نحن جميعا اتكاليون ننتظر أن يأتينا الرغيف إلى البيت ثم لا نكلف أنفسنا غير أكله ...
قلت في نفسي: لعل الشعر الشرقي كله يتحدث عن الحظ تحدث شعرائنا ويعزو إليه الإخفاق في الحياة، فرحت أنظر في كلام شعراء التوراة فما رأيت كلمة الحظ وردت فيها - على ضخامتها - إلا أربع مرات:
واحدة عن أيوب: «وفوق الظهيرة يقوم حظك»، وأخرى في سفر الأمثال: «عندي الغنى والكرامة قنية فاخرة وحظ»، وثالثة في سفر الأمثال أيضا: «التابع للعدل والرحمة يجد حياة، حظا وكرامة»، ورابعة في شعر أشعيا: «هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا.»
أما كلمة نصيب كما يفهمها الناس اليوم - أي بمعنى الحظ - فلم ترد قط عندهم، وهذا ما جعلني أعتقد أننا نحن وحدنا نؤمن بالحظ هذا الإيمان المطلق فنعزو إليه كل توفيق وكل إخفاق.
ولا تنس تكالبنا على حطام الدنيا فهو الذي يجعلنا نسمي النذل صاحب حظ إذا وقع على المال الحرام ولم يعف عنه، لست من أصحاب المروءة إذا أكلت مال السحت، وأنت أتعس الناس إذا اؤتمنت وخنت، فنعم الحظ حظك إذا كان ما أصبته حلالا زلالا! وما أتعس جدك إذا فرحت بلقطة وقعت في يدك فالتهمتها وعددت ذلك حظا وحللتها، بينما ضميرك يصرخ: ردها ...!
وبعد، فأنا لست ممن يؤمنون بالحظ، لا أومن إلا بكلمة واحدة، أومن بليس للإنسان إلا ما سعى.
أنت تؤمن بالحظ وكأني بك تومئ برأسك: نعم، إذن الدنيا في رأيك قسمة ونصيب، وعلى هذا اتفقنا يا صاحب، فأرجو منك ألا تقوم من فراشك غدا، ابق نائما، ومتى غابت الشمس نتحاسب، أريد أن أعرف أي حظ ساق إليك الرزق إلى البيت، وماذا سقط عليك من السماء من من وسلوى، وماذا أطلعت لك الأرض من خيرات ... طبعا لا شيء، إذن الإيمان بالحظ خرافة كبيرة، وليس الرزق مطرا تجود به السماء.
الرزق يا صاحبي كامن بين مخالب المصاعب، ولا ينتزعه من بين براثنها إلا كل جبار، فإذا كنت تشكو قلة فداو نفسك بالكد والجد، إياك أن تقف! فالوقوف موت، اعمل ولا تيأس.
لا تصدق ذلك الخامل ابن الرومي فلو كان سعى كان رعى، ولكن ابن الرومي يريد العصفور محلوقا منتوفا مشويا ملفوفا برغيف، ولولا القليل لالتمس من يمضغه له، وما هكذا تكون الرجال.
فبحياتك إذا كنت ذا أولاد لا تذكر الحظ على مسامعهم لئلا تربي شبابا فاترين مائعين يقصرون في أول العقبة، خبرهم عن الذين خابوا في الحياة وأبوا أن يتراجعوا، حدثهم عن الذين سقطوا في الميدان مرات ثم نهضوا وجروا وظلوا يقعون ويقومون حتى بلغوا الغاية.
وإذا حاجوك في أناس يطعن في حظهم، فقل لهم: «ليس هؤلاء في الحساب، ولا نريد أن نكون منهم.»
العام الجديد
تعودنا أن نودع ونستقبل كل رائح وآت حتى من الأعوام، ولكتابنا وشعرائنا بدائع وطرائف في هذا الموضوع، فالذاهب وخصوصا من السنين حبيب قلب ابن آدم، إنه يرى الخير كله في القديم على إطلاقه وإن لم يكن شيئا مذكورا.
على ألسنتنا يدور الترحم على ما فات، وفي أعيننا تحلو الذكريات، وما أرانا نحن في شيخوختنا إلا في قوة فارقتنا في منتصف طريق العمر، وآمال ضيعناها على درب الأبد، فكأنما استقبالنا لعامنا الجديد بهذه اللهفة دليل على أننا ما كنا نصدق أننا نبلغ هذه المحطة.
سوف لا أنشر شراع الخيال، ولا أقرع طبول الفصاحة في موكب استقبال العام الجديد، فلا تهليل ولا ترحيب، ولا تمنيات ولا آمال. إن عجلة الزمن لا تنتظر زجري لتسير، ولا إيماءتي لتقف، فتهليلي لها لا يقدم ولا يؤخر، فالذي فات فات، وما هو آت آت.
إن تمنياتي لا توازي ثقل حبة خردل في ميزان القدر، فلماذا أتعب نفسي لأحشو أذهانكم بتعابير فارغة لا تنفعني ولا تنفعكم مقدار جناح بعوضة؟
إن عبارة «كل عام وأنتم بخير» على صغرها وبساطتها لهي أحب وأغنى دعاء في هذا المقام، على شرط أن يكون للبؤساء والمساكين شيء من الخير الذي يتمناه الشبعان لأخيه المكتفي.
من عادة التجار أن يرصدوا حساباتهم في آخر كل عام، ويعدوا للعام الجديد دفاتر بيضاء تحمل في أولها رصيد العام الماضي من مكسب وخسارة، فينظر التاجر إلى ال «يكون» إما بعين مفتوحة وإما بقلب مكسور.
إننا في زمن انحصرت فيه كل القيم بل المثل العليا بالصناديق الحديدية، فإذا كان الصندوق متخما من كثر ما زلع وبلع فصاحبه هو ذاك الرجل، وإذا كان الصندوق غير مبشوم أحس صاحبه أنه دون جاره العائم في بحر من الثروة بعيد القرار.
حنانيك يا أخي! لا تنم على وجهك حنقا وسخطا لأن مبلغا من ميزانيتك مفقود، إن الله سيخلف عليك إن كنت أحسنت به إلى المساكين ونسيت أن تقيده، لا تدقق في دفتر الصندوق بهذه الشدة والصرامة لتعرف أين ذهب ذلك القرش، أرجوك يا سيدي، عفوا أرجوك يا سيد الصندوق وأتضرع إليك لكي تعيد النظر في دفتر حساباتك لترى فيه مقدار أرقام الإحسان وعمل الخير وخدمة الإنسانية، أنسيت يا أخي أنك إنسان؟
مهلا لا تزرع الدنيا أملا، ورفقا! لا تعد الخطط الجهنمية لاقتناص القرش، فأنت في التقدير والله في التدبير.
فبدلا من أن تستقبل عامك الجديد بالدف والعود والمزمار، وتنفق على السهرات الصارخة ألوفا، اخل بنفسك هنيهة وارفع وجهك إلى فوق ولو في السنة مرة، نسيت أن لك نفسا؟ أتظل دائما تفتش في الأرض عن حطامها؟ بربك قل لي متى تشبع؟
عند النصارى شيء يقال له «فحص الضمير»، وهذا ما يعمله المسيحي الممارس كل ليلة؛ يستعرض حسنات النهار وسيئاته، وبعد أن يقصد إصلاح نفسه في الغد ينام مستريحا. وقد سمعنا الحجاج - على قسوة قلبه - يقول في إحدى خطبه: «امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه.» فهل فعلت هذا؟ هل ودعت عامك الذي ينسلخ اليوم بفحص الضمير إن كنت مسيحيا؟ وهل حاسبت نفسك إن كنت مسلما لترى ما أحسنت؟ معاذ الله أن أسيء الظن بك وأقول إنه لا يعنيك إلا أن تعرف مقدار ما جمعت! ومعاذ الله أن أقول إن دفترك ليس فيه للفقير باب «إلى»!
قل لي ماذا أعددت للإنفاق الليلة على الطاولة الخضراء؟ بل ماذا أرصدت لزوجتك؟ ألا تستحي يا أخي أن تلعب وأولادك على طاولة واحدة بحجة كشف البخت؟ أتصدق الورق الكذاب؟ ألا تدري أن صغار الأمور تؤدي إلى كبارها، فكيف تدفع ولدك إلى هاوية اللعب؟ قل لي: كم ستكون تكاليف مأدبتك اليوم؟ بحياتك لا تكذب.
هل خرج من كيسك ثمن رغيف للفقير؟ هل فكرت بإعطاء شيء من ثيابك وأحذيتك العتيقة إلى الحفاة من إخوانك الآدميين يا آدمي؟
كم دفعت بمناسبة هذا العام ثمن لعب وهدايا؟ وكم قطعت من الثياب الأنيقة لزوجتك وبناتك وبنيك في هذا العيد؟ ترى من هو أحوج إليها؛ أأولادك وأحفادك وخزائنهم ملأى بها، أم ابن جارك الحافي العريان؟ إنه محتاج إلى رغيف ليفك ريقه ويسند قلبه، وإلى قطعة من القماش الرخيص يستر بها عورته.
وكلب زوجتك - جل شأنك وشأنها - ما ضره لو عودته أكل الخبز بدلا من البسكوت، وأكل فضلات المطبخ بدلا من لحم الضأن، ثم أعطيت فضل ما بينهما فقيرا ملهوفا يأكل الخبز بعينيه ولا يلمسه بأصبعه؟
الناس اليوم يلجئون إلى التقنين الصارم، فلماذا لا تعود - ولو كلابك - على هذا وتحسن بما توفره إلى أخيك الإنسان؟ أنت غني من فضل الله وكدك واجتهادك، فلماذا لا تزكي مالك وتزين غناك بالإحسان؟
إن من طالت يده بالمواهب تمتد إليه ألسنة المطالب، وأنت تعترف ولا شك بنعمة الله عليك فلماذا لا تقضي حقوق المروة وتفي بديونها عليك؟ إن البيت الذي لا يخرج منه شيء في سبيل الله لا بد من أن تقفل أبوابه إما عاجلا وإما آجلا.
الثمر يستحلى في أوانه، والشيء يحسن في إبانه، وهذا وقت الإحسان يا صديق الدينار، لا تقس قلبك فيقسو قلب الله عليك، فهو حين أنعم عليك كأنه اختارك دون غيرك قيما على البؤساء والمساكين، فإن كنت لم تقم بهذا الواجب بعد فعجل وقم به غدا وخير البر عاجله.
إذا كانت محاسبة النفس واجبة علينا كل ليلة فكيف بها حين يموت عام ويولد عام؟ أفما يجب أن نولد نحن معه؟ وكما نعمل ميزانية تجاراتنا يجب أن نعمل ميزانية حسناتنا، لنرى ما علينا وما لنا عند الإنسانية.
أرأيت في عمرك ودهرك حيوانا يشاركه أحد في طعامه؟ فكيف أكون حيوانا بعدما شرفني الله فخلقني إنسانا؟
وهناك محاسبات كثيرة غير هذه، ولا بد من هذه المحاسبات لجميع طبقات البشر؛ من السيد الرفيع إلى الخادم الوضيع وما بينهما من خلق الله، فكل منهم مسئول عن عمله.
الحاكم يجب أن يحاسب نفسه ليرى كيف ساس رعيته فيحسن إن كان ظلم وأساء، ويحسن أكثر إن كان أحسن، فمجال الإحسان رحب واسع.
إن هذا اليوم لهو يوم الحساب الشديد لتقويم كل اعوجاج فينا، ليس هو يوم قمار وشرب، ولا يوم أكل مما رزقنا الله من الطيبات دون أن نفكر بالآخرين، أمرنا الله أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأمرنا أيضا بالزكاة والإحسان، فهل تعمل يا صاحبي بواحدة وتترك الثانية؟
فلو خففنا من هذا البطر ولو قليلا لننفق تكاليفه على المحرومين لأمنا شر العواقب، إن الحياة مراحل وإذا حمدنا الله على قطعنا إحداها فلنقدم مع الحمد قربانا من الإحسان، ليأخذ الله بيدنا ونصل آمنين إلى الواحة الكبرى، إلى بيت الجميع.
هناك ينعدم الفقر الذي هو صوت صارخ يطلب الانتقام من ثروتك، اخمد هذا الصوت بإحسانك وترقب عاما جديدا يكون لك فيه إحسان جديد.
ليتك تتعود العطاء! جربه تنس لذة الأخذ، إنه أسمى وأرفع، واليد العليا خير من اليد السفلى، والسلام عليك إن كنت محسنا، وإلا فسلامي يرجع إلي لأنك لا تستحقه.
عداوة المهنة
ويسميها العوام عداوة «الكار»، وشعارهم فيها: «على إزميلك أن ينحت دائما في صخرة زميلك»، وإذا لم تفعل ذلك فكنز الثروة المرصود لا يظهر على وجهك. هكذا يتوهم من لا يعتقدون أن النجاح حليف الصادق الأمين، فيظلون دائما يثرثرون ويهذرون، يطرون أنفسهم وينادون على ما عندهم ممتدحين، ويطعنون في زملائهم كلما وجدوا مجال القول واسعا، صور تجدها إذا تأملت في جميع أسواق المدن، بل في كل مكان تطؤه رجلك.
أما الصادقون من الناس الواثقون من أنفسهم العاملون بأمانة وإخلاص، فهؤلاء لا يغشون ولا يغدرون، لا في الأسعار ولا في الموازين والأمتار.
عداوة الكار آفة سرى سمها الزعاف في عروق مجتمعنا فأفسد الدم وقرض اللحم ونخر العظم، وهي العصا التي توضع بين أضلاع الدواليب فتقف لا تكر ولا تفر، قد استفحل شرها بيننا وطغى فثقلت وطأتها على مجتمعنا حتى كادت تخنق الصناعة وتسحق رأس التجارة، وتقعد كل نهضة وتثبط همم رجالها.
فالصانع عندنا مهما سمت أو انحطت مهنته يطعن في رصيفه وزميله، وتقوم بينهما قيامة البغض وتسود الشحناء حتى تتقطع بينهما حبال المواصلة، فإذا دخلت مخزن تاجر تسوم بضاعته قضيت عنده ساعة يسمعك فيها أولا خطبة العرش التي تدور حول خامه وجوخه وشيته وعنبر كيسه. وإذا قلت له في معرض الكلام: عند جارك مثل هذا وبثمن أقل، احمر واصفر وازور وقدحت عيناه شررا وراح يكلمك بفم يندلق فكه التحتاني كأنه باب عتيق مهرهر، ثم يزعم لك أن بضاعته نازلة من السماء، وأنها لا توجد عند غيره، وأن بضاعة جاره مغشوشة مقلدة. وإذا طغاك الشيطان واجترأت على القول له أن لا فرق بين بضاعته وبضاعة رفيقه سوى أن تلك رخيصة الثمن؛ رمى جاره المنافق بقذائف الطعن والشتم وسب عرضه ودينه، وأخذ يخترع الأكاذيب زاعما أنه غش أمس فلانة، وقبلها خدع السيدة الفلانية، ومنذ ساعة جاءه فلان وهو يحلف ألف يمين أنه لا يدخل محل ذلك الغشاش والخداع الذي لا يقتني إلا أردأ أصناف البضاعة، ثم يقول: أما أنا فلا يدخل مخزني إلا أحسن البضائع وأجودها وخير الناس وأكرمهم.
وأخيرا يرمي قدامك دفتره ويقلبه وشفاهه ترقص حقدا وغيظا، ثم يقول لك: انظر هذا اسم من؟ تفضل اقرأ بعينك ألا تحسن القراءة والكتابة؟ هذا اسم الشيخ الفلاني أو الأمير الفلاني أو الوزير الخطير، وكلهم - والحمد لله على هذه النعمة - من زبائن المحل، ثم يقلب صفحة أخرى قائلا: وهذا تعرف من هو؟ هذا وزير الاقتصاد، وهذا وزير العدلية، أعرفت الآن من هم زبائني؟ ثم يقلب صفحات دفتره بنزق ليقول لك بعد تنقيب وتقليب: وصلنا، هذا اسم «مدام» فلان وهي لا تشتري ذراع قماش إلا من عندي، تقول دائما للناس: ما رأيت مثل فلان بين التجار؛ سعره محدود وبضاعته فاخرة، ليس في المدينة مثله، هذا لو كان في باريس أو لندن لكان صاحب ملايين، ولكن الناس في بلادنا لا يعرفون قيمة الأوادم.
ثم يتنفس الصعداء ويستريح قليلا ليستأنف ما بدأه من جهاد، ويقول: بحياتك لا تذكر جاري إذا شرفتنا ثاني مرة، فهذي إهانة لي وللتجارة، حرام أن تقابل بيننا فما يدخل دكان جاري غير فقراء الحال.
وإذا رأى أنك لم تخدع بتلك الفصاحة والبلاغة لجأ إلى الأيمان المغلظة، فأقسم لك بنبيك إن كان يعرف ملتك، وإلا فهو يقسم بهم ثلاثتهم متكلا على الله داعيا إياك إلى ذلك بقوله: «توكل على الله وغمض عينيك.»
ولا تخرج من باب دكانه حتى ترى جاره واقفا لك بالمرصاد، إنه يأبى إلا أن تشرف محله، يتمسك بأذيالك كأنك غريمه وله عندك دين، حتى إذا ما سايرته ودخلت أقسم لك بالله وملائكته وعرشه وكرسيه أن سيبيعك ما تريد برأس المال فقط نكاية بجاره الأناني الملعون الذي يريد أن يستأثر بكل الناس ويقطع لقمة جيرانه.
إن الأسطوانة عينها تدار أمامك، وعليك أن تسمعها إما مجاملة وإما غصبا عن رقبتك، فتتحير في أمرك ولا تدري من تصدق.
وأخيرا تعزم على أن تدخل مخزن تاجر يحترم نفسه ويعلم أن من غربل الناس نخلوه، فيبيعك إن شئت، ولا يكذب ولا يذم؛ لأنه يعلم أن هذا الكيل يرد كيلين.
فمن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
هذه خطوط من صور بعض التجار، أما هذا المعرض - معرض عداوة المهنة - فلا حصر لما فيه من تماثيل وصور؛ لأن هذه الآفة لا تنحصر في منطقة واحدة من مناطق الحياة، بل تتعدى الأسواق إلى العلماء والأدباء، فالعالم إن رأى الناس ينظرون إلى زميله نظرة إكبار وتقدير، أو رددوا ذكره مع الثناء أو استحسنوا شيئا من آثاره الأدبية ينقبض صدره ويكفهر وجهه، ولا يخفف من آلامه المبرحة إلا الطعن والتنديد، فيقف للناس بالمرصاد منتظرا الساعة التي ينفسح له فيها المجال ليشبع جوع نفسه الصغيرة.
ومن يجل في شوارع مدننا الكبيرة ير أن هذه العداوة قابضة على القلوب الضعيفة، جاثمة فوق الصدور، والأكثرون منا يخضعون لحكمها وينقادون إليها، حتى ندرت الصداقة بين اثنين يعملان عملا واحدا، فكأن «مكروب» البغض والحسد يختبئ بين ثنايا تلك الأصناف والمهن.
ترى ما يضر أرباب الحرف وأصحاب المتاجر لو دعوا البشر إلى متاجرهم بالتي هي أحسن؟ وما ضرهم لو تنافسوا في إجادة العمل والصدق في المعاملة والتنزه عن الغش والخداع، بدلا من التساب والشتائم؟ ألا يعرفون أن تبادل هذه «العواطف» يسقط الاثنين من عيون الناس؟
إن الصدق وحده هو الرائد الذي يصدق أهله، أما الغدار وإن أدرك نجاحا فالخيبة أمامه، إنه يستطيع أن يغش الناس مرة ومرتين، أما أن يغشهم كل مرة فهذا لا يكون.
إن الأمانة من صفات الناس الذين يثقون بما يعملون، فالمعمل الذي لا يتقن منتوجاته عمره قصير، وإذا كان خطير الشأن وليس له وجدان فإنه يكون خطرا على الناس ويقضي عليهم بالجملة، فمعمل السلاح الذي لا يصفي حديده من الخبث يقضي على كثيرين من البشر من حيث لا يدرون ثم لا يطالب بالدية، ومسمار أو برغي غير متين أو غير محكم الوضع قد يهلك المئات من الناس متى غرقت السفينة التي صنعها ذلك المعمل.
والصيدلي الذي لا يتقن عمل العلاج هو أخو عزرائيل، والطبيب الذي لا يهمه غير قبض الفلوس هو حليف ملك الموت على قبض النفوس، فخير له وللناس إن كان لا يحذق مهنته أن يفتش عن غيرها.
هذه صور مختلفة الملامح والألوان والأشكال نراها كل يوم، بل في كل ساعة إذا أعرناها انتباها، فليت هذه الوجوه تتجمل بدلا من أن تسعى لكسب الرزق بالحيلة، فحبل الكذب قصير.
فأنت يا أيها المعلم غيره ما ينقص من قدرك إذا أثنى الناس على زميلك؟ أهذا يحط من كرامتك؟ أم هو حب الذات قد عقد لسانك؟ إن ثناءك على ابن مهنتك يسوق الثناء إليك عملا بقول المثل: «كما تراني يا جميل أراك.»
فحتام يعمي ظلام الحسد بصائر الأنام ويجرهم إلى المهاوي؟ ومتى تتبدد من سماء عقولهم ظلمات الحسد فيروا العظمة الحقيقية؟
فليت هذه العداوة تستحيل منافسة شريفة فنتسابق ونحن بشر كما تتسابق الخيل! أليس كل منها يسعى إلى الغاية، ولا يهمه أن يعرقل خطى سواه؟ فلنكن جيادا على الأقل إذا لم نشأ أن نكون بشرا.
العالم اليوم يتنافس بالإعلان لا بقذائف اللسان، حكي أن خياطا روسيا شاء أن يعلن عن دكانه فكتب فوق بابه: «أكبر خياط في روسيا.» وقرأ ذلك جار له فشاء أن يفوقه إعلانا فكتب: «أكبر خياط في العالم.» وكان هناك خياط شهير لم يجد ما يقوله ليبز زميليه وهما دونه شهرة، فاستعان بأحد الظرفاء فقال له: «المسألة بسيطة جدا، اكتب: أكبر خياط في هذا السوق.»
هكذا يتنافس الناس عندهم، ولا يتعادون كما نتعادى نحن.
فلا نجاح إلا بالصدق وإتقان العمل، وكما أن لكل إنسان وجدانا كذلك يكون لكل مهنة وعمل ومصلحة ضمير، ومن خان هذا الضمير ولم يستجب له حين يدعوه يشرف على الخسارة والبوار من حيث لا يدري، فأتقن عملك واصدق تفلح إن شاء الله.
بين الأذن والفم
شكت إلي أذني ثرثرة فمي فقلت لها: عجيبة شكواك! إنه لا يصلني شيء مما تدعين.
ثم تفكرت مليا في ما قالت فوجدتها مصيبة، وأدركت شر المصيبة المضحكة.
سمعت الناس كثيرا ما يقولون «خداع النظر»، وقلما سمعتهم يقولون «خداع السمع»، إني أحسبهم مخطئين فما أقل الذين تخدعهم أعينهم! أما الذين تخدعهم آذانهم فأكثر عددا من الرمل، إن في وفيك شيئين قريبين بعيدين، أتحزر ما هما؟
هما أذناي وأذناك وفمي وفمك، ألا ترى كيف نصبت الأذنان كبوقين على جانبي قمة رأسي ورأسك؟ ألا تراهما ككفتي ميزان، وخصوصا إذا كانتا طويلتين، ننتقل بهما من مجلس إلى مجلس، ومن ناد إلى ساحة، لقد خلقتا ميزانا لأنفسنا أولا، ولكننا لم ننتفع بهذا الميزان؟
وكأنى بك تعترض علي قائلا: أليس للحيوان أذنان وفم؟ فماذا اخترعت بسؤالك هذا؟ - أي نعم يا سيدي، نحن والحيوان وكل من يسعى إلى رزقه في هذا سواء، إنما هناك فرق: الحيوان - أجلك الله - تصدق أذناه جميع ما ينطق به فمه، فلا ينافق متى تكلم بلغته، لا يكذب الحيوان على قانيه إذا كان داجنا، ولا على فريسته متى تهدد وتوعد، إذا كان آبدا. أما أنا وأنت فما أبعد فمنا عن آذاننا! إن أعمالنا تؤكد لمن يسمع أقوالنا أن آذاننا في واد وفمنا في واد، مع أنه ليس بينهما قدر أربع أصابع مسافة.
غريب، عجيب! كيف يصب في هذين القمعين كل ما في الدنيا من كلام؟! كيف تلتقطان كل حرف من حديث النمامين الكذابين والهمازين اللمازين، ثم لا يبلغهما شيء من الفم الذي لا يبعد عنهما إلا قيد كف؟! ...
جعلت الطبيعة الأذنين جارين للفم، بابهما مشرع دائما وأبدا، ومع ذلك تبدو هذه الشقة بعيدة جدا كأنها صحراء مد النهار، نحتاج إلى تليفون لاسلكي لنبلغ أذنينا ما ينطق به فمنا، أليس هذا عجيبا غريبا؟
لقد حان لي أن أقول لك: كيف تقعد يا صاحبي تعجن الناس وتخبزهم، ثم تضع المقلي على النار وتدب بالحطب ثم لا تدري أنك ما تطبخ إلا نفسك؟ فأنت الطابخ والمطبوخ ... وتحسب أن الناس لا يعرفون ما عندك.
أنت مغفل يا صاحبي إذا غرك منهم إصغاؤهم إليك، وأنت أبله إذا ظننت أن كلامك جاز عليهم لأنهم أقبلوا عليك بوجوه تحير فيها ماء الهزء والسخرية، ليتك تعرف يا مغرور ماذا قال أحد الحكماء، قال: «لو درى كل الناس بما يقوله كل الناس عن كل الناس لما خاطب أحد أحدا!»
كم رأيتك ورأيتني قاعدين نتحدث كأننا ذوو سلطان نصدر أحكاما صارمة كأننا شركاء العزة في تدبير الكون، ومن كان يعرفنا ورآنا على تلك الحال يتأكد أننا لا نسمع ما نتكلم به، تقول أنت مثلا: لو كنت ممن ولي الأحكام لعملت كيت وكيت، وفعلت كذا وكذا، بينما أنت تعرف أنك عاجز عن إدارة أهلك، وتدبير شئون بيتك، وتعمير عقارك. وإذا غرتك عينك بالسامعين تقذف حنجرتك رعودا إصلاحية تغص بها الأودية المجاورة، ولكن صداها - ويا للمصيبة - ينبو عن وادييك المتفتحين على جانبي فمك الذي ترمي أواذيه العابرين بالزبد.
زرت رجلا عهد إليه قضاء صغار الحاجات، فابتدأ يصف لي عظيم شأنه وأنا أعرف من هو، ثم استرسل في محاضرة غير قصيرة موضوعها إخلاصه وتفانيه في خدمة الأمة، وحرصه الشديد على قضاء حوائج الناس فورا، فهو لا يريد أن يؤجل عملا، فليس الناس عبيد أبيه ليروحوا ويجيئوا. وفيما هو يصارع أمواج موضوعه المتلاطمة دخل علينا صاحب حاجة فقال له: «مشغول الآن، غدا.» فوجم الرجل كأنه يعتب صامتا، فقال له هو: «غدا، انتهينا.» ودق على ظهره يسترضيه، فما كاد يخرج هذا حتى أطل آخر فسد الباب فقال له فورا: «بعد يومين إن شاء الله.» وجاء ثالث فنهض، وفيما هو يقفل الباب بوجهه قال: «تعال بعد الظهر.»
فقلت وأنا أتهيأ للذهاب: «عرقلنا السير ... أزعجناك، أودعناك.» فأمسك صاحبنا بطرف ثوبي وقال: «اقعد، هذا شغل لا نهاية له، ولولا «بكرة وبعد بكرة» البقية بحياتك، كنا فطسنا من عشرين سنة ...»
لا إخالك نسيت ما كان يقول منذ لحظات ، أفتقول بعد هذا إن أذني صاحبنا قريبتان من فمه؟ أنا لا أصدق ذلك، ولا أصدقك إن خالفتني.
وإذا سمعت أنانيا جشعا يندلع لسانه كالنار، ويتدهور كلامه في أذنيك كما تتدهور مياه الشلال يحدثك عن طهارة النفس واليد، ويتغنى بمحبة القريب والغريب، وأنت تعرف أن قلبه قد من الصوان، يسلخ جلود اليتامى ويهتك ستر الأرامل، ويستحل رغيف المسكين، أفتقول إنه سمع ما قال وإن أذنيه قريبتان من فمه؟
وإذا جمعك سوء البخت بشيخ مهدم تعلم أنه لا يضحك إلا للفلس حراما كان أو حلالا، ثم قعد يصف لك تكالب الناس واقتتالهم على جيف المادة، وأنت تعلم أنه أكلب خلق الله؛ فما عساك تفعل؟ أتنتظره حتى يسد بوزه؟ ما أراك إلا هاما بصفعه لتهشم أنفه وتذهب بما بقي في فمه من أسنان، ومع ذلك أقول لك: اصبر عليه، فلو أردت أن تكنس المجتمع لوجب عليك أن تزرع العامر والغامر من الأرض بما يصلح مكانس لتكسح المدن والقرى. ولكن بحياتك قل لي بكم من آلاف الكيلومترات تقدر مسافة البعد ما بين أذني هذا الوقح وفمه؟!
ما لنا نترك ما يعنينا؟ فلنعد إلى مهنتنا، إذا سمعت معلما يحث تلاميذه على الجد والكد وسهر الليالي والإقبال على الدرس بثغور باسمة ووجوه تقطر نشاطا وأعين وأيد تكاد تلتهم الكتب والأوراق، ثم رأيته في الغد يقبل على عمله كالبغل الكئيب؛ أفتقول إن أذنيه حد فمه؟
وإذا رأيت من انتدب نفسه مختارا لا مكرها ولا مجبرا ليكون للناس معلما ومشيرا، ثم سمعته يحضهم على فضائل تنكر هو لها، ولم يستح ممن ينكرون عليه ما تنكر لأنهم يعرفونه حلة ونسبا؛ أفلا تهم بالدنو منه لتقر في أذنيه هذا المثل: اقعد أعوج واحك مقوما؟
وبعد، فقد تكون سئمت القعود ومجيء الناس إلينا، فقم نتمش، سوف نمشي على المقربة - القادومية - فنقد السوق قدا، انظر هذا الذي كان يوصي الناس بالراكضين خلف الرغيف والإحسان إليهم، فها هو يساور حمالا من أجل نصف قرش سقط من كيسه فوقع في عب العتال.
تبصر تر هناك الذي كان يحدثنا أمس عن المساواة والتواضع، تأمل كيف يهش بعصاه على البؤساء ويطردهم من أمامه كأنهم الذبان الأزرق!
وهذاك اسمعه كيف يساوم رجلا مضطرا في حاجة دفعته إلى بيعها الحاجة القصوى، يريد أن يستغل خصاصته ويغبنه في متاعه كأنه لا يذكر شيئا مما رواه لنا أمس من أحاديث وآيات، نسي الرجل أنه روى لنا البارحة حديثا شريفا، وهو «ارحموا غني قوم افتقر، وعزيز قوم ذل.»
أما هو الذي كان يحضنا أمس على المعروف حتى خلنا أنه يتقاضى عن وعظه أجرا أو أنه من حزب الله؟
وأخيرا ألتفت إلى صاحبي أسأله: ما تقول في هؤلاء؟ فامتعض وأجاب: أتطلب من الناس صمت الأبد؟
قلت: ومن قال ذلك؟ ولكن الكلام يا صاحبي كالنقد الدارج اليوم، إذا لم يدعم بما يقابله من العين فأية قيمة له؟ فمن يرجو أن يتبعه الناس فليؤمن هو أولا بما يقول.
سئل النبي الكريم عن علامات المنافق فقال: «ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.» فالله نسأل أن يقرب ما بين أفواهنا وآذاننا لكيلا ننطق إلا بالحق ولا نتكلم إلا صادقين!
مشاهدات
أقبلت يوما على عملي وكأني منصب عليه انصبابا، فما أفقت من غفلتي هذه حتى أحسست أن الأضلاع تكاد تهبط على الأحشاء، وشعرت بأن نبضات القلب كخيل الطراد لا أستطيع لها عدا، واعتراني سأم لم أجد وسيلة تنقذني منه غير ترك القلم وإطباق الكتاب، فنهضت أتفرج ولم أدر أنني أطبقت الكتاب الصغير لأفتح الكتاب الأعظم، رأيت زهرة حنت رأسها لتسلم الروح، فقدت نضارتها بعدما كانت تسحر النواظر وتنعش العقول، فقادني تداعي الأفكار إلى طور الشباب زهرة الحياة.
لا يفتر ثغر هذه الزهرة في الصباح ليستقبل قطرات الندى حتى تكويه حرارة شمس الواقع القاسية، فيلفح الحر نضارة تلك الزهرة الحالمة فتذوي وتذبل، عراك مستمر وتنازع دائم، الليالي تطارد الأيام والأعوام تدوس الإنسان بقدم لا تبقي عليه ولا تذر.
ومن الزهرة تحول نظري إلى شجرة كانت الناس تقيل في ظلها الوارف وتأكل من ثمارها الدانية ، وهي بثوبها النضير الأوراق والعيون عالقة بها ترجو أن تظفر الأيدي بما تسد به الأفواه والبطون، فتذكرت كيف يلتف الناس حول من يبتسم له الدهر سيدا كان أو مسودا، حتى إذا هبط من القمة إلى الوادي ارفض الناس عنه لا يذكرون ماضيه، ولا ما أغدق عليهم من أياديه.
ثم رأيت قصبة تميل مع الهواء كيفما مال لا تهاب الزوابع ولا يهلع فؤادها من هياج الإعصار، فرأيتها تمثل حياة الناس الذين يتقلبون مع كل ريح ويلبسون لكل ساعة لبوسها، فلا يضيقون ذرعا بحال من الأحوال، يمشون مع التيار مؤثرين السلامة والعافية، وينحنون إلى الأرض حتى تعود العاصفة إلى خدر أمها، لا يعنيهم إلا أن يعيشوا آكلين شاربين ومن الهم خالين.
ومن القصبة تحول نظري إلى السنديانة العنيدة الرابضة على جبين الرابية تهزأ بالرياح وتعبس في وجه الزوابع الهائجة، تلوح بأغصانها كأنها تشير بعناد قائلة: لا أنحني فافعلي ما شئت، تتماسك كلما زمجرت الزوبعة فلا تلين لها ولا تتراخى، وظلت تجاهد حتى سقطت بعض أغصانها، وعاد إليها سكونها وطمأنينتها، ولا تبالي بما فقدت لأنها ثبتت في النضال وخرجت ظافرة، فذكرتني بنضال النفوس الكبيرة من أجل القضايا الخالدة.
ولاحت لي بقعة صغيرة من الأرض لبست ثوبا أرجوانيا من شقائق النعمان، فما دنوت منها حتى كرهتها، وما أكره القلوب السوداء في هذا المجتمع! تلك القلوب التي فيها الحقد والبغض، والتي لا تعرف إلا الانتقام، ولا تنسى سيئة، ودها خب ونفاق، وابتسامها دمل مفتوح ينهار منه القيح والصديد، حناجرها قبور مفتحة وسم الأفاعي تحت شفاهها.
ورأيت كلبا على مزبلة ينهش كل ما وصل إليه فلا يعف عن شيء مهما كان قذرا، فتمثلت ذلك البخيل الذي يفني حياته بجمع الأموال يأكل ولا يطعم، لا يفتح يده لنجدة، ولا يهتز لإسعاف، ولا يحسن إلى فقير، درهمه عفريت في قمقم سليماني، وديناره في حبس الدم، همه أن ينال ولو الخسيس لأن ذلك من طبعه.
ورأيت طائرة تخترق الفضاء مروعة النسور، وما غابت عن نظري وراء الغيوم حتى رأيتها تنقض كالكوكب الذري وتتحطم على صخرة الوادي، فتمثلت الجبابرة الذين يرتفعون ويرتفعون حتى إذا ما انطفأت النار أو نفد البنزين أو طرأ خلل على المحركات هبطوا إلى الحضيض إما أمواتا وإما مهشمين.
ورأيت الأسهم النارية تشق كبد الظلام محلقة صعدا في الجو، ثم لم تلبث أن عادت حيث كانت، فتمثلت ذاك المتكبر الذي يرفع رأسه ويصعد على أجنحه الوهم ويحسب نفسه أنه ارتقى أعلى ذروات المجد، ولكنه مهما شمخ بأنفه فلا بد من أن يسقط ويعفر جبينه بالتراب، ويلوي رأسه كالسهم عند هبوطه.
ورأيت ظلمة الليل الموحشة بعدما كنت مبتهجا بنور القمر، كان يسكب علي نوره الحالم فلما فقدته شعرت شعورا كاملا بقول أبي فراس في بيته المشهور، وعرفت أنه لا بد من هذا وتلك، وأن الحياة لا تطيب على نمط واحد.
وسمعت الجداجد تصر في سنديانة الكنيسة، فتذكرت الثرثارين الذين يتكلمون دائما وأبدا ولكنهم لا يقولون شيئا، وحسبهم أن يقال إنهم جداجد.
وعدت إلى غرفتي فرأيت الفراش يحوم حول السراج، فتمثلت أمامي أولئك الذين يطوفون حول الثروة، يجمعون الأموال ملطخة بدماء القلوب والأكباد، يتحينون كل مورد ويلغون فيه ولكنهم لا يروى لهم غليل، فيموتون وقلوبهم محترقة بنار مطامعهم كما احترق ذاك الفراش الطائش.
ولا أدري كيف تذكرت أخيرا ذلك الطائر الأسطوري عائدا إلى وكره، بعدما جاب الفضاء ولم يقع على قوت لأفراخه، فطعن صدره بمنقاره فغذاهم بدمه، فبدت لي صورة الشهيد الذي يجود بنفسه دفاعا عن أمته حين لا يستطيع أن يفتديها بغير مهجته.
وعدت إلى عملي أهمس في آذان الصحيفة المصغية إلى ما يمدني به ذهني، وإذا بمصباحي ينطفئ، قطعت عاصفة مجنونة مجرى النور فرأيتني في ظلمة دامسة فتذكرت كيف يطفئ القدر سرج الأزمنة من مفكرين ومصلحين فلا ينطفئ مصباح حتى يضاء سراج، ولكن الحيوان الكامن في الإنسان لا يفهم إلا لغة غرائزه فهي التي تصمه وتعميه.
وأخيرا أومأ إلي النوم، فعلمت أننا أخيرا كلنا نائمون، وما أحسن العمل بقول شاعرنا الفحل:
تمتع من سهاد أو رقاد
ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى
سوى معنى انتباهك والمنام
نماذج شتى
في الدنيا أجناس وأنواع وأصناف من المخلوقات، فكأنما الطبيعة فبركة عظمى تقذف منتوجاتها إلى الأسواق بالمئات والألوف، والفرق بينها وبين الفبارك البشرية هو أن هذه تطبع مصنوعاتها على غرار واحد فلا تستطيع أن تميز الواحد من الآخر، أما الطبيعة فلا تتقيد بغير الجنس والنوع، فقلما يتفق الأفراد في الشكل كل الاتفاق ولو كانوا توائم، لا بد من علامة تميز كل فرد من مصنوعاتها، سواء أكان ذلك في الشكل الجسدي أم كان في الشكل العقلي، حتى جاء في الكلام المأثور: «عقول البشر مثل نبات الأرض.»
قد تحرم الطبيعة أحد أفرادها من الهبات العقلية الكبرى، ولكنها في الوقت نفسه تجود عليه بما يغنيه عما يسمونه عبقرية ونبوغا، فكم من عالم كبير وأديب عبقري لا يفهم أساليب الحياة حق الفهم، فيتعثر بأذيال الخيبة عمليا كيفما وأينما توجه، ومن هنا جاء تشكي العبقريين والنوابغ الذين يقصرون في ميدان الواقع، بينما نراهم يحلقون في آفاق النظريات إلى أعلى عليين.
فمن الخير لنا ألا نبني رجاءنا على الكتب، ففائدة الكتب تطلب خارج دفاتها، إن الإفراط في التأدب والتعلم يضعف الرجل ويجعله غير أهل للحياة العملية إذا لم تهبه الطبيعة حنكة وتجاريب، فالتهذيب بالكتب يجعل المرء مبالغا في الانتقاد، جبانا غير واثق بقدرته، رقيق المشاعر لا يتحمل مشاق الحياة ومشاكلها الآلية، وهكذا تحول رقته المتناهية دون الجزم، ويفصل أدبه العالي بينه وبين العمل اليومي.
إن تربية المدارس والكتب تلطف وتدمث، وهي ليست أحيانا إلا تربية أخلاقية يفني المرء في سبيلها طاقة نشاطه وعزيمته، فهذه التربية المثلى إذا اعتمد عليها وحدها تشل القوى العملية؛ لأن المفرط في الدرس بلا تجربة يفقد ذاتيته ويمتلئ دماغه بالنظريات ويبتعد عن الواقع حتى إنه يفقد النشاط العقلي الذي رافقه قبل دخول المدرسة ثم ما لبث أن تلاشى فيها، إن حفظ البرامج التعليمية عن ظهر قلب لا يخلق شخصية صالحة للحياة، ومن ينشأ هكذا يدهش؛ إذ يخرج إلى مدرسة العالم ويجد أنه فقد المقدرة على تفهم الناس والأشياء، يتعجب إذ يرى غلاما فقيرا محروما من تحصيل العلوم يسبقه في ميادين العمل.
إن خريج المدارس العليا يعيش في عالم خيالي ويخال تخاذله قوة، بينما يرى العالم يضحك من نظرياته المثلى التي لا يستطاع تطبيقها، إن تلك النظريات كمسرحية لم تمثل مشاهدها وأدوارها ليرى الناس قيمتها الفنية، نحن في زمان يتطلب رجالا عمليين، وليست معارف غير العمليين من ذوي العقول الكبيرة إلا مواد يستخدمها وينتفع منها أنصاف المتعلمين الذين وهبوا مقدرة الدخول والخروج من أبواب معضلات الدنيا ومشاغلها، إن هؤلاء الذين لا يفهمون إلا المحسوسات يعرفون ماذا تفيدهم النار في أعمالهم، ثم لا يعنيهم بعد ذلك أن يعرفوا كيف ومم تتولد الحرارة، فمن الخير لنا أن نعلم بنينا كيف يستفيدون من طاقة الماء قبل أن نعلمهم أنه مركب من الأكسيجين والهيدروجين.
فإنسان الكهوف حين حك العود على جدار كهفه واكتشف النار واستخدمها في منافعه لم يبحث عن أصلها وفصلها، ولكنه شوى عليها صيده وأكل هنيئا مريئا، ثم قعد يتدفأ عليها بعدما ملأ بطنه واستنار بها حين فقد البدر. إن في الطبيعة نماذج عديدة من البشر تضحكك إذا تأملتها ورأيت كيف تجتمع فيها الأضداد؛ فمن ذكاء حاد إلى جانبه غفلة كأنها البلاهة، فإسحاق نيوتن استطاع أن يدرك سر الخليقة، ولكنه كان يضيق ذرعا بالنهوض عن كرسيه ليفتح الباب لهرته، فقور لها طاقة في أسفل الباب لتدخل منه متى شاءت ثم عمل طاقة أصغر لجروها، ولم يدرك أن الطاقة الواحدة تكفي البسة وجروها.
وبتهوفن الموسيقي العظيم كان لا يعرف أن يقطع كوبونا من سند لديه ليقبض فائدته حين يحتاج إلى المال، فكان يبيع ذاك السند بل ربما باعه بثمن بخس من تويجر يضحك من عبقريته وإن أعجب بما يبدعه من أنغام.
ويحكى عن أحد الكتاب الكبار الألمان أنه عاد مرة إلى بيته وقرع الباب فأطل عليه خادمه من النافذة، ولما لم يقدر أن يعرفه بسبب الظلام الحالك قال له: إن مولاي الأستاذ غائب الآن عن البيت.
فأجابه الكاتب العبقري وهو ذاهل: حسن! قل له سأعود لزيارته في فرصة أخرى! وهكذا نام عبقرينا لا نعرف أين ليلته تلك.
وأحد أساتذتنا البلديين وكان من المتفوقين في علم الرياضيات، رافق مرة زائريه إلى الشارع مودعا، وبعد أن سار معهم مسافة غير قصيرة وقف يترجاهم ألا يزعجوا أنفسهم أكثر بوداعه وسألهم بإلحاح أن يعودوا، ولم يشعر أنه هو الذي يجب أن يعود إلا عندما أفهموه ذلك بالقلم العريض.
وأعرف أيضا أستاذا خرج من صفه وما زال عقله مشغولا بحل معضلة، فرأى في طريقه إلى غرفته كاهنا عريض الأكتاف واقفا يصلي أمام تمثال في ساحة المدرسة، فشرع يخربش أرقاما على ظهره ظانا أنه أمام لوح أسود.
قل منا من لم يسمع بإديسون العظيم، فهذا الرجل الذي أدرك كثيرا من أسرار الطبيعة واستخدمها لرفاهية الإنسان لم يعلم أن البريد ينقل بسرعة كل ما يعوزنا من القارات الأخرى، فلما قيل له ظهر في ألمانيا كتاب جليل عن الكهرباء، قال: «ابعثوا رسولا إلى ألمانيا يجيئني به.»
وصاحبنا الجاحظ النابغة العظيم حصر مثل هذه الغفلة في المعلمين، فكتب دفتر المعلمين المشهور فأضحك الناس ولا يزال يضحكهم منهم، وقد نسي مولانا الجاحظ أن العلماء العظام مثله أغفل من المعلمين أحيانا، وإني لأعجب من الجاحظ العظيم الذي لم يترك شاردة ولا واردة عن غفلة المعلمين إلا دونها في ذلك الدفتر، كيف نسي غفلته هو حين حدثنا أنه نسي اسمه ثلاثة أيام!
إن هذه الغفلة قد تنفع في العلم فينصرف صاحبها النابغة بكليته إلى قضية ما فيحلل ما اعتاص منها، ليأتي رجل وسط ويستغل تلك الموهبة الخارقة.
إن علم هؤلاء لا ينفعهم بنافعة في الحياة، ولكن غيرهم يستفيد من ذكائهم ويستغل علمهم ومعرفتهم، فهم أشبه بالأرض التي تطعم ولا تأكل من ثمارها الشهية، كثيرا ما ترى رجلا يندب أمامك حظه ويرى نفسه فوق رؤسائه، بل يرى أنه أهل لأن يدير أمته ويدير شئونها، ولكن الناس حساد يكرهون أن يسودهم عبقري مثله؛ ولذلك ظل هو حيث هو بينما فلان الذي كان رفيقه في المدرسة وكان دونه في الصف يتمتع اليوم بمركز مرموق، فإلى صاحبنا هذا قل: لقد ظلمتك مدرستك التي عظمت ذكاءك لأنها نظرت إليك من جهة واحدة ونمت فيك موهبة لا تطعمك خبزا ولا تسقيك كأس ماء بارد، نظرت إلى نخروب عامر من دماغك وعميت عما في نخاريبه الأخر من خراب، فجاء حكمها العام فاسدا.
إن كتاب الحياة يقرأ بغير الطريقة التي تقرأ بها الكتب العلمية والفلسفية والأدبية، فلا تتعجبوا إذا رأيتم من لا يعرف الخمس من الطمس يتفوق في ميادين شتى على الشباب الجامعيين الذين قتلوا العلوم الحديثة درسا، تعلموا - مثلا - الاقتصاد السياسي ثم ما عرفوا اقتصدوا ولا ساسوا، وحذقوا مواقع النجوم في قبة الفلك بينما لا يدرون موقعهم على الأرض، وتعلموا سرعة النور وانتشار الضوء ولا يزالون أيضا كالسلحفاة قابعين في مدارجهم لا يعرفون أن العمل غير العلم.
إن الرجل العملي المحنك هو الذي خلق لاستغلال العقول الغنية الرفيعة التي لا تعرف أن تفكر إلا بالقضايا التي تستبد بذكائها، فكم حال انصباب بتهوفن على رائعاته الموسيقية دون تفكيره بخبزه اليومي، فلم يكن لديه أحيانا غير قطعة بسكوت وكأس ماء لغدائه!
حقا إن العبقرية نعمة وكارثة في وقت معا، وما أجمل وأصدق قول أم الإسكندر لابنها: «إني أتمنى لك أصحاب عقول تخدمك، ولا أتمنى لك عقلا تخدم به غيرك.»
أكلة لحوم البشر
فكرت أياما في موضوع أكتبه فما اهتديت إلى واحد يعجبني، ولكن المصادفة كما يقولون خير من الميعاد، فجاءني الموضوع إلى البيت، ففي ليلة جيبها مزرور ونجمها مغموم، وقد أعددت لها كافات الحريري السبعة إلا واحدا، دخل علي رجل ليسهر عندي، فتعجبت كيف قطع مسافة ميلين وأكثر في هاتيك الليلة السوداء، ولكني عظمت أجره وشكرت سعيه. هذا الرجل يطلقون عليه في جوارنا لقب منشار الصقالة، له لسان كمدقة الطبل يضرب به دائما على قفا كل غائب من جيرانه وإخوانه، وبينما كنت أتأهل كل به قلت في نفسي: هذا هو موضوعي.
وقعد قبالتي على موقد يطحر ويزحر مصارعا البرد فتعدل الحمل، وبعد أن فتل شاربيه ورفع بأصبعيه أرنبة أنفه افتتح الحديث بالمقبلات: أخبار خارجية وأخبار محلية وأخبار أطول منها نفسا، ثم عاد إلى الداخل فبدأ على خيرة الله، بعدما ألح صوبي ومد عنقا كعنق السلحفاة، وقال: عندك للسر مطرح؟
قلت كما يقولون: بئر عميق، هات ما عندك.
فقال: منذ أيام كان فلان جارك عندنا فقال عنكم كيت وكيت، فقلت: من كان مثلك يا رجل لا يتطاول إلى من هم أكبر منه، وأنا أعرف أن من تسبه عندنا محسن إليك، فقال: محسن إلي! من قال؟ أنا صاحب الفضل لا هو.
فقلت: يا بو عزيز، الكلام صفة المتكلم.
فصاح: معلوم معلوم معلوم، ولكن أنا يقهرني نكران الجميل.
فقلت: هذا مرضنا يا عمي بو عزيز، كلنا في الهوى سوا.
فقال: الحق معك، هذا مرضنا، والبرهان على ذلك أن فلانا الذي هو من عظام الرقبة ظل يحكي طول النهار ولكن عمك عم، سد بوزه بأجلك الله، فلف ذنبه وراح. وتصديقا لقولك إننا كلنا في الهوى سوا، أمس كان فلان يروي أخبارا وحكايات عن شخص محترم جدا فما احتملت سفاهته، ولو لم يقفوا بيني وبينه كنت خطفت روحه.
فقلت: نشكر الله على أنها انتهت عند هذا الحد ولم ترتكب جناية.
فأجاب وهو مصدق نفسه: وأنا شكرت ربي، ولكن طبعي لا يحتمل.
وحاولت أن أقلب الأسطوانة، ولكن صاحبنا يلذ له هذا النغم فعاد إليه، وأراد أن يوقع بيني وبين صديق حميم أعرف حق المعرفة أنه لي غائبا وحاضرا، فقال: صديقك فلان، آه! الله لا يغرك منه، هذا قال كذا وكذا، فقلت له: عيب علينا أن نشرب من البئر ونرمي فيه حجرا!
وبينا هو في الحديث إذا بصاحبنا الذي وضعه على طاولة التشريح يقرع الباب ويدخل، فقال في سره: يا مسا القرد! ثم نهض أبو عزيز يعانقه حتى كاد يخنقه، وبعد أن جلس أطرق أبو عزيز هنيهة ثم رفع رأسه وحدق إلي بعينيه البيضاوين وقال مشيرا إلى صاحبي: هذا صديق لا يثمن، وهنيئا لمن عنده صاحب مثله، ليت لنا في جيراننا وأهلنا واحدا مثله! الأقارب عقارب كلهم يشتهون لنا الضرر، ويفرحون في قلوبهم حين تصيبنا مصيبة، هل سمعت في عمرك ودهرك أن من نقاسمه اللقمة إذا اعتاز يتمنى أن تكون فقيرا مثله؟! هؤلاء أقاربنا وجيراننا.
فقلت له: ولكن ابن عمك بطرس رجل طيب يا بو عزيز.
فقال: «بلا طيب بلا بلوط، ليس في الحيات صالحات، خبيث قلبه أسود مثل الزفت!»
وهكذا قضى صاحبنا السهرة الطويلة ولم يقف لسانه لحظة، كان ينتقل بسرعة من ظهر إلى ظهر ومن قفا إلى قفا، لا يهدأ كأن محركا يديره. ولما طالت الجلسة نهض صاحبنا الذي أرسله الله لإنقاذي وقال: «تفضل نم عندنا يا بو عزيز.»
فضرب براحته الأرض وقال: «نومتي هنا.»
وما ذكر كلمة النوم حتى نهضت وقلت: «دله على الغرفة يا ...»
وفي الصباح أراد أن يجرش عظام من بقي ممن يعرفهم ونعرفهم فما أفسحت له مجالا، ونويت إذا ما عاد إلى مثلها أن أعمل كما عمل عبد الملك بن مروان؛ قال له رجل: «إني أريد أن أسر إليك شيئا.»
فقال عبد الملك لجلسائه: «إذا شئتم.»
فنهضوا، وأراد الرجل الكلام فقال له عبد الملك: «لا تمدحني فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب، ولا تغتب عندي أحدا.»
فقال الرجل: «يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي بالانصراف؟»
قال له: «إذا شئت.»
لقد أحسن ذلك الخليفة الجبار، فهذه ثلاث خصال قلما يفلح من يتصف بها، وما أكثر انتشارها عندنا! فلا يدير أحدنا ظهره حتى تتناوشه سهام وسنان الألسنة التي لا التئام لجراحها.
فلا تسلوا خناجر الاغتياب لتمزقوا بها أعراض إخوانكم وبني عمكم وجيرانكم، فليس العرض ثوبا يرتق بعد الخزق، ولا غصنا يزداد نموا إذا شذب، إن انتقاصكم من قدر إخوانكم غائبين لا يجعلكم أسياد الحضرة، ليس بالكلام يبلغ المقام، جاء في المثل: «من غربل الناس نخلوه»، فحذار حذار! وتذكروا قول الشاعر:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوئا
بقوم فقل يا عين للناس أعين
فعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
قد استفحل أمر الاغتياب عندنا حتى صار رواية تمثل في كل محضر، إنها لمأساة فاجعة أبطالها نحن رجالا ونساء، وللنساء الباع الطويل على هذا المسرح، وهن الحائزات قصب السبق في هذا الميدان، فلا تسمع بتهمة أو اغتياب تقوم لهما الناس وتقعد إلا كان أبطالها نساء أو أشباه النساء، فمتى اجتمعن - ولا أعني الراقيات المهذبات منهن - فلا تسل عن موضوع حديثهن، فهو أنا وأنت وهو. وأغلب جلوسهن يكون قبالة النوافذ لينظرن الجائي والرائح، استمدادا للوحي والإلهام، فيفصلن لكل رجل ثوبا، ولكل أنثى إذا كانت أجمل منهن فساطين مختلفة الأزياء والألوان ... ثم لا يقفن عند حد من الكلام، ولا تفرغ جعبتهن من السهام، فلو وهب الله خطيبا سرعة خاطرهن وفصاحتهن في مثل هذه المواضيع، لكان يقتل الناس بكلامه ولا ينتهي.
ومن تقصى في البحث عن غايتهن من الاغتياب علم أنها بسيطة، فهن لا يقصدن - غالبا - غير التسلية، وتلك سجية طبعن عليها. أما الرجال فهم أصحاب الغايات، وهم الذين يغتابون تشفيا وانتقاما. وإذا أمعنا النظر عرفنا أن المتاجرين بهذه البضاعة هم الجبناء الذين يطعنون في الظهور لا في الصدور، يكبرون العيوب بنظارة لومهم فيظهر القذى جذعا عريضا، ناهيك بما يخلقون منها، وما أقدرهم على الخلق والإبداع! إنهم يتوسلون بذلك إلى مدح أنفسهم، ولو فطنوا لعرفوا أن طول لسانهم لا يزيد في علو قدرهم شعرة. ولو كانت هذه الآفة في غصن من الأغصان لقطعناه واعتضنا عنه بغيره، ولكنها سوس مندس في قلب الجذع، فلا يفيق الولد ويفهم معنى الكلام حتى يسمع أمه في اجتماعاتها مع الجارات تطلق للسانها العنان في ميدان الطعن بفلان وفلانة، فتنطبع إذ ذاك هذه الصورة على لوح فؤاده، ثم تكبر وتتجسم كلما كبر وشب إلى أن تصبح عادة يصعب استئصالها.
فلنصن ألسنتنا نأمن شرها، وما أصدق المثل العامي القائل: «لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك.»
الصبر مفتاح الفرج
لا شك في أنك تقول حين تقرأ هذا العنوان: عنوان مبتذل.
نعم يا سيدي هذا صحيح، ولكن هذا المفتاح العتيق الذي أكله الصدأ يجب أن يكون في يدك أو في عبك ليلا نهارا، فأنت محتاج إليه في كل ساعة: في السوق، في المنزل، وفي السيارة وعلى الطريق وحيثما تنتقل، وإذا مت - بعد ألف عمر طويل - فأوص الورثة أن لا يستأثروا به بعد، بل فليضعوه تحت مخدتك في التابوت، فلربما احتجت إليه في المطهر أو عند الحوض، وعسى ألا يكون حوضك محلقا كحوض الفرزدق.
الصبر يا أخي سلاح العباقرة في معارك الإبداع والاختراع، فلولا صبرهم وثباتهم ما حق لهم علينا هذا الاحترام، ولا فازوا بهذا التعظيم والإكرام.
هذا في الأمور الجسام، أما في توافه الأمور فيجب أن يكون مفتاح الفرج في زنارك، فحين تصطدم بلئيم فمن يفتح لك الباب لتفر من المأزق غير الصبر؟ إن في الحياة مزالق لا ينجينا من شر عواقبها شيء غير الصبر، فلا تهزأ به إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى.
أما في عظائم الأمور فالصبر أمضى سلاح، قال نابليون: إنما يدرك النصر من هو أشد صبرا وثباتا، أما رأينا دودة القز تقضي أياما لتنسج شرنقتها المحكمة التي تصير فيما بعد زينة للحسان وحلة لصاحب التاج والصولجان؟ أما الدودة الخائرة القوى التي لا تستطيع الثبات حتى تحكم عملها فلا تترك إلا فيلجة رخوة قذرة لا تقبض عليها إلا وفي يدك من نتنها عود.
قال أحد الفلاسفة: «إن النجاح في معظم الأمور يتوقف على أن يعرف الإنسان إلى متى يجب أن يصبر حتى يفوز، فالأعصاب التي لا ترتخي، والعين التي لا تكل، والفكر الذي لا يتشتت هي التي تحرز الغلبة دائما، فلا بد لنا من الصبر حتى ندرك أمانينا. وإذا كنت تنتقل في أعمالك كالشمس من برج الجدي إلى برج الثور، مرددا قول الطغرائي «إن العز في النقل»، فاعلم أنك لن تبرع وتمتاز.»
قال كارليل: «اعرف عملك وثابر عليه ، واعمل فيه كجبار.»
فيا ليت شعري كيف ينجح طالب أي عمل وفن إذا كان يريد التفوق وهو ملول سريع السأم قريب الضجر، لا يثبت في عمله ولا يصبر عليه؟! إن العبقرية تشب بين ليلة وضحاها وتستعجل الأمور قبل أوانها ثم تكل، أما الثبات فإنه يعمل رويدا رويدا ويدرك أخيرا ما يسعى إليه.
كثيرا ما يهولك ما ينتظرك من أعمال فتجبن وتخاف أمام هذه الكثرة فتتردد، وإذا لم ينجدك الصبر خسرت المعركة، وتتراجع وتظل تحوم حول مكتبك حتى يضيع يومك، أما إذا ابتدأت حين تفتكر فإنك ترى نفسك أكبر من عملك، إنك تظل أصغر منه حتى تشرع به؛ ولذلك قالت العوام: «العتبة نصف الطريق.»
قال أحد الكتاب: «إن من يتردد دائما بين عملين لا يدري أيهما يفعل أولا، ومن يعزم ثم يرضى أن يتغير عزمه لأول معارضة يلقاها من صديق له وينتقل من رأي إلى رأي ومن خطة إلى أخرى؛ لا يعمل شيئا عظيما أو مفيدا، فالثبات هو الذي بنى الأهرام وقلعتي بعلبك وتدمر التي زعم النابغة أنها من عمل الجن، وأي جني أعظم من الإنسان إذا صمم وثبت وصبر؟ وهل بغير الصبر والثبات وصل الإنسان إلى القطب الشمالي وتسلق أعلى الجبال؟»
وهؤلاء العلماء الذين يحاولون اليوم فتح السماء فما قولتك فيهم؟ إنهم صابرون ومصرون وسيصلون، فكل ما في هذا الكون من اختراعات وعجائب لم يكن لولا الصبر والثبات، إن المصادفات لم توجد شيئا عظيما كما يخبرنا إديسون، فهو لم يخترع اتفاقا إلا الفونغراف كما قال، أما جميع اختراعاته الأخرى فهي بنت الثبات والصبر والجهاد المستمر.
كتب تيتان حين قدم صورة العشاء السري إلى شارل الخامس:
إنني أقدم إلى جلالتكم صورة العشاء السري بعد أن واصلت العمل فيها كل يوم تقريبا مدة سبع سنوات.
وأبو الفرج الأصبهاني الذي خلده كتابه الأغاني قد صرف في تصنيفه معظم عمره.
ربما قلت لي: «كيف أثبت وأنا بائس؟» فأقول لك: إن الأحوال المعاكسة تولد القوة، والمعاكسة تصيرنا أقدر على المدافعة، والتغلب على عقبة واحدة يزيدنا قوة للتغلب على عقبات عديدة، فكم صبر كولومب وكم صبر غيره من الرجال العظام حتى بلغوا الأماني! أفتريد - وأنت الناشئ - أن تدرك فورا ما أدركه من شابت نواصيهم في طلبه؟! لا تكن رخوا، قل: لا بد لي من أن أصل، ثم واصل سيرك تبلغ المدى، أما إذا قعدت حسيرا تنتظر مركبة إيليا النارية وبساط الريح، فإنك تظل حيث أنت؛ لأنك طلبت المدد من غير نفسك فقصرت كحمار الشيخ في العقبة.
إن الفضل الأكبر في نجاح الرجال العظام يعود إلى صبرهم وثباتهم أولا وإلى مواهبهم الطبيعية ثانيا.
فالعبقرية ترتعش أمام الصبر والكد، والمواهب السامية تلقي سلاحها عند أقدام الاجتهاد العظيم؛ ولذلك قالوا: «العبقرية صبر وثبات ونبوغ.»
ألا يعجبك تلميذ يقصر مثل أناتول فرانس ثم لا ينثني عن دخول الامتحان مرات، ويظل مصرا على ذلك سنوات حتى ينال درجته العلمية؟
لا شك في أن زهير بن أبي سلمى هو الذي جعل الشعر العربي فنا بثباته وصبره على تنقيح قصيدته عاما كاملا، ومثل هذا روي عن ديكنز، سئل مرة أن يقرأ على جمهرة قطعة من روائعه فأجاب إنه لا يتلو قطعة على الناس قبل أن يكرر تلاوتها لنفسه يوميا ستة أشهر.
قال شاعر إيطالي: «إن الصبر هو الشجاعة العظمى التي يمتاز بها المنتصر، وهو الفضيلة الكبرى التي يتسلح بها الرجل المجاهد ضد الحظ.» وقد قال المتنبي:
وإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حم اعتزامي
إن هذا الرجل العظيم يعلمنا دروسا كثيرة مفيدة أهمها الثبات، فهو كالسنديانة الجبارة المنتصبة في وجه العواصف لا تنحني ولا تلين، ألم يقل ويا نعم ما قال:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
فأي مخترع لم تكن عدته الصبر؟ وأي فنان مبدع يستطيع أن يخرج للناس رائعة إذا لم يستعن بالصبر؟ وهل أعظم من اصطبار الأم على أولادها لتقوم ما اعوج من سلوكهم وتخلق منهم رجالا؟ وهل من صبر أعظم من صبر المثال على الحجر ليدب إليه جدولا من ينابيع الحياة؟
والمؤلف المبدع ألا يظل سنوات يكتب ويمزق ويكتب وينقح ليخرج للناس كتابا يقرءونه في بضع ساعات؟ أما بقي مونتسكيو يكتب ويفكر عشرين عاما حتى أخرج كتابه الخالد «روح الشرائع»؟
وكم بات دوستوفسكي وغوركي على مضض! وكم قاسيا من شقاء وآلام! وكم صبرا على الفاقة والمرض حتى أخرجا كتبهما الخالدة!
اسمع يا صاحبي إذا كنت من الفاشلين، أراك كأنك تقول لي: «الحكي هين، والصبر ما الصبر؟ الدنيا حظ.» لا يا عزيزي، لا تعز فشلك إلى سوء بختك، بل انسبه دائما إلى قلة جلدك وانصرافك عن عملك، فعدم ثباتنا هو الذي يحول دون التقائنا بالحظ، فنقصر عن إدراك العظائم، وقد يطرحنا في أبعد مهاوي البؤس واليأس، فلنثبت بوجه المصاعب تندحر هي أمامنا، كما قال شاعرنا:
قد هون الصبر عندي كل نازلة
ولين العزم حد المركب الخشن
مختصر مفيد
يقول العوام: «مختصر مفيد» وهم يعنون بذلك أن يكون كلامهم ضمن حدود البلاغة القائمة على قول الفصحاء: «خير الكلام ما قل ولم يمل.»
إن أكثر الناس يعرفون هذا، ومع ذلك تجد بعضنا إذا صادفك في الشارع يمد من ذراعيه سياجا في طريقك ليوقفك بين زحمة من السيارات وهدير الترام واصطدام المارة بالمناكب والتفاف الساق على الساق، ثم لا يعنيه إلى أين يكون المساق ... يستوقفك ليبدي على قارعة الطريق أشواقه القلبية، ويظهر لك في ذلك المحشر عواطفه الأخوية، ولا يعنيه إن كانت الشمس تكوي العصفور، يبتدرك أولا بالسؤال عن صحتك الغالية: كيف صحة الجناب؟ كيف حال العائلة الكريمة؟ فتجيب، ثم يعيد الكرة: الهمة مليحة إن شاء الله؟
ثم يرجع إلى الصحة يستفسر عنها باهتمام زائد، حتى إذا ما اطمأن إليها توغل في أدغال العيال وشئون البيت وشجونه ليطمئن قلبه المحروق ... ومن أهل البيت لا بد من الانتقال إلى أولاد العم وأولاد الخال، وإذا كان يعرف أحدا من الجيران فلا بد من أن يستطلع أخبار الجميع واحدا واحدا، أليس الكريم من يسأل عن جيرانه؟
وتحاول أن تهرب فلا يدعك، يستمهلك ليفرغ جرابه، وجرابه هاوية هيهات أن يدرك آخرها، وإذا ضاق الحرف معه عاد إلى صحتك الغالية فيسأل عنها، وقد لا ينسى في ذاك المضيق أن يسأل عن كل ما عندك من مال ناطق وصامت، وعليك أن تجيبه على كل سؤال، وإلا فأنت متكبر لا تكلم الناس إلا من فوق. كل هذا وهو ممسك بيدك الكريمة لا يفلتها، بل يظل يعصرها حتى لا يبقي في عنقودها غير العماشيش.
وقد تكون على موعد فتحاول أن تتفلت منه، ولكن من أين لك ذلك وقد علقت في شراكه علوق الذبابة في عش الرتيلاء؟
هذه ضروب العناء التي تصادفها مشيا. أما إذا رمتك الأقدار بزائر يرى من الضرورة أن يقص عليك تاريخ حياته منذ دب وشب واكتهل وشاخ، وما صادف من أهوال وما فعل من فعلات كبار في حياته، فهناك الويل والبلاء فإنه يصل بعض أقاصيصه ببعض لا يقسمها كشهر زاد؛ لأنه يعتقد أن زيارته لك يجب أن تكون حافلة بالأعاجيب السندبادية، فينتقل بك من حكاية إلى حكاية يصلها ببراعة عجيبة، بينما تكون أنت ساهيا صامتا تنتظر النهاية ولا نهاية.
وماذا تقدر أن تعمل؟ هل تتركه في مكتبك أو في بيتك وتودعه على أمل اللقاء؟ أما هو فلا يدعك حتى يشبع، وإذا تحلحل للذهاب وقلت له: اقعد، أناخ عليك بكلكل ليل امرئ القيس.
عدت مرة سيدة ثرثارة، وكنت آنذاك مقيدا بمواقيت معينة لا تستقدم ولا تستأخر، فغاصت حضرتها في بحر الحديث وراحت تصارع غماره، فلا تذهب موجة حتى تجيء واحدة أكبر منها. وظللت أنتظر النهاية وأنظر إلى عقارب الساعة ولا أدري ماذا أصنع، وبماذا أحتال لأخرج من هذا البحر الهائج، فمن قلة الذوق والكياسة أن تودع محدثك وتنصرف وهو في منتصف حديثه. وبينما كنت أنا في التفكير كان الله في التدبير، جاءتها نوبة حادة من السعال فتعذر عليها الكلام، واغتنمت الفرصة وودعت معتذرا: «صار الوقت ...» وخرجت أهرول، كنت لا أزال شابا فقطعت في خمس دقائق مسافة يقتضى لها ربع ساعة، وهكذا لم يفتني قطار المدرسة ونجوت من لوم مديري.
وإذا دخلت دكانا لتشتري حاجة - ولو صغيرة - اضطررت إلى الوقوف ساعة تقضيها في المساومة، ويدق قلبك تسعين دقة، وتروح وتجيء حتى ينزل السعر نصف قيمته إن لم يكن ثلاثة أرباعه، فكأن صاحب ذلك الدكان لا شغل له، وهو ينتظر رجلا يباحثه ويجادله فلا يبيعه شيئا إلا بعد كر وفر في الجدال والنضال، فلو قال صاحبنا هذه الكلمة الفصل أما أراح واستراح؟
وكما في البائعين كذلك في الشارين أناس يعتقدون أن كلمة «السعر محدود» خلطة، أو أنها أحبولة تصطاد بها الزبائن؛ ولذلك يقبل بعضنا على المخازن التي تساوم فيكر فيها ويفر، ويفتح ميدان الكذب من الجانبين والله ينصر من يشاء.
تلك حالات من أحوالنا وعادات من عاداتنا، نحب تكرار الكلام، ونعتقد أنه ضرب من الوفاء والإخلاص والفصاحة واللسن، ولو عدلنا لأقللنا من هذه العبارات المملولة التي هي على حد قول جميل بثينة: «لكل خطاب يا بثين جواب.» فما أجمل الحديث متى كان أخذا وردا، وليس فيه من التكرار الذي يفلق السامع وقائله يظن أنه السحر والدر!
يقول شيشرون أمير المنابر: «الاختصار هو خير الكلام لمن كان عضوا في مجلس الأعيان أو خطيبا في المحافل.» أما أنا فأقول: «الإيجاز أوجب ما يكون في السوق، وفي الطريق إلى مراكز الأعمال، وفي الزيارات في مكاتب الأشغال، فقد يكون الرجل الذي تفجر على رأسه هذه القنابل الشفوية قد جاء متأخرا عن موعده لسبب من الأسباب، فكيف نزيد في طينة تهاونه بلة؟!»
قال أحدهم: «الكلمات كأوراق الأشجار، فحيثما تتلبد يندر أن يكون تحتها ثمر.» إن لوثر المصلح الديني المشهور يرى أن الصلاة الأكثر اختصارا هي الأشد وقعا لديه تعالى.
فلنعتمد الإيجاز في جميع أغراضنا، فإذا كتبنا فلنسر توا إلى غرضنا، فلا نقتل من نكتب إليه بالمقدمات والخاتمات التي كثيرا ما تجيء أشبه بالأذناب. وإذا خطبنا فلنقصر مسافة الكلام، إن الكلام المختصر أفعل في النفوس من الكلام المبسط الممدد، أما جاء في المثل: «شبر من الملي ولا ذراع من المرقوق؟» فلماذا لا نصوب كلامنا كالسهام أو نجعله مندفعا كالشلال ليفعل في النفوس ويؤثر بها؟
كان أحد المشاهير يقول لزائريه: «اختصروا فالوقت ثمين.» إن المحافظة على المواقيت والنشاط في العمل وتعمد الإيجاز، هي كلمات السر في هذه الحياة.
وقد كتب أحد كبار الرجال رقعة وضعها في مكتبه على أعين الناس: «على من يطيل الإقامة عندي أن يساعدني على إتمام عملي.»
أما نحن فنحسب مراكز الأعمال ناديا للتسلية، ونعيب على صاحبه إذا قصر بواجبات الترحيب وجر الحديث إلى أقاصي المسكونة، فليت أصحاب الأعمال يكتبون «الوقت محدود» كما يكتب بعض التجار «السعر محدود»، شرط أن يكون هذا السعر بلا حسم، كما يفعل بعضهم إرضاء للزبائن ...
فإذا كتبت إلى رجل عمل فاختصر ما استطعت إذا كنت تربأ بكتابك ألا يطرح في سلة المهملات، وفي كل حال الإيجاز موهبة نادرة، تأمل الناس تجد أن القليل منهم من يسلم حديثه من عبارة تردد، أو كلمة يقفون عليها فيشجون رأسك بها، فبعد كل جملة - مثلا - يقول لك واحد: فهمت؟ وآخر: فاهم يا سيدي؟ وثالث: نعم، فتسمع منه ألف نعم في حديثه، وما تكون هذه النعم إلا نقم.
قال فنلون: «إن حسن الذوق الخالص يقتضي أن نقول كثيرا في كلمات قليلة.» وحكماء اليونان السبعة كان السبب الأهم في ما حصلوا عليه من شهرة هو إيراد كل منهم جملة واحدة في كلمتين أو ثلاث؛ ولذلك نرى حكمة الشعوب مدرجة في أمثالها المختصرة.
ولساننا العربي يؤثر الإيجاز دائما، وقد أطلق السلف الصالح على الكلمات المختصرة المفيدة اسم «جوامع الكلم» ولذلك قالوا: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.» حتى بالغوا في هذا فقال شاعرهم إن اللبيب من الإشارة يفهم، «وإذا نطقت فلا تكن مكثارا.»
فما بالنا نحن نحمل من نخاطبه أثقالا باهظة في حديثنا ورسائلنا وخطبنا، فإذا وقفنا على منبر لا نتحول عنه حتى تنوء بنا أعواده، وتتثاءب الجدران من حولنا؟ يضج سامعونا متململين، ونحن لا نرى تلك الأفواه تفتح وتغلق أمامنا، فكأن لنا عيونا ولا تبصر وحواس ولا تشعر! ومن هؤلاء الخطباء المصاقع من يهمهم له سامعوه ولا يهم هو بقضب حبله الطويل، فكأنه جراح لا يدع ضحيته مهما تألمت وتوجعت! فالله نسأل أن ينجي المسامع من كلام يقع عليها كالمقارع!
المطالعة غذاء الموهبة
كما يحتاج جسدك إلى مواد مختلفة ليتغذى وينمو، كذلك يحتاج عقلك إلى غذاء ينميه، وما المناهج المدرسية إلا خطوط ومعالم للطريق التي يجب أن تسير عليها لتحسن المطالعة وتستفيد منها فائدة كاملة غير منقوصة، وكما تتعرف إلى أشخاص كثيرين في حياتك العملية فإنك في قراءتك الكتب القيمة تتعرف بأصحابها، فمنهم من يصير لك صديقا حميما يمضك الابتعاد عنه، ومنهم من لا ترغب فيما بعد أن ترى له صورة وجه. فالكتب، وقد كفانا وصفها أبو الأدب العربي أستاذنا الجاحظ، هي الأصدقاء الذين يخلصون لنا النصح، ويعطوننا كنوز المعرفة بسخاء لا نظير له.
وقد اختلف كبار الأدباء في وصف القراءة، فمنهم من عدها الرذيلة التي لا عقاب عليها، وأكثرهم قالوا إنها التحدث إلى أشرف أهل القرون الخالية. إن الرأيين لعلى صواب، فالقراءة ككل الأشياء ذات وجهين مختلفين، فالقنبلة الذرية تستعمل للإبادة فتفني بالجملة، وهي لو سيرت في سبيل النفع لأتت بأجزل الخيرات وأهمها.
فمتى استعملت القراءة للهو والتخدير والتواري من وجه العمل فهي رذيلة دون شك، فمن يقرأ لأنه يحب أن يقرأ ليتناسى الأعمال وهموم الحياة فهذا لا تفيده قراءته، ومثل هذا إذا فاته الكتاب المفيد تناول جريدة صدرت منذ أشهر وأخذ يقطع أنهارها، تارة يأتي النهر من قبل وحينا من دبر فهو لا يعنيه إلا أن يقرأ.
وهناك قارئ آخر هو من شغف بالمطالعة ووجد فيها متعة عظمى، وهذا خير من الذي تقدم وصفه؛ لأنه يتوخى الاستفادة جهده، فيقابل ويعلل ويحلل ويستخرج العبر.
وهناك قارئ ثالث وهو الممتهن - وأعني به الطالب - فهذا يبتغي من قراءته معلومات معينة لا بد له منها لإتمام تكوينه العقلي، فهو كحصان العربة يسير توا على طريقه المعبدة - أي المنهاج - ولا يستطيع التحول عنها، وإن خرج عنها يمينا أو شمالا تدهورت عجلته، ولم تصل سالمة إلى ساحة الامتحان حيث تلقي أثقالها . فإن كنت أيها القارئ طالبا فعليك أن تقرأ والقلم بيدك والدفتر عن يمينك، وتلخص للمراجعة حين تأتي ساعة الامتحان الرهيبة.
أما إذا كنت مؤلفا فإنك لا تحتاج إلى إرشاد؛ لأن لكل مؤلف طريقته. وعلى كل فلا غنى لأحد عن القلم والورق مهما كانت ذاكرته حادة جبارة. إن للقراءة كغيرها من الأعمال الأخرى قواعد لا بد من اتباعها، فعلينا أولا أن نقرأ الكتاب أكثر من مرة، وقراءة غير سطحية؛ لأن محاسن الأدب كالجمال تبدو لك وتزداد كلما ازددت تأملا، كما قال أبو نواس في وجه أحبه:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
وعلينا أن نؤثر الفصول أو الكتب أو الأبحاث الجيدة على غيرها، سواء أكانت لكتاب معاصرين أو قدماء.
ليس في الأدب قديم وجديد، بل فيه ممتع وطريف، فكم من قديم ينبض بالحياة! وكم من جديد مات ساعة خلق!
واعلم يا صاحبي أنك لا تستطيع أن تقرأ كل كتاب، فاختر - وخصوصا في الكهولة - أنفع الكتب وأمتعها. إن مشاهير الأدباء والعلماء والفلاسفة معروفون، ومع ذلك ترى من يفضل هذا على ذاك، والأذواق والمشارب مختلفة فاختر لنفسك ما يحلو.
قد يقول لك واحد: أعظم الكتاب فلان فلا تطيب لي غير مطالعته، فترجع أنت إليه فتجد أن كاتبك المحبوب هو غيره، اتبع إذن هواك إن كنت عارفا وصاحب ذوق سليم، وحذار أن تنخدع كغيرك! فأكثر الناس يظنون أنهم يقرءون حيث اتفق لهم ذلك، لا تصدق هؤلاء، القراءة المنتجة تحتاج إلى خلوة هادئة كالتآليف، أما إذا قرأت في كل مكان ففائدتك من قراءتك ضئيلة جدا.
أهب نفسك لتستطيع قراءة أسمى الكتب وأفضلها، وهذا لا يكون إلا بالتدرج، حتى إذا تعودت مجالسة هذه الفئة من البشر تصبح في قابل مستطيعا أن تفهم حديث الكبار منهم؛ لأن الفكرة الإنسانية تمر عندهم جميعا، وكل يعبر عنها بما أوتي من بلاغة.
وهناك مطالعة ضارة وكتبها معروفة، فهذه أحذرك منها أولا، وإذا كنت أحذرك أنت منها فكيف بأولادك ذكورا وإناثا؟
اسهر على أولادك واعرف بطريق غير مباشرة ما يقرءون ، فإن كانوا يؤثرون هذه الكتب فجرب بدهائك أن تنفرهم منها، إياك والعنف! فإنه يزيدهم رغبة فيها وإقبالا عليها، إن هذه الكتب التي تؤجج العواطف تلقي الشباب في مهاوي الرذيلة، فاسهر على أولادك.
لا تقل إن ابني راغب جدا في القراءة لا يفلت الكتاب من يده، إلا بعد أن تعرف ما يقرأ، قد يكون يقرأ ما حذرتك منه، وليس هذا مما يفرح قلوبنا نحن الآباء.
وبالاختصار إن القراءة باب المعرفة، وعلينا أن نحسن الدخول من هذا الباب لنستفيد، وما دور الكتب إلا مطاعم كبرى تقدم لك الغذاء المري النافع بالمجان، فلا تحرمها من زياراتك ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإذا كنت من الذين لا يطالعون فاعلم أنك كما قال أبو نواس: «أخو الحب لا يموت ولا يحيا.»
حارب على جبهة واحدة
الرائج اليوم في الحياة المعاشية هو أن ينصرف الإنسان إلى شيء واحد دون سواه فيختص به ويسعى إلى التفرد به، تقرأ هنا وهناك وهنالك لافتات كتب عليها: فلان الفلاني إخصائي بكذا، وتقرأ فوق أبواب المخازن: نبيع كذا. وفي الغرب رجال علم اختصوا بفرع من العلوم لم يتعاطوا سواه، وكذلك في الأدب فإن بعض مشاهير الأدباء العالميين يصرفون العمر كله في درس موضوع ما.
ما هي النملة؟ وأية فائدة جلى يرجوها الباحثون من درس طبائعها ومراقبة حركاتها؟ ومع ذلك نجد علماء كبارا وقفوا عمرهم عليها وكتبوا المجلدات الضخمة عن هذا الكائن الحقير. وما أظن هذه الاختراعات الجليلة التي دفعت الإنسانية خطوات كبرى في سبيل التمدن والحضارة إلا بنت الاختصاص، فعنه وحده أتت هذه العظائم التي حكمت الإنسان في رقاب العناصر، فقيدها بسلاسل العلم وسيرها في ركابه.
فالحكمة كل الحكمة في الحياة هي أن نحصر قوانا في منطقة صغيرة؛ لأننا لا نستطيع أن نبحث في كل فن ومطلب، ولا أن نتاجر في جميع السلع، إن الضرر كل الضرر هو في تفريق قوانا حتى نضعف فنموت ولا نؤدي عملا على حقه.
فمن يتطلب في حياته شيئا واحدا لا يتعداه إلى سواه يقدر أن ينجزه قبل أن ينقطع حبل حياته، وأما من يطلب كل شيء فلا يحصد من الآمال التي يزرعها هنا وهناك إلا حسرات عميقة.
فالذي يقضي به الوقت الحاضر هو أن يعمل الإنسان عملا واحدا بملء قواه، لا أن يتحول إلى أعمال عديدة فيعملها كيفما اتفق له عملها أي بدون إتقان.
كنا فيما مضى نجد في حانوت ما أو مخزن واحد جميع ما نحتاج إليه ... أما في هذا العصر فقد اختص كل مخزن ببضاعة، وكل سوق بأصناف دون سواها، لا يعني من يتاجر بها إلا التجويد وانتقاء الأفضل.
كان الطبيب فيما مضى يعالج المرضى بالجملة، يكتفي بجس النبض والإنصات إلى دقات القلب، ثم يصف الدواء والله الشافي من كل داء ... أما في هذا الزمن فأصبح لكل عضو طبيب وإلى جانبه من يفحص له كل مادة؛ ولهذا قل الموت وطالت الأعمار وتدارك الناس الخطر قبل استفحاله.
كل هذا بفضل الاختصاص الذي عم كل شيء في هذا الكون حتى لم يبق سبيل إلى النجاح بدونه، فإذا أردت أن تفوز في معركة فهيئ لها سلاحا ماضيا من الاختصاص.
أما من يتبع الخطط القديمة كأن يكون نجارا وحدادا وخياطا وطيانا وبناء، فهو لا يجيد عملا من هذه الأعمال.
أعرف كاهنا كان ثاقب العقل وقد اشتهر بحدة الذهن وسرعة الفهم، كان خطاطا ومصورا ودهانا وعالما وكاتبا وشاعرا يتكلم ستة ألسن وما أكل بواحد منها خبزا، لم يتقن عملا من أعماله، ولا لغة من اللغات التي ألم بها، فكان من المصورين الدون يرسم أشباحا، وقد قال له أحدهم مرة: هذه ليست صورة والدي، فأجابه بروحه الخفيفة: تتعود عليه، ومع مرور الزمن يصير ...!
وكان دهانا أقل من وسط، وخطاطا عاديا، وشاعرا رديئا، وكاتبا مبتذلا، وعارفا باللغات معرفة أقل من سطحية، وأخيرا مات وما على جلده قميص؛ لأنه أراد أن يكون كل شيء فكان لا شيء.
قال الإمام علي: «من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل.» أي من أراد إدراك كل شيء لا يدرك شيئا.
وقال كارليل: «إن أضعف مخلوق يستطيع أن يعمل عملا إذا جمع قواه حول موضوع واحد، في حين أن أقوى الناس إذا وزع قواه على مواضيع متعددة لا يكون نصيبه إلا الفشل والخيبة، فالقطرة بتكرار سقوطها على الصوان تبقي عليه أثرا، وأما السيل السريع فإنه يكر على الصخور بضجيج وصخب ويذهب كأنه لم يمر فوقها.»
فما جبابرة الإنسانية ونوابغها إلا رجال جمعوا قواهم وضربوا ضربات شديدة حول نقطة واحدة فأفلحوا وفازوا. إن الناجحين هم الذين يصوبون عزيمتهم نحو هدف واحد. فالطريقة المفيدة في القراءة - مثلا - هي أن تنصرف بكل قواك حتى تنتقل مع الكاتب إلى المكان الذي يصفه لك فتراه كأنك فيه حقا.
وقد سئل بيكنس - الأديب العظيم - عن سر نجاحه، فأجاب: «إنني ما مددت مرة يدي إلى أمر لا أقدر أن أنصرف إليه بكليتي»، ومار توما الإكويني الذي صار من أئمة الفلسفة العالميين كان طالبا لا يرجى منه خير سماه رفاقه الثور ولم يبال بهزئهم به وظل منكبا على درسه، وأخيرا فهم ما استعصى عليه ونطق بعد ذلك الصمت، ولاحت بشائر عبقريته في الفلسفة اللاهوتية فما استطاع أستاذه أن يكتم إعجابه به وقال لرفاقه: سيعج هذا الثور ويملأ خواره أقطار المسكونة، وهكذا كان. إن حصر القوى العقلية يفعل العجائب، أما رجل الأحلام الذي يتنقل كالعصفور على الأغصان فلا يكون نصيبه إلا حبة يلتقطها أو برغشة يتصيدها.
إن من يفعل هكذا وشعاره «إن العز في النقل» فهو يشبهنا يوم كنا صغارا ننقل قضيب الدبق إلى حيث نرى عصفورا قد سقط، ثم ننتظر عودته فلا يعود، ولكننا نعود نحن إلى البيت غير فائزين إلا بتمزيق ثيابنا.
فأكثر فشل الناس متأت عن تجزئتهم عنايتهم بمواضيع شتى، يريدون أن يكونوا على حد قولنا: «عنده من كل فن خبر.» فإذا بهم يعرفون شيئا من كل شيء، ولكنهم لا يعرفون شيئا كما يجب أن يعرف.
قد يقرع الشاب أبوابا كثيرة ولا تفتحها له شهاداته الضخمة ولا أصله وفصله، وهب أن الشهادة فتحت الباب فهي لا تمكنه من الرسوخ على الكرسي الذي قدم له إذا كان لا يحسن عملا، أما إذا كان من ذوي الاختصاص انفتحت بوجهه الأبواب على مصراعيها ومشى في ميادين العمل قدما، وأغلب الناجحين ليسوا من حملة الألقاب العلمية بل من العاملين الذين صعدوا في السلم درجة درجة ...
قد نضيع الوقت في اختيار الأعمال ثم لا نقع على عمل، وما ذلك إلا لأننا صالحون لكل الأعمال ولا نصلح لعمل ما بعينه، فلو كان لنا مدارس توجيهية تقوم بدرس مواهب كل شخص وتوجهه في الطريق السوي، لما كان شبابنا حائرا أو لما أضاع السنين من عمره مفتشا عن الموضع الذي يجب أن يستقر فيه.
إن تعيين القصد والغرض والسعي هو طريق التفوق والنجاح، فعليك أن تنصرف بكليتك إلى عملك لتبرز فيه. وليس يعني كلامنا هنا أننا إذا سعينا سعيا حثيثا في طلب المستحيل أدركناه، ولكننا ندرك ما يستطيع الإنسان أن يدركه إذا حصرنا قوانا في نقطة ما، فالعدسة البلورية لا تحرق ما لم تنحصر أشعة الشمس في بؤرتها، فلنحصر قوانا لكي ندرك ما نبتغي.
إن الحك - البوصلة - لا يتجه إلى جميع أجرام السماء باحثا عن أيها أفضل ليومئ إليه، فجميعها تحاول أن تجذبه، ولكنه لا يتجه إلا نحو هدفه، إن خاصيته توجهه دائما إلى الغرض، إلى القطب فيومئ إليها ولو برقعتها الغيوم بسدولها الكثيفة أو ألقت الشمس عليها رداءها.
فالإنسان الواحد لا يستطيع أن يقوم بكل الأعمال، بل لا يصلح لها جميعا، فعلينا أن نختار منها ما يلائم ميلنا وذوقنا ومعارفنا لنقوم حق القيام بواجبنا الإنساني. قد وجدنا لنعمل، فلنختر من الأعمال ما تحتمله طاقتنا، ولنضع كل جهودنا ومقدرتنا فيه ولو كان تافها، فالأمر التافه المتقن الصنع أفضل كثيرا من أمر سام رفيع غير متقن، فكم من طبيب أو محام أو صاحب مهنة حرة سامية لم يبلغ ما بلغه من اختص وعرف بإتقان عمل ما مهما كان تافها حقيرا! فكم من دهان مجيد أثرى! وكم من رسام بين بين لم يأكل من فنه رغيفا أسود! وما ذلك إلا لأنه لم يجعل كل وكده فيه.
فإذا رأيت ابنك يدرس ويتحدث مع الساهرين، فاعلم أنه لا في العير ولا في النفير، لم يذق لذة السمر وفاتته فائدة الدرس، لم يحصر قواه فيما يعمل ليفوز وتقر به عينك.
إن النهر الجاري على الحصباء مترنما ومزغردا لا يدير محركا مهما غزرت مياهه، أما الشلال المحصور فمهما قل ماؤه فهو الذي يولد ويحرك.
وإني لأوثر أن تكون شلالا صغيرا محصورا يدير، ولا تكون نهرا تخوضه الأرجل ولا تهابه.
إلى كل امرأة
إن موقفي منك يا سيدتي في هذه الكلمة سيكون كموقف الطبيب الصادق من مريضه، لا يقول له: قلبك مثل الحديد وأعصابك فولاذ وصدرك كير حداد، فينام على صوف ثم لا يستيقظ إلا على صوت جرس القطار فيسافر بلا حقيبة وبدون جواز سفر.
حفظك الله ومتعني بربع رضاك! كنت بالأمس يا سيدتي أمنا وأختنا، كنت قعيدة البيت وصرت اليوم قائدا يحمل البند والعلم في ساحة الدفاع عن الوطن، قال عمرو بن كلثوم:
على آثارنا بيض حسان
نحاذر أن تقسم أو تهونا
أما اليوم فقد أمسينا نقول:
تسير أمامنا بيض حسان
نحاذر أن تقسم أو تهونا
ويقول بعد بيته ذاك:
يقتن جيادنا ويقلن لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
أما اليوم فصرنا شركاء في النضال والدفاع، وليس هذا بشيء جديد. كذلك كنت يا سيدتي في الزمن الأبعد، كذلك كنت يوم خلقت جدتك حواء وجدنا آدم، أما تنعما معا في الفردوس ثم عصيا وطردا من جنة ربهما؟ إذن هذه المساواة بيننا قديمة العهد؛ ولذلك سموك شريكة الحياة.
حسبك يا سيدتي أن ينتصر لك السيد المسيح، فيقول لمضطهديك: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.» أما جاء رسول الله محمد - عليه الصلاة والسلام - ففرض لك وأعطاك ما أنت جديرة به من حقوق؟ وقد سماك قارورة فلا تجعلي نفسك خابية لاذقانية ...
فلو اعتبرتك التوراة أقل عقلا من الرجل، ما حملتك مسئولية المعصية حين أكلت تلك التفاحة فوقع القصاص عليكما معا.
منذ البدء يا سيدتي ويدك في يد ابن عمك الرجل، كنت إلى جانبه في ظلمة الكهف تحتملين المشاق وتناضلين، وحين بنيتما القصور اتكأت على الخز والديباج وجعلت بيتك جنة ذات حور وولدان، فلله أنت صالحة! فلولاك كان الوجود حملا ثقيلا، وكانت الأرض جهنم حمراء.
تقول التوراة إن يهوه رأى الوجود ناقصا فخلق المرأة، وهكذا تكون المرأة الوتر الذي تمت به آلة التكوين الشجية الألحان، ولولا هذا الوتر لظلت شوهاء جوهاء جوفاء.
فإن صحت رواية أنها ضلع من أضلاع الرجل، فيكون الله - جلت قدرته - قد شرفها منذ البدء بهذا الخلق، وشتان ما بين التراب واللحم ...!
وإذا كانت لم تخلق على هذه الصورة، فيكون القالبان قد صبا في وقت معا، ولا مجال إذن لهذا التفريق بين المخلوقين.
إن حكاية الفردوس الأرضي تؤكد لنا المساواة بين الرجل والأنثى، فلو اعتبرها المشترع أقل عقلا من أخيها الرجل لما عوقبت مثله، فنهضة المرأة للمطالبة بحقوقها ليست بدعة جديدة وجدت يوم استبد الرجل بالأمر، وما أشد استبداد الرجال ما دام شعارهم «إنما العاجز من لا يستبد!»
كان الرجل والمرأة قبل الشرائع والقوانين متساويين، لم تحبس في قفصها الذهبي إلا عندما مدت المدنية البشرية أسلاكها الشائكة حول البيوت ... فأنانية الرجل حملته على حبك ما حبك من قيود القوانين، فالشرائع كلها من صنع الذكور، ومن يكون الدفتر في يده ويكتب نفسه من الأشقياء؟!
يظن الناس أن المدنية والرقي قاما على أكتاف الرجال، أما الواقع فيكذب هذا الزعم، فإذا عدنا إلى فجر التاريخ رأينا المرأة والرجل، آدم وحواء، راحيل ورفقا، ويعقوب وإسحاق يضربان معا في مجاهل الأرض عرضا وطولا، وكم رأينا الرجل عاجزا في بعض الميادين فتجاهد المرأة وتحفظ الأمة والوطن!
ولكن الرجال يقولون بلا روية ولا تفكير: «الرجل أفضل من المرأة.» أما التاريخ فينتصب على قدميه ويقف ليقول لنا: إن أسمى الدرجات الإنسانية هي النبوءة، وكان من النساء نبيات، كانت حنة نبية وبذلك تعترف توراة موسى، ودبورة أيضا كانت نبية شهيرة وقاضية، وفيها يقول سفر القضاة (ف4، ص5): «وكانت دبورة تحت نخلة بين الرامة وبيت إيل في جبل إفرائيم، وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم، وهي التي دفعت باراق لقتال سيسرا فظفر به.»
بدأت بالأمر دبورة النبية القاضية وأتمته ياعيل بنة حابر القيني، فقتلت سيسرا حين دخل خيمتها فارا، وأذلت الكنعانيين أمام شعبها إسرائيل.
وإذا توغلنا في استقراء التوراة رأينا خلوة النبية محترمة من الرجال جميعهم، يخضعون لها ويعملون بما تقول.
قالت التوراة: «جاء حلقيا مرسلا من يوشيا ملك أورشليم يستشيرها فيما يفعل، فقالت للرسول: قولوا للرجل - أي الملك - الذي أرسلكم إلي: كذا قال الرب إله إسرائيل: هذا جالب شرا على هذا المكان وعلى سكانه، فأهب غضبي عليه ولا ينطفئ. أما ملك يهوذا الذي بعثكم لتسألوا فكذا تقولون له: إن الله يضمك إلى آبائك فتنضوي إلى قبرك بسلام، ولا ترى عيناك هذه البلايا؛ لأن قلبك لان للرب إلهك.»
هؤلاء هن النساء النبيات، أما المنقذات فحسبي أن أذكر منهن يهوديت التي قتلت أليفانا الأشوري وأنقذت شعبها، وأستير صالبة هامان، ودليلة مذلة شمشون.
هذه هي المرأة، وسوف لا أتعدى حدود التوراة إلا قليلا، فالحديث شجون والزمان طويل. ولكنني أقابل قليلا بين التوراة وبين قوانين نابليون الحديثة العهد:
ترى قوانين نابليون أنه لا يسوغ أن يتولى الوصاية والعضوية في المجالس العائلية القصر والمحجور عليهم والنساء، وكل من اشتهر بسوء السيرة، ويقول أيضا: «لا تستطيع المرأة الحضور في المرافعات أمام هيئة القضاة بلا تفويض من زوجها.» وفي المادة 217 يقول: «لا تستطيع المرأة أن تهب ولا تبيع ولا تقتني من غير إذن زوجها ومشاركته.»
بينا نرى في التوراة أن إحدى نساء إسرائيل بعد أن رفض زوجها أن يرسل زادا إلى داود عندما كان فارا من وجه شاول، جاءت هي إليه تحمل الزاد والخمر.
وفي المادة 222 يقول: «إذا كان الزوج محجورا عليه أو غائبا، فإن في استطاعة القاضي أن يفوض المرأة في المثول أمام القضاء.»
ويقول في المادة 224: «إذا كان الزوج قاصرا فلا بد للمرأة من الحصول على تفويض من القاضي، للحضور أمام هيئة القضاء لإبرام عقد.»
وهذا ما حمل رينان الفيلسوف الفرنسي على الإعجاب بشرائع موسى بشأن المرأة ففضلها على شرائع أمته؛ إذ قال: «إن هذه الشريعة أكثر إنسانية وعدالة من كل ما كتب في ذلك العهد.»
ولشعراء العهد العتيق - أي شعراء التوراة - أقوال طيبة في المرأة المنشودة، وإني لأكتفي ببعض كلمات مراعاة للمقام:
من يجد المرأة الفاضلة؟ إن قيمتها أغلى من اللآلئ.
تبسط كفيها إلى البائس، وتمد يديها إلى المسكين.
لا تخشى على بيتها من الثلج، لأن أهل بيتها جميعا لابسون الحلل.
تلقي يديها على المكب وأناملها تمسك المغزل.
تفتح فاها بالحكمة، وفي لسانها سنة الرأفة.
رجلها معروف في الأبواب حيث يجلس بين شيوخ الأرض.
تلاحظ طرق بيتها، ولا تأكل خبز الكسل.
المرأة الحكيمة تبني بيتها، إنها إكليل لبعلها.
لطف المرأة ينعم رجلها، وأدبها يسمن عظامه.
الشمس تشرق من على الرب، وجمال المرأة في عالم بيتها.
لقد أطريتكن نعتا فلا يغركن ثنائي، أما طلب بعضكن أن تخاطبن بالواو والميم بدلا من التاء والنون فهذا شطط، إنه لطمع تأباه موسيقى لغتنا، فنعومة التاء وليونة النون أليق بكن من خشونة الميم والواو؛ ولهذا خصكن سلفاؤنا الأذكياء بهذين الحرفين؛ ليتلاءما مع أنوثتكن، ولم يقصر لغويونا الألباء عن نحاتنا فقالوا: صفقت الرجال وصفحت النساء. فلا تطلبن الزيادة لئلا تقعن في النقصان.
ها هو باب الحياة قد فتح بوجوهكن، فإلى العمل المجدي، لقد أعطاكن لبنان جميع الحقوق فأرونا أنكن جديرات ولا تخيبن الآمال.
طيش الأمهات
الله - جل جلاله - بدأ بالرجل فخلقه، هكذا تقول التوراة، أما أنا يا سيدتي فأريد أن أبدأ بك؛ لأن تقاليد العصر وآداب سلوكه قد تغيرت، أما صرت تقدمين علينا في المجالس وتسلمين علينا قاعدة، تمدين نحونا يدك كما يمدها إقطاعي عتيق إلى فلاحيه وشركائه؟
سيدتي
لا أسمع من الإذاعات ولا أقرأ في الصحف إلا هذه العناوين: حقوق المرأة، يجب أن تعطى حقوقها، لا رقي ما لم ينل شطرنا الآخر حقوقه، وما سمعت أحدا وجه إليك ملاحظة يا مولاتي، ترى هل صارت كل أنثى كاملة ولا تقصير عندها؟ ترى ألا ينقص البيت شيء، أما أنت ربته لا الرجل؟
أنا يا مولاتي، وإن كنت شيخت، فلي لسان حال يردد ما قاله البهاء زهير منذ بضعة قرون:
ونعم كبرت وإنما
تلك الشمائل باقية
ويميل بي نحو الصبا
قلب رقيق الحاشية
فيه من الحب القديم
بقية في الزاوية
إذن أرجوك وأتضرع إليك أن تحملي كلماتي على محمل الصدق والإخلاص، إن ثقتي بمجموعكن كبيرة، ولست أعني ولا أصف أو أصور في حديثي هذا إلا نموذجا واحدا الآن، وما أكثر نماذج الحياة وصورها!
فإلى تلك المعتكفة في غرفة الزينة تائهة بين مرآتين، تتأمل قوامها من الجهات الست وكأنها مصور ينظر في إحدى روائعه التي يريد أن يتقدم بها إلى معرض عتيد، إلى تلك المنكبة بيديها الثنتين على دلك خديها وتزجيج حاجبيها وتكحيل عينيها؛ أسوق هذا الحديث وإن ثقل عليها.
سيدتي، أنت أم أفلا تسمعين ضجيج أولادك المكومين حواليك؟ ألا ترينهم يتنازعون أذيالك من هنا وهناك، ويتجاذبونك كأنهم يحاولون إبعادك عن حبيبة قلبك المرآة؟
ألا تسمعين لسان حالهم يناديك: كفى يا أماه! تكفيك ساعة، نراك تخلقين شخصا جديدا! لقد تنكرت حتى كدنا نحن أولادك لا نعرفك! ألا تعلمين يا أماه أن لنا حصة من وقتك؟ فهذه شمس العمر قد مال ميزانها ورجحت كفة المشيب، فما لك اليوم وهذا الإلحاح؟! خمس دقائق تكفي، أنت ربة بيت عليك مسئولية إدارته فما بالك تغمضين عينيك عن كل غرف البيت ولا تنفتحان إلا في غرفة الزينة، حيث المرآة والملاقط والمقاريض والمشدات ... والمساحيق والعطور ...
يا أمي، ما لتلك الأواني مبعثرة على الأرض وقد ارتدت ثوبا سميكا من الغبار حتى أوشك أن يأكلها الصدأ والزنجار؟ أفلا تستحق بعضا من بعض عنايتك بوجهك وأظافرك؟! ما لدارنا غير منظمة كبيت جارتنا مع أنه حقير إذا قيس ببيتنا الرفيع؟!
الجواب عندي يا بني، اسكت حتى أخبرك: جارتكم يا بني لا تعتني بطرتها وتجعيد شعرها، وإن فعلت فهي لا تقدم ذلك على تنظيم بيتها وترتيب منزلها، تلك الجارة يا بني إن وقفت أمام المرآة لمحة أقامت في المطبخ حينا لترتبه وتنظفه ، وفي المنزل زمنا طويلا لتدبره، تلك ما زالت على البركة ولهذا تحتضن أولادها وتناغيهم، وتحرص على تربيتهم وترشدهم إلى واجباتهم.
ولكن الولد ككل ولد يريد أن يثرثر فقاطعني وراح يناجي والدته قائلا: ما بالك يا أماه تقصينا عنك؟ لماذا لا تطبعين على أوجهنا قبلات الأم كما تفعل جارتنا؟ أليس في قلبك ما في قلبها؟ تلك تقابل زوجها والابتسامة ملء فمها، فما بالك أنت لا تقابلين الوالد إلا حامضة الوجه؟! وقصارى الحديث أن بيتنا وبيت جارتنا لا يتفقان بشيء، فمرأى ذلك ينشرح له الصدر وينفتح له القلب، أما منظر بيتنا فكئيب محزن، فهل لك أن تخبريني السبب؟
خلصت يا بني، أمك مشغولة لا يسمح لها الوقت بالجواب فخذه مني، أمك مع السينما على موعد فما عندها وقت لترد عليك، فأعرني أنا أذنا مصغية فأخبرك: أمك أسكرتها خمرة التشبه، وانطبعت في مخيلتها صور السيدات الغربيات، فقلدت أزياءهن وحركاتهن حتى فقدت لذة الأمومة، فلا تطلب منها أن تحملك متى قصرت عن مماشاتها، إنها تنتقك نتقا لتمشي معها مشية الغزال الشارد، إن المشد يمنعها أن تنحني للأخذ بيدك أو لم شعث الأمتعة المتفرقة في زوايا البيت، ورائحة العطور والطيوب لا تتفق ورائحة المطبخ! أمك تبغي حمل الحقيبة في يد والمظلة في يد أخرى، ومن أين لها يد ثالثة لتداعبك بها؟ أمك ألهاها اللهو والطرب والرقص واللعب، أمك أشغلها التقليد عن واجبات ربة البيت والتشبه أعمى بصيرتها، ألهاها إصلاح هندامها عن ترتيب منزلها وتدبيره، لقد صارت تعد ذلك عارا فعهدت إلى الخدم والحشم بكل شئون البيت حتى تربيتك، ومتى كانت الخدم تربي أسيادا؟! ...
وأبوك وا أسفاه عليه! يحتمل المشقات ويريق ماء وجهه، ليحصل المال ويعد لكم مستقبلا سعيدا، ولكنه مغلوب على أمره مكثور عليه؛ لأن أمك تبدد ما يجمع على الكماليات، فكلما رأت زيا جديدا تجتهد أن تكون سباقة إليه، وقلما تدوم الأزياء من الصباح إلى المساء، ويا ويل أبيك إذا لم يماش الموضة! إن غاظها تجرعه المر، تلبس وجهها بالمقلوب، ولا تكلمه إلا نبرا ، وإذا كبر رأسه فهي تعلم بما تصغره ...
المرأة يا عزيزي عمود البيت وأساسه، وبها - إن كانت صالحة - تصلح أحواله وإدارته وتتوطد دعائمه، إنها تربي له من يسنده إذا هبت عليه رياح العسر، وهي تلك المنارة التي تهدي إلى ميناء البر والفضل عقول أولادها التائهة، وباقتصادها يمكنها أن تدخر لمنزلها ما يقيه وطأة الأزمات الطارئة، وبتعقلها ترفع رأس زوجها، فهي بما تدخر للأيام السود تعمر بيتها وتكفي زوجها ذل السؤال، وبإسرافها وتبذيرها تضع على كتفيه أحمالا ثقيلة، وهكذا ينعق البوم في زوايا البيت. وإذا رزقها الله ابنة فهناك الطامة الكبرى، فإنها تتلقى عليها علوم التبرج والتزين عن صغر استعدادا لدك البيت العتيد الذي تدخله!
وبعد، فقد كان الزواج منذ عشرات السنين من أسباب الغنى، أما اليوم فقد أمسى مخوفا كثغر ترابط فيه الأعداء، الشاب اليوم يدق قلبه حين يقدم على الزواج؛ خوفا من فقر يجر إليه التشبه، إنه يهرب منه هربه من القيد، لا يخفف رهبة هذا القيد إلا حكمتك يا سيدتي وقناعتك بما تيسر من الكماليات، أما سموك شريكة الحياة؟ أليس على الشريك أن ينمي هذه الشركة؟ وإلا ففسخ هذه الشركة المغفلة أمر واقع ويا للدمار!
هذي هي الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وكأني أسمع بعض سيداتي يقلن: ما أثقل دمه! هذا كلام مثل وجهه، ماذا تطلب من رجل يابس العود؟
كل هذا منتظر يا سيدتي، فأنتن تعودتن التقريظ والثناء، أما أنا فعددت العشرة قبل أن أكتب هذا الحديث، الحمد لله على أني أرمل دهر وليس عندي امرأة! وإلا لكان استقبالي في البيت صارخا، وكانت النومة عند الجيران إن لم تكن في الشارع ...!
وإلى اللقاء.
أشبعوه على الأقل
يؤلمني أن أرى خراف الثقافة بلا حظيرة، ويجرح قلبي أن أرى المثقفين - وخصوصا المعلمين - لا يربئون بأنفسهم أن يرعوا مع الهمل، كما قال أخونا الطغرائي حين فجع بوزارته، لكأنهم لا شيء في هذا البلد، يقول لهم أولياء الأمر لنفخهم وجبرا لخاطرهم المكسور وقمعا لوساوسهم الجامحة: «أنتم مربو رجال الغد، أنتم الخالدون ...» وإذا رجعوا إلى أنفسهم سمعوا بآذانهم رنة السهم في قلوبهم، رأوا أن كل حصتهم من غزوات حرب المعاش تنحصر بالكلمة المأثورة: القناعة كنز لا يفنى.
نعم إن القناعة كنز أي كنز! وحسب القناعة رفعة شأن بين الفضائل المعزية منكسري القلوب قول الطغرائي فيها:
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا
تحتاج فيه إلى الأنصار والخول
هذا ملك محترم عزيز الجانب أيها الإخوان ... ومن باب الشيء بالشيء يذكر، أو تداعي الأفكار، وهو من علم النفس الذي يدعيه اليوم أكثر الناس جهلا به، ومع ذلك يناقشون بلا استحياء إسبينوزا ودركايم كأنهم وإياهما رفقاء الصف!
أقول: إنني تذكرت قول أحد أساتذتنا الذي ناقش هذه الكلمة «القناعة كنز لا يفنى»، فقال: «هذا الكلام ناقص ولا يصح السكوت عليه إلا إذا قلنا: القناعة كنز لا يفنى بعد تأمين المأكل والملبس والسكنى، فالجائع والعريان ومن لا بيت له كيف يقنعون؟»
صدق المعلم، فاليد لا تغل إلا إذا كان صاحبها مكفيا هموم المعاش، أما المعلم في أرضنا فهو كأبي الطيب عند كافور لا هو في العليق ولا اللجام ... يعللونه بالذكر الخالد ويصدق ذلك؛ لأنه مسير بناموس أزلي نجهل سره، ناموس الحياة الذي يسوق المخلوقات جمعاء بعصاه اللينة، ومن يبالي منا بالمعلمين ليحيي ذكراهم؟ الناس لاهون عنهم بسفاسفهم، ولا يذكرونهم إلا بمعرض فخر يريدون أن يظهروا فيه عراقة الأمة وأن منها نوابغ، أما في الحياة فينظرون إلى المثقفين والأساتذة والمعلمين هازين أكتافهم غامزين بعيونهم كأنهم يقولون: «ما أخف عقول هؤلاء، يصدقون ما نقوله لهم ...!
نحن شعب يرى الفخر كله والمجد بشحمه ولحمه وعظمه ودمه وجلده في المناصب، كأنما الدنيا كلها محصورة في الكرسي، وكأنه هو الذي وسع السماء والأرض ... إذا قلت لذي مال أو موظف: هذا أديب أو شاعر، يعيرك نظرة بلهاء. أما إذا قلت له: هذا أستاذ أو معلم، فقد يقابل هذا التعريف بهمهمة ودمدمة.
وإذا قلت له: هذا الأمي يملك مليونا فلم يستطع دون السجود له صبرا، كما قال أبو نواس في خمرته ...
وما زال هذا هو تقديرنا لمربي أكبادنا التي تمشي على الأرض، فكيف نرجو أن يكون لنا معلمون مخلصون؟ إن معلما غير مخلص لشر على الأمة من أفعى ضيق صدرها آب اللهاب، وأقرب إلى أذى وطنه من العقرب، ومن ير كرامته ممتهنة في وطن فهيهات أن يخلص لهذا الوطن، إلا إذا كان أديبا مثاليا يظن أنه يعمل لخلق إنسانية كاملة، أو جبرانيا يزعم أن امرأة أخرى ستلده، فيرى في إحدى دوراته الآتية عالمه المنشود.
إن ذوي العقول الثاقبة من وطننا لا يقبلون وظيفة مرب إذا وفقوا إلى أحقر وظيفة في إحدى دوائر الدولة، وما سبب هذا إلا تغاضي الدولة عن شئون المربين، فكأنهم في أعين السادة من سقط المتاع، ومع كل هذا يطلبون من المدارس تهذيبا رفيعا وتعليما دقيقا وتربية وطنية ...
يقولون إن مستوى التعليم ينحدر، ويطلبون من المدارس رفعه، وهل يرتفع المستوى بلا أيد تنهض به؟ فأين هي الأيدي؟ ومن يغذيها؟
يقول المثل اللبناني: «لا ينهض بالركب غير البطن»، وهل ينهض البطن وهو فارغ؟ وماذا يشجع النبهاء ليكونوا معلمين صادقين؟
إني لا أقول ولا أحابي أحدا، إن أكثر من يتقدمون إلى ممارسة التعليم هم من الذين لم يوفقوا إلى عمل آخر، فكأن المدارس أصبحت ملطى للهاربين من وجه قافلة الحياة، فلكي يكون لنا معلمون يجب أن نزيل من العقول هذا الاعتقاد القديم، وهو أن المعلم كائن بليد. وعلى حبي لصديقي، نديمي وسميري، الجاحظ الأديب، أقول: يجب أن نحذف من الوجود كتابه «دفتر المعلمين»، وإن كان أبو عثمان لا يعني إلا معلمي الصبية الذين عرفهم ولابسهم في زمانه.
نريد أن نبني وطنا ثم لا نعنى إلا بقرميده وشرفاته ورفارفه ثم نهمل الزوايا والأسس، إن الوطن لا يبنيه غير المدرسة، والمدرسة بمديرها وأساتذتها، فإذا لم يكونوا للوطن يعلمون أبناءه حبه، فلا يثبت ذلك الوطن، وإذا ازدرينا المعلم دار الدولاب بالمقلوب وحاك لنا ما لا نريد أن نلبس.
إن ابتسامة حائرة من معلم ماكر تزعزع إيمان النشء بالوطن، والطالب يقلد اثنين لا ثالث لهما: أباه ومعلمه. إن الوطن يحتاج إلى مؤمنين ككل رسالة من الرسالات العليا، ولا يبشر بهذه الرسالة ولا يغرسها في النفوس إلا المعلم، فلنعن بالمعلمين إذا شئنا توطيد الوطن حتى لا تكون هذه المهنة - وهي أسمى المهن - ملجأ للمقصرين ... فالمعلم الذي لا يرى في التعليم عمله الدائم لا يثمر عمله، وهو والمدرسة والتلامذة خاسرون.
إن الساعة التي يتقدم فيها منا رجال لهم منزلتهم العلمية والأدبية والسياسية لإدارة المدرسة والتعليم فيها، هي الساعة التي نستطيع فيها أن نسمي أنفسنا مواطنين.
فليسمع من يعنيهم الأمر ويعوا ففي المدرسة تكون الأمة، لا في التهاليل والتسابيح والزغاريد والأناشيد.
مأوى عجزة
فكر وزير الصحة والإسعاف العام ببناء مستشفيات في جهات عديدة، وشكل وزير الشئون الاجتماعية لجنة تعيد النظر بقانون العمل بشكل يؤمن للعامل - في أطواره كافة - جميع الحقوق التي تطبق على العمال في البلدان الأخرى.
ورصدت وزارة التربية الوطنية نصف مليون ليرة لبناء دار للمعلمين، وحسنا صنعت فالمعلم حجر الزاوية في بنيان الأوطان.
إننا في أمس الحاجات إلى المعلمين، وبنيان معمل لهؤلاء ضروري جدا، ولكن الحكومة - حفظها الله - نسيت أمرا مهما جدا جدا، وهو أن تبني دار عجزة للمعلمين القدماء الذين قدموا لهذه الجمهورية العزيزة الرؤساء والوزراء والنواب والقضاة وكبار الموظفين.
فممن نطلب نحن بعدما قرأنا - وإن كان حبرا على ورق - نبأ استعداد جميع الوزارات، كل واحدة في نطاقها، لإنشاء ما يرفه عن جماعتها؟
فهذه وزارة العمال تعنى في سن قانون لهم أعدل وأحسن، بينا نرى قانون معلمي المدارس الخاصة مدفونا وليس من يضع على قبره زهرة، ولا من يسأل عنه في مقره الأخير.
فبأي عدالة اجتماعية يشتغل الرجل أربعين وخمسين سنة ولا يعطى تعويضا إلا عن عشرين عاما فقط؟! وهذه العشرون عاما يحاول قيم صندوق التعويضات باجتهاداته القانونية أن يصيرها مثل «صبيرة طمسون».
إننا نراكم تفتكرون بكل شيء إلا بمعلم المدارس الخاصة، ولولا المدارس الخاصة لم يكن عندكم حاجب ولا بواب.
قال المسيح: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.» وأنا أقول: دلوني على أحدكم يا كبار موظفي لبنان لأرى إذا لم يكن من طلابنا، اذكروا أن السيد قال: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.» فبحياتكم انظروا في قانون من قدموا خبز المعرفة وأبرزوه للوجود؛ لنراه ونهتف مع سمعان الشيخ: «أطلق يا رب عبدك بسلام؛ لأن عيني أبصرتا خلاصك.»
لا تعللونا بالآمال، ولا تقولوا رويدا ينضج الطعام، بل كونوا كالخليفة ابن الخطاب الذي حمل على ظهره كيس الدقيق لتلك الأرملة.
قلت فيما مضى: «أشبعوا المعلم على الأقل»، والآن أقول: «إن الكثيرين من المعلمين المحتاجين، الضعاف الوجدان، يتمثلون بقول المثل القائل: على قدر زوادتكم نرعى لكم دابتكم»، وإذا كان هذا هو الشعار فمصير الوطن إلى أين؟»
فإذا أردنا أن يكون لنا معلمون مخلصون محترمون بناءون لا هدامون، فعلينا أولا أن نكفيهم مئونة التفتيش عن الرغيف والكساء، علينا أن نحوط المعلم بالوقار والإجلال، وهذا لا يدرك إلا بالاستغناء عن السعي وراء اللقمة والكسوة. أحسن جدا وزير الشئون الاجتماعية حين فكر بمساواة العمال بإخوانهم في البلدان الأخرى، فهل من يفكر بمساواة المعلم بالعامل؟! ...
يلذ لي في هذا المقام أن أنشر نبأ أذيع عام 1947، وهذا هو نصه:
واشنطن، 25 حزيران
أعلن اليوم أن الجنرال دوايت أيزنهاور القائد العام الأكبر لقوات الحلفاء في حرب أوروبا، والذي قاد أعظم جيش عرفه التاريخ بعدده وعدده، واحتل ألمانيا بعد كفاح سنة كاملة؛ قد قبل أخيرا أن يكون مديرا وعميدا لجامعة كولومبيا في نيويورك، وسوف يضطلع بمهام منصبه العلمي الجديد في مطلع السنة الجديدة.
وقالت وزارة الحربية: إن الجنرال أيزنهاور - رئيس أركان حرب الجيش الأمريكي - قبل أن يكون مديرا للجامعة بعد موافقة رئيس الولايات المتحدة ووزير الحربية.
أظن أن الجنرال أيزنهاور رأى أنه يعمل في أساس مهنته الحربية بإدارة أقدم جامعة في الولايات المتحدة، فمن هناك تخرج الرجال الذين يقودون الأمة إلى جميع الساحات، أما نحن فنرى أن منصبا كهذا لا يعادل كرسيا صغيرا في زاوية، يقبع عليه موظف كبير كالخنفساء.
نحن لا نلوم وزارة بعينها على هذا الإبطاء وعدم الافتكار بالمعلمين وقانونهم المضمر، ولكننا نلوم الوزراء جميعا والنواب جميعا والموظفين ذوي الصلاحية ، فمن منهم لم يتعلم عند معلم؟ ألا يقضي الواجب على كل من تعلم أن ينصر قضية معلمه؟ ولو فكر بعضهم قليلا لانحلت المشكلة في أقرب وقت.
والوزارة التي تفكر بالإنشاءات الضخمة أما عليها أن تفكر بالترميم؟ إن المعلم جسر عبروا عليه حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، أيجوز ألا يفكروا بترميمه كيلا يسقط؟
والأنكى في القضية أن ذاك القانون الممسوخ يريد أن يمسخه من كلفوا في تنفيذه حتى تكون حكاية المعلم كحكاية الجبنة التي تولى قسمتها القرد، فظل يأكل منها حتى يعدل بين الاثنين، وأخيرا أكلها هو ولم يذق منها صاحباها شيئا.
وإذا سألناهم قالوا لنا: حتى يطلع القانون الجديد فهو أحسن لكم.
لقد صح أن نقول لهم أسطورة البقر: قالوا للبقر: متى متم نكفنكم بحرير، فأجابت: نرضى أن تبقى جلودنا علينا.
فإذا كانت الحكومة تحسب معلمي المدارس الخاصة عاجزين عن مطالبتها، فلا أقل من أن تبني للقدماء منهم «مأوى عجزة» إلى جانب هذه الدور الفخمة التي تبنيها لإداراتها.
فإلى المسئولة الأولى، إلى وزارة التربية أوجه هذه الكلمة راجيا أن تبعث القانون الدفين، وإذا لم تشأ أن تساوينا بمعلمي الدنيا فلتحسبنا عمالا، وما نحن في الحق إلا عمال في حقل آخر.
إن من يعمل خمسين عاما يحق له أن يطالب بمساواته بغيره من خدام الأمة.
إن الشيخوخة رهيبة ولو كان الإنسان نائما حد صندوق مشحون، فكيف بها إذا كان ينام ولم يدخر القرش الأبيض لليوم الأسود؟
ومن أين له ذاك القرش؟ أمن راتبه الضخم؟ أمن تعويضه الذي يحاولون مسخه أكثر مما هو ممسوخ؟
لم يبق أمام المجاهدين القدماء إلا التأسف على زمن أضاعوه، ووقت في خدمة بني أمهم صرفوه، لا ينقذهم من هذه الورطة التي هم فيها ما دام «قانونهم» يعطيهم الخمسين عشرين إلا المأوى الذي اقترحناه على الوزارة.
فما رأي معالي الوزير؟
محل الامتحانات الرسمية
كان موسم امتحانات عام 1954 ماحلا، خاب فيه ظن أولياء الطلاب والمدارس والشباب، فصح فيهم جميعا قول المثل: «حساب الحقل لم يقوم على البيدر»، أجفل هؤلاء كأنما أحلت بهم أم المنايا بناتها، وشاركتهم في هذا الارتياع بعض الصحف حتى خلنا أن الكارثة الكبرى نزلت بلبنان الأشم ... ولذلك نقول للجميع كلمة تعود أن يعزي بها الفلاحون أنفسهم: «إذا فاتك عام استبشر بغيره ... الموعد قريب، والسنة خلف الباب.»
إنا لفي زمن عشق فيه التلميذ وذووه الشهادات عشقا، تم فيه قول ذلك العاشق المفتون: «جننا بليلى وهي جنت بغيرنا.» الشهادة عندنا أعذب الأماني وأحلاها طعما، وحسب الوالد فخرا أن يجيب على سؤالك عن ولده: أخذ السرتيفيكا، ما رأيت صورته في الجريدة؟ معه بريفيه، معه بكالوريا ...! فبعد أن كان يدعى عندنا للفتى بفرحة العرس أصبحوا يدعون له بفرحة الشهادة عروس الأحلام والأماني. وهكذا أصبح التلاميذ هواة لا محترفين، حسبهم الشهادة ولا بأس عليهم إن كانت كالبندقية الفارغة التي فزعت اثنين. ومن أغرب ظواهر جونا الثقافي تهافت الطلبة على جمع ما هب ودب من هذه الشهادات، فكأنها طوابع بريد يتبعها الغاوون ويهيم وراءها فتياننا في أودية الدنيا وأنهارها ... فالطالب الواحد يتقدم إلى البكالوريا اللبنانية والفرنسية والسورية والمتريك، ولو وجد بكالوريا يابانية أو صينية ما ارتد عن اقتحامها ولو سيجت دربه بالعليق والقندول ...
الشهادة أكبر هموم الفتى وأسرته، أما المدارس فحسبها أن تذيع في الجرائد: تقدم باسم المدرسة الفلانية إلى الامتحانات الرسمية خمسة عشر طالبا فنجح عشرون، وإن استغربت شرحوا لك هذه الفلسفة الإكوينية التي تشغل اليوم بال شاعرنا سعيد عقل، ثم تغدق الصحيفة مذيعة هذه البشرى الطريفة على تلك المدرسة عبارات الثناء والإطراء، فلا تدع واحدا ممن لهم أصبع في تلك المؤسسة حتى تخصه بكلمة شكر. وهكذا يغمر طوفان نوح جديد جدران تلك المدرسة حتى يكاد يجرف أسوارها ويخرج من بوابتها عارما كأنه مياه مغارة «أفقا» إبان الربيع.
لفتت نظري كلمة في جريدة، هذه هي: كانت نتائج البكالوريا هذا العام من السوء والانحطاط بمكان ... فمن هو المسئول عن هذا التقهقر، الطالب أم المدرس أم المدرسة أم الوزارة التي تجري الامتحانات؟
السؤال وجيه، وليس أجدر بالجواب عليه ممن خبر الطالب والمعلم والمدرسة والوزارة. ولكن طارح هذا السؤال نسي مسئولا آخر، وهو ولي الطالب، وبهذا أبدأ أنا:
فهؤلاء الأولياء من آباء وأمهات وأوصياء مزعجون، لا يؤاخذني أحد إذا قلت إنهم ثقلاء مبرمون أكثر من الذي قال فيه الشاعر:
يا مبرما أهدى حمل
خذ وانصرف ألفي جمل
قال وما أحمالها
قلت زبيب وعسل
إلى آخر القصيدة التي حفظتها صغيرا.
إن هؤلاء الأولياء يحبون الجمز، فإن قرر مدير المدرسة أن يعيد ابنهم صفه قامت قيامتهم وعلت ضجتهم وملئوا الأرض احتجاجا، فإن رأوا تصلبا لجئوا إلى أصدقاء المدير وعادوا حاملين إليه رسائل توصية من مراجع مختلفة السمو والمقام، كأن «المحروس» محكوم عليه بسجن القلعة ... وإذا جابهت صخرة المدير معاولهم نقلوا ابنهم إلى مدرسة أخرى، فتفتح هذه له ذراعيها غير مهتمة لازدياد عدد طلابها واحدا، هذا إذا كان الولد أعمى البصيرة أطرش الذهن، أما إذا كان يتمتع بذكاء عادي طمع وليه بترقيته صفا أو صفين، وإن لم ترضخ أنت لإرادته أطاع غيرك، فاختر لنفسك ما يحلو.
هذه مسئولية الأولياء، أما مسئولية التلميذ فتنحصر في هذا المثل: «هاتيك الغبرة ورثت هذه الوحلة»، إن الفوز الباهر في امتحانات البكالوريا الماضية قلل من اهتمام الطلاب حتى حسبوا البكالوريا أكلة بطيخ، ما عليك إلا أن تكسر الرأس، وما أهون شجه! ثم تأكل هنيئا مريئا. إذا كان الطالب ابن وجيه فما أغناه عن عبوسة وجه الكتاب! لينشغل بالوجوه المبودرة المحمرة، والحواجب المزججة، والعيون المكحلة، ليتحدث عن أفلام السينما بدلا من أقلام تاريخ الأدب، وما له وللمتنبي والجاحظ فحديث جياد السبق أشهى وألذ؛ لينشغل بالتحدث عن سياسة فلان وفلان وتأييد «جناب حضرة» والده المحترم لهذا أو ذاك، فهي أجدى له في معركة الامتحان من درس سياسة الدولة الأموية والعباسية. إن الممتحنين ينتظرون إشارة أبيه لينقذوا الموقف، فهو لا يعنيه إلا الشهادة و«يوم الله يعين الله»، المركز محفوظ، والأسرة جمعاء في انتظار الساعة ليقبع الولد في كرسي الوظيفة، الخطبة عقدت من زمان فأهلا بعروس الأماني والأحلام.
أما إذا كان الطالب من الأذكياء النبهاء ولا عضد له ولا سند، فيخدعه نجاح طالب مقصر سبقه إلى إكليل الغار، وظفر به بإحدى الرسائل المكتومة، فيتراخى ويتهاون ظانا أن البكالوريا لا تقتضيه الدرس العنيف، يقول في قلبه: إن كان فلان - وهو لا يعرف الخمس من الطمس - أخذ البكالوريا، فأنا آخذها من درجة جيد إذا لم أفتح كتابا، فلماذا كل هذا التعب والسهر؟
كثيرا ما كنت أسمع من أبطال البكالوريا: الوزير الفلاني أو النائب الفلاني صديق الوالد، قتلنا حالنا حتى نجحناه في الانتخابات، إنه ينتظر الساعة حتى يقوم بالواجب، إذا أمر صارت الخمسة خمسة عشر ... الشهادة إذن في العب، وهكذا ينام صاحبنا على صوف ومهما حاولنا إيقاظه يظل يشخر وينخر ولا يستفيق إلا يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
أما زملاؤنا المعلمون فلا يعني بعضهم أو أكثرهم إلا أن يلموا مما كتب هنا وهناك من قديم الأقوال وحديثها، يخيطون من كل هذه الرقاع ثوبا فضفاضا يسمونه دروس البكالوريا، حتى إذا احتضر العام المدرسي زودوا تلاميذهم حين خروجهم إلى ساحة الامتحان بهنات هينات يسمونها «بلان»، فيبرز الطالب فيها بروز أبي دلامة، وسلاحه تلك الدجاجة التي سد بها بوز قرنه، وأمن شر يوم كان يعده الأول من الآخرة والآخر من الدنيا.
لا يعني هذا الأستاذ الذي «يعمدونه» أستاذا للأدب العربي، أن يصلح ما فسد من لغة تلاميذه، لا تهمه سلامة التركيب وخطأ الإنشاء من الخطأ النحوي والصرفي، فيدخل تلميذه معترك البكالوريا كالحصان الأعرج يصك في كل سطر صكات، يرفع المفعول ويجر الحال، ينصب المبتدأ ويجر التمييز، يفتح فم التاء ذراعين ويرسم الهمزة قاقا، ويكتب الدال ضادا، ثم يتألب الساعون بالخير على أعضاء اللجنة الفاحصة طالبين منها «السبعة عشر» علامة لهذا الأخفش المعاصر ... وحجتهم أنه كتب سبع صفحات عن المتنبي، كأن مسافة الكلام تقاس بالباع والذراع! يقول لك أبو هذا الطالب: ابني - يخزي العين عنه - ما نسي كلمة سمعها من المعلم، ذاكرة عجيبة غريبة، كيف لا ينال علامة فوق الريح؟ ...
الحق معك يا صاحبي حفظ ابنك - حفظه الله - كما قلت، ولكن المرشح للبكالوريا يجب أن يكتب صحيحا، إن تلميذ الصف السابع أصح عبارة من «المحروس» أقر الله عينك به!
إذن على من يتولون تثقيف النشء أن يضربوا نطاقا من الأسلاك الشائكة حول صف البكالوريا.
فلنكهرب إذا اقتضى الأمر هذه الأشواك، فلنحاول تهذيب عبارة الطالب قبل أن نحشو مخه بروايات أساتيذ الأدب العربي وقولهم: امرؤ القيس أول من بكى واستبكى، وزهير أو النابغة أول من أكل بشعره في صحون من الفضة، وشعر ابن أبي ربيعة الفستق المقشر! وما علينا إذا قلنا جريا على قياسهم: شعر ابن الرومي رز مغبر، وشعر أبي نواس سمن مكرر! فيحشو تلميذنا بهذا كرش دراسته المطلوبة. وهكذا تنضج طبخة البكالوريا وتقام الولائم والأفراح إعلانا لهذا النبوغ وإجلالا لهذا الفوز.
إننا في حاجة إلى من يعبر عن فكره بلغة إن لم تكن فصيحة فلتكن على الأقل صحيحة، أما أن يحمل البكالوريا اللبنانية من يهز كلما كتب حرفا عظام الخليل وسيبويه، فهذا لا نرضاه للبنان الذي يسمونه منارة. لقد شح الزيت فأدركوا هذا السراج بنقطة تبل لسان الفتيلة ...
أما المشرفون على الامتحانات فنشكر لهم ما واجهوا به الطلاب من شدة وتدقيق، فالشهادات العليا لا تنثر كورق تشرين ... إذا كانت المعامل المحترمة لا ترضى أن تسجل «ماركتها» على بضاعة مشكوك في جودتها، فهل يليق بأمة ما أن تطبع بطابعها الثقافي شبابا لا يقرءون ولا يكتبون صحيحا؟
إن مستوى التعليم قد تدهور، إنه عندنا بين يدين: واحدة غافلة عن واجباتها لأنها تجهلها، وأخرى تستفز التلاميذ ساعة الحاجة قضاء لمآربها، فعسى أن تكون قلة الناجحين إنذارا للشباب يصرفهم عن شئون السياسة وشجونها فلا يسوسون غير الدفاتر والكتب.
لا ينكر أن هناك حيفا يلحق ببعض التلاميذ، وسببه اختيار مميزين لا يستطيعون التمييز والحكم فيما ليس من اختصاصهم، أقول هذا مع اعترافي بكفاءة بعضهم وإنكاري على فريق منهم هذه القدرة.
وهناك قضية أخرى لا تعيرها الوزارة اهتماما، وهي اختلاف أذواق ومشارب هؤلاء المميزين، فإذا وقع طالب بين براثن متنطس متحذلق حطمه تحطيما لأنه لم يكتب كما يريد ذاك المميز، بينا رفيقه الذي هو دونه معرفة ينفذ في المضيق لأنه وقع بين يدين ناعمتين أو غير متمكنتين! إن الخير كله في الرجوع إلى تأليف لجان ثلاثية أو رباعية أو خماسية من عارفي المنهاج حق المعرفة لتميز الغث من السمين وتطبع على غرار واحد، فلا يظلم طالب ويرحم آخر، والظلم في السوية عدل في الرعية، ناهيك أن «وسطاء الخير» يعجزون عن الوصول إلى الخمسة واستجدائهم.
إن الشاعر والكاتب والصحفي والموظف غير الأستاذ في الأدب، فلا تغر الوزارة كفاءات لا معنى لها، إن لهذه الكفاءات سماء تشع فيها غير امتحانات البكالوريا.
أما الأسئلة - وعسى أن تحقق الوزارة ما نطلب - فأرى أن تكون أدق وأضيق نطاقا، إن أكثرها واسع فضفاض يضل فيها الممتحن والممتحن، فيقع كلاهما في محنة لا مرجع «رسمي» يحلها، إننا محتاجون إلى اختصاصيين فاهمين العربية، أقول هذا وأنا واثق بأني تعرضت لغضب سيبويههم و«حرد» ابن أثيرهم ...!
ولكنها حقيقة مؤلمة لا بد من الجهر بها، ولتقع السماء على الأرض ...
ما دام العارفون والمختصون غرباء عن أورشليم فلا أمل ولا رجاء، وهيهات أن تثمر المؤتمرات الثقافية ثمارها المرجوة.
أما الأهلون - أولياء التلاميذ - فأنصح لهم ألا يهبطوا العاصمة إبان الامتحانات، وأن يدعوا الطواف واللف والدوران وقرع أبواب أصحاب النفوذ ليعينوهم على المميزين، ليدعوا التفتيش عن هؤلاء بالفتيلة والسراج ليستجدوهم علامة تنول أولادهم شهادة كاذبة.
إن هذه الفوضى التي أراها في كل موسم امتحاني لا تشرف وطنا يردد صباح مساء: «ملء عين الزمن سيفنا والقلم.»
إذا كانت البكالوريا تعطى وتوهب إكراما لسواد عيون هذا وذاك، وإذا كان النفوذ يزج في الثقافة والعلم، نصبح لا سيف ولا قلم ونسقط من عين الزمن.
إن الزمن لا يرحم ولا يحابي.
بواريد فاضية
حملت شهاداتي ورحت أعرضها هنا وهناك حتى كادت تتمزق، وأخيرا نصحني زميل لي قائلا: «سائل المجرب ولا تسأل الحكيم، أنا كنت قبلك، اسمع مني واعمل مثلما عملت، صورها، الرسوم الفوتوغرافية أخف حملا وأيسر تداولا.» فحملتها ثاني يوم ورحت إلى المصور ، وما كان أشد دهشته حين رآها! - حقا إنك نابغة! أنت حاصل على كل هذه الأوراق؟! حقيقة إنها «أوراق اعتماد»، قطيعة! بحياة أبيك قل لي أسماءها؟
فرحت أعد باعتزاز واعتداد: بكالوريا لبنانية، بكالوريا فرنسية، بكالوريا سورية، هاي سكول، سوفومور ... - يا بارك الله! تريد صورا عنها كلها؟ صورة واحدة أو ثنتين. - لا، أريد أن أفتش عن عمل.
فافتكر قليلا وقال: ولماذا التعب؟ العمل موجود، أريد كاتبا يمسك الدفاتر، ويكاتب الفبارك، ويحسن الضرب على الآلة الكاتبة، ما رأيك؟ - لا أحسن مسك الدفاتر ولا الضرب على الآلة. - وماذا تحسن؟
فأطرقت ورحت أحك ذقني وأفكر، ثم لم أقل شيئا.
فحول المصور عني وجهه، ورفعت رأسي أنظر إلى قفاه فإذا بي أرى كل جسده يهتز، حتى نضح منه الضحك وكدت أراه، ثم سمعته يقول ويغص: تعال غدا خذ صور شهاداتك، بعد الظهر تكون حاضرة.
آلمني جدا ذلك الاستخفاف، ولكني سكت.
وكتبت بعد يومين عدة رسائل طويتها على صور شهاداتي وبعثت بها في البريد مسجلة إلى دوائر عديدة، وقعدت أنتظر الجواب فلم يرد علي أحد، وأخيرا تذكرت مثلا قرأته: «من سعى على رجله رعى»، فقمت أبرز نفسي وأصلح من هندامي، ثم حملت صور شهاداتي ورحت إلى إدارة إحدى الشركات الكبرى فقابلني مديرها باسما فاستبشرت وتجرأت عليه وعرضت مطلبي، فقال: نحن نفتش عن شاب من مثلك أنيق لطيف حسن السمت.
فأجبت على حديثه بحياء وخفر، فقال: أتعرف شيئا عن الميكانيك المركز؟! محتاج إلى من يعرف شيئا يسيرا من هذا، عليك أن تفهم المشترين شيئا عن أسرار الماكينات والمحركات وغيرها.
فقلت: لا يا سيدي، ما علمونا هذا.
فسكت هنيهة ثم قال: إني آسف يا عزيزي.
فودعت وانصرفت لأدخل باب شركة زراعية إذا بمديرها يباحثني في الأسمدة الكيماوية والتربة والغرس والمكافحة والحرث، فوجدتني كالأطرش في الزفة ... وخرجت من مكتبه يائسا.
ونمت تلك الليلة قانطا، وما أصبحت حتى تشددت فقصدت شركة تسفير فطفق مديرها يسألني عن الموانئ والمسافات بين القارات والأقطار فإذا بي لا أعي شيئا، بل نسيت كل ما أعددته من الجغرافيا لاجتياز الامتحان، مع أنه لم يمض على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر.
وسمعت أن أوتيلا كبيرا أجنبيا يحتاج إلى كاتب فأبرزت لمديره شهاداتي فقبلني بلا بحث، واشتغلت هناك أياما، ولما استأنست صرت أشارك بعض الزبائن في الحديث عن الأدب والأدباء الكبار الذين درسناهم، وذات يوم بينما كنا نتحدث عن المتنبي إذا بالخواجا يتبرم، ولكنه انتظر انتهاء المؤتمر ليقول لي في مكتبي: ما هكذا يا عزيزي تساس الفنادق، نحن هنا في أوتيل سان فنسان لا في شارع المتنبي ... وحاولت أن أقنعه أني أتحدث عن المتنبي لا عن شارعه المعروف ولكنه لم يفهم عني.
فأنفت أن أعمل في محل لا يفهم مديره الأدب ولا يعنيه منه شيء، أردت أن أظهر ثقافتي التي أحرزت بها شهاداتي فإذا بي أخسر مركزي، فلا حول ولا ...
وقصدت بعد أسبوع إدارة جريدة كبرى فأكبروا ما في يدي من صور شهادات، فكلفوني الكتابة، ثم الترجمة فرأوني ضعيفا جدا، واستكتبوني في المواضيع المحلية والاجتماعية فما أعجبهم إنشائي لضعفه وركاكته وأخطائه الإملائية والنحوية. ولا تسل عن جرح قلبي البليغ حين سمعت رئيس التحرير يقول: عجيب! كيف نلت هذه الشهادات؟ أنا ليس في يدي شيء منها، وهذا إنشائي، اقرأ يا أستاذ.
فقلت له: كنا نكتب مقالات عن الشعراء والكتاب وغيرهم، فتضاحك وقال: والإملاء يا عزيزي؟! لا تعتذر.
فوجعت وأطرقت، أما هو فقال: لا تيأسن، تتعلم في الحياة إن شاء الله، نصيحتي لك أن تعلم في إحدى المدارس ما تعلمته فيها فبضاعتك تنفق هناك.
وأخيرا وجدت عملا في مدرسة ما، ولكنني وقعت في شباك التلاميذ لأني غير متمكن من الأصول واللغة، فشكرت لي المدرسة جهودي بعد شهر ...
وأخيرا توسط لي نائب كنا معه في الانتخابات، فعينت معلما في مدرسة رسمية، فنفقت شهاداتي حيث لا يسأل أحد عما يعلم ولا عما يعلم ... ولكن ما النتيجة؟! إذا اكتسيت جعت وإذا شبعت عريت!
وقعدت ذات ليلة أحاسب نفسي فوجدت أن عاملا في كاراج وخادما في مطعم أيسر مني حالا، فقلت لوالدي : لو أعطيتني ما أنفقته على تعليمي ما لا ينفعني لكنت صرت غنيا مثل فلان الذي لا يعرف الخمس من الطمس.
فامتعض الوالد وكأنه اشتم رائحة نكران الجميل، ثم قال: ما الحق علي ولا على العلم، كل الحق على من علموك ما لا ينفعك في الحياة حتى كنت كذلك الشيء، لا مع اللحم ولا مع العظم ...
المستقبل لا يرتجل
سموها وزارة المعارف يوم مولدها، ثم طاب لهم أن يسموها وزارة التربية الوطنية والشباب، ولكن كلمة «الشباب» ماتت مع فجر حياتها فصارت وزارة تربية وطنية بلا شباب، واليوم يقولون إنها ستصير وزارة «الجامعة اللبنانية» ... قالوا: إذا غضب الله على قوم جعل صيفهم شتاء، ونحن نقول: جعل وزارتهم مدرسة ...
ما أعظم حيرتنا في هذا البلد! وما أتعس حظ التربية عندنا! ما زلنا نبدل المناهج كأننا ننقل حجارة دومينو ولا نضع منهاجا. وضع المنهاج أول مرة فضم تاريخ أدبنا العربي كله، وظل كذلك أعواما، ثم اجتمعنا لتشذيبه فأبقينا على تسعة وعشرين أديبا وشاعرا، فتنفس الطلاب والأساتذة الصعداء، وخف من لا يفكرون إلا بجيوبهم فجمعوا النصوص، فما كان في «الروائع» نقل عنه وما لم يكن فتش عنه، فصار لنا كتاب يتدارسه المعلمون وطلابهم.
وقالوا بعد حين: هذا منهاج ضخم يجب أن نقل من شحمه لأن السمنة بشير الشيخوخة، فقعدوا يطبخونه في الخفاء، وأخيرا طبعوه وقالوا: هذا هو المنهاج الجديد. ونظرنا فيه فإذا التسعة والعشرون عادوا كما كانوا أولا - أي مائة وأكثر - واليوم يقولون: إنهم يعملون على تنظيمه وتعديله، ولكن ظني - وظني لا يخيب - أنهم لا يتعدون الخطة التي عرفنا، وإلا كسدت الكراريس المعلومة ...
إن ما نسميه وزارة التربية عندنا ليس إلا وزارة قراءة وكتابة في لغتنا القومية واللغات الأجنبية الأخرى، أما خلق رجال يوافقون مقتضى الحال فهذا لا تحققه مناهجنا، ما زالت تسيرها أيد غريبة من وراء الستار، تنفخ في بوقها وبوقها يقيم القيامة وهو صامت.
إن أهدافنا عتيقة جدا من عهد كانت وبستالوزي وغيرهما، وهذه لا تتفق أبدا مع التربية التي يتطلبها زمننا الحاضر ، فالتربية الوطنية لها هدف خاص - أي خلق رجال مختصين ببقعة من الأرض - فهل نعمل لهذا؟
أتستطيع الوزارة التي سميناها وزارة التربية الوطنية أن تقول لجميع مدارس الجمهورية اللبنانية: «افعلي هذا ودعي ذاك؟» وإذا كانت الوزارة وهي مستمدة قوتها من شكلها الرسمي ومهابة الكرسي لا تستطيع ذلك، فكيف إذا صار الأمر إلى مدرسة عليا سميناها جامعة لبنانية ...؟
هل تستطيع هذه أن تفرض إرادتها على الجامعتين الكبيرتين؟! أما إذا كان القصد أن نبسط سلطاننا على المدارس الأخرى التي لا شأن لها وننتفش كديوك الحبش؛ فهذا شيء آخر.
يقول علماء التربية إن التربية التي تصلح لأمة أو فرد قد تضر بأفراد آخرين وبأمة أخرى، ومع ذلك نظل نحن ننسخ برامجنا نسخا ونسير على منهج لا يتصل بحياتنا، فإلى أين يا ترى نحن واصلون؟
التربية الحق هي التي توحد عواطف الأمة وأفكارها فتصير الشعور واحدا، فهل فكرنا في شيء من هذا إذا كنا نريد أن نبني وطنا لا دولة؟ فالإنسان الذي تتطلبه تربية اليوم ليس ذاك الآدمي الذي أوجدته الطبيعة، بل الإنسان الذي تتطلبه الأمة، إنها تريده كما تقتضي ظروفها وأحوالها الطارئة فلكل عصر رجال.
وإذا كان التعليم وسيلة تربوية فماذا تربي لنا هذه المناهج المنسوخة الممسوخة؟ ألا يرى القارئ معي أن من نربيهم بل قل نعلمهم يصلحون لكل مكان ولا يصلحون لمكان بعينه؟ فإذا كان هدفنا التربوي تربية رجال دوليين فلنسم وزارتنا «وزارة التربية الدولية»، فهو أعم وأفخم.
للطيور التي تعيش مجتمعة نظام اجتماعي موحد، فكيف بنا نحن البشر؟ أيظل لبنان حائرا؟
يقول دركايم: «إن مجتمعا يعلم بدون عقيدة تربوية هو جسم بلا روح.» فما هي عقيدتنا التربوية يا ترى؟
الجواب عند الجنسية والطائفية، فلكل مدرسة عندنا هدف، ولا يرتقي إنسان ما إلا إذا استهدف غرضا ساميا.
وإذا سألنا أستاذا منا: ما هو هدفك يا صاحب من تعليمك؟ أجاب: أصطبغ باللون المحلي؛ فأنا لاتيني عند اللاتين، وأمريكي عند الأمريكان، وسكسوني عند السكسون، ولبنان العروبة على الله ...!
الاستيطان يمنح الحجل لون تربة البقعة وصخورها ، وهكذا مدارسنا الرسمية؛ فهي مسيحية إذا كان المحيط مسيحيا، وإسلامية إن كان إسلاميا، وهكذا قل: أرمنية ويهودية ...
إننا نتشبث بلقب التربية لا لشيء سوى أنها هكذا سميت عند غيرنا، كما لم أسم مارون إلا لأني ولدت يوم عيد ذلك القديس.
إن مهمة التوحيد عندنا شاقة، ونحن لسنا نطلبه كاملا؛ لأن دولا كثيرة لم تحققه بعد، فخير لنا أن نسمي هذه الوزارة جمعية خيرية أو أخويات متحدة، تصلي لله لأجل الوطن الحائر وبألسنة عديدة كتلاميذ المسيح حين حل عليهم البارقليط في علية صهيون ...
لقد أصبحت الوظائف والمعاهد عندنا «سيامة وعمادا»! فمتى مسحناه بزيت «الواسطة» المقدس أمسى مكرسا، أما سميناها جامعة لبنانية وهي دار معلمين؟ أما كان يجب أن يكون المشرف عليها من ذوي الكفاءات النادرة والشهادات الرفيعة؟ ومع ذلك سميناه وصار، واليوم ها هو يسعى ويحاول أن يسيطر على مقدرات البلاد الروحية والقومية علنا؛ لأننا سكتنا امتثالا ومجاملة ...
كانت غاية مدارسنا العتيقة أن تخلق منا أناسا تقرأ وتكتب - واللغة كما يقرر علماء النفس أخطر عناصر التربية القومية - فخرجنا قارئين كاتبين، أما اليوم فالقراءة معدومة، وأساتذتنا يضيقون صدرا بتعليم لغتنا العربية؛ فمن قائل بترك الأصول وعدم الاكتراث بها، ومن قائل باللغة العامية، ومن داع إلى الكتابة بالحرف اللاتيني، وسبب ذلك هذه المناهج الموضوعة لنيل الشهادات لا أكثر، فالفرق بيننا وبين طلاب اليوم أننا تعلمنا لنعرف، واليوم يتعلمون ليطبقوا المنهاج.
كانوا يقولون فيما مضى: «فلان يطبق المفصل.» واليوم يقولون: «طبق المنهاج وأخذ بكالوريا.» فهي مفتاح الأعمال وإن كانت بارودة فاضية!
شعر العرب أن لكل إقليم خاصة، فقالوا في شعر ابن أبي ربيعة حين كان يقرزم الشعر: شعر حجازي تحس فيه البرد في تموز. أما لبنان فيدرس بنيه ما هب ودب! ولا عجب في ذلك فالمخلوطة أكلة لبنانية ...
عندما اجتمعنا لترميم منهاج البكالوريا عام 1932 كان مستشار المعارف المسيو كوانته يتجه دائما في اختيار من كتبوا عن الشرق من أدباء الفرنجة، أما أعضاء «مجلس المعارف الأعلى» البلديون فكان لا يعنيهم في اختيار أدبائنا إلا نعراتهم الطائفية.
لست أتوقع حدوث العجائب إذا عدل المنهاج، فمثل هذه المناهج - وخصوصا منهاجنا - يقتل قوة الاستنباط والاستقلال العقلي، فلا يهم شبابنا إلا اجتياز المحنة بسلام ... إن التفكير يصير التقليد والممارسة صالحين للزمان والمكان، فمن تراه يفكر في إبداع ما يتفق وميول أبنائنا وطموحهم؟ الدنيا تتغير وتتحول ونحن ثابتون كالشمس، صامتون كالأرض، مع أن هدف التربية خلق إنسان جديد لحياة جديدة.
نعم إن الطفرة محال، وليس المستقبل قصيدة ترتجل، بل هو الماضي تصلح حجارته وتنقح لتلائم الطراز الحديث.
قال هانيكين: «ما من حادثة في الطبيعة كلها إلا تتولد من الماضي، وتكون في الوقت نفسه عاملا مقوما وعلة مفيدة للمستقبل.»
أما نحن وا أسفاه! فكل تجديدنا واهتمامنا في هذه التسمية، كانت تسمى وزارة معارف فسموها وزارة تربية وطنية، ثم كانت للشباب فأمست بلا شباب، واليوم يجب أن يسموها وزارة الجامعة اللبنانية إذا وقعت الكارثة.
إن فكرة الاحتكار والاستغلال متمكنة منا، يفكر كل واحد منا أن يسيطر على العنابر وحقول الاختبار، وهكذا ينقضي العمر ونظل نحن كما نحن، فبدلا من أن نفكر بالإصلاح الجذري نفكر بنقل الأعمال من يد إلى يد، فكأن ميزانية الدولة تركة ميت توزع على بنيه وبناته والأقربين الذين هم أولى بالمعروف ... المخلصون يذكرون المرحوم وفي العين دمعة، ولكن ذوي قرباه متلهون بالجمع والقسمة، وليس فيهم من يقرأ الفاتحة على قبره، ولا من يصلي عن نفسه الأبانا والسلام، شعارنا «إذا هبت رياحك فاغتنمها» ... نفرح بمرسوم ويحزننا مرسوم، وما كانت المراسيم قط تبني وطنا.
مسكين لبنان! فما فيه حد وسط، فهناك إما لبناني يظن نفسه جزءا من أوروبا، وإما لبناني يظن أنه من السكوت وحضرموت، وقد نسيا كلاهما أن اللبناني تمغرب وظل لبنانيا، كما أن العربي أولع بوطن ثان كلبنان هو الأندلس.
يقول المثل: «من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه»، أما لبنان فلا يوضع موضع الحزم فيه إلا التفتيش عن المنافع، فبدلا من أن ننتقي المعلمين ونشبع من اخترناه نحاول أن ننقل صلاحية الوزارة إلى دار معلمين ...
المسيحي يقول «النومن» والمسلم يقول كلمة الشهادتين، والمعلم اللبناني يجب أن يؤمن أولا أنه يبني وطنا، ولكن من أين له ذلك وباله ببطنه الخاوي، وبال الأستاذ الجامعة اللبنانية في كيف يبسط نفوذه على هؤلاء البؤساء؟!
وبعد تفكير عميق أقول كما قال زياد ابن أبيه: «إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله»؛ ولهذا أقول كما قال الحجاج: يا أهل لبنان، إنني لم أجد لكم دواء أدوأ لدائكم من الجندية، فالجندية هي وزارة تربية حقا، هي البوتقة التي تصهرنا جميعا وتطبعنا على غرار واحد فنحس أن لنا وطنا، فكل تربية وطنية تظل عقيمة حتى ينام المواطن شهورا في الثكنة العسكرية يحيي علمه بالسيف والبندقية، المدارس تخرج مخنثين أما الثكنة العسكرية فتطهرهم وتخرجهم رجالا صالحين لحرب بغير النظارات.
ويح للبنان! فشعبه بخلاف الشعوب، للشعوب قلب وليس لها أعين تنظر بها، فهي تحس ولا ترى، والحكومات بالضد فهي تنظر ولا تشعر، ويا ويل أمة شعبها ينظر وحكومتها تشعر! إن الهوة بينهما عميقة.
واعجبا، كيف صارت المدارس التي أوجدها النوابغ الثائرون تخلق للأمة عجزا وقاصرين ومشلولين ومسلولين؟!
عندما كان هدف التربية يصلح لكل زمان ومكان، قال أجدادنا: «لولا المربي ما عرفت ربي.» فالرب كان هدف التربية في زمن الروح، أما في عصرنا هذا - عصر المادة - فهدف الرجل وطنه، والتربية التي تصلح له هي تطعيم وتلقيح، فالميول المكتسبة تطعم وتلقح بالميول الغريزية، والمربي الصحيح لا يخلق ميولا جديدة، بل ينمي الميول الغريزية أو يقاومها، فقصارى المربي أن يروض الشخص ليصلح للجري في الشوط المنتظر، إن الأخلاق الفاضلة تكتسب بممارستها وتعودها فتصير خلقا وسجية.
ولنستنر أخيرا بشيء من علم النفس: إن لمسنا جسدنا يختلف عن لمسنا للأجساد الأخرى، إذا لمسنا جسدنا أحدث هذا اللمس إحساسا مزدوجا؛ لأن اليد اللامسة تكون لامسة وملموسة، أو فاعلة ومنفعلة كما يعبر الاختصاصيون. فالمربي الوطني يكون إحساسه مزدوجا إن كانت عقيدته صادقة لا زندقة فيها، أما المفلوج فيفقد هذا الإحساس المزدوج، ويخال عضوه المريض ليس أحد أعضائه، فإذا شئنا أن نربي للوطن رجالا صالحين فلنقص المفلوجين ...
الدواء في الثكنة
عندما دخل علي المقدم زين الدين ومعه طبيب مصلحة التدريب الدكتور فؤاد أبو حمزة، تهللت لما عرفت أنهما قادمان بمهمة تربوية علمية، وهي التدريب العسكري في المدارس الثانوية، إن ما كان حبرا على ورق جاء من يصيره عملا نافعا مفيدا.
وعادت بي الذكرى إلى ما كتبت في نقاش حول التربية الوطنية، فقلت حينذاك: إن دواء الداء الذي نحن فيه ليس في المدرسة إنه في الثكنة العسكرية، فهي البوتقة التي تطبع أبناء الوطن على غرار واحد، فينسون نعراتهم وعنعناتهم.
ثم مرت الأيام، وأخيرا أقر التدريب العسكري في المدارس، فشكرنا وانتظرنا ساعة التنفيذ لنرى طلائع التجنيد الذي يرعب اسمه الكثيرين منا كأنه الغول الذي خوفونا به صغارا.
كان عهدا ومضى، كان ذلك يوم كان سيف اللبناني مخدته، يوم كان يقول ككل عربي: «أيقتلني والمشرفي مضاجعي؟» ولا ينكرون القول حين يقول.
كان عهدا ومضى، عهد الرجال القشمريين والأبطال المشمرين، وجاء دور بنطلون الشرلستون، عرض ساقه أربعون سنتيمترا، يلف سيقان الفتيان المرهرهة فوق مرمر المقاصف، كانت الشراويل الخشنة تمر بالقندول المعجرم مر الكرام، وصارت بذلات السموكن تترحم على طيلسان ابن حرب ...!
رحم الله عهد اللبادة والكوبران، والصدرية المزررة كأنها الدرع، وزنار الكشمير والعباءة المخططة!
ليس فيما أقول حطة من قدر النفوس والهمم، فالبلاد لا تزال تنجب الغطاريف، ولكن تربيتنا وأنظمتنا تخمد الهمم وتميت الإباء والشمم.
شاءت دول أوروبا السبع أن تسبغ ثوب حمايتها على لبنان، فوضعت له ذلك النظام المخنث المشلول، النظام الذي خنق الرجولة في صدور اللبنانيين فأصبحوا يرتعدون إذا ضجت الخيل والبارود. كان اللبناني يستقبل المنايا كالحات ولا يلاقي الهوان، فصار يؤثر العافية، اتكل على «الدول السبع» فعاش يأتيه رزقه رغدا، ولم يرحل لبغية المكارم، ولماذا لا يقعد الزبرقان وهو الطاعم الكاسي؟!
كثيرا ما سمعت: «هنيئا لمن له مرقد عنزة في لبنان»، إن هذا المرقد الذي تغنى به الشعراء قد صير اللبنانيين أعنزا ونعاجا، قتل الإباء وأخمد المروءات، فأصبحنا نغلق الباب ونعيا عن رد الجواب، وهل يعز وطن بلا جنود؟
أمنا شر العدو الطارق فتعادينا مللا ونحلا وأسرا وبيوتا، وتقسمت مدننا وقصباتنا حارات وأحياء، فصح فينا اليوم ما قاله شاعرنا في الأمس:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
رحم الله عهدا كان فيه اللبناني فلاحا ومحاربا في وقت معا، ينحت صخور جبله مسالما، ويهب للذود عن حوزته مهاجما!
كان يسوق ثيرانه إلى الحقل ليحرث أرض آبائه وأجداده، يعاونه بنوه وزوجه، كلهم عمال يدهم واحدة، حتى إذا داع دعا وسمع الصوت في الحقل لم يرجع إلى بيته، يلقي عن بقراته النير، ويسوقها إلى مراحها ابنه الصغير، وتمضي الأم لإعداد الزاد.
ها هو يستبدل المساس بالطبنجة والسيف والغدارة والقرابينة، وجراب البذار يصبح كنانة الفلاح البطل، وإلى أين؟ هو يلبي صوت الداعي ولا يدري، يمضي مسرعا ووجهته الصوب الذي طرح منه الصوت، لا يعنيه ماذا، كذا نشأ وتعود، وهكذا عاش كريما ومات عزيزا. «اطرح الصوت يا صبي.» هكذا يخاطب ابنه ورفيقه إلى المعمعة، لعل أحدا لم يسمع الصوت فيعتب علينا، ناد فيسمعوا ويجيئوا معنا، ناد يا ابني ناد، لا يبقى في بيته إلا الجبان والعاجز، أسرع يا ابني، عجل قبلما يفوت الفوت.
في ذلك الزمان كان لبنان أشم، وذلك العهد يعود إن عادت إليه الجندية ماحقة النعرات الطائفية، فلا يمحي تبلبلنا القومي ما لم تصهر نفوس أبنائنا في بوتقة واحدة هي بوتقة الجندية، وإلا بقينا نماذج وأشكالا تزدريها الأمم وتحتقرها الشعوب.
لا يرجى من المدارس أن تخلق للوطن رجالا، فمدارسنا كما هي حالها لا تخرج إلا كل مخنث رخو، إنها مضطربة الميول متعددة النزعات والأنظمة، في مناهجها سم ودسم. إن «ولدنا» عرضة لعوامل شتى مفسدة، أهمها البيت المستضعف والمدرسة المسترخية.
أصبحت المدارس لتخاذلها ولتنافسها ولسقوط سلطة الآباء عن بنيهم تراعي طلابها، فانفرج بركار الحرية المدرسية عن دائرة واسعة خطرة، بات النظام مهددا وخرج الشبان أقرب إلى الفوضى منهم إلى النظام، ولم يتأصل فيهم شيء من العادات القومية؛ لأنهم مسوقون بسياط التقليد.
العادة تكون الأخلاق التي يحتاج إليها المواطن، والمدرسة عاجزة عن توطيد هذه الأخلاق في معظم الدول العريقة في القدم، فكيف تطلبها من مدارسنا البابلية؟
بالتكرار تستقر فينا الأخلاق التي تحتاج إليها الأمة، ومدارسنا تريد ذلك ولا تقدر عليه لتباين أهدافها وتنوع أغراضها ومراميها، إنها تعلم ولكنها لا تربي الخلق القومي الذي لا وطن بدونه. هذا الخلق لا يستقر في أبنائنا إن لم يصبح من عاداتهم الراسخة، والعادة لا ترسخ وتصبح خلقا إلا بالتكرار؛ ولذلك قالوا: «من شب على شيء شاب عليه.» العادة تكون الرجل تكوينا يقتضيه الزمان والمكان، ومدارسنا جميعها عاجزة عنه؛ لأن لكل مدرسة منها نزعة وغرضا.
فلا رجاء لنا ولا أمل إلا بالجندية الواجب فرضها على كل مواطن؛ ليخلق فينا بالتكرار والعادة ما يسميه علماء الأخلاق ب «الوازع الباطني»، إن الوازع الباطني مفقود عندنا، ولا أثر له في أكثر شخصياتنا المنحلة، كلنا يرجو الثواب، كلنا يأبى الدنية - إن أباها - لا لأنها دنية بل لمآرب أخرى، فالمأمور لا يتم عمله إلا خوفا من أن يتقلقل تحته كرسيه أو خوفا من الفضيحة، أما إباء العار لأنه عار فلا بد له من وازع باطني نام في الصدور. «نظام عسكري»، كلمة كثيرا ما سمعتها من إخواني القرويين إذا وصفوا رجلا دقيقا مثابرا على عمله، لا يتوانى ولا يتكاسل، ولا يتأخر ولا يبطئ؛ أثنوا على عمله وهمته قائلين: نظام عسكري.
أجل، إن المدرب العسكري هو المربي الأكبر لا نحن، والثكنة العسكرية هي مدرسة الوطن، عند عتبتها ينسى الطالب ملته، وتحت سقفها يصافح ابن بلده غير ناظر إلى ملته ودينه.
لا وطن بلا حدود، وحدود الوطن وتخومه الصحيحة مخيم جنوده.
وهنا يطيب لي أن أوجه إلى الجندي اللبناني الذي له في نفسي أسمى الاحترام:
إن يدك الكلة يا أخي الجندي لنقية شريفة طاهرة، فلا تمدها إلى مواطنيك إلا مضطرا.
إن ثوبك الخشن لأرخم من البرفير والأرجوان، فاحفظه من الوسخ والتلطيخ، لست أعني لطخات الزيت والدهن، بل الذي لا يمحوه الغسل فافهم عني.
إن سيفك مغمد إلى حين، فلا تدعه يصدأ.
إن بندقيتك مجن الوطن، فتفقدها كل يوم.
إن الجندي محترم ونبيل ومسئول، فليرع احترامك صدق طويتك، وصن نبلك بجمال خلقك، وعزز المسئولية بالحق والعدل.
احفظ القانون يحفظك ويحفظنا.
كن شجاعا، فالشجاعة أس الفضائل - حتى عند الرهبان - فكيف بها عند الجندي؟
لا تظن عملك يدويا وسيرك آليا، أنت مسئول عن علمين: علم عام وعلم عسكري، فازدد منهما ما استطعت كل يوم، بل كل ساعة.
لا ترج المهابة عن يد التهويل والتنكيل والعدوان، فالوعورة والخشونة تذهب الهيبة والوقار.
إن يد القانون طويلة فلا تقصرها بمدها. إن خير شعار لك يا أخي الجندي، كلمة زميلك زياد ابن أبيه: شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف.
اعرف القانون وطبقه، تعرف قدرك وتحفظ هيبتك.
كنيسة العلم والثقافة
إلى أولادنا بالعلم والتربية: سلام.
أيها الأبناء الأعزاء
سوف يدهشكم هذا العنوان الغريب «كنيسة العلم والثقافة»، ويشدهكم أسلوبي «الرعائي»، فكأني أصدر منشورا إلى أبنائي بالرب! نعم أيها الإخوة: إن كنيستنا، كنيسة الثقافة والعلم، محتاجة إلى رعاة ومرسلين ومبشرين، فالإخوة المؤمنون كثيرون وهم أنتم أيها الأحباء. فمن على قمم المنابر الحقيرة المنصوبة في زوايا الغرف الصغيرة، طارت رسالتنا في الآفاق البعيدة، فإذا أصدرنا لكم منشورا فهذا من حقوقنا، وإن كنا رعية بلا راع. لا تخافوا فليس أمرنا إلا رغبة، وما نهينا غير استحسان وحض، وقصارى الحديث أن نيرنا طيب وحملنا خفيف. أما أنا فأطمئنكم إلى شبابي الذي أراه يتجدد كل ساعة، وإنني لأشعر كأنني أولد كل يوم فأنسى ما ورائي وأنبسط إلى ما قدامي، كما قال بولس الرسول.
يؤلمني أيها الإخوان أن تكون خراف الثقافة مشتتة أسرابا وقطعانا، وأن تكون الموارد والمراعي بلا نواطير، وأن: «يهدم» بعضنا بعضا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
يقولون لنا - نحن المعلمين - متى شاءوا نفشنا ونفخنا: أنتم مربو رجال الغد، ومكونو الأمة. يرددون على مسامعنا قول أخينا بسمرك: «غلبنا فرنسا بمعلم المدرسة.»
هذا فخر جزيل لنا، وبه نرضى وإن جرح اتضاعنا العميق، فنحن الأساتذة متواضعون جدا ... فحسبنا فخرا يرفع رءوسنا أنكم أنتم رعيتنا، ومن كنتم رعيته كان المستقبل له، وإن قال أخونا هيغو: «المستقبل لله»، وحسبنا تعزية في ضيقتنا أنكم ميراثنا الخالد، كما قال داود النبي: «وأعطيك الأمم ميراثك» ...
إننا راضون، ولنا إذن ملء السلطة بمخاطبتكم هكذا؛ لأن رسالتنا إنسانية بحت، ورعيتنا النسل البشري كله، على اختلاف الملل والنحل، وإن لم يكن لنا لباس معلوم كرجال الرسالات الدينية ولا أوقاف عندنا ... ألم يكن المعلم يسوع بلا مكان يسند إليه رأسه؟ هكذا نحن ولا ينقصنا إلا الصلب، ويا ليتنا أهل له! وبعد، فلماذا الشكوى؟ أليس كل ناد هو نادينا، وكل مجتمع يحمل مصباحنا؟ فالحمد للروح القوية التي هي فينا، فتدفعنا في سبيل الواجب المقدس.
أيها الأبناء، إنكم ترون فينا أشكالا وألوانا وهذه سنة الطبيعة، أما منبع هذه الفوضى فإهمالنا «التأصيل»، فالبصل يؤصل أليس كذلك؟ ولكن الثقافة والعلم كالدين لا يعدمون أفاضل يخدمونهم نزهاء مخلصين يرضون بالكساء والرغيف، فإن كان يابسا بلوه، وإن اتسخ نظفوه، وكفاهم الذكر الخالد ...
أيها الأعزاء
لا تنسوا أنكم ورثة مدنيتين: إحداهما اندثرت وذهب ذكرها مع الدوي، والأخرى احتضرت زمنا، ولكنها لبطت عزرائيل وقعدت في فراشها، والحمد لباريها! فهلا تمدون إليها يدكم فتقف وتمشي! لا تنسوا أنكم أحفاد أول من ركبوا البحر وأخضعوا لمجذافهم، وغرسوا على شواطئه فسائل المدنية، فأورقت وأزهرت وأثمرت ثم سلموا رسه إلى الإنسانية.
لا تتفرقوا حول كلمتين: فينيقية وعروبة، فهما واحدة. ومن يتقعر في البحث عن الجذور فهو كالخلد لا يعيش إلا في الأنفاق.
اللسان يوحدكم فاحفظوا ذكر أنبيائكم ورسلكم في قلوبكم، وهم لو عادوا اليوم لما قالوا لكم غير هذا، لا بل قالوه يوم جاءوا، كل المعابد تعلم الخير وتنهى عن الشر، أما البلوى فمن أكثر رعيان القطيع، متى تقاتلت الغنم على المراعي؟ أليس الرعاة يتقاتلون؟ فاسمعوا وعوا كما قال ابن ساعدة.
يا أولادي، الناس يتقاتلون اليوم على «المنفعة» فلا دين لهم ولا مذهب، فلا تتصارعوا أنتم عند باب السماء، السماء مشاع. كانوا فيما مضى يستعمرون باسم الدين، أما اليوم فيحاربون الشعوب ليمدنوها كما يزعمون.
أجل، لقد صار التمدن دكتورا في الأدب يلقي دروسه غازات خانقة، والعلم من حملة الليسانس في الحقوق يلقي بألسنة المدافع مرافعات طويلة ... لم يعد للمذاهب تلك الصولة كأيام الصليبيين، فانسوا ذلك، إن الدول التي تتناحر كلها على دين المسيح، وأحبار وكهنة المسيح يحاربون في المعسكرين! فمن يتعظ منكم؟
ما لكم وللأديان فلها معابد، لكم دينكم ولي ديني، ومتى رأيتني ملتهبا في جهنم - لا سمح الله - فلا تستغث بالإطفائية.
الحياة لعبات يا أولادي، ولكنها خطيرة ولذيذة، فنظموا صفوفكم جيدا لتلعبوا وتفوزوا، تعلموا الرمي وإلا كنتم الكرة، وسيان أن تدفع بالرأس أو ترفس بالأقدام فأخيرا مستقرها الأرض ... أفهمتم؟
ليس العلم وحده بالعدة الواقية في معترك الحياة، فكم من معلم مغفل تهزءون منه وتتماجنون عليه ولا يحس، بل يضحك معكم على نفسه! إن هذا يجني عسلا، ولكنه يضل كالنحلة، فلا تحولوا فم الخلية ... أما الفتى الذكي الفؤاد فقد يكون القائد لأمة لا قائد لها، وما رأيت أمة نهضت إلا بفرد، لست أعني «الديكتاتور» فأنا أمقت المستبد ولو دفق الخير على الأمة دفقا.
وأنا - وقد تستغربون - لست ممن يثقون بالرأي العام، ففكروا ولا تسيروا خلفنا لعل الله يفتح عليكم، كونوا شجعانا واشغلوا عقولكم بالتأمل وأعينكم بالمراقبة، فكروا بمحيطكم، ولكن بمقدار، وقووا أجسادكم وعقولكم فالوطن بحاجة إلى أدمغتكم وسواعدكم.
اطلبوا التجديد دائما، ولا تتغنوا بالماضي فيلهيكم عن الحاضر، تذكروه للعظة لتعلموا أين كنتم وأين صرتم، فلا يكون أجدادكم خيرا منكم، فيقال لكم: نعم الجدود ولكن ... إن المدارس تسلح العقول وتجهزها لمعترك الحياة، فاحسبوا كل يوم كم رمية تعلمتم، لا تناموا قبل أن تفحصوا ضمائركم، ومن رأى أنه غير كفء للكتاب فليأخذ الفأس ... ليذهب إلى الحقل، فكتاب الحقل أرحب من هوامش المدن. تعودوا النقض والإبرام وحدكم، ما لكم ولنا؟ فما نحن أوصياء عليكم إن نحن إلا مرشدون لكم، نصارحكم بهذا لأننا لا نريد أن نربي عبيدا، فمن نستعبده نحن عاش عبدا لغيرنا.
حذار أن تبصقوا في وجه الهواء! وأحسنوا السباحة لئلا تأخذكم «الحامولة »، فنهر الحياة هادئ ماكر.
أيها الأبناء
في الكنيسة المسيحية أربع فضائل يسمونها «أصلية»، أوصيكم بثلاث منها وهي: الفطنة، والعدل، والشجاعة، أما الرابعة وهي القناعة فلا أوصيكم بها، فإياكم والقناعة! فلا قناعة في الثقافة.
وفي الكنيسة أيضا سبع خطايا رئيسية قبالتها سبع فضائل أدبية: (1)
الكبرياء، ويقابلها التواضع، فأنا أوصيكم بالاثنتين معا.
تواضعوا لمن يحسب تواضعكم أدبا وكياسة، وتكبروا على من يخاله ذلا وجبنا. (2)
البخل، ويقابله التجرد عن حب المال، وهذه ننسخها فتعمل عمل كان وأختها صار، أأشرح لكم كيف؟ أعني كان بخلا فصار اقتصادا، فماذا نفعنا كرمنا وسخاؤنا غير ضحك الناس على ذقوننا؟! (3)
الدعارة، وتقابلها العفة، فاحذروا الدعارة ألف مرة! الشباك والفخاخ منصوبة في طرقكم فاجتنبوها تعيشوا أباة، فالأدعر قليل الهيبة، لا مروءة له، يقبل حتى النعال، ولا ترتفع عينه إلى فوق. (4)
الحسد، وهذه نسميها المنافسة أو الغيرة، ونعمل عمل اللاهوتيين حين يتفلسفون على ربهم - في زعمهم - ليبرروا عبيده مأجورين ... (5)
الشراهة، ولا أخاف عليكم منها، لقد أتيتم في أسوأ الأزمنة، فأتمنى لكم الشبع. (6)
الغضب، ويقابلها الحلم، فاحلموا متى قدرتم، واغضبوا لكرامتكم، وإياكم أن تحولوا خدكم الأيسر لأحد فتشبعوا ضربا ولطما! (7)
الكسل، تأملوا النحل والنمل وتعلموا منها، اهتموا للغد، فالغد لا يهتم لشأنه، وليس قصد المعلم يسوع الشاب أن تناموا على ظهوركم فيأتيكم رزقكم في أنابيب، لا وألف لا، إني أسأل المفسرين الأتقياء أن يتكلوا عليه ليلة واحدة ويوزعوا مئونتهم على الفقراء. أما أخذ المعلم الوزنة الواحدة من العبد البطال الكسلان وأعطاها صاحب الوزنات الخمس لأنه تاجر وربح؟ ألم يخرج ذلك العبد البطال إلى الظلمة البرانية حيث البكاء وصريف الأسنان؟
أيها الأبناء
إنكم لقائلون: حدثنا هذا المعلم عما نعلم ونعمل، ولم يحدثنا عن مهمته.
يا أولادي أوصيكم، بل أوصي النابهين منكم بالآداب خيرا، إنها عصارة كرم الأمة، استنبطوا فيها وأبدعوا لتخلقوا مثلا عليا، وإن لم نطعمكم خبزا فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
بركة الثقافة تشملكم جميعا!
صدر عن كرسينا في عين كفاع.
فتش عن ذاتك
الطبيعة أم تقاسي مشقات كثيرة حتى تكون أبناءها، وهي تأبى أن يتوجه - من تعبت حتى أنتجته - في غير الطريق التي خلقته لها، فإذا رأيت رفيقا لا يسير على الدرب الذي خطها له ذووه، فاعلم أن فيه منبها داخليا يهتف به: ليست هذي طريقك، دربك من هنا.
إن صاحب الموهبة لا يستقر إلا في مكانه، قد لا يهتدي منذ أول خطوة، ولكن الطبيعة تعمل دائما حتى توجه ابنها، تقاوم أبويه ومعلميه وكل من يعنيهم أمره حتى تضعه في صحنه ويعمل عمله.
فالموظف عندنا يريد أن يكون ابنه مثله ويرث عرشه، والكاهن يريد أن يكون في بيته من يرث جبته وقاووقه، والمحامي يتمنى لو يخرج ابنه من البطن لابسا الروب ويكلم الناس في المهد صبيا.
لاحظوا العائلات تجدوا أن أسماء المهن تخوض بيوتنا خوضا، قد يكون ذاك الحداد أو النجار أو النحاس أو الصائغ أو الشدياق عبقريا في عمله حتى نسبت عائلته إليه وحملت اسمه قرونا، بينما أحفاده لم يخلقوا لمهنته.
إن هذا التقليد يجعل الناس عاديين يعيشون من قلة الموت، لا يبتدعون ولا يخلقون، يسيرون على الطريق المعبدة كحصان العربة، فكم من رجل خلق ليكون من رجال الشريعة تراه يفلح وينكش ويقطع الحطب، ويحل محله من كان يجب أن يكون هناك! وكم من فتاة خلقت لتكون خادمة تجلس على كرسي التعليم! وكم من فتى خلق ليكون معلما تراه في مخزن يكيل الحبوب أو يذرع الخام والمقصور! وكم من فتيان يعملون بأيديهم في المصانع كان أولى لهم أن يتعلموا الرياضيات والعلوم ويحلوا محل الذين في الكليات والجامعات! وكم من سياسيين قعدوا في غير مقاعدهم، بينا نرى الجدير بمحلهم يعمل في مخزن ما! وكم من رجل خلق ليكون أمهر جراح نراه جزارا في يده الساطور! وكم من جراح هو جزار يقطع أعضاء بشرية!
كل هذا لأن الناس لا يحسنون توجيه بنيهم، أو لأن الأولاد خاملون لا يتطاولون إلى الأسمى. المواهب كالبراعم منها ما يتفتق باكرا، ومنها ما يبقى كامنا إلى حين ينتظر الساعة التي يهب فيها الهواء السخن، فعلينا أن نصبر ولا نيأس، علينا أن نسير في الطريق التي تنفتح أمامنا، وإذا اصطدمنا بعقبة علينا أن نذللها بالصبر والعمل المتواصل، فإننا لا بد أخيرا واصلون. إن المقاومة الطائشة لا تجدي، وفي كل مخلوق ميزان يستطيع أن يزن به قدرته. إذا كانت الحيوانات لا تقدم على ما لا تستطيع، فهل نكون نحن دونها تمييزا؟ هذا هو سبب الإخفاق في الأعمال، والسر كله هو في أن ننتقي ما يلائم غرائزنا، وألا نغتر بأنفسنا فنماشي التيار الذي فينا، إن الحوت الذي يجري في الغمار لا يخطو خطوة على الرمال، والقطار إذا حاد عن خطه فقد قوته وسرعته، فرب نابغة يعجز عن القيام بأبسط الأعمال ولكنه يستطيع أن يتفوق في العظائم!
فكرامويل بقي في مزرعته يعالج الخس والفجل والثمار حتى شارف الأربعين، وأخيرا انفتحت أمامه الطريق التي وجد ليقطعها.
وفولتير حاول أن يعد نفسه ليكون من رجال الحق والقانون ففشل هناك، وانصرف إلى الفلسفة والأدب فكان الأديب الفيلسوف الخالد.
وموليير المسرحي الفرنسي العظيم لم تجد عبقريته مرعى لها في المحاماة، فانصرف إلى الأدب وكان الرجل الذي أضحك زمانه في كل وقت ولم يضحك هو مرة.
وكانت الفنون الجميلة عنوان الفقر، ولا تعد إلا ألهية من لا عمل لهم، وكثيرا ما خاطب والد «ميكال أنج» ابنه بلسان القضيب ليحول دونه ودون حيطان البيت التي يرسم عليها شخوصه، ولكن الميل والعبقرية انتصرا أخيرا، وكان الخلود حظ هذا الولد الذي شقي صبيا حتى انتصر.
وإذا اختار أحدنا ما لا يلائمه، فإن الطبيعة لا يهدأ لها بال حتى تضعه في مركزه الخاص به، فما علينا إلا أن نسير ولا نقف لأننا واصلون لا محالة، علينا إذا كنا في غير مستقرنا أن نعمل بأمانة وإخلاص لنبلغ أخيرا المحطة المعدة لنا، فلنعمل الواجب بأمانة وإخلاص، وعملنا هذا يؤدي بنا إلى ما نرجو، أو إلى ما أعدته لنا الطبيعة منذ البدء، إن العبقرية كالماء الجاري تحت الأرض ينتظر الساعة التي يشق فيها طريقه إلى النور، فيروي وينمي ويخلق أثمارا وأزهارا.
أما وقد ذكرنا نفرا من نوابغ غيرنا فأين نحن من نوابغنا؟ فهذا أمين الريحاني أراده أبوه معاونا له في المتجر، وأراد هو أن يتعلم الحقوق والتمثيل فالتحق بجوقة وأخفق، وأخيرا سار في طريقه، وكان الأديب اللبناني الذي احتل مقاما عاليا بين أدباء الأرض.
وجبران هاجر كسواه ثم عاد إلى الشرق ليكون أديبا فأفلح، وكان الإمام المتبوع.
والجاحظ أحب أن يكون إماما صاحب طريقة، ولكن الطبيعة سدت الطريق لتوجهه إلى الأدب، فكان أديب العرب الأول.
والمتنبي شقي في طلب السعادة فأخفق وأسلس لطبعه قياده، فكان الشاعر الخالد.
وفي سيرة أحمد فارس الشدياق عبرة العبر، فمن فتى ينسخ الكتب إلى معاون للمير حيدر يدون له تاريخه، إلى عطار يكاري على حمار يطوف القرى ليبيع بضاعته من هذا وذاك، إلى صاحب خان على طريق صيدا، إلى فار إلى مصر حيث حرر الوقائع المصرية، إلى مهاجر إلى مالطة ولندن وباريس، ليترجم التوراة ويكتب «الفارياق»، إلى راحل إلى تونس، ليتولى إدارة المعارف فيها، إلى نازل في الآستانة حيث استقر وصار نجي السلطنة ولسان حالها في الجوائب.
هكذا تسيرنا الحياة حتى نؤدي الخدمة التي انتدبتنا لها، فما علينا أن نيأس إذا لم نكن من أول رحلة من الغانمين.
عندما عين فرنكو باشا متصرفا للبنان، زار المدرسة الداودية في عبيه التي أسسها سلفه داود باشا ولا تزال تحمل اسمه، وشاء فرنكو أن يخطب في التلاميذ، فما وجد موضوعا أفيد لهم من مجمل سيرة حياته، قص عليهم كيف ذهب من حلب إلى إسطمبول فتى لا عتاد له، واستخدم عند تاجر يوجهه إلى هنا وهناك في قضاء حاجاته، حتى إذا ما قضاها عاد إلى مساعدة خالد رفيقه في الخدمة، تارة ينظفان الواجهات وحينا ينظمان البضائع ويكنسان المحل.
وشاء فرنكو أن يتعلم مبادئ القراءة والكتابة، فكان يذهب إلى مدرسة ليلية، وبعد حين خرج كاتب من المحل فطلب صاحب المحل من فرنكو أن يحمل رسالة إلى واحد يدعوه التاجر ليكون كاتبا عنده، فقال فرنكو لمعلمه: أنا يا معلمي أكون محله. - أنت يا فرنكو؟! وأين تعلمت؟ من الكناسة إلى مسك الدفاتر! هذا كثير يا فرنكو!
فقال فرنكو: جربني يا سيدي.
فجربه ونجح، وكان كاتبا فاهما غيورا.
أما خالد زميل فرنكو في الكناسة فظل حيث هو، ومات مدير المحل فقدم فرنكو نفسه وحل محله بنجاح.
وظل فرنكو يتعلم، وترقى حتى صار سكرتيرا في وزارة الخارجية، ولما انتهت مدة داود باشا متصرف لبنان الأول أجمعت الدولة والدول السبع على تعيين فرنكو باشا متصرفا للبنان. «وصرت باشا.» هكذا قال فرنكو لتلاميذ المدرسة الداودية في عبيه، «وذهبت لأزور معلمي الأول، وأقترض منه 500 ليرة عثمانية أنفقها على إعداد طقم الوزارة وسيفها وسفري إلى لبنان، فاستقبلني معلمي بالاحترام والمحبة، وجاء رفيقي في الكناسة يظهر لي أشواقه وهو لا يعلم عن مصيري شيئا.
وأعطاني الخواجة المبلغ المطلوب فتهيأت للسفر بعد أن قطعت الثياب الرسمية اللازمة، وفي موعد الذهاب مررت في عربتي على محل معلمي وأنا لابس طقم الوزارة ومعي الياور، فما أبصرني خالد حتى هجم علي بالمكنسة صائحا: ولاه يا فرنكو عامل كراكوز في البلد! ولو لم يتدخل معلمي كان كسر رأسي ومزق طقمي المقصب.»
وختم فرنكو قصته هذه بقوله: «هذا هو العلم يا أولادي، ومن يدرينا أنه ليس بينكم من هو مثل فرنكو؟ لا أحد يعلم ما يصير، وما علينا إلا أن نعمل، فتعلموا لتعملوا.»
يتحير الواحد منا في سيرورة هذا الكون إذ يرى الناهضين من الحضيض، ولكن ليس هناك ما يحير، فمن يسع ليجد ذاته ينجح متى وجدها، وهنا سر الفلاح كله، فلنفتش عنها.
الأدب الحق
لا يعني الأديب محترف الإنشاء، فالعرب حين قالوا: «أدركته حرفة الأدب» لم يفهموا الحرفة بالمعنى السوقي، يقصدون ب «أدركته حرفة الأدب» أن الأديب هو العاجز عن النضال في حرب المعاش، انحصر فكره في بؤرة واحدة فأصبح من أدبه كذوي الفكرة الثابتة؛ ولهذا يقول شكسبير: «حبر الكاتب كدم الشهيد.»
يناضل الأديب، ولكن في غير سبيل الرغيف، ولا بد لكل قضية كبرى مهما سمت وتنزهت من أدباء يناصرونها لتتوطد دعائمها، أما رأوا محمدا رسول الله كان يدعو لشاعر الرسالة حسان بن ثابت بقوله: «اللهم أيده بروح القدس؟» ثم يقول له: «شن الغارة على عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في حلك الظلام!»
وإذا فتشنا عن العنصر الأدبي في جميع ما أسعد الإنسان من تعاليم، رأينا سحر البيان - وهو أقوى عناصر الأدب - من دعائم الرسالات الكبرى، إن الله - تقدس اسمه - لم يكلف برسالته في كل دور إلا أفصح خلقه، فالسيف والمدفع لا يؤديان رسالة السلام والاطمئنان، فما لهذه الرسالة غير الأديب يحملها على أجنحة خياله، ويطير بالنفوس معها، فهل أراني مخطئا إذا حددت الإنسان تحديدا جديدا وقلت: «الإنسان فصيح فنان؟» فالإنسان لا يقاد طائعا راضيا إلا بسحر البيان والفن.
وحب الوطن من يعلمه غير الأديب؟ تنقشه أقلام الأدباء في الصدور كما يدق الوشم في اليد فلا يمحي إلا باندثار الجسد، إنه يستحيل نفوسا تسيل على حد السيوف، وقوى غريبة عجيبة تقاوم الدبابات ولا تخشى قنابل الطائرات. إن حب الوطن الذي يصور جماله الأديب يمسي حقيقة ثابتة في ذهن كل مواطن، حتى يستحيل هذا المواطن جنديا مدربا في ثكنة الأديب يلبس درعه وسيفه، وما هما غير الإيمان ببقعة من الأرض خلع عليها قلم الأديب رائع السحر والجمال.
فالوطنية من عمل الأديب يغرسها كالنخلة ليجني رطبها وثمرها غيره، زرعوا وأكلنا ونزرع ويأكلون، هذا هو نهج الأديب، يعلم أنه لا يجني ثمرة ما يزرع، ولكنه يزرع ولا يبالي بشقائه؛ لأنه خلق للإنشاء والإبداع، ومن يستطيع أن يمحو ما خط في لوح القدر؟
إن مخيلة الأديب في حلم دائم، والعالم يعبر تلك الأحلام ويحققها، فمخيلة الأديب تحبل وتلد، ورجال العلم يلتقطون المولود، يحلم الأديب الملهم بتجميل الحياة وإسعاد الناس، والجبابرة يصيرون تلك الأحلام يقظة قاسية.
إذا حاق الظلم بالإنسانية فالأديب أول من يتألم، يرفع صوته تحت بريق السيوف، لا يكتم كلمة ولو أعطي بها ملء الأرض ذهبا، فهو لا يبتغي إلا العدالة، ويؤثر الموت على الخزي والعار.
وصف كنفوشيوس الأديب منذ أربعة وعشرين قرنا فقال: «الأديب يكرم نفسه ويحترم الناس، يخاف الموت وينتظره، يغذي نفسه ليعيش ويعمل، ليس الذهب بكنز الأديب، بل الصدق والأمانة هما كنزه، فهو لا يبتغي من الدنيا إلا العدالة، لا يطلب الغنى المفرط، وفي الأخلاق السامية سعادته، لا يأسف على الماضي، ولا يتأهب للمستقبل، يصادقك الأديب طائعا مختارا لا مكرها، ويؤثر الموت على الخزي والعار.
الأمانة درع الأديب، فعلى رأسه يحمل الإنسانية ويمشي، والعدالة تتكئ على صدره في البيت، ومهما طغى الاضطهاد، فهيهات أن يزحزح عقيدته الراسخة.
يعيش الأديب بين معاصريه ويفكر بالمتقدمين، يساير عصره ويعمل بما يوحي به إليه الغد، وعلى الأجيال الآتية أن تقتدي به.
ليغضب معاصروه، ليحتقره من هم دونه، ليتألب عليه النمامون والممالقون، ففي مقدورهم أن يهلكوه، أما إرادته فلا تلين ولا تنهزم أمام المخاطر والاضطهاد، وفي ضيقته وبلواه يتذكر أبدا شقاء الشعب.
الأديب يسعى وراء المعرفة بلا ملل ولا راحة، يعمل لذلك أبدا تحت سقف بيته.
يعز الخيرين ويتحمل الأشرار، يساعد الغرباء والأعداء، ولا يقدر إلا الجدارة والأعمال، وهدفه الأسمى خير أمته وبلاده.
لا يفتش عن الثروة والمكانة، يزرع الأديب معرفته بين أصدقائه ليفيدهم وينير أذهانهم، ينشر من طوتهم حجب النسيان ويذيع فضلهم.
الأديب يطهر جسده ويهذب فضيلته وينقيها، وينصح أولياء الأمر ويصلحهم بهدوء.
في السلم لا يزدرى ولا يحتقر، وفي زمن الاضطراب لا يشرى ولا يباع.
في عزلته يثقف نفسه ويهذبها، وينمي شفقته.
يقسو على نفسه ليخفف من غطرستها ويهذب اتصالها بالناس. يحب الأساليب الحسنة ويبتهج بالذين يسيرون على نهجه.
سلوكه قائم على أسس الفضيلة، ودعامته الإنصاف، يتقرب من زملائه ويبتعد عن سواهم.
الدماثة والصلاح هما جذع الإنساني.
احترام الناس واللطف هما تربة الإنساني.
الكرم والإحسان هما آثار الإنساني.
التواضع والأدب هما وسائل الإنساني.
اللياقة والحفاوة هما وجه الإنساني.
الكلام والحديث هما زينة الإنساني.
الغناء والموسيقى هما تآخي الألحان عند الإنساني.
التقسيم والتوزيع هما تصرف الإنساني.
والأديب يجمع هذه المواهب كلها، فهو إذن الإنسانية كاملة.
في الفقر والضعة لا يسقط الأديب كالحصاد.
وفي الغنى والوجاهة لا يتنفش فرحا وكبرياء.
لا السن ولا المكانة يستطيعان قلقلته؛ ولذلك يسمونه الأديب المثقف.
أما الذين يسميهم الجمهور اليوم بالمثقفين والأدباء فليسوا كذلك؛ ولذلك صارت الثقافة وصمة.»
انتهى كلام كنفوشيوس.
ومع احترامي لآراء المعلم الصيني الأكبر أرى أن الشقاء عنصر مقوم للأديب؛ إذ لا بد للأديب من العبور في معصرة الألم لتبقى خمرته على الدهور والأجيال؛ ولهذا أرى بالاستقراء أن الأديب إذا لم يجد شقاء شقي بعقله كالمتنبي مثلا.
قرأت مسرحية طريفة تدل على طمع الأمم بالأدباء، فأحببت أن ألخصها خاتما كلمتي بها:
كان في إحدى مدن فرنسا أديب تاعس الجد، تحييه زوجته المهذبة بما نصافح به العقرب متى شرفتنا بزيارة صيفية، ويزدريه من عرفوه في المجالس والمجامع، فعاش المسكين في حربين: داخلية وخارجية، وكانت الحرب العظمى الأولى فاختفى أثره، واشتهت بلدته أن تشتهر بأديب تفتخر به كغيرها من المدن، فرأت أن تشيد أثرا فخما لأديبها هذا، فاضطلع رئيس البلدية بالأمر ورفع الأثر عاليا، ثم كانت حفلة إزاحة الستار عن التمثال فتصدرها الوزير وزوجة الشاعر، وكان السواد يجللها من فوق عينيها إلى رجليها.
وفي تلك الساعة الخطيرة من تاريخ المدينة وفد الشاعر بعد غيبته الطويلة على الطائر المنحوس، ولشد ما دهش إذ رأى نفسه استحال تمثالا من رخام ورفع على خازوق المجد!
أظهر نفسه للحفل الكريم فأنكروه جميعا حتى زوجته المتباكية، وخاف سعادة رئيس البلدية أن تفسد الطبخة ويحرم الحلوان - الوسام الذي في جيب الوزير - فسار بالشاعر ناحية وقال له جادا: أنت مت يا صاحبي، وقد صرفنا مبالغ طائلة من الفرنكات لتمجيد ذكراك، فليس من الكياسة أن تكذبنا، ولا من الحكمة أن تخسر هذا المجد!
وكان الأديب نبيها فتذكر زوجته ورفقها به ... فصدق أنه مات، ولكنه عاش طويلا يتفيأ ظل تمثاله، وينظم الشعر في تمجيد صاحب التمثال أديب البلد وشاعره الكبير!
أكثر الله من أدبائنا المنتخبين، وأقل من المحترفين الدجالين ...!
التدقيق
إذا رأيت الرجل، موظفا كان أو معلما، عاملا أو تاجرا، يأتي متأخرا عن موعده فلا تلمه، لا تلم إلا الذين ربوه ناشئا ، لم البيت لأنه لم يرب، ولم المدرسة لأنها لم تهذب. فلو علم الأبوان أن ابنهما سيكون يوما ما حزمة عادات تمشي على الأرض، لأرضعته أمه في مواعيد مضبوطة، وأنامته في أوقات معينة، ولقيدته بنظام صارم صغيرا لترى منه رجلا دقيقا في سلوكه مستقيما في أعماله.
تفتح المدرسة بابها الساعة الثامنة والولد لا يزال منسلا تحت لحافه ينعم بالدفء، ويسمع الأب الساعة تدق السابعة والنصف فيرفع عقيرته مؤنبا وموبخا، فإذا بالأم تنتصر لولدها متغضبة على العلم والمدرسة: «الصحة قبل كل شيء»، ويسمع الصبي النائم نومة الهر فيطمع. ثم ترتفع الكلفة بينه وبين النظام المدرسي، فيصبح ولدا غير مكترث ويشب على الميوعة والإهمال، ويصير آخر من يروح إلى المدرسة وأول من يرجع إلى البيت، ويشب على هذه الخصلة فيدخل دور الأعمال من بابها الغربي ليخرج من بابها الشرقي، ويعود إلى أمه شاكيا قلة العمل وانسداد باب الرزق.
ما سد باب الرزق بوجهه إلا اليدان الأبويتان، فلو كانتا حازمتين دقيقتين لما انتهى ابنهما إلى حيث انتهى من سوء المصير.
من يحمل منا ساعة تقدم أو تؤخر ولا يلعنها عشرين مرة في اليوم؟ وإذا كانت هذه حالنا مع ساعاتنا فكيف تكون حال أرباب الأعمال مع معاونيهم الذين لا يدققون في مواعيدهم؟
حكي عن أحد رؤساء الولايات أنه انتظر كاتبه الخاص دقيقة، ثم تكرر هذا التأخر فضاق صدر الرئيس فدعا كاتبه ولامه على عدم تدقيقه، فنظر الكاتب إلى ساعته وأجاب معتذرا: ساعتي تؤخر.
فأراه الرئيس وجها كالقفل وقال له: إما أن تغير ساعتك أو أنني أغير كاتبي.
قد استغرب الرئيس العظيم تأخر كاتبه دقيقة واحدة واستفظع عمله حتى أنذره بالصرف، فما قولنا نحن بمن يتأخر ساعة وساعتين، والناس في انتظاره وفي أيديهم أوراقهم، حتى إذا سمع وقع خطاه في الرواق دقت القلوب وتنفست الصدور وزال الكابوس، ولكنه لا يلج الباب حتى يرده في وجوههم؟!
ها هو يستريح منتظرا فنجان القهوة، فالفطور يتناوله على مهل وبتأن ورزانة ووقار عملا بنصائح الأطباء مجيدا المضغ، والناس قيام عند بابه يضجون وهو هادئ البال بارد القلب ... حتى إذا حانت الساعة الحادية عشرة قلب بعض وريقات على مكتبه ببطء يتخلله مط شفتين وهز رأس، ثم يأمر بدخول عبيده الواقفين بالباب واحدا واحدا، فينظر إليهم مرة وإلى أوراقه أخرى لاعنا الحياة ساخطا متبرما سابا!
لا أحد غيره خليق بالسب؛ لأنه أضاع ثلاث ساعات بين تأخير وسوء تدبير، وإذا ضمك وإياه مجلس تشكى إليك أنه لم يقفز على سلم الترقي درجات!
وإذا انتقلت إلى أصحاب المهن الحرة، رأيت أكثر رجالها يسلكون هذا المسلك، يضرب لك أحدهم موعدا الساعة الرابعة ثم لا يأتي إلا الساعة السادسة، هذا إذا صدق وجاء، فكيف تتعاطى فيما بعد مع من يقتلك صبرا في غرفة الانتظار قبل أن يقتلك بألاعيبه وأكاذيبه؟! وشر من هذا وذاك ما يقوله لك المستخدمون عنده حين تسألهم عنه: يأتي بعد خمس دقائق، فتنتظر ساعة أو ساعتين ولا يطل القمر ... إنني أؤكد لك أن رب عمل هذه صفاته لا يفلح أبدا، وإن أفلح أولا فهو مخفق أخيرا، ما رأيت شيئا يخلق الرجال ويكبرهم في عيني مثل التدقيق في أقوالهم وأفعالهم.
إن نفسك يا أخي تركب رأسها إذا لم تحاسبها حسابا دقيقا، إن ضميرك يموت ويهجرك هجرانا لا لقاء بعده إذا كنت لا تدقق في الإصغاء إليه، وتجري الحساب بينك وبينه يوميا. الدقة قوام الحياة، ومن يثق منا برجل يعرف أنه غير دقيق في أقواله وأعماله؟ علينا أن نتعلم الدقة من الطبيعة، فالتفاحة لا تفرق بين جنينة القصر المنيف وبين أطراف الحقل وظل الكوخ الحقير، إن عملها واحد في المكانين: صبر ودقة وإتقان، والوردة في البرية تدقق في صنع زهرتها كما لو كانت في بستان ملك الملوك.
والأجرام في نظامنا الشمسي لا تتأخر قط عن مواعيدها، ولو تأخرت ثانية لاضطرب الكون، فلماذا لا نتعلم من هؤلاء الأساتذة: التفاحة والوردة والأجرام؟ فحفظ النظام مطلوب من الكبير والصغير.
التدقيق أخو الاستقامة؛ ولهذا نفضل «ماركات مسجلة» على غيرها، فنشتري هذه البضاعة مطمئنين مبتهجين، إن أصحابها لم ينالوا ثقتنا بما ينتجون ويصدرون إلا لأنهم ثابروا ويثابرون على الدقة في العمل. يخال البعض أن الإعلانات تجر الرواج فالربح الطائل، نعم، إن الإعلان المشوق المغري ينفع مؤقتا، أما الأنفع فهو إتقان الصنعة والتدقيق، فلا يفتخر أحدنا أنه عمل كثيرا، بل فليفتخر بالعمل المتقن الدقيق، وليس في العمل عار مهما سفل، بل العار كل العار في عدم الدقة والإتقان.
قال أحد أعضاء مجلس العموم الإنكليزي لعضو آخر أثناء اشتباكهما في مناقشة: اذكر يوم كنت تمسح حذاء أبي، فأجابه على الفور: هذا صحيح، ولكن ألم أكن أمسحه بدقة؟!
وعير أحدهم المسيو فاليير عندما كان وزيرا، وقبل أن صار رئيس جمهورية فرنسا، بأن اسمه مطبوع على النعل، فأجاب: نعم، ولكنه نعل دقيق الصنعة لا غش فيه.
إن عبقرية بلا تدقيق وعمل متواصل لا تخلق إلا التافه، ليست الألماسة بنت ساعة ولكنها بنت عمل دقيق مستمر، وأروع الآثار الأدبية عمل في سنين تعد بالعشرات.
روي عن مونتسكيو أنه قال لصديق له عن أحد مؤلفاته ولعله «روح الشرائع»: إنك ستطالع هذا الكتاب في ساعات، ولكني أحلف لك أنه كلفني من التعب ما شاب له شعري.
أما أمثلة التدقيق الكثيرة فنجدها في سيرة الجندي العظيم نابليون، كان يدقق في الكبائر والصغائر، ويسهر على تنفيذ أوامره سهرا كليا، عهد مرة إلى أحد جنوده بخفارة مخرم خطير يخشى أن يعبر جيش الأعداء منه، ولكنه لم ينم قبل أن استوثق من سهر ذلك الخفير، فرآه غافيا على كرسيه يشخر وينخر، فتناول الإمبراطور العظيم البندقية وانتصب خفيرا حتى أفاق ذلك الجندي التعب من غفوته، وهكذا علم جيشه الدقة وإتمام الواجب على حقه.
إن التدقيق واجب في كبار الحاجات وصغارها، فالأم التي لا تدقق تركب الزر عشر مرات لقميص ابنها، بينا الأم الدقيقة لا يقع الزر الذي تركبه إلا عندما تلفظ تلك القميص روحها، وبين العملين فرق زهيد جدا لو تأملنا وتبصرنا.
إن حياتنا تذهب هدرا إن لم نستعملها بتدقيق، فالذين أحسنوا استعمال وقتهم على اختلاف طبقاتهم جاءوا بأعمال ذكرت بالاحترام والتقدير ، فكم من عامل أمين مدقق صار رب العمل! وكم من رب عمل أمسى فقيرا لأنه لم يصن متجره أو مصنعه بدقة! ولكن أكثر الناس لا يعتبرون.
إن سلاحنا - نحن الشرقيين - هو: غدا نعمل كذا وكذا، وبعد غد نعمل كذا وكذا، و«غدا» و«بعد غد» لا يأتيان أبدا، فنظل حيث كنا، ولو كنا ممن يدققون لجعلنا لكل يوم عملا وأفلحنا كغيرنا. وهب أننا عملنا، فأكثر ما نعمل يكون إما ناقصا وإما فجا غير ناضج، وهذا شر من عدم العمل.
الذهب والألماس أثمن المعادن، فإذا صنعت منهما عقدا غير دقيق الشكل والصنع، كان عقد الخرز الدقيق النظام أجمل منه وأبهى.
قد تقول لي: أراك شخصت المرض وجئت بالأمثلة لتحثنا على التشبه بالكرام، ولكننا نطلب منك أن تصف لنا دواء نستعمله فنشفى من دائنا.
هاكم يا أحبائي الدواء:
خمسة غرامات من الإرادة.
خمسة غرامات من العادة.
وعشرة غرامات من المثابرة.
وثلاثة غرامات من حب عملك الذي تعمله.
امزجها جيدا واشرب كل صباح جرعة، ولا تنس أن تخض القنينة جيدا عند الاستعمال.
يجب أن نريد أولا، ثم نعود أنفسنا يوميا القيام بواجباتنا وإن كنا لا نحبها ونميل إليها، فإذا أردنا وثابرنا تعودنا، ومتى تعودنا أن نقوم بأعمالنا بدقة، وجدنا أنفسنا أقوياء في الشدائد نستطيع الصبر والمقاومة، والصبر والمقاومة ضمانة الحياة.
الأخلاق ضمان جماعي
دار بيت شوقي في الأخلاق على كل لسان حتى استفز الشاعر - رحمه الله - إلى ترديد هذا المعنى في قصائد عديدة من شعره الرائع، حقا إن الفقير خاصة لا رأس مال له إلا أخلاقه، فالرجل الفاضل - كما قال ابن سيراخ في سفر الأمثال - يتاجر بماله ومال غيره.
وأنا أعرف رجلا كان عندنا لا يملك شبر أرض وهو أخو عيلة وليس عنده عشا ليلة، ومع ذلك عاش ميسورا لائتمان الناس له على الكثير والقليل، عاش عمرا طويلا ولم يأكل قرش أحد من الناس، ولم تكن الدنيا تنسد بوجهه، بينا كان غيره من أصحاب العقارات الواسعة يعيشون في ضيق وضنك متى أصيبت حاصلاتهم بمحل أو ألمت بهم نكبة؛ لأنهم لم يكونوا يعطون رطل طحين ما لم يدفعوا ثمنه نقدا.
وأعرف عن هذا الفقير أيضا أنه كان هو دائما أحد المزكين، فالشرع العثماني كان يقضي في الدعاوى الحقوقية أن ترسل المحكمة إلى قرية الشاهد استعلاما يسمى «مستورة»، تطلب فيه تزكية الشاهد من رجلين لا يطعن في أمانتهما، حتى إذا لم يزكيا ذاك الشاهد تسقط شهادته، وكانت هذه التزكية سرية لا يعرف بها أحد، وكثيرا ما كان هذا الرجل الفقير الصادق لا يزكي أوجه القرية، حتى إنه لم يزك ابنه مرة لاعتقاده أنه لم يشهد بالحق.
إن الأخلاق الفاضلة هي ملاك حياتنا، وعليها ترسخ أساسات المجتمع؛ ولهذا شهد الله العظيم لرسوله الكريم في كتابه العزيز بقوله:
وإنك لعلى خلق عظيم .
والأخلاق - كما قال إمرسون - معروفة دائما، فما كانت السرقات لتجلب الغنى ولا الصفقات لتجلب الفقر، فلماذا لا تكون فاضلا متين الأخلاق؟ ولما تعجب لويس الرابع عشر - وهو سيد مملكة عظمى كفرنسا - كيف لا يقهر مملكة صغيرة كهولندا! أجابه وزيره كلوبرت: «يا مولاي، إن عظمة بلد من البلدان لا تقوم بسعة مساحته، بل بأخلاق سكانه.»
فإذا كان في العالم قوة تجعل الناس يشعرون بتأثيرها فإنما هي الأخلاق الفاضلة، قد تكون غير متعلم وغير غني ولا مركز لك يخشاه الناس أو يرجون منه خيرا، ومع ذلك تتمتع بنفوذ يضمن لك الوقار والاحترام لأنك ذو أخلاق سامية، فالأخلاق قوة ونفوذ، وهي تكسبك الأصدقاء وتوجد لك رأس مال، وتجلب لك الحماية والوقاية وتفتح أمامك طريق المعاش. يجب أن تقف أخلاقنا وراءنا لتعضدنا في كل موقف كما قال أحدهم: في القصيدة، والصورة، والقصة، حتى في الشارع حيث نسير، لنكون قدوة لأولادنا وأصحابنا والناس أجمعين.
جاء في بعض الأساطير أن الملك ميداس طلب من ربه أن يتحول كل شيء يلمسه إلى ذهب، فاستجيبت طلبته، فإذا بملابسه التي مسها، وابنته التي قبلها، وأزهاره التي داعبها، والكأس والماء، والأرض التي داسها قد تحولت كلها إلى ذهب، فتضرع أخيرا إلى الآلهة أن تسترد ما منحت، وعلم إذ ذاك أن في الكون أشياء كثيرة هي أثمن من الذهب الذي يستطاع استخراجه من الأرض في كل حين.
إن الأخلاق هي أثمن وأغلى من الجواهر التي في عنقك يا سيدتي، أنت تتحلين بالألماس وإنني لأؤكد لك أن الأخلاق هي الألماسة التي تخدش كل حجر آخر.
وأنت يا سيدي الغني العزيز صاحب الصناديق المصفحة، المحشوة حشو الموز والرمان بالذهب والأوراق النقدية والسندات المضمونة، ثق أنها لا توليك ذرة احترام إذا لم تكن متين الأخلاق.
قال فولتير: «إنني لا أعرف رجالا عظاما إلا الذين قدموا خدمات عظيمة للجنس البشري، فالناس يقاسون بأعمالهم لا بما تحتوي عليه صناديقهم من جواهر وكنوز.» وهل تعد من تدلك ملامحه على البهيمية الشرسة رجلا مفلحا لأنه جمع ثروته بالأخذ دون العطاء؟ فكم أجاد الجاحظ حين سمى هؤلاء التماثيل «أصحاب الجمع والمنع!» من منا لا يلمح على وجوههم المقطبة آلام الأرامل واليتامى؟ وهل من أمات آخرين واستنزف قواهم ليحيي نفسه، وهل من هدم بيوت غيره ليبني بيته يعد رجلا ذا أخلاق؟! وهل يكون هذا عصاميا داهية كما يسميه الناس؟ وهل يكون رجلا كريما يحق له أن يرفع رأسه بين البشر من تظهر على وجهه علامات الفقر بأجلى معانيها كما يظهر الجوع على وجه الذئب؟
إن العالم يقابل هؤلاء بالازدراء فيقتص من نقائصهم ووهن أخلاقهم، فقلما تسمع كلمتهم وتسمع كلمة رجل ذي أخلاق فاضلة دون أن يلجأ إلى فصاحة وبلاغة، فقد يشتبك الناس في شجار ولا تستطيع حراب الشرطة والجند أن تفصل بينهم، ثم لا يسمعون كلمة رجل فاضل حتى يلقوا سلاحهم عند قدميه! فلا تتعجب إذن متى عرفت أن الأخلاق قوة لا تضارعها القوى المادية.
يقول صاحب الأخلاق السامية كلمته فيتبع وتطيعه الناس، بينا نرى من لا أخلاق له يطيل الكلام حتى يتعب حنكه ويخدر لسانه ولا يقنعك، يحلف لك ألف يمين فلا تصدق من كلامه حرفا لأنك تعرف أنه غير ذي خلق.
كان إبراهيم لنكلن مهزأة لأعيان أوروبا لأنه غير كيس، وكانت صحفها تصوره صورا مضحكة لتدل على سماجته، أما هو فلم ييأس بل ظل معتصما بأخلاقه السامية فكانت درعه الحصين في محكمة الزمن الذي يدين العظماء بعد حين.
ولما كان محاميا أعاد إلى سيدة أوراق دعواها بعد أن درسها ورأى أنها ليست على حق، أعادها مع المئتي الدولار التي كان قبضها منها، فقالت له: ولكنك قد استحققت هذا المبلغ أجرة تعبك، فأجابها: كلا، إنك غير مصيبة في هذا، فأنا لا أقبض أجرة إتمامي واجباتي.
أرأيت كيف تكون الأخلاق؟ إن في حياة الإنسان شيئا أعظم من مهنته وأكبر من الكسب والثراء، وأسمى وأعلى من العبقرية؛ وهو الأخلاق.
قال شكسبير في مسرحيته «كليوبطره»: «إنه لشيء ضئيل أن يكون الإنسان إمبراطورا؛ إذ ما هو إلا خادم الحظ والمنفذ لإرادته. وإنه لأمر عظيم أن يقوم المرء بعمل حاسم في تاريخ أمته.» ولكي نقوم بما عناه شكسبير في كلامه يجب أن نكون من الأخلاق في حصن حصين، لتنهار عند أقدامنا معاقل الباطل والبهتان. إن الزمان هو القاضي القديم الذي يحاكم جميع المذنبين، ويفسد جميع الخطط التي لا يكون قوامها الأخلاق الفاضلة.
ولو لم يكن الخلفاء الراشدون والرسل والحواريون ذوي أخلاق عظيمة لما ثبت الإسلام والمسيحية، فكل مبدأ جديد يحتاج إلى الأخلاق لترسخ دعائمه وتستقر، فلنمتن أخلاقنا لتمتن أخلاق بنينا وأحفادنا، وبذلك تتكون الأمة العظمى.
إن الأخلاق هي الضمان الجماعي الأوحد ولا خوف على صاحبها ولا هو يحزن، فهي درع في الشباب والكهولة، وإكليل مجد في الشيخوخة، وأمامها تصغر عظمة الموت.
الرجل ابن البيت والبيئة
لكل امرئ من دهره ما تعود؛ بهذه الكلمة البسيطة المركبة استهل شاعرنا الأعظم إحدى قصائده الخالدة. خص المتنبي العادة بالناس، أما الشاعر العربي الأسبق النابغة الذبياني فألصقها حتى بالطيور الكواسر، فقال في الغساسنة والطيور المحلقة فوقهم: «لهن عليهم عادة قد عرفتها.»
ويقول أصحاب علم النفس، الصغير السن: ليست أخلاق الأمم إلا كومة عادات جمعها كر الغداة ومر العشي، وبقدر سمو هذه العادات ونبلها يعلو قدر الأمم والشعوب التي اكتسبتها. أما اكتساب العادات فقوامه مقاومة ميول النفس وقهرها وتطويعها، ومتى أذعنت تعودت.
تصف للرجل أمرا فيه صلاحه، فيهوله الرأي ويشق عليه ويقول: ما تعودت أن أعمل هذا، أو ما عملت هكذا في عمري ودهري. فتجيبه أنت بتلك السذاجة الناعمة: وما عليك يا أخي لو جربت، حاول، تعود. وقد يعمل بنصيحتك مرة فيعتاد، وتقولان معا قول المتنبي أيضا:
كل ما لم يكن من الصعب في
الأنفس سهل فيها إذا هو كانا
إذن نحن مدينون للعادة بما فينا من صلاح وطلاح.
يقول الأبوان إذا أنكرا من ولدهما عادة أو خطة: غدا المدرسة تربيه! يا ويل المدرسة، ما أقصر يدها! إن العادات الأصيلة هي من بنيات البيت، لاحظي يا سيدتي بنيك في مهده، وراقبيه حتى يدب، وحين يحبو، وحين يمشي. تأملي جيدا تري أنه يكتسب في كل يوم عادة، فهل تقفين مكتوفة اليدين تنتظرين المدرسة لتقوم اعوجاج ولدك؟!
ألا تعلمين أن عملك التربوي ابتدأ يوم وضعته، فالعادات تغرس في حقلك الصغير منذ ميلاده، فاستعدي لمكافحة الحشرات التي أخذت تنتشر في الجذع والفروع، طاردي المكشوفة منها بالمستورة، وأعدي العدة لاستئصالها لتسلم غرستك الطرية التي نبتت حديثا في حقل الإنسانية. إن عهد الطفولة هو عهد الزرع والقلع، أي زرع الفضائل واقتلاع الرذائل، يكبر الطفل عاما فتكبر العادة أعواما، ولا يبلغ العاشرة حتى تصبح عاداته من عمر نسر لقمان، إن البيت يؤسس والمدرسة تبني، فحري بالآباء والأمهات أن يوطدوا ذلك للمدرسة لئلا تبنى على جرف هار.
قد يقول قائل: وما عمل المدرسة إذن؟ ونحن نجيبه: إن عمل المدرسة هو أن تهذب، والتهذيب غير التأديب، تحاول المدرسة أن تغرس عادات حسنة ترجح بها كفة الميزان، عملا بقول الشاعر: «ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟» هذا هو عمل المدرسة قبل التعليم. إن ما نعلم قد ينسى، أما العادات التي تصبح ما نسميه أخلاقا فيما بعد، فهي العدة التي تسلح بها المدرسة تلاميذها.
إن شيخ معلمي المدرسة هو ذلك الأستاذ الطمطماني، أي الجرس، فلنعلم تلاميذنا أن يطيعوه أدق طاعة، ففي طاعته الغنم وعلى من لا يلبي نداءه الغرم، فاتباع النظام الدقيق نجاح وفلاح. أما التلميذ الشارد الناد فيستحيل عليك مهما طغى جبروتك أن تعلمه غصبا عنه، عليك أولا أن توطد النظام لتسترعي انتباه تلاميذك وتشوقهم، فإن فعلت تكن قد عودتهم خير العادات، وإذ ذاك تستطيع أن تغرس في عقولهم ما شئت، لا تقل لي هذه مادة مملة فأين شخصيتك ...؟ إذا كان صفك ميتا فهذا يعني أنك ميت لا حياة فيك، أو أنك فونوغراف لا أكثر ولا أقل، وفي إمكان المدرسة أن تستعيض به عنك. فعليك بما فيك من موهبة أن تضع تلاميذك في الجو المطلوب، وأن تطهر ذلك الجو من كل ما يضيق الصدور، عليك أن تدخل إليه مجاري جديدة، وهذا لا يكون إلا كما قال ريبو: «اجعل الشيء جذابا بصورة اصطناعية إذا كان غير جذاب بطبيعته، فالانتباه الإرادي يكون في أوله اصطناعيا ثم يصبح بالتكرار عادة أو طبيعة ثانية.»
إن المعلم - ولنقل المربي - أشبه شيء بالطبيب، فكما يصنع الطبيب عندما يضيق الصدر ما يسمونه تنفسا اصطناعيا، هكذا يعمل المعلم إذا كان موضوعه مما تنكمش له الصدور وتتقلص الوجوه، فيخلق انتباها اصطناعيا. ومتى وجدت طلائع الرغبة وجد الانتباه؛ لأن الإنسان كالحيوان لا ينتبه عفوا إلا لما يهتم له ويميل إليه، وإذا جردناه من الشعور باللذة والألم عجز عن الانتباه.
نعلم جيدا أن الإنسان لا يولد كامل العقل، وهذا النقص في الكمال العقلي يتبعه النقص في التدريب أو التعويد على العمل المثمر، والتعويد يقتضي دهاء وحنكة وعناء، وهذا هو عمل المدرسة، على المدرسة أن تدرب طلابها وتمرنهم على اتباع خطوات ثابتة في ميادين الأعمال؛ ليصيروا من أبطال الحياة الذين يربحون معارك فاصلة في تاريخ حياة الأمة، وأول ما يقتضينا من عتاد لهذه الميادين هو روح النظام، روح الجد والمثابرة، حتى يصبح كل ذلك فينا عادة فنكمل طريقنا بلا تعب ولا عناء.
إن الإرادة القوية الواجب خلقها في أبنائنا يعوزها تعزيز النظام، وكلما اقتربت المدارس من النظام العسكري القاسي تخلق رجالا شديدي المراس، فمن أطاع استطاع . إن في الطاعة قهرا للنفس وتعويدا على تنظيم الأعمال وإتيان الأمور في مواقيتها، فتخلف طالب دقيقة واحدة عن ميعاده قد يورطه في الغد، فيترك المدرسة نهارا كاملا، وترك اليوم يؤدي إلى غياب أسبوع، وكثيرا ما ينتهي ذلك بهجر مقاعد المدرسة إلى الأبد.
إن آباء كثيرين هم شركاء بنيهم في هذه الجريمة، يدفعهم حنوهم الأبوي فيكتبون تلك الوريقات الكاذبة ليحولوا بين بنيهم وبين قانون المدرسة، لا يدري الأب أي جريمة ارتكب حين استهل الكتابة على تلك الورقة: «نرجو أن تعذروا ولدنا عن تأخره؛ لأن أسبابا عائلية قضت علينا بذلك!»
لقد ارتكب هذا الأب الكريم جريمتين: الأولى وهي هدم ما بنته المدرسة من تعويد ولده على الدقة وضبط الوقت، والثانية هي تعليم ابنه الكذب بالمثل، ويا له مثلا صالحا يرفعه إلى أسفل! والغريب هو أن يكلف ذاك الأب الصادق نفسه ويسعى إلينا ليشكرنا؛ لأننا صدقنا أن هناك أسبابا عائلية حالت دون حضور المحروس إلى المدرسة في الوقت المعين.
وإذا رأى الأب شدة، فقد يستعين بطبيب البيت فيخربش له ورقة، وهنا نلبس الكذبة ثوبا رسميا، فلا بد من تأدية التحية لها فضلا عن قبولها! وكأن أبا الطالب في هذا العمل يقول لابنه: تعلم يا صبي، هكذا يجب أن تعمل إذا ضاقت بك الحيل.
فيا ليت شعري، كيف تكافح المدارس عادات مثل هؤلاء الفتيان؟! كيف تعودهم على الدقة والضبط؟ وكيف تقوي إرادتهم؟
وكأني بمثل هذا الأب حين يرمي ولده في أحضان المدرسة يحس أنه ألقى عن ظهره حملا ثقيلا، وانتظر أن يعود ابنه إليه كاملا مكملا، إنه لا يعلم أنه يفسد ما تصلحه المدرسة بشطحة قلم، ويا ليت الضرر لا يتعدى ابنه! فهذا درس يتعلمه ضعفاء الإرادة من الطلاب فيلجئون حين تراودهم التجربة إلى مثل ما لجأ إليه رفيقهم.
وهذا الأب الضعيف الرأي، الخائر الهمة، لا يستحي أن يسألك بعد حين عن محافظة ابنه على النظام، فإذا ذكرته بتلك الرسالة حلف على مسمع ولده بالغالي والرخيص - وأولهما حياتك - أن ذلك هو الواقع ، وهنا ينتقل بابنه من درس إلى درس.
فيا أيها الأولياء، ساعدوا المدارس تساعدكم على تهذيب أولادكم، إن الحنان الوالدي له حد يجب أن يقف عنده، فليس الخلاف هنا على قضية درس فات ليعوضه ذكاء المحروس، إن القضية لأهم من ذلك، فاعلموا إن كنتم تعلمون أن عمل المدرسة عمل تكوين قبل كل شيء، فإذا لم يتعود ولدكم أن يأتي الأمور في أوقاتها لا يأمن شر فواتها ... إن عمل المدرسة غرس عادات لا بد منها للنضال في حرب الحياة، فساعدوها على تقويم أبنائكم، وإن عجزتم عن المعونة فميلوا على الأقل من طريق المدرسة ولا تعرقلوا السير.
بلا عنوان
«الوقت من ذهب»، كلمة تدور على ألسنة الناس، وكثيرون منهم يضحكون حين تقال، فتراهم يثرثرون ما طابت لهم الثرثرة، فيضيعون وقتهم ووقت غيرهم من خلق الله، إن الذهب لا يعادل الوقت ثمنا؛ لأن ضربة محكمة - لا تقتضي إلا قليلا من الوقت - تساوي أحيانا منجما من ذهب، ولهذا قال شاعر عتيق جدا: إن الخسارة التي تقع في دقيقة ما قد لا يعوضها الدهر الأزلي الأبدي. رب دقيقة أضاعها فاتح خسرته بلادا جديدة، وضعضعت جيوشه، وخطت له في التاريخ أسطر الخيبة والانكسار.
قال هوراس مان: «بين شروق الشمس وغروبها أضيع في مكان ما ساعتين من ذهب مرصعتين بستين دقيقة من الألماس، ولم توضع جائزة للبحث عنهما؛ لأنهما لا ترجعان.»
وقال شاعرنا العربي:
إذا مر بي يوم ولم أكتسب يدا
ولم أستفد علما فما ذاك من عمري
وإن العمل الدائم المستمر المنتج هو علامتنا الفارقة في بطاقة الهوية التي حازتها المخلوقات منذ البدء، فالحيوان لا يعنيه غير القوت، حتى إذا ما ملأ بطنه طابت نفسه وقعد يجتر. أما الإنسان المجدد الباحث المكتشف المعمر والمدمر في وقت معا، فهو الذي يعرف قيمة الوقت، وإذا أضاع يوما من عمره يحسب أنه أضاع كنزا.
كثيرا ما تزورنا الأيام بصفة أصدقاء متنكرين، حاملة إلينا أسنى الهدايا، فإذا نحن لم نقبل تلك الهبات تذهب بها سريعا وهي صامتة ولا تعيدها إلينا أبدا .
ما إخال أساطير «الرصد» التي كانت تقصها علينا جداتنا في أيام حداثتنا إلا رمزا للوقت الذي يجب أن نحرص عليه حرصنا على الحياة نفسها، ولأنه يتوارى ومعه كنوزه كما يختفي «الرصد».
قالت الحكماء: الثروة المفقودة يستطاع استرجاعها بالكد والاقتصاد، والمعرفة تسترجع بالدرس، والصحة بالحمية والدواء، أما الوقت المفقود فلن يسترجع أبدا.
كان الرئيس الثاني للولايات المتحدة جون أدمس يشكو ممن يضايقونه بزياراتهم الطويلة المملة فيسلبون وقته، وقد تدارك أحد علماء إيطالية أمر هؤلاء الثقلاء فكتب فوق بابه هذه العبارة: «يجب على كل من يتأخر عندي أن يساعدني في أعمالي.»
أما أحمد فارس الشدياق فكتب فعلا في الجوائب منددا بهؤلاء الزائرين الصباحيين الذين يقتلون وقتهم باللف والدوران، ولا شغل لهم غير التنقل من ناد إلى ناد حيث يرتعون في انتقاد الآخرين واغتيابهم.
إن الرجال العظام يملئون أوقات الفراغ بأعمال من لون غير لون أعمالهم اليومية؛ لتقوى قابليتهم للعمل فلا تمر دقيقة بلا إنتاج.
قال قيصر: «في أهول معامع الحروب كنت حين أجلس في فسطاطي، لا أحرم الوقت الكافي للتفكير في أمور أخرى عديدة.»
ويروى عن أحد الأطباء العظام أنه ترجم كتابا نفيسا أثناء ركوبه جواده لعيادة مرضاه، فالكثيرون من أعاظم الرجال قد أحرزوا مقامهم الرفيع باستفادتهم من أوقات الفراغ القليلة التي يبددها غيرهم من الناس، فحياة رافائيل القصيرة وروائعه الكثيرة الخالدة هي خير أستاذ يعلمنا فوائد الوقت.
ولا ننس نابليون العظيم فإنه نموذج العمل الأعظم، حتى إنه لم يكن ينام أكثر من أربع ساعات. ولم يكن دانتي مكرسا كل وقته لنظم الشعر كبعض شعراء اليوم، بل كان يتاجر ليكسب معاشه نهارا وينظم الشعر في أوقات فراغه، وهكذا خلق منه الوقت الضائع شاعرا خالدا من أعاظم شعراء المسكونة.
ومع ذلك ترانا نتذمر دائما وأبدا من ضيق الوقت، نجلس جلسة واحدة للمسامرة أو المنادمة والثرثرة ساعات متوالية، ونقول لجلسائنا بلا خجل ولا حياء: «الوقت قصير.» فإذا كان الوقت قصيرا ونجلس هذه الجلسات الطويلة حتى تملنا الكراسي وتضيق بنا ذرعا صدور الجدران، فماذا كنا نفعل لو كان الوقت غير قصير؟!
إنها العادة يا أصحابي، العادة هي التي ألقتنا في هذا الجب، فلنغالب أنفسنا لننقذها من هذه النقيصة، لا تترددوا ولا تقولوا: بعد ساعة، بعد ربع ساعة نشرع في عملنا، باشروا حالا وإلا ضاعت الساعتان الذهبيتان المرصعتان بستين دقيقة من الألماس.
لا تدع التراخي يستولي عليك فتضيع نهارك، ابدأ بعملك فور نهوضك من فراشك، ومتى استيقظت اطرح اللحاف عنك وانتصب على قدميك، انهض حالا لا تتوان، الله معك.
وأنت يا عزيزي العامل - وكلنا عمال في هذه الحياة - إن الدقيقة التي لا تستعملها على حقها قد تطيح بك إلى حيث لا تدري، كما أن الدقائق التي تنقض فيها على عملك كجلمود صخر حطه السيل من عل، قد تكون رأس مال لك. اعلم أن أولياء الأمر يضعون مستخدميهم دائما في كفة الميزان، فإذا كنت ممن يحرصون على الدقائق والثواني رجحت كفتك وشال سواك في ميزانهم.
زن نفسك كل يوم قبل أن تشكو من الجور وعدم التقدير والإنصاف، فإذا ارتقى سواك في السلم درجات وبقيت أنت حيث كنت، فاعلم أنك كسلان متوان تضيع الوقت، واشكر أولياءك لأنهم لم يعزلوك.
إن الثروة والترقي وراحة البال تنتظر من يضن بالدقائق والثواني، فكن أيها العزيز ذلك الرجل.
البكالوريا بين المعلم والطالب
اسلم، وحييت أبا الملد
مفتاح باب الحدث المنسد
هذا ما قاله بشار بن برد في ممدوحه، وهذا ما يصح أن يقال في شهادة البكالوريا، إنها والحق يقال مفتاح باب الثقافة والعمل، وبدونها يظل الطالب واقفا على العتبة يقرع الباب ولا يسمع الجواب، ومتى كانت كذلك فلماذا لا يلح الطالب على نيلها إلحاح الذبان في اليوم القائظ؟
كنا في ذلك الزمان نتعلم لنعرف، أما اليوم فيتعلمون ليأخذوا علما وخبرا بأنهم تعلموا ... أو ليحملوا لقبا علميا لا يدرى علام يدل، ولكن هذه البندقية الفاضية لم تعد تخوف اثنين كما يقول المثل، فحرب الحياة قاسية عوان لا يظفر فيها إلا المدجج بالسلاح الحديث، فنصيحتي الأولى للطالب هي أن يتعلم ليأخذ الشهادة بحقها، فيكون كالجواد الأصيل تؤيد قوائمه الأربع حجته التي في رقبته، فالميدان أصدق حجة وأكبر برهان.
الامتحان مشتق من المحنة، فعلى الطالب أن يتهيأ ويعد العدة لواقعة آخر حزيران، فهي أحمى من وقعة عمورية التي نضجت فيها جلود تسعين ألفا قبل نضج التين والعنب ...! من تأمل الطلاب وآباءهم وأولياءهم ومن يعنيهم أمرهم، رآهم في تلك الساعة يملئون فنادق بيروت يفلتون هذا ويمسكون ذاك يسألون عن الممتحنين ... يقرعون باب الأستاذ مصطفى، وينتقلون إلى باب الأستاذ بولس حاملين في أيديهم وجيوبهم «أبسطة الرحمة»، يستجدون هذا وهذاك العلامات التي يعدونها حجر الزاوية في بناء مستقبل بنيهم، سلمهم الله للعلم والوطن ...!
سمعنا بشحاذة الخبز والمال وغيرهما، أما أن تشحذ المعرفة فهذا كثير، فالذي عندي هو ألا يتكل المرشح إلا على باعه وذراعه، فلا يلجأ إلى التماس المعونة من أحد؛ لأنهم يكذبون عليه، إنه لا يفوز من هؤلاء إلا بكلمة «تكرم» فينام ابنه على صوف، ولا يستيقظ إلا ساعة تعلن النتيجة فإذا بظهره معقور ...
أما سبب السقوط والانهيار الذي يسمونه الرسوب تلطفا فله علل: توسط الآباء في ترقية بنيهم من صف إلى صف من دون أهلية ولا استحقاق، وهذه الجريمة تشترك فيها المدرسة التي تنزل عن قرارها، هذه واحدة. وواحدة أخرى وهي إصرار الآباء على إتمام دروس طالب لا يصلح للعلوم العالية لأن عقله سميك، فلو تضافر الأهل وأولياء المدرسة لما رأينا الممتحنين يتساقطون كأوراق الخريف بعد عاصفة الامتحان. أليس من الخير أن يعطى الطالب غير الكفء المبلغ الذي ينفقه أبوه على تعليمه، فيكون له رأس مال ينصرف به إلى الكفاح في ميادين الحياة المختلفة؟
أليس ذلك أجدى للأب والابن والمدرسة؟ نعم، أجدى أيضا للمدرسة؛ لأنها ترتاح من أمثال هؤلاء الضعفاء الذين يضرون بسواهم، فالتنقية ضرورية جدا بعد الشهادة الابتدائية، فعلى المعلم أن يصدق إدارة المدرسة، وعلى المدرسة أن تخلص النصح للآباء، والرزق على الله ... ولكن هب أننا أقنعنا المدارس، فمن يستطيع أن يقنع أبا أن ابنه لم يوهب ما يؤهله لتحصيل العلوم العالية؟ بل من يجرؤ على التلفظ بهذه الحقيقة أمام أب ولا يصيح: ابني شعلة ذكاء، ما رأيت في حياتي ودهري ولدا أذكى منه. طول بالك يا أستاذ، الولد يسر خاطرك. ويبدأ بالدفاع عن ذلك المحروس وعبقريته، مؤيدا زعمه بحكايات ونوادر عن ابنه منذ أبصر النور حتى الساعة، وكلها بشائر نبوغ وعبقرية ...
والمعلم الذي يزرب في قاعته أربعين خمسين طالبا، فماذا تطلب منه أن يعمل بهؤلاء؟ كيف يستطيع أن يعدهم إعدادا صالحا لتلك الساعة ساعة الامتحان؟
كلما خرجت من المدرسة في تشرين ورأيت كبشا رازحا وأمامه امرأة تحشوه حشو الموز، تلقمه النخالة غصبا عنه لتزيد شحمه ولحمه؛ أتذكر معلم البكالوريا، إنه يفعل مثل هذا بتلاميذه، يريد أن يحشوهم معلومات ونظريات وآراء في الشاعر وعصره وبيئته، لا يغفل عن كلمة قالها صاحب الأغاني وغيره إلا دونها في دفتره وأملاها على تلاميذه، تلك هي الذخيرة التي يزودهم بها لمعمعة حزيران، وما عليهم إلا أن يحفظوها كالماء الجاري ليقابلوا بها الامتحان ويخرجوا من المعركة ظافرين، فما تحين الساعة وتلقى عليهم الأسئلة حتى يستعجلوا الموضوع خابطين به خبط عشواء، يدونون في ورقتهم ما حفظوا عن المتنبي أو البحتري أو الجاحظ مثلا دون أن يصيبوا الغرض، ويا ليتهم يكتبون كتابة لا لحن فيها ولا خطأ، فقلما يخلو سطر من غلط بل قل غلطات! فيتعجب المصحح ويقول في نفسه: أيجوز أن يحمل مثل هذا الطالب شهادة البكالوريا اللبنانية؟! بل قل الشهادة الابتدائية ولا تخف.
فمن أين حصل هذا الضعف الإنشائي؟ سببه أن أستاذ الأدب العربي - حمى الله عصمته - يعتقد أنه غير مسئول عن النحو والصرف، والنحو والصرف ينساهما الطالب إذا لم يذكر، وهنا تضيع الطاسة كما يقولون، يظن المعلم وتلميذه أن بحث الموضوع هو الأهم، وهذا ضلال، فلو نظر الممتحن موضوعا واحدا كتبه تلميذان: طالب أبدع الإبداع كله في بحث الموضوع، ولكنه بتعابير شاع فيها الخطأ، وطغت عليها الركاكة، وطالب آخر يكتب كتابة صحيحة التركيب والتعبير، ولكنه دون ذاك عمقا في البحث، فمن تظنون أنه يقدم، بل من يجب أن يقدم ؟ لا شك في أنه يقدم هذا الأخير؛ لأنه ينشئ كلاما صحيحا فلا خوف عليه في الغد، أما هذاك فببغاء يردد ما أملاه عليه أستاذه حافلا بالأخطاء الصرفية والنحوية.
إن موضوعنا يدور حول المعلم والطالب، فإلى المعلم أقول بكل تواضع واحترام: إن التلميذ تنور يحمى لا وعاء يملأ، فعلينا أن نحمي هذا التنور ليعطينا أرغفة كالتي وصفها ابن الرومي. وعلى ذكر الوعاء نقول: لا بد من الحفظ لتؤدى الدراسة على حقها، فعلى التلميذ أن يحفظ ما يشير عليه معلمه بحفظه، فرب قصيدة يحفظها الطالب من أولها إلى آخرها وهو لا يحتاج منها إلا بضعة أبيات متفرقة، فليختر المعلم للطالب مجموعة قليلة من شعر الشاعر تنفعه عند محاولته درسه، فهذه المختارات المنتقاة يجد فيها الطالب جميع الألوان والخطوط التي تتألف منها صورة الشاعر أو الكاتب.
وخير درس لشعراء وأدباء المنهج هو أن ندخل بيوتهم ونبحث في الزوايا دالين الطلاب على الخبايا، لا أن نخبرهم عنها خبرا، فما راء كمن سمعا كما قيل.
فمعرفة بيروت سماعا ليست كمعرفتها عيانا، ولولا الحاجة الملحة إلى المشاهدة لما ذهب القصصي وجاب البلاد التي جعلها مسرحا لأبطال قصته. وهناك أمر آخر هو علة كل هذا الضعف، وهو أن الطالب يظن أن ما يمليه عليه أستاذه هو كل شيء، فلماذا يكلف نفسه البحث والقراءة؟
لا يا ولدي، إن ما يملى عليك ما هو إلا «صندويش» تسند به قلبك، أما طعامك المغذي حقا فهو ما تطالعه أنت وتحاول أن تفهمه، فعلى أستاذك أن يدربك لتستطيع وحدك حين تنفرد في غرفتك أن تقرأ وتدرك مواطن الجمال. فالمنهاج وضع ليربي ملكة الذوق فيك، ويحملك على التمييز والاستنتاج، ولأجل هذا قالوا: وزارة التربية بدلا من وزارة المعارف. فإذا ظللنا نحشوك بالمعلومات حشوا فنحن لا نربيك بل نعلمك، بل يا ليتنا نعلمك! فالعلم الذي لا يربي هو علم خير منه الجهل.
والخطر كل الخطر عليك أيها الطالب العزيز - إذا كنت تكتب صحيحا - هو في عدم فهمك الموضوع، إن في الموضوع الذي يعرض عليك سرا مخبأ ؛ فاجتهد دائما أن تكتشف ذلك السر، وإلا فتعبك يذهب عبثا.
إياك أن تأتي على جميع ما تعرف عن الشاعر إذا كلفت بحث إحدى نواحيه! ثم احذر التحويم حول الموضوع! قع عليه بدون مداورة ومقدمات لا طائل تحتها.
حاول أن تحسن الابتداء دون أن تلجأ إلى الزوائد، واحذر التطويل الذي لا طائل تحته، واكتب بخط واضح، فقد يكون الممتحن قد ثقل واسترخى بعد الغداء وتناول مسودتك فهو لا يوسع صدره، فتدبر أمرك ... ثم لا تكتب ما تؤاخذ عليه.
الشاعر أو الكاتب دنيا واسعة، ومن يصف دنيا بكاملها في ساعات معدودات؟! فاحصر نفسك حيث وضعك السؤال الذي طرح عليك، ولا تحاول الاستطراد لتسرد كل ما تعرف، فتطلب الزيادة فتقع في النقصان.
إن نصائحي لك كثيرة، وهي من بنات التجربة لا من بنيات الكتب، ولو شئت أن أسردها كلها لكتبت مجلدا، ولكنني لا أعتقد بفائدة النصح للطالب، فالطالب يسهر عليه ويسير، وإذا ترك أمره للنصيحة يركب رأسه ويسقط. فلا دواء لداء الطلاب في هذا الزمان أفضل من نظام حريف ورقابة لاذعة كاوية، وإلا فمصير الثقافة الانهيار ...
متى تستوي الطبخة؟
وما أعني غير طبخة المنهاج، فقد زيد ماؤها مرات ولم تستو بعد، ومثلنا يقول في التفاهة: الطبخ المزاد والكلام المعاد ... إن التعليم وسيلة إلى التربية، وغاية التربية صقل الغرائز الموروثة لا خلق غرائز جديدة ... إننا لا نريد دهانا بل صقلا يبرز لنا عرق الأصل كما يفعل النجار بالخشب الشريف، فأي هدف يرمي من يقول لتلميذ عصر الكهرباء: عندي رطل زيتا؟! هذا مثل وضعه نحاة العراق بعد الهجرة حين كانوا يكتبون على ضوء مصباح راهب امرئ القيس، فلماذا نردده نحن على مسمع من في بيته قناطير زيت؟!
السيارات احتلت مملكة الدواب واستعمرتها، فقبعت الجحاش في الأرض مبتئسة واجمة، والمعلم ما فتئ يصيح بحبساء صفه: قام القوم إلا حمارا!
لقد بعد عهد الحمير بالشعير فكيف تقوم يا مولاي؟!
ألم يطرق مسمعك يا حضرة المعلم قول جون ديوي فيلسوف التربية الأمريكي: العلم وسيلة لا غاية ؟ فبماذا تتوسل أنت يا زميلي؟ وإلى أية غاية تسعى؟ أنظل نتلهى بعقول أبنائنا وننقرها ونحشوها كأنها القرع أو الكوسى؟
تدخل الصفوف فترى الطلاب كأنهم الشجر المغروس، أو سردين مكبوس، وعلى المنبر «هبل» يقال له الأستاذ، منتصب كأنه شيء اللوف، أو نطار في مقثاة يخاف عليها عدوان الثعالب.
عفوا يا أخي الأستاذ، فأنا وأنت رصيفان، ومن ساواك بنفسه فما ظلمك، هذه حالنا ومن ينكر أننا مسيرون ولا مخيرون؟ يذلل رقابنا نير منهاج أخرس أطرش، لا يحول ولا يزول كأنه شرائع «مادي» وفارس، أو لوحة الوصايا العشر التي كتبها الرب لموسى، لا يدخل مدارسنا شيء من الخارج، فما فيها إلا وجوه كالحة على أجسام جامدة، وإن تنشط يحل بها العقاب، فيا ويل الأمة من مدارسها البالية!
مدارس خالية من كل شيء إلا من الألواح السوداء والمقاعد والمناضد الصفراء، فارغة كتابوت العهد ومن يمسها يصعق، على كل منبر من منابرها جبار لا تبين له سن ولو جعلت مخل أرخميدوس بين فكيه، أمجنون هو حتى يضحك؟! ومن يضمن له هيبته ووقاره إذا ابتسم؟! كان في الأمس رفيقا ومرشدا فصار ناطور ورشة وخفير أسرى حكم عليهم بالأشغال الشاقة ... ليس لهم أن يقفوا! وجد ليكون صديقا مشيرا فأمسى حاكما بأمره، إن عطس تلميذ عطسة رنانة طار صوابه، وعد ذلك تحديا لهيبته وأبهته، وإن تنحنح أو أح امتعض على كرسي مجده! فما هذه الطباع، ومن أي الطرق خلصت إليه؟!
مسكين المعلم! إن حمله ثقيل، لا بد من بلوغ المحج، وتأدية الحساب على البيدر ... على التلميذ أن يحفظ من روائع الأدب كذا وكذا، وكذا وكذا من علم أصول اللغة ومفرداتها، وعليه أن يحفظ التاريخ ووقائعه، وفي أي عام وشهر ويوم حدث كيت وكيت، وأن يعد الأنهار والبحيرات في قارة أوروبا، وأن يستظهر كتب العلوم من حساب وفرضيات ومعادلات وكيمياء وطبيعيات، وأن يعرف علم النبات والحيوان جملة وتفصيلا، وعليه ألا يخرم من تلك «الخطط» التي دبرها الأستاذ لينفذ تلاميذه في مضيق أواخر حزيران، وعليه أولا ألا يفكر وحده، ولأمه الهبل إن كان ذا شخصية.
أما التربية والرجولة والتفكير فليست في الحساب، إنها أمور تافهة، ليكن رأس الطالب رمانة معارف لا وردة تتطال للنور والهواء، إن هذه المعلومات التي يخبئها الطالب ليوم الفحص الأسود لا تبقى في الذاكرة وتنسى بعد ستة أشهر - كما يقول تين - وهي مع ذلك جل ما يعرفه بنونا من شئون الحياة، فهذا الطالب النجيب الحائز قصب السبق في الرهان لو كلف القيام بعمل أدبي آخر غير الذي حفظ ودرس لتخاذل وتلكأ وتلعثم ووأوأ، وإذ ذاك نخجل نحن ونعلم أن مناهجنا لا رجالا خلقت ولا علماء أوجدت. علمناهم ما لا ينفع، علمناهم ما لا يحتاجون إليه في دنياهم، وسلمناهم للحرب العوان بندقية الفتيل والصوان في عهد القذائف والقنابل الذرية والهيدروجينية، رحم الله عظام غوستاف لوبون القائل: «إن انتخاب طرائق التربية أولى باهتمام الأمة من انتخاب شكل الحكومة.»
كم سمعت تلميذي يتذمر! وكم سمعت ابني يتأفف! فرثيت لهما، فأكثر من يتغذون بمواد البرنامج كمن يشرب زيت الخروع وهم عليه صابرون وله كارهون.
شكا إلي جملي طول السرى
صبر جميل فكلانا مبتلى
أجل، كلانا نمشيها خطى كتبت علينا، ولا نلتقي إلا على منهج كما قال العرجي. ولا أقول إن كل الشر في المنهاج، ففي عقول الأساتيذ شيء كثير، فالاستنباط عندهم قليل، والأساليب قياسية مطردة، وما أقل الخارجين من حظيرة القدماء!
بحياتك يا سيدي المعلم، قل لي: ما يعني ابن هذا الزمان من عراك شب بين سيبويه والكسائي؟ سيان عنده لسعة العقرب والزنبور، فلا صفا قلب الفراء وليخرفش الأخفش ما شاء، وليظل ثعلب في كرم أبي الأسود حتى تفنى العناقيد، أما أنت فعلم تلميذك أن يكتب صحيحا ويفكر تفكيرا مستقيما، وإياك أن تجعله أسطوانة فونوغراف!
أما الأدب فأصبح صورا معدة تمليها الأساتذة ليحفظها التلاميذ، كأنها صلاة يلقنها المؤمن الساذج ليتحدث بها إلى ربه حين يخلو بنفسه، إن هذا المنهاج كان طويلا معلولا وعدلناه فزدناه أربعة أضعاف، فيه وجوه متماثلة لا يدري الأستاذ ما يقول فيها فيملها الطالب ويكره لأجلها وجه المعلم، فجل صور الأدباء المفروضين بلهاء حائرة لا تحدث الولد إلا عن غرائز فطرية متماثلة، والولد يتطلب الجديد، حريص كالنملة على الجمع والادخار، فما أمر خيبته إذ يمد يده ولا يرى شيئا!
أما في الفلسفة فيمر طلابنا في رواق أرسطو مرور النسر في الجو، ويحصى في جمهورية أفلاطون من أبناء السبيل، ويعلم من مذاهب علم النفس ما يكسر العطش ولا يروي الغليل، فحسبه أن يتبجح بما قال جيمس وريبو ليصير فيلسوفا فحلا، ومتى حان الامتحان جثم المميز كأنه النمر الحردان، لا يرق ولا يرحم، لا يريد أن يعلم أن هذا الفتى الرطب العود قد استظهر في عام آلاف الصفحات ليقف بين يديه بضع دقائق يقول له في نهايتها إما اذهب عني يا ملعون ... أو ادخل فرح سيدك.
من راقب أعمال التلاميذ في السنة المدرسية وخصوصا قبل الامتحان بأسابيع يرثي لهم، حياة كأنها الأعمال الشاقة، فمنهم من لا يلم بالنوم إلا بطرف ليجني من العوسج تينا، وهيهات! العمال تقلل ساعات عملهم، أما تلاميذ المدارس فتزداد، مساكين هؤلاء! يهرقون شبابهم ثمن نظريات لا تطعم أكثرهم خبزا.
إن أكثرها بعيد عن الحياة التي تنتظرهم، وفي كل برهة تزداد المناهج شحما وورما، وتنحط الثقافة انحطاطا مخزيا، وعدد العارفين والرجال يقل قلة مخجلة. فهل من يضع حدا لهذا التكالب على جمع معلومات لا قيمة لها في الحياة العملية؟ المنهاج لا يسعف على طلب العلم للعلم، وهدف التلامذة والمدارس فيه الشهادة لا المعرفة ولا التكوين الشخصي، فمتى تلائم بين النقيضين؟! متى تدق الساعة التي تمشي فيها المدرسة والحياة يدا في يد؟ فهذه المعلومات التي تحشى بها الذاكرة ليست عدة للكفاح الحيوي، وقد يخرج التلميذ من المدرسة كما يفر عصفور من ظلمة البيت ليقع على نافذة زجاج، فإما أن يكسر الزجاج وينطلق، وإما أن يسقط دائخا فينشب به الهر مخالبه.
الولد - كما يعلم ديوي - هدف المدرسة، وعلى المواد التدريسية أن تخضع له وتجعل أداة لتطوره ونموه وارتقائه، فمن زعم أن المدرسة وجدت لتكديس المعلومات في رأس الولد فقد ضل ، إن غاية المدرسة هي تكوين الشخصية، فطبقا لنفسية الولد ترسم المدرسة لا بناء على كتب بعينها لمؤلف بعينه رافق وسيرافق المنهاج - بعد عمر طويل - من المهد إلى اللحد، ومن أين يفر المنهاج من بين يديه ومن دائرة كتبه؟ كان عدد المؤلفين تسعة وعشرين فأعادوه إلى مائة وما فوق، ولا نعلم ما يفعل القائمون على تعديله، وكم يفرضون علينا من روائع ...
فليكن قائدنا العقل، فإخضاع حياة الولد لمنهاجنا الحاضر يقود إلى هزال نفسي، فلنهذبها لتكون وسيلة لحياة مثلى أفيد وأنفع، فلنجعل الحياة المدرسية طبيعية كما تتطلبها الحياة التي تصخب وتضج في جسوم أبنائنا، فوظيفة المدرسة الاندغام في الحياة لا الابتعاد عن العالم، والمناهج وسائل لخلق جو ملائم يحيا فيه المتعلم حياة نشاط وعمل لا حياة ملل وضجر.
إن المكتبة خير ينبوع يستقي منه الطالب فينتعش ويذهب يأسه، ولكن من أين لأسير هذه المناهج الوارمة أن ينعتق ولو ساعة في النهار ليخلو بكاتب يحبه، أو شاعر يستملحه، أو علم تدفعه إليه عاطفة ملحة، أو فن دفنت بزوره في أعماق كيانه؟ فخير العلم الذي يجب أن نوجه إليه همنا هو ما ينفع أبناءنا ويلذ لهم، فلا يجهدهم ولا يضنيهم ثم ينفعهم بنافعة في العالم.
إذا هبت رياحك فاغتنمها
إذا زرته عند انتشار النهار رأيته في فراشه متمطيا بصلبه كأنه ليل امرئ القيس، يتقلب يمينا وشمالا كالمريض في دور إبلاله، وإذا تحدثتما وسألته عما كسبه أمس تأوه وتألم وقال لك: «حظنا قليل.»
تفرس فيه قليلا تر أنامل الكسل تداعب وجهه الناعم، وهو مسترخي الأهداب، منكسر العينين يحلم بالعظائم، يتنهد كأنه يشكو سوء حظه، وأشعة الشمس تمد إليه حبالها من خلال السجف لتنشله من لجة الأحلام، فيفتح عينيه نصف فتحة ليحاور نفسه قائلا: أقوم الآن؟ كم الساعة؟
ويلتفت إلى المنبه فيرى أنه قريب من الميعاد، ولكن الوقت لم يحن بعد فيخاطب نفسه قائلا: بعد ربع ساعة. وينقلب على جنبه الآخر ويستدير في فراشه إن كان الزمن شتاء ليستأنف نومة هانئة لذيذة، ثم لا يستيقظ إلا على صفير القطار أو عزيف جن زمارات السيارات، فيهب إلى الانزلاج في بنطلونه، وهيهات! ... الوقت قد فات، وها هو قد وصل، ولكن ليسمع التبكيت إن كان مأمورا، أو ليبكت نفسه إن كان من ذوي الأعمال الحرة.
ينتظر صاحبنا وهو متهدل في فراشه أن يأتي إليه الرغيف سعيا على الوجه أو مشيا على الرأس، فلا يدري حضرته أن الأرض وما عليها وما فيها والسماء وأجرامها لا تقف قط عن العمل، ولا تضيع ثانية واحدة من الوقت.
كم من فرصة مرت بباب هذا الذي يشكو قلة الحظ ورأته محكم الإقفال فلم تستطع الدخول، فراحت في طريقها تفتش عمن هو في انتظارها ليقبض عليها بيديه الثنتين ويضمها إلى صدره ضمة عاشق منتظر! كثيرون منا ينتظرون أن يأتيهم رزقهم رغدا، وأن ينزل عليهم الرغيف في قفة من فوق، وقد فاتهم ما قاله أحد رجال الفكر: «إن خير الرجال هم من لا ينتظرون أن يجيئهم الحظ إلى البيت، ولكنهم يهاجمونه ويحاصرونه ليتغلبوا عليه ويجعلوه خادما لهم.»
فالقول بالحظ وعدم سنوح الفرص واقتناصها حجة لاجئ إليها خائرو الهمم، هؤلاء الذين وصلوا متأخرين جدا حين وزع الله الحزم على عباده، فليتهم يتذكرون قول شاعرنا العظيم: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم.» فيفيقوا من ثبات كسلهم، فلا يدعون الفرص تدخل بيوتهم من الباب وتخرج من الشباك.
يزعم مصنفو الأساطير أن الفرصة صلعاء من خلف ولها شعر طويل من قدام، فإذا جاءتك وتشبثت بناصيتها فذاك، وإلا فلا.
وبعد، فما هي الفرصة؟ إنها كل عمل نتقنه، وكل أمانة نؤديها، فكل سعي صادق نسعاه هو فرصة تفتح لنا باب الفلاح، فأي رجل منا إذا حاسب نفسه وفكر تفكير رجل يريد أن يكون شيئا في الحياة، لا يتذكر أنه أضاع فرصة ما لو كان أحسن الاستفادة منها لغيرت تاريخ حياته، بل ربما غيرت مجرى حياة كثيرين غيره ممن يعملون معه. إننا نتذكر تلك الفرصة التي تفلت منا بالحزن والأسف ونهتف قائلين: آه! لو كنا عملنا كذا لصرنا كذا وكذا، لو لم نتأخر خمس دقائق ما فاتتنا الغنيمة الفلانية، قد أدركها فلان فأصبح اليوم من الأغنياء العظام وقبر الفقر.
افحص ضميرك يا صاحبي تتذكر جيدا أنك كثيرا ما سمعت شيخا أو كهلا أو شابا - ولعله أبوك أو عمك أو أخوك - كان يردد أمامك: «فاتتني الفرصة الفلانية.» فليتك تتعظ ولا تدع الدقيقة الخصبة تفوتك. إنني أراك تتململ في فراشك وأسمعك تقول: هيهات! ذاك شيء مضى وراح، أما أنا فأقول لك: ما راح شيء غير حزمك وعزمك، وإن ظللت تقول هكذا فإنك ستظل حيث أنت.
كثيرا ما نسمع الكثيرين يقولون: الزمن الذي واتى فلانا حتى حكم أو اغتنى أو أنشأ ما أنشأ قد ذهب ولن يعود. بيد أن الأيام ترينا في كل فترة أنهم مخطئون، أما نسمع كل يوم بأشخاص اغتنموا الفرص ولم يضيعوا الوقت فنالوا ما تمنوا، ولم يقصروا عمن كنا نظن أن الزمان لن يأتي بمثلهم؟ فالذي يسمونه اليوم «انقلابا» ما هو إلا فرصة يكتسبها عصامي استولى على المبادرة، أما من ينام على صوف منتظرا ورقة يانصيب فهو لا يصيب خيرا، إنه أبله يؤمن بالفرص البلهاء، ولن يفلح ولو ربح.
ليتك تعرف كيف أثرى روكفلر، كان هذا المثري العظيم في بادئ عهده أحد ثلاثة ألفوا شركة لتصفية النفط، فأخذ أحد الشركاء الثلاثة واسمه أندروز يتذمر ولم يصبر حتى يفيض الخير، فسأله روكفلر: «بكم تبيع حصتك؟»
فأجابه أندروز: «بمليون دولار.» فقال روكفلر: «اشتريت.» وما مضت أربع وعشرون ساعة حتى دفع روكفلر المبلغ المرقوم إلى شريكه أندروز قائلا له: «أفضل جدا أن أشتريها منك اليوم بمليون ولا آخذها فيما بعد بعشرة ملايين.»
إن تلك الفرصة هي التي عملت روكفلر وصيرت منه ذلك المحسن الذي نسمع كل يوم بفضله ومعروفه، وهي التي محت اسم شريكه أندروز من سفر أصحاب الثروات الضخمة والمحسنين. والفرص التي تفوتنا - نحن الشرقيين - هي التي جعلت منا قوما اتكاليين ينفقون ما يملكون، وينتظرون فتح باب الفرج القريب.
يقول المتكاسل المتواني: «تفرج إن شاء الله.» وينسى حضرته أنه هو أيضا له مشيئة. إن تربيتنا الأولى هي التي تقف عقبة في سبيلنا، تربية ترهل واسترخاء تنشأ في البيت، وتشب في المدرسة، وتكتهل وتشيخ في معترك الحياة.
فإذا رأيت فتى بطيء الحركة، قليل الاحترام للنظام، بارد الدم، لا يغامر في اقتناص الفرص السانحة، بل يدعها تمر بسلام؛ لأن صيدها عنده حرام؛ فقل: إن الحق على والديه؛ لأنهما لم يجبراه على السعي والتدقيق في صباه.
لم تبق له تربيته الناقصة إلا التفكر بالغد، فالعمل المطلوب منه إنجازه اليوم يرجأ إلى الغد أو ما بعد الغد، وهكذا يقتل الوقت مترددا، وهو لا يدري أنه يقتل الفرصة التي يشكو عدم سنوحها.
إن المتيقظ يفلح ولو متأخرا، أما الساهي اللاهي فالفلاح منه بعيد.
موسم الرحمة
أرادوا أن يحددوا الإنسان فقالوا: إنه حيوان ناطق ضاحك مستوي القامة، ولعلي أرى أن أحدده غير تحديدهم فأقول: إنه حيوان محسن رحيم. ما رأيت حيوانا يجود على حيوان بما عنده، أو يدعوه إلى مأدبة يعدها له، ما رأينا غير الإنسان من المخلوقات يفعل هذا، فلنكن إذن إنسانيين.
إن الذكريات الراقدة في أعماق النفس تستيقظ في هذه الأيام وتوقظ معها الغضب والسخط، فماذا نفعل لنرقد تلك المشاعر في مكامنها فلا تجيش ولا تثور؟ إن إنسانيتنا تدعونا إلى قضاء ثلاثة حقوق لها قبلنا، ففي مجتمعنا اليوم ثلاث فئات يجب علينا أن نفكر بها تفكيرا جديا: الأولى فئة الطارئين الذي أخرجوا من ديارهم، والثانية فئة البؤساء البلديين، والثالثة فئة العائلات المستورة. فماذا نعمل لنرفه عنهم كما يقولون؟ فالرفاه لا يخطر ببال هؤلاء ولا ببال الكثيرين منا، بل لنقدم للفئتين الأوليين خبزا يسندون به قلوبهم، وثيابا تدفي جلودهم وتستر عوراتهم. إن رؤية أمثال هؤلاء لشاهد صارخ على قساوة القلب وحب الذات وبغض الغير، والمجتمع الذي هذه هي صفاته لا يستحق التهنئة والشكر.
كم رأيت وسمعت أناسا يشكون موجة البرد القارس وقد حصنوا أطرافهم بكلسات الصوف وقفازات الجلد المبطنة، وصدورهم بقمصان الفانلا السميكة، ثم لبسوا فوقها ما لبسوا، وأخيرا تدرعوا بالبردويسهات السوابغ، ومتى عادوا إلى دورهم وقصورهم فهناك التدفئة الكهربائية والشاي الساخن والكونياك والويسكي وحرامات الصوف وأكياس المياه المغلية التي تسبقهم إلى الفراش ليصير أهلا لاستقبال أجسادهم الناعمة.
نومة الهناء يا سيدي، ولكن أرجوك عندما تندس في ذلك الفراش الوثير وتسترخي ليلتك على فرد جنب، أن تعيد النظر في أحلامك حين تستيقظ، أما أبصرت في نومك أشباح البائسين الذين مروا بك في النهار فحولت عينيك عنهم؟ أما جاءوك حين لا تستطيع أن تشيح بوجهك وقالوا لك: تذكر أنك كنت مثلنا أو نحن كنا مثلك وقد تصير مثلنا، فماذا أعددت لنا في هذه الأعياد لنسأل الله أن يعيدها عليك؟
وذاك المهاجر، أو اللاجئ كما يسمونه، العريان المقرور، أو المريض المصدور، الجوعان الذي يدور على المخازن والقهاوي والدور، ألم يرعبك منظره؟ ألم يفسد مشهده أحلامك الذهبية؟!
وإذا سمعت أولادك يقولون: أح، برد! وهم حول مدفأة تهمهم، هل تذكرت ذاك المنكوب وأولاده العراة، وذاك البائس البلدي الذي له مكان يسند إليه رأسه، ولكنه في حالة اللهيف، وأحوج الناس إلى الرغيف؟ هل تذكرته وأنت تفطر على القهوة والحليب والبيض والبسكوت والكاتو والشوكولا والكنافة والتفاح والليمون؟ إنه محتاج أيضا إلى ما يلف به جلده المقشعر، فقم حالا وفتش في زوايا خزانتك أو في مستودع سقط المتاع، وابعث إليه ببالطو أو بنطلون أو بوط أو مشاية، ومهما كانت عتيقة فهي خير من لاش.
إن في بيتك خبزا عتيقا لا تطعمه الست إلى كلبها الأثير خوفا عليه من تلبك المعدة، فابعث به أنت إلى من حولك من المساكين.
اليوم، تماما، بدء فصل الشتاء، والبرد مقبل علينا بطبل وزمر، فقابله أنت بشيء من فضلاتك، فحولك جيران بائسون، وفي المضارب والخيام إخوان لنا يكاد الخوف يميتهم، فهب أيها الكريم إلى نجدتهم بما عندك مما ينفعهم ويخفف بلواهم، وليس على الكريم شرط.
ستذكرهم الأعياد كيف كانوا ينعمون في بيوتهم في مثل هذه الأيام، فتكبر مصيبتهم ولا يخفف من حدتها غير مؤاساتنا لهم، فماذا تريد أن تفعل؟ لا بد من أن تفعل شيئا، فالمثل يقول: «قللها ولا تقطعها .» وهناك أيضا عائلات مستورة بلدية وطارئة، كانت هذه العائلات قبل أن زالت عنها النعمة - لا تنس هذه الكلمة - تحسن وتتصدق وتتبرع، ولكنها اليوم محتاجة، فضع اسمها في قائمة من تريد أن تحسن إليهم، من ينكر أن معظم هذه العائلات المستورة لم تكن إلا دعامة راسخة، وقد تركت بسقوطها فراغا عظيما لا يملؤه أي كان من الناس؟ فطالما كانت عضدا للفقير، وساعدا للبائس، وعونا للضعيف المسكين، بل وكم انتشلت بحسناتها من التعساء الذين أنشب بهم الفقر مخالبه. ولكن الدهر جار وأبى أن تظل هذه البيوتات الكريمة غارقة في النعيم فهوت إلى الحضيض، وليس لها بسطة كف تستعين بها لتقوم من سقطتها.
إنها صابرة على نوب الزمان، وتأبى عليها عزتها الأصيلة أن تموت صغيرة. لم يطرأ على هذا العنصر الكريم ما يفسده عند فقد المال، فكان كالذهب الذي لا يأكله الصدأ وإن طرح بين الأقذار، وما أمر حياة من سقط من عرش النعمة إلى حضيض الشقاء! وقد صور هذا شاعرنا العربي حين قال:
إن الكريم ليخفي عنك عسرته
حتى تراه غنيا وهو مجهود
ففي هاتيك البيوت حاجة صامتة، وبين تلك الجدران فقر لا يرفع صوته، فلا يد تبسط على قارعة الطريق، ولكن العيون تتكلم فكن ممن يفهمون لغة العيون.
اعتبر أيها السيد وأشفق على هذه الطبقة من الناس، فربما وصل الموسى لذقنك، من يدري يا سيدي؟
فالليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبة
فليت كل سامع يبحث في محيطه عن هؤلاء؛ ليبذل ما يستطيع لهذه الأسر المسكينة، ولا يتركها كما ترك خزيمة بن بشر أصدقاؤه بعدما أنفق عليهم ماله، وأبى أن يخرج من بيته فقيرا حتى يقرع الموت بابه ويخرج درة تلك النفس الأبية من صدفها، فلنكن كعكرمة الفياض الذي حمل إليه تحت جنح من الليل كيسا من الدنانير ولم يشعر بذلك أحدا.
إن في صدر تلك الفئة تختلج نفوس لم تتعود الصغارة، إنها تكتم داءها والكتمان يزيده هياجا، وتخفي آلامها المبرحة والخفاء يضنيها، فإلى أمثال هؤلاء نلفت أنظار الجمعيات الخيرية ونسألها التفتيش والبحث عنها.
إنني إخال بعض القراء يقولون: «الذي يفصل من جلد غيره يوسع.» لا يا سادتي، عندي حل وسط، فإذا كنتم لا تسمحون بزيادة ميزانية النفقات فاعملوا بما يلي، واسمحوا لي أن أتبع طريقة الوصايا العشر: (1)
بعض التقنين لكلابكم. (2)
استغنوا عن لون من ألوان ولائمكم، وليكن ديك الحبش رطلين بدلا من أربعة. (3)
استبدال مشروب بمشروب. (4)
أعطوا من فضلاتكم وعتيقكم، ولا تتذرعوا بقول المثل: «احفظ عتيقك جديدك لا يبقى لك.» (5)
بدلا من اللوج اقعدوا على كراسي في السينما والمسرح. (6)
بدلا من مصارفات التزحلق البعيدة، اقصدوا إلى أماكن قريبة وزحلقوا الكربة عن صدور البائسين. (7)
بدلا من أن تهدوا أولادكم أعطوهم ليهدوا ويتعلموا الإحسان. (8)
بدلا من دعوة الوجوه والأعيان ادعوا الفقراء ولو مرة، ليخف سخطهم، ولا يدعون عليكم. (9)
بدلا من أن تبيع عتيقك بثمن لا يزيد ولا ينقص ثروتك، بعه إلى الله إن كنت تؤمن بأنه يجازيك خيرا. (10)
إذا كنت لا تخاف الله فخف دورات الزمان، واحسب حسابا لدعوات البائسين، واجتهد أن تكون معك لا عليك، واسمح لي أن أقول لك سرا: بلا ليلة قمار يا سيدي، وبلا ... وبلا ... إلخ.
واعلم أخيرا أن ثروة لا ينفق منها في سبيل البر والإحسان لهي شوكة في عين الإنسانية، وبصمة عار على جبينها.
إن بيتا تخرج من أبوابه الأرغفة، تدخل من شبابيكه وطاقاته النعمة، فلا تغلقوا أبوابكم لئلا يغلق الله باب نعمته عليكم.
الزكاة في الإسلام والعشر في المسيحية فرضا للإنماء والتخمير، ولو روعيا ما كان في الدنيا فقير، وما كانت هذه الثورات الفكرية.
لحكمة أزلية خلقت حبة الحنطة مقسومة، لك نصفها والنصف الآخر لأخيك المحتاج. هكذا قال فيلسوف المعرة.
كن محبا، فالمحبة الخالد فينا تغذي روح الخليقة جمعاء، وبإرادتها تحول كل عشبة عروقها الخضراء نحو الشمس.
كن لطيفا
الأدب عدة وبه يستغنى عن العدد، فلا خوف على الأديب في حرب المعاش، فأدبه يغنيه عن كل شيء حتى رأس المال، لسنا نعني هنا إلا أدب السلوك، فالأدب الذي في الكتب قتلناه بحثا، ناهيك أنه لا خوف علينا من عنترة إن لم نفهمه كما يتطلب منهاج البكالوريا، وإنما الخوف كل الخوف من المتعنترين الذي لسانهم مسدس وساعدهم عصا وأصابعهم سكاكين وخناجر، فنحن أحوج ما نكون إلى الأدب لتسلم رءوسنا.
لا يهمني أن أفلسف للناس كما يهمني أن أضع أصابعهم على الدمامل التي نحملها على رقعة من جلدنا الاجتماعي، فتحت ثيابنا الحديثة لا يزال يكمن إنسان الكهوف، إذا ارتكب أحدنا جرما فكثيرا ما يقول في معرض الدفاع عن نفسه: فلان استفزني. ومعنى قوله «استفزني» أنه سمع منه كلمة لم تعجبه، وكيف لا يصيح ويثور ويضرب ويجرح؟! والشاعر الحكيم يقول:
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
فإذا تتبعنا آثار الجنح والجنايات، رأينا أن سبب أكثرها كلمة جارحة يرسلها من يعوزه مثقال ذرة من اللطف، وما أصدق من قال: من وطأ كلمة وطأ جبلا. لاحظت وألاحظ أن الكلمة في الشر أفعل منها في الخير، تقضي سنوات عديدة لتكتسب صديقا، وفي دقيقة واحدة تجعل جميع الناس أعداءك إذا شئت، ارخ للسانك العنان فلا يبقى لك صديق وتغنم لقب السفيه.
جاء في إحدى الأساطير ما يأتي: «قالت العاصفة للنسيم: ألا تتمنى أن تكون لك قوتي، فأنا أحطم الأشجار وأهدم البيوت وأغرق المراكب، وأجعل عالي الأشياء سافلها، فتتوارى الناس عند مروري لئلا أقتلعهم ...»
فاحمر وجه النسيم اتضاعا وتنفس، فتهلل كل شيء في الكون؛ تفتقت أكمام الأزهار، واشرأبت أعناق البراعم، وامتلأت الأرض عطرا فتزحزح الكابوس عن صدور الناس وصاحوا جميعا: ما ألطف هذا النسيم وأحلاه! وما كان أبشع تلك العاصفة!
ألا ترى أن الرجل الشرس أردأ من العاصفة؟ تتقيها بالمداراة فتتوارى حتى تمر، أما الفظ الغليظ القلب والكبد فيتبعك كظلك، وقد يترصدك ... للعاصفة مهب، وإن شئت فقل ممر، أما الرجل الشرس فيهب عليك من الجهات الأربع فأين تهرب؟
وأنت يا صاحبي، لم لا تكون نسيما؟ إنك تحصل على هذه الثروة الاجتماعية بلا رأس مال إذا أردت. ثلاثة أشياء تجعل منك رجلا لطيفا مهذبا ولا تكلفك إلا الإرادة الحسنة: إبريق ماء يجعل منك رجلا نظيفا، وتحية أو ابتسامة تجعل منك رجلا محبوبا، وكلمة اعتذار ناعمة تجعلك رجلا مهذبا لطيفا، فابتسم واعتذر لمن تؤذيه خطأ، أأنت دافع حقها؟
قال حكيم قديم: «اللطف رشوة من لا رشوة له.» إن الجواب اللطيف يا صديقي يطفئ أتونا من الغضب، فاكسر الشر بكلمة لينة، أليس استعمال لسانك أهون عليك من استعمال باعك وذراعك؟ أن تصرمني بابتسامة خير من أن تقضي لي حاجتي بوجه حامض، الابتسامة سمة الرجل المهذب، وهي المفتاح الصغير لجميع الأقفال فاجعلها عدتك، والكلمة اللينة تقيك شر الحديد والنار فلتكن ترسك، أرأيت في حياتك حيوانا يبتسم؟ فكن إنسانا، ماذا تكسب لو قطبت وجهك دهرا، وورم أنفك شهرا، وانتفخت أوداجك عمرا؟! لك الله ما أصغر عقلك إن كنت ذاك الرجل! فأقل نعت تغنمه هو: رجل فج، ناشف، حامض الوجه، مقطوع من حرش، يقول المثل الإنكليزي: «تحية اللورد فطور المجنون»، فافترض الناس مجانين وأنت لورد، وامح إساءتك إليهم بكلمة لطيفة.
كانت سيدة نبيلة تمشي في منعطف شارع معوج فصدمت شحاذا صغيرا، فوقفت في الحال تعينه على النهوض من سقطته وتعتذر إليه بحنو: عفوا يا عزيزي الصغير، إني حزينة جدا لأنني اصطدمت بك.
فحدق إليها الفتى بدهش وعلت ثغره ابتسامة لطيفة، وبعد أن مرت قال لرفيقه: هذي أول مرة أسمع فيها واحدا يعتذر لي، إن ذلك حنو منها ولو كسرت رجلي.
وبعكس هذا ما رأيته أنا مرة، صدم رجل في الشارع رجلا من الذين يتكلمون بأيديهم لا بألسنتهم، فتهيأ هذا للصراع فقال له الرجل: غصبا عني يا أخي أرجوك ... عفوا! فوضع هذا أصابعه العشرة في وجهه وصاح: اقتلني، وقل لي عفوا ...! ثم طفق يكيل له الشتائم بالمد! وقفت أتأمل الرجلين: واحدا يتفانى في الاعتذار ليكسر الشر، وآخر يتنمر ولا يشفي نفسه إلا أن يبل يده ... وأخيرا فازت الكلمة اللطيفة، وكان القول الفصل لها لا للسكين والعصا.
إن الكلام الغليظ يزيد مشقات الحياة ومتاعبها، وكثيرا ما يحول دون أمانينا من حيث لا ندري، طرقت مرة أحد الأبواب فأطلت الخادمة ، فقلت لها: معلمك بالبيت يا بنت؟ فغمغمت كلمات لم أتبينها، ثم قالت بجفاء: لأ. وردت الباب.
لقد علمتني تلك الفتاة درسا بليغا، فسرت غير سيرتي الأولى مع زميلة لها ابتدرتها بقولي: صباح النور ما مدموازل، فنكزني رفيقي ليقول لي: هذي خادمة.
فقلت له: أعرف، ولكنني قلت لمثلها مرة «يا بنت» فدفعت ثمنا غاليا وصرفتني، أما هذه المرة - وقد كان سيدها غائبا حقا - فانفتح الباب واسترحنا من عناء صعود السلالم وشربنا قهوة.
فحيثما يكن اللسان الدافئ يعش الناس في سلام واطمئنان؛ ولذلك قال المثل: «لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك»، فكن لطيفا تسترح وترح.
أتكون آلة تدار؟
كانوا إذا امتدحوا رجلا بالذكاء وأصالة الرأي قالوا: «فلان داهية.» و«فلان من دهاة العرب.» ومتى قالوا هذا أرادوا أنه يدبر أموره ويفصل شئونه بعقله لا بيده، وهل كان معاوية بن أبي سفيان معتمدا على السيف والرمح والعدد والعدد حين قال: «لو أمسك العرب بطرف الشعرة وأمسكت أنا بطرف ما تركتها تنقطع بيننا، فإن أرخوا شددت وإن شدوا أرخيت.»
إنه لم يقل كابن كلثوم:
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
ولكنه اعتد برأيه وحصافته، وبهما وطد أسس المملكة الأموية وسكتت دنيا العرب بين يديه.
إنه لا يطلب منك يا أخي أن تكون كنوابغ العالم علما ومعرفة لتمسي داهية، فقد تكون صاحب عقل عادي وتكون داهية، بينا يكون جارك الثاقب العقل الواسع العلم مقصرا عن مجاراتك في الحياة، لعلك تبيعه وتشتريه كما نعبر اليوم، وتأخذه منه وترده عليه كما عبر القدماء، ثم لا يحس ولا يشعر! فالدهاء هو حسن تصريف الشئون وإتيان الأمور من أبوابها، فرب تلميذ كان متفوقا على جميع رفاقه في المدرسة ثم قصر عنهم في مضمار الحياة، فقضى عمره شقيا بائسا يجري والرغيف في المضمار فيقطع الجري أنفاسه، ويبيت على الطوى كصاحبنا ابن الرومي.
فالأسد، مع ما اتصف به من قوة وبطش، قد تصطاده بسهولة؛ لأنه لا يحسن تدبير أمره، أما الثعلب فقد يعييك في التواءاته ولفه ودورانه.
قال فيكتور هيجو: «سأل برهما القوة: أي شيء أقدر منك؟ فأجابت: الدهاء.» نعم، إن الدهاء يخلق الفرص، أما فقدانه فيضيعها، فمن لا يعرف أن يطبق سلوكه على مقتضيات زمنه فهيهات أن يبلغ أصغر أمانيه.
إنني أراك يا عزيزي تغضب لأقل بادرة تعترض طريقك، فما أراك تتغاضى عن أتفه الأمور، بل قد تخوض عدة معارك قبل أن تبلغ مركز عملك، إن هذا يا صاحبي ليس من الدهاء والحنكة في شيء، فهناك إساءات تداوى بالإعراض أو بالابتسامة أو بكلمة باردة، أما أنت فتحشد لمنازلتها جميع قواك وحواسك فتخسر المعركة تاركا فيها وقارك وكبرياءك أشلاء مبعثرة، ولو كنت داهية لداويتها بغير هذا الدواء.
قال مونتسكيو: «إن الله لما رزق الناس عقولا لم يقصد أن يكفلهم، فالدهاء هو أن تلجأ إلى عقلك في كل موقف، فتعالج به أمورك معالجة الحكيم.»
قال المتنبي في مدح صاحبه سيف الدولة الذي حاز إعجابه:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ألا ترى معي أن المتنبي وبرهما متفقان على أن الرأي الحصيف السديد خير من القوة في المواطن التي تعرض لك كل يوم؟ فاسمع من عبدك الفقير ولا تلجأ إلى باعك وذراعك إلا عندما تضطر إلى ذلك اضطرارا كليا، أي عندما تجدك في مضيق لا يخرجك منه إلا سلاح الحجاج بن يوسف: «وتر مثل ذراع البكر أو أشد» ...
أما عندك لسانك وعيناك وفمك؟ فرب كلمة حلوة أو نظرة استخفاف تروي ما بك من ظمأ إلى البطش، وتغنيك عن المصارعة والملاكمة!
وإذا اضطررت إلى اكتساب ميل الناس، فانح نحو إبراهيم لنكلن معهم، روي عنه أنه لما رشح نفسه لعضوية المجلس الاشتراعي كان لا بد له من الدعوة لنفسه، فذهب إلى مزرعة فيها ثلاثون رجلا فوجدهم جميعا في الحقل يحصدون، فتوجه إليهم وهو لا يدري عن أية ناحية من نواحي برنامجه الإصلاحي يحدثهم ليربحهم، أما هم فلم يسألوه عما يرمي إليه من تنظيم الشئون الداخلية، ولكنهم رغبوا في أن يعرفوا قوة عضلاته ليتيقنوا من أنه سيمثلهم في المجلس أحسن تمثيل، فما كان منه إلا أن أخذ المنجل من يد أحدهم وهاجم الزرع فلم تبق سنبلة قائمة على ساقها، وهكذا منحه الثلاثون فلاحا أصواتهم وفاز.
ترى لو لم يكن لنكلن داهية وقعد يحدث هؤلاء الفلاحين عن القوانين والمثل العليا، فأي نجاح كان قد أصاب عندهم؟
إن البراعة في العلوم والنظريات قد يخفق صاحبها كثيرا، وأما الدهاء إذا اقترن بالموهبة الفطرية فقلما يخفق، البراعة قوة والدهاء فطنة وحيلة، ومهما كانت قوتك فإنك لا تستطيع اقتلاع صخر كبير، أما التجاؤك إلى «المخل» فيهون عليك اقتلاع ما هو أضخم منه وأكبر.
أريد أن أقول إن الدهاء في تصرفاتنا الاجتماعية يشبه هذا النوع من علوم الفيزياء، فرأي جيد يحط عن منكبيك جميع الأثقال التي لا تستطيع قوتك وعملك النهوض بها مهما كانت.
إن البراعة والذكاء شيء معين، أما الفطنة وجودة الرأي فكل شيء، وليس الدهاء بحاسة سادسة كما يقولون، ولكنه الحواس كلها مجتمعة، بل هو ملاك هذه الحواس جميعا.
لا تعتمد على ما قرأت وتقرأ من نظريات وعلوم في الكتب، واعلم أن الكثيرين من العلماء والفلاسفة العظام لا يحسنون التصرف في الحياة، فاعتمد أنت على الرأي والفطنة فهما مصباحا الحياة، وإذا سرت على ضوئهما أمنت العثار، وحزت ثقة من تعاونهم إن كنت تعمل عند غيرك. إن رب العمل يتطلع دائما بالنظارة المكبرة إلى عماله، فهو يغربلهم وينخلهم في كل آونة، ويفتش دائما لتقع عينه على من يستطيع أن يحمل عنه أعباء التدبير التي تثقل ظهره.
ليتك تريه دهاءك وحصافتك لتكون العضادة التي يعتمد عليها بنيانه، أما إذا لم تكن مع ما منحت من طول وعرض غير آلة تدار، فاعلم أن مصيرك كمصيرها! هل سمعت أن آلة ارتقت؟
إذن أنت يا صديقي تجاه أمرين لا ثالث لهما: فإما أن تكون داهية فتدير، أو بليدا فتدار، فتدبر أمرك واختر لنفسك ما يحلو.
إن المجد مبتدر
هذا ما قاله جرير حين نقض رائية قرنه الأخطل، وكثيرا ما كنا نسمع في الحرب الأخيرة قول الفئتين المتحاربتين : «قد استولينا على المبادرة.» فما هي المبادرة؟ وأية فائدة تجتنى منها؟
إن من يقتل الوقت بين إحجام وإقدام يقدم رجلا ويؤخر أخرى، يظل حيث هو في غمرة طريق الحياة؛ إذ ليس في ساعة الزمان الكبرى إلا دقيقة واحدة اسمها «الآن»، أما «غدا» فقد حدده الشاعر العربي بقوله:
ترجو غدا وغدا كحاملة
في الحي لا يدرون ما تلد
وأنا أشهد أني في أثناء سبعين عاما مرت على رأسي، ما رأيت هذه الحامل تلد إلا مسوخ خيبة ويأس. قال قدماؤنا: «في التأني السلامة.» وقالوا أيضا: «العجلة من الشيطان.» ولكني رأيت الإبطاء يضيع الأماني الكبيرة ولا يخلف غير الأسف والحسرات.
قال أحد أعلام العالم إن من يسير في شارع «رويدا رويدا» يصل حتما إلى منزل «أبدا»! أما روي عن امرئ القيس أنه قال عندما بلغه نعي أبيه: اليوم خمر وغدا أمر؟ فما أصاب، وماذا أدرك؟ فلو كان هب من فوره لأدرك ذلك المجد المؤثل والملك الذي حاوله فمات ولم يعذر.
إن ما كان يقتضينا سفر شهر أصبحنا ندركه في ساعات، فهل يليق بنا أن نتراخى؟ قال أحد المشاهير العاملين: «إن السؤال الوحيد الذي أوجهه إلى نفسي هو: ماذا أعمل؟ ومتى تلقيت جوابا عليه سألت: وما الذي علي أن أعمله بعد ذلك؟»
قالت العرب: «اضرب ما دام الحديد حاميا.» وهذا سر من أسرار الفلاح. قال كوتون: «تقول غدا، وهذا لا أريد سماعه، فما الغد إلا محتال يرهن فقره عندك، ويأخذ ما لديك من المال ولا يدفع لك إلا آمالا ووعودا، وهذه نقود الحمقى.»
ما أصدق المثل العامي الذي لم يدع شأنا من شئون الحياة إلا عالجه ببساطة رائعة، قال: «حقل غدا بور ولو كان المحراث فيه.»
فالغد مدة لا أثر لها في شيء من سجلات الزمان إلا في تقاويم المجانين. أما الحكمة فإنها تنكر هذه الكلمة، والمجتمع لا يتعامل مع الذين يتخذونها رأس مال لهم، هي ابنة المخيلة، والجنون أبوها، منسوجة من المواد التي تنسج منها الأحلام، فكم من رجل عاش على رجاء الغد فلم يظفر بغير الحرمان!
قال أحد الكتاب المشهورين: «السرير مجموعة ألغاز، فنحن نذهب إليه محجمين، ولكننا نتركه آسفين، وفي كل مساء نعقد العزم على أن ننهض باكرا، ولكننا نبقى فيه كل صباح متأخرين.» وفي حديث شريف: «باكروا في طلب الرزق والحوائج، فإن الغدو بركة ونجاح.»
يرينا تاريخ نابليون أنه كان يعمل دائما، ويحاول أبدا أن يكون مستوليا على المبادرة، كما نعبر اليوم. كان يعلم أن الضربة لمن سبق فاستغل هذه المعرفة إلى أقصى حد ممكن، روي عنه أنه دعا مرة أركان حربه لتناول الغداء على مائدته فأبطئوا عليه، فجلس وحده إلى المائدة وأكل، وما انتهى من تناول طعامه حتى جاءوا فقال لهم: «أيها السادة، مضى وقت الغداء، فهيوا بنا إلى العمل.»
إن البطء والتراخي دليل على نقص في الطاقة، ومن لا يتحمس لعمله فهيهات أن ينجزه بالسرعة المطلوبة. إن الإمبراطورية العربية التي استولت على الشرق والغرب لم تكن إلا بنت المبادرة والعجلة والحماسة، فالتأني فيه الندامة لا السلامة متى كان في غير إبانه.
فإلى الشباب أوجه هذا الحديث ليفيقوا من سبات تراخيهم.
قال رسكن: «إن أبدع الآثار الفنية إنما عملت في سن الشباب.» وقال آخر: «إن مصالح العالم هي - بعد الله - في أيدي الشبان، فحماسة الشباب هي التي تذلل الصعاب وقلما حازت أمة انتصارا بغير سواعد شبابها المتحمسين، الذين يندفعون كالتيار وتومض عزائمهم كالبرق في الليالي المدلهمة فتشق الطريق للصواعق.» وحسبنا قول طرفة عن نفسه:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
قد يقول لي بعضهم: وأي رأس مال عندي لأعمل ما تطلبه مني؟
أما أنا فأجيبه: عندك يا حبيب القلب إرادتك وحماستك، أما سمعت قول المتنبي:
عجبت لمن له حد وقد
وينبو نبوة القصم الكهام
ألا ترى قامتك الممشوقة وساعدك المفتول؟ وإذا لم تصدقني فعليك بالمرآة. وبعد، فأي رأس مال كان لإديسون الذي أنار الدنيا، ووضع الزاوية العظمى في بناية أمريكا الصناعية؟ أما كان بائع صحف كهؤلاء الذين تراهم يطوفون الشوارع ويزعجون الناس بصراخهم ، ويسيحون في الطرقات منادين على جرائدهم ليبيعوها ويكسبوا قوتهم اليومي.
كان إديسون يبيع الجرائد في السكك الحديدية ويعمل في مختبره الكيماوي حين يفرغ من بيع المسافرين صحفه. وبينما كان يختبر مرة تعوج القطار، انكسرت قنينة حامض كبريتي وانبعثت منها رائحة كريهة، فلم يطق ذلك صاحب القطار فقذف بإديسون إلى الخارج بعد أن لكمه لكمة على أذنه، فأصمت من أسمع الناس الأغاني حيث شاءوا. ولكن ذلك الجبار لم ييأس وظل يكد ويجد حتى وصل إلى ما وصل، ولما سئل عن سر نجاحه أجاب: «إن سر نجاحي ينحصر في مبالغتي اجتناب المسكر والاعتدال في كل شيء ما عدا العمل.» أما أنت يا صاحبي فتريد أن تكون مثله وأنت تعاقر الخمرة وتقضي وقتك في اللهو.
قال دزرائيلي الوزير العظيم: «إن ما حدث في الماضي من العظائم يمكن عمله في المستقبل، فما أنا بعبد ولا أسير، وفي وسعي أن أتغلب بالعزم والثبات على مصاعب أعظم من التي أنا فيها.»
وفيلسوفنا الفارابي لم يكن له رأس مال إلا عزمه وثباته، فكان يسهر الليل للمطالعة والتصنيف مستضيئا بقنديل الحراس.
فكم من رجال بدءوا جهادهم في معترك الحياة ورأس مالهم لا شيء! وكم من مهاجر جاب مجاهل أمريكا على رجليه ليكسب القرش! فكم لاقى من مشقات! وكم استقبل من صدمات! ومع ذلك لم يفتر عزمه، وظل يجاهد حتى استقر أخيرا على كرسيه فصار مخدوما بعد أن كان خادما. فأي رساميل أو رءوس أموال حمل مهاجرونا إلى دار غربتهم، حيث زاحموا أهل الوطن في أرضهم؟ إنهم لم يحملوا في حقيبتهم شيئا؛ لأنهم ذهبوا بلا حقائب ... ذهبوا وما عليهم غير ما يلبسون، ولكنهم بكدهم واجتهادهم شادوا المعامل والمصانع التي كست العراة وأطعمت الجياع، ورفعوا اسم أبناء جنسهم عاليا.
إذن لا تقل لي ليس لدي رأس مال لأبادر، فرأس مالك عقلك، ورأس مالك حزمك وعزمك وجرأتك.
إن الحياة فريسة المجتهد النشيط، فتسلح بهذه المزايا تربح المعركة، معركة النضال في حرب المعاش.
نحن الشرقيين نحيا غالبا اتكاليين، وأصحاب الثروة منا يبددونها معتقدين أنها خالدة لا تزول؛ ولهذا يسابقنا الغريب في أراضينا على الثروة فنقعد حسيرين ملومين، فلو تنبه أبناء البيوتات منا لما صاروا إلى ما صاروا إليه.
إن العمل الدائم هو رأس مال لا يفنى، أما المال المخزون فمصيره إلى النفاد، فبادر إلى العمل، ولا تصم أذنيك عمن يناديك كل يوم خمس مرات: «حي على الفلاح.»
شعرة من شواربك
كانت الكلمة في ذلك الزمان تغني عن السند المسجل وصك الطابو، إذا قال لك أحدهم: بعتك، خرج المبيع من يده مع تلك الكلمة وصار ملكا لك.
ولهذا نقرأ في تلك الوريقات الموروثة عن جدودنا: «حضر فلان مجلس عقده وباع من فلان قطعة الأرض المعلومة الحدود ... إلخ»، كان ختم محكمتهم ضرب الكف بالكف، ومتى ارفض المجلس ثبت كل ما قيل فيه وكأنه كتب بأصبع الرب! وكم من رجل من أولئك الأفاضل ذهبت بعقاره كلمة قالها.
كنت إذا ثنيت الكلمة على رجل وعدك اشمأز وقال لك بغضب: الرجال تربط بألسنتها لا بقرونها.
كانوا يدينون في خلوة ويحذرون الدائن من البوح بالسر، حتى إذا ما حان الأجل المضروب عاد إلى صاحبه سرا؛ ولذلك لم يعرفوا الأزمات، وعاشوا مكفيين مستورين يتداولون المال الحلال الزلال، من معه يعطي من ليس معه.
ودارت الأيام دورتها وذهب الذين كانوا يفزعون من حمل الأمانة، فكثر المرابون وكثرت إلى جانبهم عصب المحتالين، فلجأ الناس إلى السندات، ثم إلى الرهن بجميع ضروبه، وغلا سعر الفائدة حين قل الصدق بين البشر، فصار ولا بد للمضطر إلى مبلغ ما من تأمين موجع الثمن وإلا فلا تصل يده إلى ما يرفه به عن عياله وحاله.
وضاقت بأحد الفلاحين المستورين الحال فلم يجد ما يرهن، ركبته العيلة فباع كل ما يملك إلا البيت، والبيت كما يقولون في لبنان: «أول المقتنى وآخر المبيع»، كان هذا الرجل من أصحاب القول، كما يسمون الصادق عندنا، فذهب إلى أحد الميسورين وقال له بعين مكسورة ولسان يتعثر بالكلمات: «يا بو مجيد، أنا محتاج إلى مائة ليرة عسملية، وليس عندي ما أرهنه لك، لا عقار ولا عفش ولا مصاغ، نفقنا يا عمي والجبر على الله.»
فقال له أبو مجيد: «الغالي يرخصلك، وإذا طارت الأرزاق فالنفس ما زالت في موضعها، ثقتي بك كبيرة، المائة عسملية حاضرة، لا ترهن عندي غير شيء بسيط جدا شعرة من شواربك!»
فتنهد أبو يوسف وقال: «شعرة من شواربي يا بو مجيد؟! الشعرة من شوارب بو يوسف شيء بسيط جدا.»
فقال له أبو مجيد: «ماذا تريد؟ فلان لم يدفع لي إلا بعد دعوى دامت سنين، وفلان رهن لي عقارا كان باعه من قبل، وفلان الشريف النظيف أنكر إمضاءه وما استحى، ألا يعجبك أنت أن ترهن عندي شعرة بمائة ليرة ذهبا؟!» - ولكنها شعرة من شواربي، فلو تأخرت أو عجزت عن الدفع ماذا تفعل بها، ألا تهينها وتسبها، ألا تبزق عليها؟ صعب هذا الرهن يا عمي. قال هذا وودع وانصرف ترافقه همومه.
كانوا في ذلك الزمان - وقبل حلق الشوارب طبعا - لا يحلفون الرجل بدينه بل بشواربه، فإذا وعد قالوا له: «أمسك شواربك.» وإذا توعد هو يمسك شواربه، ومتى فعل لا يعود عن وعده ولا وعيده، ومهما حاولت أن تزحزحه عما قال يقول لك: «غير ممكن، أمسكت شواربي.»
وإذا كانت هذه قيمة الشوارب، فكيف يرهن أبو يوسف شعرة منها لقاء مال العالم كله؟! وانتفض أبو يوسف وقال: «لا لا لا، هذا لا يكون.» والتفت يمينا وشمالا، وفوق وتحت، وخلف وقدام، فما وجد منفذا، الحاجة قصوى والعيال لا ترحم والبيت المفتوح يقول: «المعجن فارغ» إذن لا بد من هذا الرهن.
وما كاد يعول على ذلك حتى تمثلت كرامته أمام عينيه وصرخت به: «حيف على راعي الشوارب أن يرهن شعرة من شواربه، كل شيء ولا هذا.»
وأخيرا نام أبو يوسف، ولكن فكره لم ينم، قلب أمر الرهن على جميع وجوهه، وفي الغد الباكر كان عند أبي مجيد، فدفع له المائة الذهبية نقدا وعدا، وأخذ منه تلك الشعرة الكريمة ولفها بورقة ووضعها في الصندوق موضع الذهبات وهو يقول: «قدرك الله على الوفاء!»
ولما دنا الأجل ساعدت الأحوال أبا يوسف ورجعت الشعرة إلى قواعدها سالمة من الأذى.
وسمع أحد أغنياء البلد - وكان معسورا - أن فلانا رهن شعرة برشاء وأخذ بها مائة صفراء، فذهب إلى أبي مجيد يستدين، فقال له أبو مجيد: «أنت تعرف أني لا أدين إلا برهن.»
فأجابه الرجل: «فلان رهن عندك شعرة من شواربه، وأنا مستعد أن أرهن لك شعرات» فما قولتك؟
فقال له المرابي: «هذي غير هاتيك، اعذرني يا سيدي.» - ولماذا؟ إذا لم أدفع فأملاكي نصف الضيعة.
فأجابه: «هذاك لا يملك غير الشرف، وأنت تملك الشرف والعقارات وتكون حرا إذ ذاك بتضحية أحدهما، وأنا لا أريد أن يكون مالي من الأضاحي.»
تلك كانت عقليتهم في معاملاتهم، أما اليوم فالتكالب على المادة يحملنا على رهن كل ما نملك وكل ما في حوزتنا من شعر، شرط أن نحصل على المال.
كان الصدق في الأقوال والأعمال مجدا وشرفا، وأمسى الكذب والاحتيال والنصب دهاء، والكذب ملح الرجال، وعدتك وما قدرت، أو قلت وبطلت، هكذا يقول الناس اليوم، وألف قلبة ولا غلبة.
أزمة التربية والتعليم
لا تنفرج هذه الأزمة عندما نحبر مقالات تظل حبرا على ورق، ومثل الحبر والورق مشهور عندنا فنحن محتاجون إلى ما قاله ذلك الأعرابي: «أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال.»
وكذلك البحث في التربية بصورة عامة، فهو لا يطعم من جوع ولا يؤمن من خوف، فالتربية تختلف باختلاف الناس وبيئاتهم، لا يستفيد الناس من قوانين التربية العامة إلا إذا رجعوا إلى عصر المغاور والكهوف فصارت أهدافهم ومثلهم العليا واحدة، ومن يعتمد على هذه المبادئ العامة المدونة في الكتب فهو كمن يعتمد على كتب الزراعة الأوروبية، يترجمها بدقة ليعمل بها في بلاده ناسيا أن لكل تربة خواص، ولكل مناخ تجارب خاصة، فلا يصلح في هذا ما ينجح في ذاك.
وماذا تنفع الكتب التربوية بل ماذا تفيدنا هذه الألقاب العلمية الضخمة عند بعضنا ما دامت الأستاذية لم تبلغ عندنا بعد درجة يثنى عليها؟ فهي أولى وسائل المرتزقة، إذا ضاقت مسالك العيش على حملة البكالوريا والليسانس ولوا وجوههم شطر المدارس ودخلوها لاجئين ... فتوليهم تعليم الفتيان بعد إلقاء نظرة عابرة على شهادتهم، ومنهم من يقبلون بلا شهادة ... كانوا أول من أمس تلاميذ تفرك آذانهم عند كل شذوذ، وصاروا اليوم أساتذة، والويل لك إذا خاطبت أحدهم ب «يا معلم»، فهو لا يرضيه على حداثة عهده إلا لقب أستاذ.
وإذا كان المعلم - كما هي الحال - جاهلا الطبيعة الإنسانية، ولا عدة له إلا ما قرأه من نظريات، هذا إذا كان قرأ، وما جمعه وكدسه من معلومات، هذا إذا كان جمع؛ فأنى له تدريب فتيان يجهل هو الدرب مثلهم؟ بل من أين له الوصول إلى مطاوي نفس تلميذه إذا لم يعد إعدادا فنيا لمهمته؟ فالتعليم فن قبل أن يكون علما، والجمهور عندنا يعبر عن هذا بقوله: المعلم الفلاني أسلوبه ممتاز يفيد تلاميذه.
إن علم التربية والتعليم لا يكلف المعلم إلا تنبيه غرائز تلاميذه وإثارتها، فما عليه إلا أن يفتح لهم الأبواب دون أن يلجها هو قبلهم، فالمعلم الحديث مرشد ومعين لا يجديه علمه الغزير في مهمته الصعبة إن لم تطغ عليه خصلة التعاون مع تلميذه ليأخذ بيده إلى الهدف، فالمعلم المستبد برأيه، المعلم الذي يملي مذاهبه إملاء على تلاميذه لا ينفع أمته، إن تلك المذاهب تدخل من أذن وتخرج من أذن، فعلى التلميذ أن يبحث ويجد بمعونة أستاذ وإرشاده؛ لأن الذي يجده التلميذ بنفسه يبقى، أما الذي يسمعه من معلمه فيذهب.
ليس على المدرسة إخراج بيانيين ورياضيين ومؤرخين، ولكن مهمتها تكوين رجال للوطن بواسطة هذه العلوم. والمعلم لا يعطي صفات وطرقا يتبعها الطالب، بل يخلق فيه ضميرا حيا يرشده في مهنته، فكل شخص يعلم بلا إيمان تربوي هو شخص بلا روح، كما يقول دركايم. فهدف المعلم الأول أن يخلق نفسا في الجسد الذي يعلمه، ولا يقدر على دخول هذا الجسد أحد سواه. إن عملا كهذا يستغرق حياة بكاملها، فكيف يقوم به من لم يكن معلما لو لم تضق به الدنيا، وهو لاط الآن في إحدى المدارس ينتظر أن تمر العاصفة ويفتح الله عليه ...
المعلم جندي، والجندي الجوعان لا يضرب بسيف السلطان؛ لأنه لا يأكل خبزه. فإذا أردنا أن ننشئ وطنا فما علينا إلا أن نشبع المعلم ونشعره أنه عيال على الوطن.
أما كيف تعلمنا نحن؟ وكيف صرنا رجالا، إذا كنا صرنا؟ فهذا ما يحيرني، لا بل يشككني بعلم التربية الحديث الذي أتكلم عنه.
أذكر ولا أنسى واحدا من معلمي الأفاضل، كان كاهنا في جبته رائحة أعزب الدهر، كث اللحية، متجهم الوجه كأنه المعري كما رسمه جبران، له كف مثل المدرى، أصابعه مصفرة وسبابته مثل ململمة الفيل، يدخن بلا انقطاع، كأن سيكارته نار المجوس التي لم تنطفئ إلا ليلة المولد الشريف، يتغلغل الدخان في لحيته ثم ينبعث منها رويدا رويدا كأنها حطب الموقد قبل اشتعاله، ولكنها ما اشتعلت كما كنا نتوقع، نعم بلغت النار أقصى عقب سيكارته فأخذت بعض شيء من شاربه الذي أكله داء الثعلب، فكح وعرفنا إذ ذاك أن له أسنانا ...
كان مولعا بأكل الليمون ملتوتا بالسكر، والليمون في نهر الجوز رخيص، وفي مدرسة مار يوحنا مارون سكر كثير، والرئيس راض عن حضرة الأستاذ يثق بعلمه الغزير، فهو يعرف الصبان والخضري والأشموني بشعره وبعره، ما دخل الصف يوما إلا سبقته إليه سلة الليمون وصحن السكر وحزمة من السكاير، دخان بلدي كوراني يشرقط مثل البارود، والأستاذ - أيده الله - يؤثر إشعال سيكارته من القداحة والصوانة فتملأ غرفة الصف رائحة الصوفان.
كانوا في ذلك الزمان يفتتحون كل درس بصلاة «الأبانا» ويختمونه ب «السلام»، فنصلي عند كل أستاذ وفي كل صف، وأذكر أن أستاذنا كان يصلب باليمنى محتفظا ببقية سيكارته باليسرى، وما تنتهي الصلاة حتى يولجها في ذلك الثقب الذي يذكر بأصبع الربيع بن زياد فنترحم على لبيد.
أما طرق الأستاذ التعليمية فدونك نموذجا منها، وقد يكون هذا هو الذي حببه إلى سيادة المنسنيور: - أتعرفون يا أولادي لماذا نصبت «إن» الاسم ورفعت الخبر بعكس الأفعال الناقصة؟
فتطاولت أعناقنا إليه فتنحنح وقال: «هذي إن أشبهت الأفعال في الوضع وقصرت عنها في الفعل، فأعطاها النحاة عمل الفعل مقلوبا!»
فضحكت وقلت: «قصاصا لها.» فقال: «وقصاصا لك تكتب مائة سطر من باب «إن وأخواتها» في ابن عقيل، ما أطول لسانك!»
هذا ما كان أقصى هم معلمينا في التعليم، ولولا ضيق المقام لسردت كثيرا من نوادرهم.
فعسى أن يكون لنا مدارس تعلم لتربي وتخلق للوطن رجالا، وعسى أن توطد أسس المدارس على صخرة منهاج موحد، تسهر على تنفيذه الدولة التي تريد أن تبني بيتها طبقا لخريطة عصرية حديثة.
وجوه بلا ماوية
شقاء هي الحياة وعراك مستمر، العواصف في حرب عوان، والشهوات في اضطراب وهياج.
الحياة ألغاز لا تحل، ومعميات قصرت عن إدراكها الحكماء، آمال تذبل وتموت، فلا يبتسم لنا فجر الرجاء حتى يعبس مساء اليأس، ولا نصافح الأمنية حتى تنفض الخيبة المرة من يدها، وأحيانا المنية.
مضى عصر المضارب والخيام التي تقتلعها العواصف، كانوا ينحتون الجبال بيوتا فصاروا يرفعون من الحديد والأسمنت ناطحات سحاب مفروشة أرضها بالمرمر مزينة حيطانها بأروع التصاوير الفنية، ومع ذلك ما زال الإنسان يتأوه ويتوجع ويتطلب المزيد من المال، ولا يجد سعادته إلا فيه كما قال بخيل الجاحظ: «سلم إلي المال وادعني بأي اسم شئت، المال زاهر نافع، مكرم لأهله معز، والحمد ريح وسخرية.»
كان الإنسان في طور بداوته ندي الوجه تؤذيه ألطف نسمة تهب على أنانيته واحترامه لذاته، يأبى كل ما يؤذي ويشين شرفه ومروءته، فيبتعد كل البعد عن كل ما ينكره الشرف، وكانوا في ذلك الزمان يقولون: «الصيت الجيد خير من المال المجموع.» أما في عصرنا هذا فأمسى الدرهم هو الدستور المكرم، و«المشير المفخم» على حد تعبير فرمانات سلاطين بني عثمان.
وكان الرجال يرون الحياء أشرف خلال النساء والرجال، وفي هذا يقول أبو تمام:
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي
ولم تستحي فافعل ما تشاء
أما اليوم فالوقح صاحب العين البلقاء هو الظافر بحاجته كما قال بشار بن برد؛ لأنه لا يفرق بين حلال وحرام، تستحي الأرض التي يمشي عليها مما يلطخ به وجهها من مخازيه، أما هو فلا يندى له وجه ...! ومن أين للوجه اليابس أن يندى؟! ألم تسم العوام مثل هذا الوجه الناشف وجها من عظم؟!
الوجه زهرة لطيفة تأخذ نضارتها من ماء الحياء، والحياء في المحيا كالجوهر في صفحة السيف والدرة في التاج، تكتسب منه جمالا، وكالورق والثمر للغصن الأملود، فالغصن إذا عري من كليهما بدا كريها في العين بعيدا عن القلب، وقد قال الشاعر: «ولا خير في وجه إذا قل ماؤه.»
إنا لفي زمن قد خلع فيه الكثيرون العذار، فاستباحوا الحرمات وعبثوا بالأمانات التي طالما اعتد الشرق بالحفاظ عليها، فإذا نظرت رأيت شبابا يربضون على أبواب المعابد كالهررة يترصدون هذه وتلك، فيبسمون للجميلة ويعبسون بوجه القبيحة، ويلقون في طرق المخدرات المحصنات شباك نظرات مريبة وقحة، حتى صرت تحسب المعبد معرضا للنساء، أو «سوق حرج».
وإذا ركبت الترام فإنك ترى فتيانا يتسابقون إلى الحافلات الحافلة بالحسان، حتى إذا بدت لهم جميلة أكلوها بعيونهم، والسعيد السعيد من سبق إلى القعود حدها أو كاد، حتى إذا ما أذنت بالذهاب راح كل منهم يبتهر بوقاحته ويفاخر بقلة هيبته ممثلا دور كازانوفا، فتخرج من بينهم وصفرة الخجل تكسو وجهها الأرجواني ثوبا زعفرانيا، هذا ما كان في الأمس، أما اليوم فإنا نراها تدعوهم إلى جوارها، إن لم يكن بلسانها ويدها فبعينيها ...
فعلينا أن نهذب بنينا صغارا ليحسنوا السلوك كبارا، علينا أن نقبح في عيونهم هذه الصور السمجة ونذكر أصحابها بالتنديد واللوم، ولكن من أين لتلك المبادئ أن ترسخ في الأذهان ما دام الصغار يقتدون بالكبار، يسمعونهم يعتدون برذائلهم بلا خجل ولا حياء ذاكرين على مسامعهم ما تجاوزوا به حدود الأدب، كأنهم نسوا الكلمة المأثورة: وإذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا؟
لقد أصاب من إذا أراد ذم أحد ذما يجرده عن المروءة قال في نعته: «فلان بلا حياء.» فلنقن حياءنا فهو التخم الفاصل بين مملكة الإنسان ومملكة الحيوان.
أما قليلو الحياء فأنواع: منهم الأدعر المنحط الأخلاق، ومع ذلك تراه يغشى نوادي المهذبين ويعد نفسه في طليعتهم، وينسى أنهم غير ناسين أنه كان وما يزال يتمرغ في أوحال المعرة، ومن حق من كان مثله أن يرمى في مزابل البشرية؛ لأن للبشرية مزابل دونها المزابل الحقيقية نتانة، تلك يتقى شرها بالمطهرات، أما هذا فهو مزبلة نقالة لا يقي من بعوضه وبرغشه فونيك ولا مازوت ولا د. د. ت ...!
ومنهم ذاك المتبجح بالشرف والأمانة وسامعه يعلم أنه أحط خلق الله وأقلهم شرفا؛ لأنه لا يرأف بعرض ولا يعف عن عرض، فهو لا يكف يده عن طعام ولو وقع عليه ألف ذباب.
ومنهم ذاك اللص الذي يمشي على الأرض مرحا ويبتهر على مسمع الملأ أنه يجيد الاختلاس، وأنه في هذا الفن أمهر من مشى عليها، ينزع الدبس عن الطحينة كما يقولون، وما عليك إلا أن تعد أصابعك إذا فرغت من مصافحته فربما يكون قد اختلس إحداها أو بعضها ولم تدر، وإذا ذكرت أمامه رجلا فاضلا مط شفته وغمز بإحدى عينيه وافترت أسنانه عن ابتسامة رقطاء، وقال لك بلا حياء: مسكين! حمار بأربع أذنين، هل تطعمه أمانته خبزا إذا جاع؟ وهل يلبسه صدقه ثوبا إذا عري؟
إن هذا الضفدع الهرم لا يهجس إلا بلجج مستنقعات الدناءة، ولا يعيش إلا فيها، يزعم أن أيدي جميع الناس ممدودة مثل يده، وأنهم لا يهمهم إلا أن تكون لهم ثروات طائلة.
ومنهم من يقول لك ولا يستحي: إن وظيفتي محدودة المعاش وليس فيها «براني» ولا ضرب كم؛ ولذلك لا أزال كما دخلت ليس في كيسي قرش، بل لا كيس لي ... فما قصرني عن طلوع الجرد إلا الحفا، فمتى يرزقني الله مداسا لأجاري زملائي في هذا المجال، فليس فيهم من يعف عما تصل إليه يده؟
على هذا كان موظفو دويلات العصر العباسي، وقد عجز الخلفاء عن تقويم اعوجاجهم فلا تصفية الأموال أجدت ولا حبسهم ردع، فاللصوصية مرض نفساني لا يحد من نشاطه القصاص. حكي أن لصا شهيرا عجزت محكمة لندن عن إيقافه عند حده، فكان يسجن سنوات، ولا يطلق سراحه حتى يغير على بيوت المال، وأخيرا أصدر القاضي بحقه حكما غريبا، كانت جريمته خلع باب وكسر صندوق واختلاس ألوف الليرات، وكان العمل يوم الأحد ممنوعا في إنكلترة، وبما أن هذا اللص اقترف جريمته هذه في ذلك النهار قضى عليه القاضي برد ما سلب والحبس أربعا وعشرين ساعة عقاب من يتعاطى مهنته في ذلك النهار.
يقال إن هذا الحكم كان رادعا للص لم يمت ضميره كل الموت، أما الذين شيعوا الحياء إلى غير لقاء فإنهم يضحكون في عبهم إذا حكموا مثل هذا الحكم اللاذع.
والنساء وما قولتك فيهن؟ فقد صارت أخدارهن المنيعة حمامات البحر، يعرضن بعد الغوص فيها أجسامهن البضة على عيني وعينك يا تاجر، ينبطحن على الرمال عاريات وكأنهن في خلوة ولا عين تنظر.
كنا فيما مضى نشتاق سماع امرأة ذات صوت رخيم تبوح بسر الهوى، وصرنا اليوم نستحي من بنينا وبناتنا أن نسمع وإياهم تأوهات المغنيات التي تبثها الإذاعات بلا حياء.
كنا فيما مضى إذا مالت بنا العربة في منقلب نحمر ونخضر ونصفر إذا احتككنا بأنثى، وكانت الأنثى تحاول أن تخترق جدار المركبة لتنجو من لمسة غير مقصودة ولا تعني شيئا، أما اليوم ففي هذه الترامات المزروكة المحشوكة لا ندري كيف نهرب من الجنيات اللواتي ينهضن من كل محطة ويملأن الحافلات المحشورة فيها الناس كالسردين وكبس الجبن.
كنت مرة واقفا في مقدمة حافلة فإذا بفتاتين انسلتا ووقفتا أمامي منتصبتين كالهدف، فوجدتني في موقف حرج، الترام يتراوح ذات اليمين وذات الشمال وأنا أتماسك خوف الإهواء عليهما، فما كان منهما إلا أن قهقهن ضاحكات من حشمة في غير محلها، فضقت بهما صدرا وقلت لهما: يا بناتي، جئتماني متأخرتين، وكم تمنيت لو كنت خلقت في زمانكما زمن المتعة بلا حياء.
بهذه اللهجة الوقحة نطقت لأرد عني كيد فتاتين هزئتا بشيبتي، أما الخبيثتان فقالتا: قد عرفناك، وما فعلنا ما فعلنا إلا لإحراجك وسماع نكتة منك.
عفوا إذا استطردنا إلى ما كنا ننهى عنه! فنحن لم نذكر ما ذكرنا إلا لندل على أن الرجل كان في الزمان الماضي طالبا وصار اليوم مطلوبا.
شبب عمر بن أبي ربيعة بنساء عصره، وذكر ما كان يقع له معهن ففسقوه، كما عدوا قبله امرأ القيس متهتكا لأنه اقتحم بركة دارة جلجل وقعد على ثياب العذارى المستحمات فيها، وأبى إلا أن يخرجن إليه عاريات ففعلن مكرهات، ترى ماذا كان يقول اليوم معاصرو امرئ القيس لو قاموا من قبورهم ورأوا عذارى هذا الوقت ونساءه منبطحات على الرمال عارضات جمالهن كاملا غير منقوص على كل عابر سبيل؟ ولسن في حاجة إلى من يقعد على ثيابهن ليخرجن إليه في بذلة حواء قبل ورقة التين.
إني لأمسك القلم عن عد ما عندنا من قلة حياء تجمعها كلمة قالها الإمام علي: «صار العفاف عجبا، والفسق نسبا، ولبس الإسلام الفرو مقلوبا.»
فالسراق لا يخجلون، والنصابون المحتالون لا يستحون؛ لأن من هم فوقهم شر منهم، وتقصير الحكام والأحكام يحمل على الإجرام.
الكلب الذي تطعمه لقمة يبوس يدك مرات، أما الهر اللئيم الناكر الجميل القليل الحياء، فإنه يهرب بها ويتوارى عنك ثم يعود إليك طالبا غيرها، وإذا لوحت له بلقمة كريمة جمع نفسه في زوره وقفز كأنه يتصيد ولا يستعطي، وهذا منتهى الخساسة والغدر.
نجنا اللهم من هؤلاء، من وجوه بلا ماوية.
ما أحلى أيام المدرسة!
كلمة تسمعها أيها الفتى من أبيك وجدك وجدتك العجوز، وإن لم تكن هذه الأخيرة قد عرفت المدرسة إلا عن طريق أذنيها المصفرتين كورقة خريف نصف يابسة. وهذه الكلمة ستقولها أنت يا عزيزي، حين تتكوم حول الموقد ويرقص من حولك أحفادك رقص جراء الهررة حول أمهن النائمة.
ليس التحسر على أيام المدرسة تحسرا على أيام كنت فيها محبوسا بين أربعة جدران، فالمدرسة حبس موقت يقبله طالب العلم طائعا مختارا، ولكنه تحسر على فتوة خسرتها ولم تعرف قيمتها، وأنت تتمنى لو تعود تلك الأيام أدراجها فتحسن التصرف بها. إنك تتحسر عليها تحسر المبذر على ثروة أنفقها بغير حساب، وها هو يذكرها والدمعة السرية في العين والحسرة في القلب . وإذا لم تكن من الذين خرجوا منها بخير فستذكر حين تحاسب ذاتك أنك كنت تسرق نفسك، كنت تسرق مالك وعمرك.
كنت ترى اليوم كالشهر في الطول، والساعة كالنهار، وأنت الذي طولت مدة كان في استطاعتك تقصيرها، لم يكن يقع نظرك على صفحات كتابك حتى كنت ترفعه نحو الساعة المعلقة في قاعة الدرس تماشي عقاربها، وتتعجب من بطئها، تسب أباها وأمها، وتتغضب عليها لأنها لا تسرع حسب مشيئتك!
ما أطول ساعة هذا الدرس! كثيرا ما كنت تقول ذلك، أما الحق فهو أن ساعة الدرس كغيرها من الساعات الأخرى، ولكن إساءتك استعمالها أطالتها ومططتها فصارت أطول من ليل امرئ القيس والنابغة. اعمل يا عزيزي تجد الوقت قد مر، وبهذا العمل تقتل السأم والضجر وتستفيد علما، ولكن الكسلان عدو نفسه.
قد تقعد مع رفيق على شاكلتك وتنصبان ميزان الدينونة، فتزنان هذا الأستاذ وذاك، ثم تنتقدان المدرسة من مديرها إلى بوابها، ومن معلمها إلى طباخها، فتبدو لكما مسودة الجدران ضيقة المساحة على رحبها. ولو فطنتما لأدركتما أن هذا الاسوداد هو في نفسيكما، وأن ذاك الضيق الذي تنعتان به المدرسة هو في صدركما، فأنت يا عزيزي حاضر غائب، أنت مع معلمك تشخص إليه وتسمع درسه، ومعلمك القصير النظر السطحي الاختبار يخالك مصغيا إليه تكاد تأكله بعينيك لاتساع حدقتيهما، في حين أنك تسبح في عالم غير عالم الصف، تسمع دروسه ولا تسمعها وترى شخوصه ولا تراهم، إنك في دنيا غير دنياهم، وأستاذك الجليل لا يدري أنك لست معه.
إنه ينقصك شيئان لتفلح في المدرسة، عفوا وفي العالم أيضا، وهذان الشيئان هما: الرغبة والانتباه، فإذا كنت راغبا فيما يلقى عليك من دروس فأنت مفلح فيها، والانتباه يذلل جميع مصاعب الدروس، العويص منها يصبح مفهوما، فتنحل أمامك جميع العقد التي كنت تخشاها، ويدق قلبك دقات فرح حين تجيء ساعة هذا الدرس الذي كنت تقول إنه لا يدخل عقلك ... وكيف يدخل وأنت عقلك ساد الباب بوجهه؟! من أين يدخل والنوافذ مقفولة؟! إن أذنيك وعينيك نوافذ تخلص الحقائق منها إلى مخدع دماغك لتستريح فيه، ومتى كانت هذه الطاقات والنوافذ مسدودة فعبثا تلتمس العلم، لم يستطع العلم حتى الآن أن يخترع أنابيب تحقن بها العقول وتلقح الأدمغة؛ ولهذا تظل فاشلا إذا لم تنتبه.
كثيرا ما نقول: هذا المعلم لا يحسن تفهيم المادة التي يعلمنا إياها، قد يكون ذلك، أما غالبا فأنت العلة لا المعلم. فإذا كنت لا تعيره أذنا صاغية فمن أين يبلغ عقلك ليفهمك؟ إن أكثر سقوط التلاميذ في دروسهم ناتج عن قلة رغبتهم فيما يتعلمون؛ لأن الزهد في الدرس يجر إلى عدم الانتباه وهنا علة العلل، هنا المعركة التي يجب أن يجاهد في سبيلها المعلم المربي، فإذا تغلب عليها أدرك النصر المبين وبلغ غايته التربوية والتعليمية.
يبلغ الغاية التربوية إذ يخلق في تلميذه خاصة الانتباه، وهي سلاح العاملين في الحياة، ويبلغ الغاية التعليمية إذ يسلحه بأعتدة علمية تسهل له الكفاح في ساحات شتى من ميدان النضال.
إن الذي عبرت لك عنه بلغة الجدود وسميته «رغبة» هو ما يسميه اليوم علماء النفس «ميلا»، ومن هذا الميل يتولد الانتباه، إن الانتباه أنواع في كتب علماء النفس، ولا يعنينا منها الآن إلا العفوي، فالانتباه العفوي يتولد فينا من اهتمامنا بالشيء وميلنا إليه، وهذا يكون في أشخاص ولا يكون في آخرين، فإذا حصلت عليه بالطبع غنيت عن التطبع، ولكنه إن لم يكن فيك طبعا فباستطاعتك تقويته إذا أردت، فعليك أن تغالب نفسك لتخضعها إلى إرادتك فتجمع فاعليتها حول مركز لا تميل إليه بالفطرة، ولكنك مضطر إليه اضطرار المريض إلى قبول علاج تتقزز منه نفسه، ولولا هذا الانتباه الإرادي ما كنت حيوانا أسمى وأفضل من جميع مخلوقات الله كما ادعينا وندعي. مارس هذا الانتباه مرارا فترى أنه استحال انتباها عفويا أو كالعفوي، وهكذا تدركه بدون مشقة. استعن بالعادة فهي التي تنفعك هنا، فإذا تجلدت وثابرت على اقتبال ما تكره استحال ما كنت تكره إلى شيء تميل إليه.
إن الرياضي يحتاج في أول أمره إلى إرادة وجهد، ولكنه متى استغرق في تفكيره ينسى نفسه، ويميل كل الميل إلى مسائله فتذلل جميع العقبات أمامه ويصبح منصرفا بكليته إلى شئون مشكلاته وكل معضلاته، أي إن انتباهه يصبح عفويا، كل ذلك بحكم العادة التي تهون علينا تحمل كل شقاء، وتخلق فينا طبيعة ثانية.
لا أنكر أن فينا - نحن الأساتذة - وجوها كالحة لا تحسن استرعاء الانتباه؛ لأن الانتباه ينتج عن أسباب انفعالية، وإذا كان الأستاذ جامدا عاجزا عن التفاعل فمن أين له أن يوقظ في طلابه العوامل الانفعالية؟!
إن معلما كهذا يا ولدي كشربة زيت الخروع، إنها كريهة الطعم ولكنها مفيدة فأجبر نفسك على قبولها، ولعلك بعد قليل تنتقل إلى حضرة أستاذ آخر ينسيك طعم هذه الشربة، والإنسان معرض دائما لاقتبال مرارة الحياة وحلاوتها.
يقول المعلم النفساني ريبو: «اجعل الشيء جذابا بصورة اصطناعية إذا كان غير جذاب بطبيعته، وهذا ما يقدر عليه أساتذة ويعجز عنه آخرون، فلا بد للأستاذ من خفة روح، فكلمة ظريفة تنعش الصف وتولد فيه حياة وانتباها، وهذا ما يجب أن يعنى المعلم بتوليده في جو الصف، فبدون الانتباه كل الأعمال ضائعة، إن الانتباه يزيد سرعة الإدراك فتتضح التصورات للمنتبه وتبين وتزداد ترتيبا، والانتباه يثبت الذكريات ويحفظها، ومن هذا يتضح لك أن نجاحك العظيم الذي تصبو إليه لا يتحقق إلا بانتباهك الأولي في المدرسة، حتى إذا خضت عباب بحر الحياة استفدت من الانتباه الذي بلغ البشرية ما بلغت إليه من عجائب الاختراعات والآثار الفنية.»
قال جيمس: «يجب على الإنسان أن يحسن ملكة الجهد فيه دائما بالتمرن عليها كل يوم.» فإذا كنت تريد أن تكون رجلا فعليك أن ترغم نفسك كل يوم أو يومين على القيام بأمور لا تميل إليها، حتى إذا دقت ساعة الشدائد وجدت نفسك قادرا على الصبر والمقاومة، وهذه ضمانة الحياة، فلا تقل لي إذن أنا لا أفهم هذا الدرس، إنه لا يدخل عقلي.
إن كلامك هذا لا يدخل عقلي أنا، إنك لم ترد، ولو أردت أن تنتبه لفهمت وأدركت، أما إذا كنت تنتبه وتريد ثم لا تفهم فالأحرى بك أن تتخلى عن مقعدك المدرسي لمواطن آخر.
إن هذا الكلام يؤلمك، ولكنه يؤلمني أيضا أن أرى تلاميذ لا يستحقون نعمة العلم، إن لهم عملا آخر في الحياة فلينصرفوا إليه، فإذا لم يخدموا وطنهم في هذه الناحية فقد يبرزون في ناحية أخرى على ما لا يقدر عليه العلماء.
ما أحلى أيام المدرسة! إنها كلمة تدور على كل شفة ولسان، وما أجملها خارجة من فم رجل انتبه واستفاد وهو يتأسف لأنه لم يغترف من العلم والمعرفة أكثر مما اغترف.
أما من يقولها من المقصرين في مضمار الحياة من الكسالى الذين لم يفلحوا، فإنه يقولها متذكرا راحته واتكاله على ذويه، حين كان ينفق من مال جناه غيره وهو لا يدري أنه يسرق نفسه، إن هذا البائس يعثر لسانه بالخيبة المرة حين يقول: ما أحلى أيام المدرسة!
فرجائي إليك يا عزيزي أن تعمل بما قلته لك لتستطيع أن تقول في غد على مسمع بنيك وأحفادك: ما أحلى أيام المدرسة! فلا يتغامزون عليك ولا يقولون: ماذا أفاد أبونا أو جدنا من المدرسة ليستحلي أيامها؟!
ليتهم ادخروا لنا ما أنفقوه عليه، إنه كان رأس مال لنا، أما أيام مدرسته فساقطة من الحساب، ولا محل لها في التاريخ.
عمودا البيت
لا يقوم البيت على حيط واحد، فالله - وحده - بنى السماء بلا عمد، إن للبيت عمودين هما المرأة والرجل. كانت كلمتنا الأولى موجهة إلى المرأة لأنها المسئولة الأولى؛ ولهذا أطلقت عليها كلمة ربة البيت حتى في عهد وأد البنات، أما الآن فالكلام عن الرجل.
قيل لي إن بعض الرجال كانوا راضين عن كلمتي السابقة فكانوا يتغامزون فيما بينهم، كانت المرأة تخضر وتحمر وتحرق على أسنانها متمنية لي قصف العمر غير آسفة على شبابي الغض ...! مهلا يا سيدتي فها قد جاء دور رجلك.
الغرض من الزواج يا سيدتي هو حفظ النوع وترقيته بتكوين الأسرة المثلى، كان لله سفر تكوين واحد أما نحن بني البشر فلنا دائما سفر تكوين، العائلة هي الخلية ومن الخلايا تتألف الأجسام، ومتى كانت الخلايا صالحة كانت الأجساد قوية منيعة ، فماذا نعمل يا سيدتي ويا سيدي حتى نوطد أركان الوطن بما نعد من رجال؟ قد تظنان كلاكما أن هذا من عمل المدرسة، وأنا كرجل ممارس أقول لكما: لا، البيت يربي والمدرسة تهذب، فإذا أعطيتماني المحروس بلا مرب عاد إليكما بلا تهذيب؛ لأن الحطب لا يقوم.
قرأت كتابا فرنسيا في التربية صور على جلده والد يتأهب لمغادرة البيت، وأم كل بالها في زينتها، والولد حيران لا يبالي به أحد.
وكأن شاعر هذا الجيل المرحوم شوقي قد رأى هذه الصورة، وقرأ ذلك الكتاب فأوحى إليه بهذين البيتين:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أبا مشغولا
تلك هي حالة الكثيرين من الآباء والأمهات، وإذا قلت لأب ما: ساعدنا على تربية أولادك، قال لي: هذا شغل أمهم يا أستاذ، أنا مشغول في أعمالي من الفجر إلى النجر. - والليل يا سيدي؟ - الليل للسهرة والتفريج عن النفس. - والبيت يا مولاي ألا يفرج عنك فيه وجه زوج من ملكات الرحمة، ووجوه فتيان وفتيات كأنهم ولدان وحور الجنان؟ قلت لي إنك تتعب وتشقى طول النهار، فاسمح لي أن أسألك: أين تذهب جنابك؟ ألست تهدره في تلك القهوة، وذاك المرقص، وهذا النادي؟ ألست تضيعه على الموائد الخضراء؟ ألست تطرب لليل طرب الصيام إلى أذان المغرب؟
تدخل بيتك من باب غربي لتخرج من باب شرقي، وتترك قعيدة بيتك في جهنم أولادها، فهم لا يهابونها لأنك تزدريها، ولا يخافونها لأنك تحتقرها.
وإذا سهرت ليلة في البيت لبست وجهك بالمقلوب، ورحت تتغضب على امرأتك وبنيك وبناتك، لا يعجبك العجب، تحتج على كل شيء، وتخلق الأسباب لتغادر البيت بسلام إلى القمار، إلى تصيد الغواني، إلى السكر؛ لتعود في آخر الليل منطفئا تقبل ذا الجدار وذا الجدار، والويل لبنت الحلال إن لم تبق ساهرة حتى تجيء! أنت تلهو بالطقش والفقش، وهي ساهرة واجمة تنتظر تشريفك يا صاحب الوفاء، ثم تستلقي على فراشك بثيابك وحذائك، وإذا استيقظ بنوك على زعاقك وبعاقك فهناك البلوى، إنهم يتلقون عنك أنفع الدروس يا خواجة! وإذا استيقظت في الغد رحت تتمطى عشرات المرات، وبعد تردد تزج جسمك في ثيابك، لتنصرف إلى القهوة وتقعد حد الشباك تسرح نظرك لعله يقع على طريدة أيها الصياد الماهر. أما زوجتك المسكينة فلها الله، تسافر خلفك عيناها حتى تختفي عنها في جيوب الشوارع، وإذ ذاك تتنهد وتهتف من غير قصد وبدون شعور: يا خالتي، ملي الجرة ...
صبرا جميلا يا سيدتي، جاءني زوجك أمس إلى المدرسة قبل أن يتوجه إلى الخمارة ويستفتح ... وقبل أن يقع على زبون يلعب معه الطاولة أو يقامره، نعم، مر على المدرسة وقال لي: الأولاد لا يشتغلون في السهرة، لا يدرسون ولا يكتبون، نبه الأساتذة لكي يعطوهم فروضا.
فقلت له: أشكر لك هذه الملاحظة، هذا واجبنا، اليوم أرى أولادك وأسألهم، وسأسأل أساتذتهم عنهم. وفي الوقت المناسب يا سيدتي دعوت بنيك الثلاثة وسألت كبيرهم: لماذا لا تدرس ولا تكتب في البيت؟
فأجابني: اسأل المعلمين عني.
فملت عنه إلى الثاني وأنا أقول في نفسي: لعله هذا الذي يعنيه أبوه، فتململ الفتى وفتح فمه ليقول شيئا، ثم أطبقه وأطرق إطراقة مكظوم وفرت دمعة من عينه.
فقلت للصغير: يظهر أنك أنت الذي يشكو منك أبوك.
فحدق إلي وقال: ومن أين يعرف والدي إذا كنت أكتب فرضي أو لا أكتبه؟ وما يدريه إن كنت أفتح كتابي أو لا أفتحه؟
فقلت له: أبوك أعمى يا ابني؟!
فقال: لا سمح الله! ولكنه لا يرانا ولا نراه فيجيء إلى البيت وأنا نائم، وأجيء أنا إلى المدرسة وهو نائم.
قلت: إذن لا تلتقيان.
قال: بلى، إذا بكر في المجيء، ولكن بدون نتيجة.
قلت: وكيف بدون نتيجة؟
وسكت الصبي فألححت عليه، وهم بالكلام فسد أخوه بوزه بيده.
وأخيرا قلت له: خبرني يا فريد فلعلي أنفعكم بشيء.
فقال الصبي: أستحي أن أخبرك عن والدي، ولكن أهجي لك.
قلت: هج، منك حرف ومني حرف.
فضحك الفتى وضحك أخواه، فتجرأ وقال: س، فقلت: ك؟ فقال: نعم. ر، فقلت: ألف، وقال : ن.
فقلت : ما شاء الله! هذا هو رب البيت الذي يطلب منا تهذيب أولاده، يريد منا أولادا مهذبين وهو كما وصفه ابنه، ومع ذلك إذا رأى بنيه لا يتعلمون يأتي المدرسة بكل وقاحة ويتساءل أمامنا: لا أدري على من طلع هذا الصبي؟!
خرج عليك يا سيدي، الديك الفصيح من البيضة يصيح، إن من يتخرج من مدرستك هيهات أن يستفيد عندنا، فإذا شئت أن يكون لك أولاد صالحون فأصلح نفسك، الأم وحدها لا تربي، واعلم أنك لا تستطيع أن تحمل بطيختين بفرد يد. فأما ملذاتك وشهواتك، وأما تربية بنيك وبناتك، التربية تكون بالمثل، فالزم بيتك واسهر على تربية أسرتك، ومتى رأوك تفتش خزانتها قبل أن تتوجه إلى السبق وغيره، تعلموا منك هذه الفضيلة، وإذا رأوك تزدري أمهم أمامهم ازدروك وازدروها واحتقروكما معا.
رشادك يا سيدي، خذ حذرك يا صاحبي، أما بلغك بعد أن المرأة أعطيت حقوقها، فقد مضى الزمن الذي كنت تتعنفص فيه لأنك رجل، ستمشيان معا بعد غد، رجلها ورجلك إلى صندوقة الاقتراع فتنتخب هي كما تنتخب أنت، وقد تصير هي نائبة ولا تصير أنت، وهناك النائبة العظمى، فدارها ما دمت في دارها.
قالت لي إنك أنفقت ثروتها على ملذاتك، ثم زهدت بها حين أفلس وجهها وجيبها، فحاسب ذمتك يا صاحب، أما وقد أكلت المال فلا أقل أن تترفق بالحال ... إن الأبوة حمل ثقيل حتى على الحيوان الأعجم، فكن على الأقل كذكر النعام إذا كنت لا تريد أن تكون إنسانا ... وإلا فلا تطمع بالبنين الصالحين، فالابن سر أبيه.
العوسج يا أفندي لا يطعم تينا ولا القطرب عنبا، ما لك علي يمين ومع ذلك أحلف لك أنني أحكم على الآباء والأمهات من مراقبتي أبناءهم، إني أعرف البيت من مسلك الأولاد.
قد تتساءل وتقول: ما لهذا الواعظ، أهو خال من العيوب؟! لا يا أخي، ولكني لا أطلب من أولادي إلا ما أكلف به نفسي، لا أغرق بالأوحال حتى ركبتي وأقول لهم: توقوا الوحل يا أولاد.
أنا لا أطلب منك أن تكون حبيسا في صومعة ، ولكن أمن العدل أن تحبس زوجتك في قفص وتفرفر أنت؟
إني أطالبك بما ألزمت نفسك به حين قيدت نفسك، فلو كنت أعزب لنجوت من هذا التوبيخ، وأما أن تتزوج وتخلف وتصير أبا وجدا وتظل راكبا على رأسك فهذا كثير، فالله أسأل أن يهديك أو أن يقصر مدى غوايتك، فبطن الأرض خير لك من ظهرها.
الشباب التائه
صح النوم أيها الساهي في ليالي المقاهي والمراسح، أمامك الكأس وإلى جانبك حسناء (سكوند هند) تغريك وتغويك، ألهذا اللهو وحده خلقت؟! ومن قال لك إن الحياة لهو فقط؟ أتجهل أن للإنسانية عليك ديونا مستحقة، وللوطن فروضا لا بد لها من وفاء؟
هب أنك أعلنت إفلاسك لتأكل هذا الدين العام، فكيف تهرب من الدين الخاص؛ دين أم سهرت عليك ودين أب جاهد وكد ليصير ابنه رجلا؟ ولنفرض أنه لا يهمك أمر غيرك أفلا تعلم - هداك الله - أن من يكلل شبيبته بالورد يكلل شيبته بالشوك، ومن يزرع الكسل والطيش يحصد الخيبة والذل؟ فاستفق - يا رعاك الله - من سكرة الجهل، فمستقبلك يظل مظلما إذا لم ينبثق نجم اجتهادك، اخلع عنك ثوب التواني واعمل، وإذا لم تنفع ذويك فلا أقل من أن لا تظل عيلا عليهم.
المستقبل طريدة لا يقتنصها إلا الجاد الكادح، فهل نلام إذا أيقظناك من رقدتك؟ فلو أننا بقينا في جنة عدن متنعمين بأطايب تفاحها ورمانها وعنبها وتينها، لضربنا على غير هذا الوتر من أوتار عود الحياة، ألسنا في عصر الجوخ لا ورق التين؟
ولو كنا لا نزال نعيش في عصر البداوة، لما حذرنا أحدا من الشبان وحثثناه على ترك العبث والمجون.
ولو كنا في أرض تدر علينا لبنا وعسلا، وكان لنا موسى ثان له رب يمطر المن والسلوى، لكان لنا سلوى عن العمل، ولكن هذاك عصر مضى وراح، وعقبه هذا العصر الذي تفنن به الإنسان في أعماله، فكثرت مطالب الناس واقتضتهم المدنية الحديثة ما لم تطالب به جدودهم، فلماذا لا يكون وقتك مقسما على حد قول المثل: «ساعة لك وساعة لربك»؟
كان للهو حظ كبير في الزمن الخالي، كانت الجارية تعزف على العود وتنفخ في المزمار من خلف ستار، وكان الناس يقولون ما هذا؟ أما اليوم فنراهن على الملاعب أسرابا وقد نضب ماء الحياء من وجوههن، يأتين على أعين الناس أشياء تصبي وتغوي، فصارت المسارح والسينماءات فخاخا تصطاد بها الناس، وشباكا تطرح في طرق الشباب، فالشاب الذي يستطعم مرة هذه المشاهد لا يحجم عن أن يثني ويثلث حتى يعتادها وتمسي شغله الشاغل، يضيق صدرا بالنهار ولو قصيرا، ويتمنى أن يدوم له الليل ولو جاءه منه ألف ويل ... وكم سمعناهم يرددون معتزين مبتهرين: الليل لنا.
نعم، الليل لكم، والله أسأل أن يدرككم الصبح وفيكم بقية مما حبتكم به الحياة من نشاط وعزم ...!
ولو كنا نقنع بحضور ساعة لكانت المصيبة أخف، ولكن بين شبابنا فريق يسهر الليل وينام النهار، ومتى استيقظ يبرز بأبهى زينة ويسير توا إلى القهوة، وهناك يصرف بقية نهاره لاعبا مقامرا ينتظر المساء.
وطالب العلم ينيم كتبه نومة أهل الكهف، ويسرع إلى تلك الدور حيث يسبح في جو الخيال، ويطير قلبه مع كل نغم، أقلامه في غرفته تحن إلى مصافحة الطرس، وجنابه تائه النظر شارد الفكر وراء ظبية الأنس.
أما الشاب المعروف باسم «شمام هوا قطاف ورد»، فإنه يشرف الملاهي كل ليلة. ما سمعت الطلاب يشكون غلاء الكتب، ولكنهم يشكون غلاء سعر السينما، ليس لأن الكتب رخيصة بل لأنهم أمسوا لا يسألون عنها. والأمر الذي يبكي هو أن بعض فتياننا يشتركون في هذه النوادي اشتراكا شهريا كما يشترك الأدباء منهم بالجمعيات والمكتبات، وهل تتعجب إذا قلت لك إنني سمعت أحدهم مرة يتبجح زاعما أنه اقتصد بهذا الاشتراك فربح كذا وكذا ...؟ إنه يتباهى بحنكته هذه، فيا له ذكاء يرفع صاحبه إلى أسفل!
هذه بعض جراثيم الأمراض التي فشت في بلادنا، وتلك حال الكثيرين من أولادنا، وستأتي ساعة يندمون فيها كما ندم غيرهم على بيع زهرة العمر بيع السماح في أسواق اللهو، إنهم سوف يتذكرون أيام الشباب حين يلم برأسهم ذلك الضيف غير المحتشم، وتثقل عاتقهم وطأة السنين.
وإذا وقفت بوجه أحد هؤلاء السادرين الجامحين، ورخصت لنفسك زجره وردعه، صاح بك: أنا حر يا سيدي، أنا بالغ رشيد وغني عن وعظك، فأتحف سواي بآيات نصحك الذهبية.
نعم يا عزيزي أنت حر، أنت بالغ كما قلت، ولكنك والله غير رشيد؛ ولهذا ترفض النصيحة التي كانت في الزمن الغابر بجمل، ثم تملأ فمك بكلمة «أنا حر» لأنه لم يبلغك قول الشاعر:
يا رقيقا لذات خصر رقيق
برئت منك ذمة الحرية
أنت حر إذا كنت تتنعم وتنفق مما جنيت، وأما إن تبدد ما جمعه أبوك وجدك فأنت عبد أي عبد، عبد لشهواتك وميولك، عبد لنزوات الشباب التي جرك إلى حمأتها حنو أمك وعطف أبيك، ولو أنصفا لتركاك تقلع شوكك بيدك، فتقلع إذ ذاك عن هذا الجنون.
فلولا هذه البطالة التي أنت فيها، واليسر الذي متعك به أبواك لما اجتمعت فيك هذه المعايب: القمار والسكر والمجون ...
وما بلغت إلى هنا حتى دخلت علي آنسة عانس، أنثى جنت عليها كبرياؤها وعويناتها السوداء التي نظرت من خلالها إلى الشباب الطامعين بمالها وجمالها وعلمها، الآنسة بعد أن كانت «برسم الزواج» مدة انتزعت تلك الفكرة من رأسها وحل محلها حب الأدب، وقديما قالوا: أدركته حرفة الأدب.
قالت الآنسة حين شقت الباب دون أن تحيي أو تسلم: في ساحة من أنت نازل اليوم؟
فقلت على الفور: في ساحة الشباب يا آنستي.
فابتسمت ابتسامة كالإجهاشة، فعلمت أنها أدركت مجاملتي لها، ثم قالت: ليس الحق على البنات كما توهمت هذه المرة، لقد ضعف الإيمان بالزواج، فشباب اليوم كالعابور الذي يظهر في أيام الربيع ضعيفا هزيلا لأنه قطع البحر، فلا يصدق حين يبلغ الشط أنه رأى عودا قائما ليقع عليه، تلك حالة شباب هذا الزمن، فهم لا يفكرون بالزواج إلا بعدما يقطعون مسافات من الحياة ينهك قواهم قطعها ... وأما البنات فهن في غرفة الانتظار والرازق الله؛ هذا قصير، وهذا طويل، وهذا غني لكنه جاهل، وهذا ابن بيت ولكنه قبيح الشكل، وهذا ملائم جمالا وشبابا وعلما ولكنه ليس من أصهارنا ... وذاك شاب غني ولكن عينه شاردة، وهذاك يكد ويعمل ولكنه يبدد في سهرة ما يجمعه في شهر، ناهيك أنهم جميعا يريدون العصفور وخيطه: المال والعلم والجمال.
وهناك حجارة جديدة توضع في طريق الزواج وهي خفة رأس البنات، فلو اعتصمن في بيوتهن، وضربن حولهن أسلاكا شائكة مكهربة فلا يدخلها إلا طالب زواج حقيقي، لما حصل ما نراه ونسمعه كل يوم من عقد خطبة ثم حلها بعد أيام.
ينسب إعراض الشباب عن الزواج إلى كبريائنا، فأي زواج ترتجي بعد مساواة المرأة والرجل في الحقوق السياسية؟! أفلا تظن أننا واصلون إلى وقت تخطب فيه البنت الشاب بعدما كان يخطبها هو؟!
فنصيحتي لك ألا تحاول حل هذه المعضلة الشائكة، فالأنثى أقبلت على الزواج حين كانت أبواب الرزق مقفولة بوجهها، أما اليوم وقد صارت في مأمن من ضيق العيش، فهي تؤثر العمل على حجز حريتها.
قلت: ولكن أنسيت يا آنستي أن في الدنيا شيخوخة؟ وأن للأبوة والأمومة لذة تفوق لذة الفرفرة والثرثرة، أما خلقنا الله لنتعاون؟
قالت: نعم، ولكن هذا التعاون الذي كان قد قضت عليه المساواة في الحقوق، والمخلوق الذي له رأسان هو مسخ عجيب، انتظر المشاكل الكبرى عند كل انتخابات، من المختار إلى عضو البلدية إلى النائب، سوف ترى إذ ذاك كل بيت مقسوما على نفسه.
فقلت: وهل عندك حل لما تنذرين المجتمع به؟
قالت: نعم، فإما السياسة وإما العائلة، فعلى من تطمح إلى السياسة أن تنصرف عن شئون البيت.
فقلت: ولماذا تتشاءمين؟ فهذا الرجل ألا يعالج الشئون الأخرى وشئون بيته في وقت واحد؟
فأجابت: لأنه كان متكلا على الأم، ولا أم بعد الآن.
فقلت: وهل تظنين أن جميع النساء ينصرفن إلى السياسة؟
فقالت: ولا كل الرجال، ولكن لكل جديد حلاوة. ثم نهضت لتودع.
فقلت لها: ألف شكر لك، لقد كملت موضوعي وإن انحرف قليلا عن السمت الذي كان فيه، قال المثل العربي: «في بيته يؤتى الحكم»، وأنت حكم جاء إلينا وأفتانا غير مأجور.
كنت ألوم الرجل، وها أنت تلومين المرأة ، ولكل شيء آفة من جنسه.
ارع الجار ولو جار
رعي الذمم وحفظ الجار سجية عربية أصيلة، كانت أولى مفاخر الجاهلية وعنوان السيادة وشعار النبل، بها يعتدون في مجالسهم، وحكاياتها تدور على ألسنتهم، فهذا كليب يجير قبرة عششت في حماه، ويناديها مهدئا من روعها حين طارت من أمامه:
يا لك من قبرة بمعمري
قد ذهب الصياد عنك فأبشري
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
فأنت جاري من صروف الحذر
إلى بلوغ يومك المقدر
رعى جوار تلك العصفورة فقتل الناقة المشئومة التي دعست بيضها، ثم قتل هو بتلك الناقة فذهب شهيد كلمة خرجت من فمه، وأشعلت الأنفة العربية حربا دامت أربعين عاما حتى قيل في أمثالهم: أشأم من ناقة البسوس!
وإذا تقدم بنا الزمن قليلا سمعنا السموءل الشاعر المشهور في تاريخ العرب يصيح بملء فمه:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وبعد فترة من الزمن قال الأعشى في وفاء السموءل - الذي ضرب به المثل - قصيدة رائعة، خيروا السموءل بين سلامة ابنه وبين تسليم أدراع امرئ القيس فقال بلسان الأعشى: اقتل أسيرك إني مانع جاري.
وجاء الإسلام فأوصى بالجار، وقال الله في كتابه العزيز:
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
كما قال السيد المسيح من قبل: «أحبب قريبك كنفسك.»
وأبو تمام حين وقف يبرر إحراق الأفشين في الأشهر الحرام استعان بالجوار فقال في الخليفة:
ملك غدا جار الخلافة فيكم
والله قد أوصى بحفظ الجار
ما كان لولا فحش غدرة حيدر
ليكون في الإسلام عام فجار
وهذاك امرؤ القيس أما رووا أنه قال:
أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب
والفحول الثلاثة الذين تناطحوا حول حوض المثالب لم يجدوا عارا يصم به بعضهم بعضا أعظم من الغدر بالجار، فقال جرير يعير الفرزدق:
قتل الأجارب يا فرزدق جاركم
فكلوا مزاود جاركم وتمتعوا
لو حل جاركم إلي منعته
بالخيل تنحط والقنا يتزعزع
فرد الفرزدق عليه صارخا :
ترى جارنا فينا يجير وإن جنى
فلا هو مما ينطف الجار ينطف
ويمنع مولانا وإن كان نائيا
بنا جاره مما يخاف ويأنف
كما قال مفتخرا في قصيدته الثانية المسماة ب «الفيصل»:
جار إذا غدر اللئام وفى به
حسب ودعوة ماجد لا يخذل
وشاركهما الأخطل في هذا الميدان فقال يسب قوم جرير:
قبح الإله بني كليب إنهم
لا يحفظون محارم الجيران
وإذا تركنا الشعر ورحنا نروي الكلام المأثور سمعنا معاوية يقول: «المروءات أربع: العفاف وإصلاح المال وحفظ الإخوان وإعانة الجيران.»
وفي العصر العباسي يقدس الرشيد الجوار ويبالغ في تعظيمه حتى يقول: الجوار نسب.
وإذا عدنا إلى الشرع رأيناه يولي الجار حقا عظيما ويعنى به، فيجعل الأولية للجار في المبيع، وهذا ما يعرف حتى اليوم ب «الشفعة»، وبناء على حرمة الجوار العظمى جعل النحو للجوار حقا، فالعامل أحق بالمعمول المجاور له، فهو الذي يأخذه لأن الجار أحق بجاره.
وإذا تركنا الكتب وتقصينا ما يدور على ألسنة العوام من أمثال، سمعنا هؤلاء يقولون ممتدحين الجار: «جارك القريب خير من أخيك البعيد.» و«جار الرضا.» و«الجار ركن الدار.» «هيئ الجار قبل الدار.» كما يقولون أيضا: «البغض بين الأقارب، والحسد بين الجيران.»
كذلك كانوا يوم كانت البيوت نقالة، أما اليوم وقد أصبحت البيوت مسمرة في أماكنها لا تحول ولا تزول، فما علينا إذا أردنا أن نعيش مطمئنين هانئين إلا أن ننسجم مع من نجاور لنقاوم بهم ما يعترض سبيلنا من عقبات. ولكن ذلك التآلف قضت عليه مشاغل الأعمال، وحال الركض وراء المادة بيننا وبين الائتلاف مع جيراننا، فرب جارين - حيث تتراكم الأعمال - لا يعرف بعضهم بعضا!
زرت مرة صديقا لي، وفي بحر الحديث قلت له: فلان جارك؟
قال: نعم، جاري.
فقلت: أحب أن أزوره، فهل ترافقني؟
فأجاب: لا تزاور بيننا.
قلت: عجيب، ومن تزور إذا كنت لا تزور جارك؟!
فقال: ثقال الدم، زيارتهم مزعجة.
فقلت: أهم أثقل وأزعج من المصيبة، فمن يشاركك في حملها غير جارك؟ ومن يكون أول راكض إلى بيتك متى حلت ؟
وهب أن زيارته زبار يا سيدي، فهي أخف من النكبة في كل حال.
وكانت زوجته تصغي إلينا وأبت إلا أن تدس أنفها، ومضت تكيل لجيرانها القدح والذم بالمد، كأنها لا تعرف إلا المكاييل القديمة.
لقد تغيرت أساليب الحياة، كان الإنسان فيما مضى يرحل متى شاء، ففي ساعة زمان يهدم بيته ويبنيه حيث يشاء، أما قال طرفة يخاطب ابن عمه:
فدعني وشأني والذي أنا فاعل
ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد
أما اليوم فكيف نستطيع أن ننأى؟ إننا مسمرون كما قلنا، فما علينا إلا أن نتآلف ونتعاضد ونتكاتف لنعيش في هناء وسلام ولا تهيج صدورنا أتفه التوافه، قال مثلنا: «جارك الذي تصبحه وتمسيه، كيف تقدر تعاديه؟»
لقد أصبحت العمارة الواحدة تضم أسرا عديدة، أفما على هذه الأسر أن تتسالم وتحافظ على راحة بعضها؟ أليس على الذي في الطابق الفوقاني أن يتئد في سيره فلا يزعج من هم تحته؟ الجار أمسى اليوم قعيد البيت، فكم علينا من واجبات نحوه؟
أما علينا أن نلجم الراديو ولا ندعه ينهق كالحمار المربوط في الساحة يغني بأعلى صوته نشيد الغرام لكل أتان تلوح له؟
أما علينا أن نحافظ أشد المحافظة على آداب اللياقة فلا يشمئز من هم فوقنا وتحتنا من تصرفاتنا؟ ليت شعري علام يختلف الجيران ويتنافرون، أليس على مثل هذه الأمور التافهة؟ فلولا تحاشيناها لجنبنا أنفسنا شرورا كثيرة.
نام أمير - لا أذكر اسمه - عند المأمون، فكان الخليفة العظيم يكم فمه بلحافه إذا أخذه السعال لئلا يزعج ضيفه، ثم عطش المأمون فقام يمشي على رءوس أصابعه لئلا يوقظ جاره.
فمن منا اليوم يفعل مثل هذا؟ «ارع الجار ولو جار.» هكذا قال من نفتخر عليهم اليوم بمدنيتنا، مع أنهم كانوا أرعى منا لجيرانهم؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فأين كنا وأين صرنا؟
اقتتل في قريتنا جاران، فهاجر أحدهما إلى أمريكا تاركا أمه المريضة في البيت، وفي إحدى ليلات كانون الممطرة سقط جذع من سقف بيتها، فكان أول من أسرع إلى نجدتها خصمه، واحتمل البرد القارس والمطر الغزير، وما انفك حتى وقاها من خطر محتم، أما أقرب الناس إليها فما دروا بما حل بها إلا ثاني يوم.
هذا ما قلته في الجوار، وقس على ما قيل ما لم يقل، واللبيب من اتعظ.
العفو حبيب الله
لولا استسلام الناس لغيظهم وغضبهم لما كان في الدنيا شر، ولو اتسعت صدورنا ما خربت دورنا، فرب غضبة يليها من الشرور ما لم يكن في الحسبان، أما تقول لجليسك إذا احتد أو احتدم: خذنا بحلمك؟ فترى أن هذه الكلمة أطفأت نار صدره المتأججة، وأغنت عن تكاليف كثيرة.
تدوس خطأ رجل إنسان في الطريق، فيقف ليرد لك الكيل كيلين، حتى إذا ما قلت له بلطف عفوا يا أخي أو يا سيدي، أجابك: لا بأس، ويمضي كل منكما في طريقه وينتهي كل شيء، فهذه هي الكلمة التي يجب أن نعلمها أبناءنا حين يشبون عن الطوق، فهي أمضى سلاح في معترك الحياة.
فالكتاب العزيز يعلمنا، بل يأمرنا بقوله:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .
يظهر أن العفو سجية من سجايا العرب الأولى؛ ولذلك مدح بها الشعراء كل ذي فضل. كنت فيما مضى أستشهد بأعاظم من كل الشعوب، أما هنا فسأتكلم عن هذه المكرمة العربية مؤيدا ما أزعم بما أثر عن العرب من أحاديث تدل على محبتهم للعفو وتنافسهم فيه، وكم في القديم من عبر ودروس للمعاصرين! وربما كان الميت أوعظ لنا من الحي، فالدرس الذي نعلمه بصورة إيجابية لا يؤدي الفائدة التي تؤديها الدروس الإخبارية، فمن طبيعة الإنسان التشبه بمن سبقوه، وهكذا تتأصل أخلاق الشعوب.
وأشهر من اشتهر بالعفو في الخلفاء كان المأمون، الذي قال عن نفسه: لقد حبب إلي العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه، وقال أيضا: لو علم أهل الجرائم لذتي في العفو لارتكبوها وتقربوا إلي بالجنايات.
وعمرو بن العاص - وهو المشهور بصلابة العود مع دهاء - روي أنه ركب بغلة له شهباء ومر على قوم، فقال بعضهم: من يقوم للأمير فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف؟ فقال واحد منهم: أنا، وقام وأخذ بعنان بغلته وقال: أصلح الله الأمير! أنت أكرم الناس خيلا، فلماذا ركبت دابة اشهاب وجهها؟!
فقال ابن العاص: إني لا أمل دابتي حتى تملني. فقال الرجل: أصلح الله الأمير! أما العاص فقد عرفناه وعلمنا شرفه، فمن الأم؟
فكظم ابن العاص غيظه وقال: على الخبير سقطت، أمي النابغة بنت حرملة بن عزة سبتها رماح العرب فبيعت، فاشتراها عبد الله بن جدعان وزوجها للعاص بن وائل فولدت وأنجبت، فإن كان قد جعل لك جعل فارجع وخذه.
أما معاوية فأشهر من عرف بالعفو حتى ضرب به المثل وقالوا: حلم معاوية. وحوادث عفوه وحلمه تكاد لا تحصى، وما نذكر هنا إلا كبيرة تدل على سعة صدره وبعد نظره وكيفية حله للمشاكل الخطيرة.
قالوا: كان لعبد الله بن الزبير أرض، وكان له عبيد يعملون فيها، وكان إلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضا عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض ابن الزبير، فكتب هذا إلى معاوية يقول: أما بعد، يا معاوية، إن عبيدك قد دخلوا في أرضي فانههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأن. والسلام.
أسمعت هذه الرسالة الجافة؟ إنها تهديد للخليفة وإنذار بقتال! ولكن ابن حرب الذي حمل أثقال الدولة قبل وبعد لم تهجه هذه الرسالة، بل قرأها ودفعها إلى ابنه يزيد، حتى إذا ما قرأها قال له معاوية: يا بني، ما ترى؟
قال يزيد: أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك، يأتونك برأسه، فأجاب معاوية: بل غير ذلك خير منه، ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير يقول فيه:
أما بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هينة في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال. والسلام.
فلما قرأ ابن الزبير هذا الكتاب كتب إليه:
قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الله الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل! والسلام .
وقرأ معاوية هذا الكتاب ودفعه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه، فقال أبوه: يا بني، من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء.
فكم من دماء تسفك من أجل شبر أرض! ولو عقل المعتدي والمعتدى عليه لقابلا هذا التعدي بصدر رحب واقتدوا بمعاوية ولم يقتتلوا على حطام الدنيا التي لا تساوي كلها نقطة دم، فالعفو يجب أن يكون سلاحنا في حرب المعاش.
وأمر زياد ابن أبيه بضرب عنق رجل، فقال الرجل: يا أيها الأمير، إن لي بك حرمة، فقال زياد: وما هي؟
فأجاب الرجل: إن أبي جارك في البصرة.
فقال زياد: ومن أبوك؟ فقال الرجل: يا مولاي، إني نسيت في هذه الساعة اسم نفسي، فكيف لا أنسى اسم أبي؟!
قيل: فرد زياد كمه على فمه وضحك وعفا عنه.
وأمر مصعب بن الزبير بقتل رجل، فقال له ذلك الرجل: ما أقبح بي أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطواقك وأقول: أي ربي، سل مصعبا لماذا قتلني.
فقال: أطلقوه، فلما أطلقوه قال: اجعل أيها الأمير ما وهب لي عفوك من حياتي في خفض عيش، قال مصعب: قد أمرت لك بمائة ألف درهم.
وكان الخلفاء يتنافسون في العفو، وكانت بطانتهم من أهل الخير، فكانوا يمهدون أمامهم السبيل، ومن ذلك ما جرى لعبد الملك بن مروان: غضب عبد الملك على رجل فقال: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا. فلما صار بين يديه قال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين، قد صنع الله ما أحببت، فاصنع ما أحب الله، فعفا عنه وأمر له بصلة.
وقال أبو ذر الغفاري الصحابي الصالح لغلام له: لم أرسلت الشاة على علف الفرس؟ فقال الغلام: أردت أن أغيظك، فأجابه أبو ذر: لأجمعن مع الغيظ أجرا، أنت حر لوجه الله تعالى.
وروي أن رجلا شتم رجلا فقال: يا هذا لا تتماد في سبنا ودع للصلح موضعا، فإني أبيت مشاتمة الرجال صغيرا فلن أجيئها كبيرا، وإني لا أكافئ من عصى الله في بأكثر من أن أطيع الله فيه.
وسب رجل الأحنف وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له: إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ها هنا، فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا.
والأحنف هو الذي يقول: إياكم ورأي الأوغاد! قالوا: وما رأي الأوغاد؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عارا.
وقال الرشيد لأعرابي: بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة؟
قال: بحلمه عن سفيهنا، وعفوه عن مسيئنا، وحمله عن ضعيفنا، لا منان إذا وهب، ولا حقود إذا غضب، رحب الجنان، سمح البنان، ماضي اللسان.
قيل: فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه وقال: لو كانت هذه الصفات في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد.
وروي عن جعفر الصادق أن غلاما له وقف يصب الماء على يديه، فوقع الإبريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه، فنظر إليه جعفر نظر مغضب، فقال الغلام: والكاظمين الغيظ، قال: قد كظمت غيظي، قال: والعافين عن الناس، قال: قد عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: اذهب، فأنت حر لوجه الله تعالى.
هذا ما نرجو أن يكون لنا منه شيء، فإذا عفونا وغفرنا الإساءة ولم نقابلها بمثلها قضينا العمر هانئين، ولأجل مثل هؤلاء قال الشاعر:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
كتم السر فلاح
السر كالزهرة، فإذا قطفت ذهبت معها الثمرة المرجوة، والسر قطب تدور حوله دواليب الحياة فلا تقف، فإذا بحت بسرك إلى غير محب كتوم عوقت أمانيك عن الدوران، وأمسى سرك عقارب تلسع وأفاعي تلدغ، فمن حبس سره في غيابات صدره بحيث لا يطل عليه أحد كفى نفسه شر الخيبة والخذلان وحبوط المسعى؛ ولهذا جاء في الحديث الشريف: «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود.»
فأخو الحزم هو من امتلك قياد سره، فلم يدعه يشرد، ولم يطول له فيرعى حول بيوت الجيران، ومن يفتح على أعين الحساد سجل أفكاره ليطالعوه وينشروه على الملأ، فهيهات أن يبلغ مأربا أو ينال غاية، فأمناء الأسرار أندر من أمناء الأموال، والسر حمل ثقيل لا ينهض به غير الحازم من البشر، وليس بحكيم من يفضي به إلى كل إنسان، فكم جر البوح بالأسرار من ويلات على الأفراد والجماعات! فالذين يجرون الأسرار إلى غاياتها، مسلمين أعنتها إلى من لا يستطيع ضبطها؛ يسقطون في ميدان الكفاح، وهيهات أن ينهضوا من تلك الكبوة.
فكم من دول طويت أعلامها وتحطمت سيوفها ودارت الدائرة عليها حين خانها أحد رجالها وأطلع أعداءها على أسرار خططها! وكم من ملوك تناثرت تيجانهم وهدت عروشهم، إذ أذاع رجال حاشيتهم أسرارهم! كل هذا يعلمنا أن للسر شأنا عظيما، وأنه من دعائم الحياة الكبرى، فإذا تزعزعت الدعائم سقط البيت على من فيه وكانت العثرة التي لا تستقال، قال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل إنسان مفتاح سره.
وما حكاية شمشون الجبار وصاحبته دليلة إلا أسطورة، ولكن الأساطير على ما فيها من غرابة تعلم الناس ألا يبوحوا بأسرارهم فينخذلوا، وكم من أسطورة يجد فيها من يقرأ بين السطور دروسا بليغة تغنيه عن الحقائق! بل كم من لعبة نتسلى بها في سهراتنا دون أن نعلم أنها درس لنا! لست أنسى لعبة «اعمل مخزنك عبك» التي هزئت بها صغيرا، إلى أن علمتني الحوادث كبيرا أن أجعل صدري مخزن أسراري.
وإذا سألنا شمشون الجبار: أما أنت الذي قتل ألف رجل بلحي حمار طري، فأين قوتك؟ أفلا تستطيع أن تقطع هذه القيود الواهية؟ ألا تقدر أن تفلت من قبضة أعدائك وتعيد سيرتك الأولى في البطش والنكاية؟
إنه يجيبنا ولا شك: بحت لزوجتي دليلة بسر قوتي فجزت شعري من حيث لا أدري، فهنت على أعدائي وصرت ألعوبة لهم.
من يجهل منا أهمية الجاسوسية في الحروب؟ فشمشون وصاحبته يمثلان الدول وجاسوساتها، فكم هتكت الجاسوسات الحسان من أسرار شمشونية، فكانت الوسيلة العظمى لتغلب من يتجسسن لهم على أعدائهم !
نسمع كل يوم الأحاديث عن القنبلة الذرية وأسرارها، فهنا دولة تسدل على مصانعها ستورا كثيفة، وترخي عليها سدولا أين منها سدول امرئ القيس التي شبهها بموج البحر، وهناك دولة أخرى تحاول اكتشاف تلك الأسرار للتوفق إلى قوة جامحة تفني الأعداء جملة وتفاريق.
فلنحذر إذن أولئك الرواد الذين يطوفون حول بيوتنا ويدخلون مخادعنا ليكشفوا عوراتنا ويطلعوا عليها أعداءنا، بل فلنتق ذاك الذي يرينا إخلاصا لا تشوبه شائبة، وفي قدر صدره يغلي الحقد والحسد، فإذا قلت له: أريد يا جار أن أستودعك سرا فهل تقدر أن تكتمه؟ فيجيبك بقول العجائز: عندي للسر بئر عميقة، حتى إذا ما فاز بأمنيته حمل سرك إلى أعدائك وأحبط مساعيك، عبثا تحذره من الإفشاء، وإياك أن تصدقه ولو حلف ألف يمين، إن قولتك له: هذا سر بيني وبينك، قد تكون دافعا له على إذاعته. فالسر على خفة محمله قلما ينهض به أحد، إنه كالأمانة بل هو أعظم أمانة لا يحملها إلا المجمل بمكارم الأخلاق؛ ولذلك حضنا الأولون على الكتمان بقولهم: «كل سر جاوز الاثنين شاع.»
فعلى من يبتلون بأصدقاء يذرون كلما طابت لهم الريح، أن يتكتموا، وأن يجعلوا على أفواههم أقفالا، فمن الغلط بل من الشطط أن تبوح لمثل هؤلاء بسرك، فخير نصيحة لنا في مثل هذه الحال هي أن نعمل بقول الشاعر:
احذر عدوك مرة
واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصد
يق وكان أعلم بالمضرة
وكأني بمن يسلم سره إلى غيره يقول له في تلك الساعة: ها قد صرت أسيرا لك، فارفق بعبدك يا سيدي.
وبعد، فمن طبيعة الناس وفضولهم تسقط الأخبار ومعرفة الأسرار؛ ولذلك علموا بعضهم طرق الحصول عليها من أقرب سبيل فقالوا: خذوا أسرارهم من صغارهم.
وإذا قلبنا الأسفار رأيناها ملأى بالنصائح الكثيرة التي تحض على كتم السر، وتعد من يحفظه مثلا للذين وللواتي.
فهذا جرير يصف أم حزرة بحفظ السر واللسان فيقول:
ولا تمشي اللئام لها بسر
ولا تهدي لجارتها السبابا
وقال الأعشى قبله في هريرة: «ولا تراها لسر الغير تختتل.»
وقال بشار بن برد ينصح: «ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم.» أما ابن المقفع فله في هذا أقوال تصلح دساتير يجب أن تعمل بها الناس لتتقي شرورا كثيرة.
وقالت العرب: «من أقبح الغدر إضاعة السر، فلا تستبطن إلا الثقات الأمناء.» وعندهم أن إفشاء السر وإظهار الغدر وغيبة الأحرار وإساءة الجوار هي أربع من علامات اللؤم.
كما أن هناك أربع خصال تدل على الجهل؛ وهي: صحبة الجهول وكثرة الفضول وإذاعة السر واحتقار البر.
والعوام إذا أرادوا أن يمدحوا رجلا بكتمان السر والترفع عن الاغتياب قالوا: «لسانه دافئ.» وليس من يشيع الدفء بين الناس كمن يرميهم بالعواصف والقر والزمهرير، إن من يذري أسراره في مهب الرياح لهو كمن يطلق من قفصه طيرا يعز عليه أن يفارقه.
قال الجاحظ في وصف الكتاب: «هو أكتم للسر من صاحب السر.» وما ذاك إلا برهان على أن كتمان السر ليس بالأمر السهل، فإذا طلبت بين الناس من لا يبوحون به فقد لا تجد في الألف واحدا؛ لأن البشر مطبوعون على الثرثرة.
يتهمون المرأة بإذاعة الأسرار، وقد عرفت رجالا لا يتحدثون إلا بقال فلان وقالت فلانة، وإذا فرغت جعبتهم من أسرار الجيران ينشرون ما في بيوتهم لأن ذلك من طبعهم ودليل على ضعفهم.
فلنتق شر هؤلاء، وخصوصا إذا كانوا ممن لا يكتفون بالمتن، بل يعلقون عليه الحواشي والذيول ... وقد صدق الشاعر الذي قال فيهم:
لي حيلة فيمن ينم
وليس بالكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول
فحيلتي فيه قليلة
وأخيرا فنحن لا نعني بالأسرار ذلك الكلام الذي يقال في جلسات يعقدها من لا مروءة لهم للوقيعة بالناس، فتلك أصحابها جبناء ضعاف يطعنون في الظهور لا في الصدور، وعلينا أن نشهر بهم ليتأباهم الناس، فليس ما يستودعونه صدور الآخرين إلا اغتيابا، وإنما نعني بالسر ذلك الأمر الذي ينفعنا ولا يضر غيرنا، فهذا ما يجب أن ندفنه في قاع الأرض.
فلا تفتح يا أخي بابا تعجز عن إغلاقه، ولا ترم سهما لا تستطيع رده، وإن عاد فإلى صدرك ، وإذ ذاك يصح فيك قول الشاعر: «وإذا رميت أصابني سهمي.»
إلى جندي
بان لي أنك متبرم بما صرت إليه كأنما كنت ترجو غير ما وقعت عليه، وكأنما الجندية في نظرك - كما اشتممت من رسالتك - أحط منزلة مما كنت إليه تصبو وتطمح، ربما دار في خلدك أن تهرق شبابك على حفافي كرسي ... فلا تقوم عنه حتى تترهل مثلي وتفتقد ماء شبابك فتجده قد ساح تحت أرجلها، وتفتش عن نشاطك فتراه قد تسرب من ثقوب غربالها.
الله الله يا بني! لا لوم على المخضرمين مثلنا إن صغرت الجندية في أعينهم، قد نكون غير مخطئين مثلك؛ لأن الجندية في عهدنا كانت رزقة من لا رزق لهم، كنا في لبنان مرقد العنزة، لبنان البروتوكول، ولم نكن مثلكم في عصر الكفاح والجهاد، في العصر الذي تتجند فيه المرأة والملائكة.
تقول لي: وأخيرا صرت جنديا ... كأنك تعني أنك بعدما تبحرت في دراسة آداب العرب والعجم ونلت ما يسمونه البكالوريا، تأسف أن تكون العقبى ما كانت.
أما أنا فرأيي غير رأيك، ووجهة نظري تختلف جدا عن وجهة نظرك، أتوقع أن أراك مروضا خشنا مطيعا، تسمع كلمة الآمر فتدور كخذروف وليد امرئ القيس، وتقبل وتدبر وتنحط من عل كجواده، إن صوت جرس المدرسة رخيم، أما بوق الثكنة فنعار. سوف تشكو في بادئ الأمر، وقد تسيل دمعا من خلائقه الكبر متى أضواك الليل، ولكنك ستكون رجلا إن صبرت، تصور الساعة التي يزين بها هندامك بالشرائط الفضية والذهبية، وتلمع على صدرك نجوم المجد وبدور الشرف فتصبح فلكا دوارا ... أحلم بمجد الجندية الذي يسير مع مجد الوطن جنبا لجنب تستمرئ فظاظة المدرب وخشونة الآمر، فالوطن كله يتجسم فيك، في قلبه وعلى حدوده، فأنت الوطن والوطن أنت، إن الجندية يا عزيزي هي المدرسة العملية تدخلها الآن بعد مدرستنا النظرية، ولك فيها دروس قاسية كل واحد منها يروض بمقدار ألف درس من دروسنا.
شتان ما بين بيتكم والثكنة، فقد كنت لا تنهض إلا متى شئت، تستسلم للفجر فتدغدغك أصابعه السمراء وتغرق وتعوم في بهجة الصباح ملقيا همك على أبيك، ولكن للفجر لذة أخرى لا يذوقها إلا المستيقظ النشيط، وللصباح محيا وثابا لا يستقبله إلا المبكر، سيعلمك الواجب العسكري كل هذا فاصبر تتعود، إن المرء مجموعة عادات ولا مكان يثبت العادة ويمكنها مثل الثكنة العسكرية.
إن أول رب واحد عرفناه كان رب جنود، رب إبراهيم ويعقوب، أما اليوم فجميع الأرباب يا عزيزي أرباب جنود، فهل نبقى وحدنا في هذا العالم نهرب من الجندية هربنا من الطاعون؟ افتح مزامير داود واقرأ المزمور الرابع والثمانين، ففيه يصيح: «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود! طوبى للساكنين في بيتك! يا رب الجنود، طوبى للمتكلين عليك!»
أجل إن الوطن يتكل على جنوده الأيقاظ ... إنهم السور المحيط بالقصر، والسور يظل منتصبا حارسا. لا تحسبن الجندية أمرا حقيرا، إنها فضيلة عظمى، فضيلة عملية، إنها فضيلة في ذاتها وفضيلة في مفعولها، هي الحارس الأمين للفضائل التي تواضع المجتمع على تقديسها، ففي يدك أنت الذي تستحقر عملك، حياتي وحياة آمرك وآمري، فلا تستصغر مهمتك، فالمهمة تكبر بمن يتولاها، فإذا عرفت منزلتك وعظم شأنها أدركت الاحترام الذي تصبو إليه نفوس الشباب.
إن الجندي هو أحد الحروف التي يكتب بها تاريخ الوطن، فجد لتكون حرفا مشددا فلا تخرج رخوا ولا مائعا فيمجك الذوق وتنبو الآذان عن سماعك، كن حرفا يتم المعنى ويقويه ويخلع على التعبير حلة سحرية، إن الوطن في أقصى الحاجات إلى الجندية، ولا يتحد بنوه إلا تحت سقف بيت رب الجنود الذي هو الوطن.
لو علمت يا عزيزي كم حبة من القمح تتحد لتؤلف غذاءك اليومي، الغذاء الذي تلح صباح مساء على ربك في طلبه؛ لهان عليك الأمر. هلم نتأمل معا أطوار الحبة فتهون عليك أطوار الجندية، فالحبة تموت أولا وأنت بحمد الله لا تموت، ثم تخرج عشبة تقاسي ألف ويلة قبل أن تصير سنبلة تتلع عنقها بغنج وحياء، حتى إذا استوت ونضجت بين يدي الحر والقر حصدت وحملت إلى البيدر لتحتمل محنة النورج، وبعد آلام الدياس يأتي ضغط الرحى ويا للهول! ثم العجن وكم في العجن من آلام! ناهيك بما ينتظرها من حر متقد في التنور، ومن نار حمراء تحت سقف الفرن، حتى إذا أصبحت رغيفا قدمت لك فأكلتها هنيئا مريئا.
إن الحبة لا تتذمر إذ تقطع هذه المراحل الشاقة، وهل تظنن أننا جميعا غير حب يطحن ليغذي ويبقي النوع؟ إن قول أبي العتاهية يؤيد ما أقول:
الناس في غفلاتهم
ورحى المنية تطحن
تأمل يا عزيزي كأس الخمر التي فتنت الأخطل وأبا نواس، وتذكر كم تحدثنا عنها في الصف، تارة مجدين وطورا ضاحكين وأحيانا مستهزئين ومقبحين، إنها مؤلفة من آلاف حبوب مرت في أطوار أقلها هولا وألما يفوق أشد أطوارك، فكما تتحد ملايين الحبات لتؤلف غذاءنا وشرابنا، كذلك يجب أن تتحدوا أنتم الشباب لتؤلفوا الوطن، ولا وطن بدون جنود.
أرجو أن أراك رغيفا شهيا في مأدبة الوطن، رغيفا تفترسه العيون قبل الأيدي، أرجو أن أراك كأسا مثل عين الديك صرفا. أتخيلك كولونيلا أو جنرالا بعد أن تمر في محنة القمح والعنب، إن الوطن يحتاج إلى مثل هذا الاتحاد؛ اتحاد الحنطة والعنب، ولا يكون ذلك إلا في صفوف الجنود. إن للخبز والخمر في المسيحية معنى كهذا الذي بسطته لك، وما أسماه معنى! فلسنا نجد قوتنا القومي إلا في مساكن رب الجنود وما أحلاها يا عزيزي!
عرفت الجندي لعينا ونظارا، ورأيته جلادا، وعشت حتى رأيته اليوم في هذا العصر صديقا ومرشدا، ولا شك في أنك ستكون من عصابة المرشدين الحكماء؛ لأنني لمحت فيك - إذ عرفتك واختبرتك - الفضائل الأدبية الأربع: الفطنة والعدل والقوة والقناعة.
ففطنتك تنير طريقك فلا تعثر بحجر رجلك، والعدل ينظم إهمال إرادتك ويرتبها فلا تظلم ولا تحابي، والقوة تجعلك تتمثل بقول القائل: «لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى.» والقناعة تحفظك بريئا من كل ما يتسخ به ثوب من يخدمون الجماعات.
وقصارى القول يا أخي: إن الجندي الأمين يجعل الناس فضلاء غصبا عنهم، فهو حافظ الحقوق من الامتهان متى كان عادلا، وحارس على الأخلاق الفاضلة متى كان فطنا، وصائن الضعيف وحاميه متى كان قويا ، وقاتل الطمع - علة المجتمع الكبرى - إن كان قنوعا، ومن كان عادلا قويا قانعا فطنا كان رجل التضحية، ونحن أفقر الناس إلى التضحية.
وإن قلت: ما هذه المواعظ الجافة يا معلم، فما هكذا عودتنا؟! فاسمع الجواب: إنني أخاطبك جنديا، والجندية لا تعرف الهزل لأنها جد كلها، ومتى خالطها الهزل تشوش نظامها وسقطت الفائدة المرجوة منها.
تصور فرقة تتمرن وتضحك، فما تراه ينطبع في نفوس أفرادها؟ إنهم يخطئون أهدافهم وتنقب نعالهم ويضيع تعبهم، إن مهمتك جدية كلها، ولا متسع فيها للنوادر والفكاهات. ومتى استقام لك نظامها وتمكن من نفسك وكتبت إلي كتابا عامرا بالإيمان حافلا بالرجاء منتعشا بالمحبة لرفاقك ولمدربيك الذين قلت فيهم إنهم وجوه من خشب فارقتها الماوية منذ قرن ونيف ... أجل متى حدثتني عن الجندية حديث أخ بطل لا مكره؛ أكتب إليك باللهجة التي تعهدها بي ساعة النشاط والجمام. أما الآن يا حبيب القلب فأقول لك المثل المعروف: «من دق الباب سمع الجواب» ...
أودعك الآن وأترقب بصبر تباشير الساعة التي أرى فيها الحجل مزوقا، أي ساعة تظهر على جناحيك الألوان، فأنت الآن يا حبيبي كأفراخ الحطيئة بذي مرخ لا ريش ولا وبر، فاجتهد تصر طاووسا، نجاك الله من خيلائه وزهوه!
نسيت أن أحييك وأقبلك فاعذرني، ولك أن تسمي كتابي هذا «الأبتر» كما سموا خطبة زياد «البتراء»، وإلى اللقاء.
الميلاد
أجراس تطن ونواقيس ترن في أربعة أقطار المسكونة، تمجيدا لذكرى ميلاد من أرسله الله آية للناس ورحمة منه، إنه يوم تجديد أمل الإنسانية بعام أحسن وعالم أفضل، فمنذ ألف وتسعمائة وخمس وخمسين سنة رأى المجوس نجمه في المشرق فجاءوا ليسجدوا له مقدمين القرابين مرا ولبانا. وفي مثل هذه الليلة سمع الرعاة أصواتا ترتل في الأعالي: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة أو الرجاء الصالح لبني البشر.
هذا ما اعتاد ترديده الناس يوم هذا العيد السعيد. أما أنا فلست ممن يعومون في غمر الصوفية ما دام هناك قنبلة ذرية، وكيف أقول: وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة ... إن صح أن دولة ما تستطيع - لو شاءت - أن تبقي على الجنس البشري أو أن تمحوه من الوجود؟!
المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام، تخرج اليوم من أفواه مئات الملايين مرتلة ترتيلا شجيا، موقعة توقيعا رخيما على أصوات الأجراس والنواقيس والصنوج والأرغن والبيانو، ولكنها، ويا للأسف، لا تتجاوز طرف اللسان ولا يحس بها الجنان!
ما أحوج البشر إلى الغوص على كنه كلمات يسوع وتعاليمه! وما أفقر العالم إلى درهم من علاجه الروحي! جاء يسوع ليشيد مملكة الروح فأين هي تلك المملكة الروحية؟ أتتجاوز مبادئه السامية حدود التغني بها؟
أترى الميلاد هو في أن نهدي إلى أولادنا لعبا طريفة، والناس حولنا وحوالينا لا يجدون رغيفا؟ ... وهل الميلاد في تبادلنا أكياس الملبس وعلب الشوكولا، بينا غيرنا يعد لنا القنابل صغيرة وكبيرة؟!
وهل الميلاد في التنافس بعمل شجرة اصطناعية، بينا جناتنا الحقيقية مجتاحة يابسة تحن إلى المحراث وتبكي على المعول؟
وهل الميلاد في إنفاق الملايين على اصطناع «مغارة» لا تنقع غلة عطشان ولا تشبع كبدا جائعة؟
والمسيح الذي نعيد لميلاده قال لنا: «من سقى هؤلاء المساكين كأس ماء بارد باسمي، فأجره لا يضيع.» فوالله لو مر المسيح مرة واحدة على بيوتنا لعادت إليه نخوته يوم دخل الهيكل، وأعمل في ظهورنا السوط الذي طرد به باعة اليمام والحمام!
وهل عيد الميلاد في أن نحمل شجرته مئات الشموع ونضيء مغارته بمئات أخرى، وبيوت جيراننا في ظلمة دامسة وقلوبنا في ظلمات أدجى؟
وهل العيد في أن نذبح الديوك حبشية وهندية وبلدية، ونأكل ونشرب هنيئا مريئا، والبؤساء حولنا مشتهون العضة بالرغيف؟
وهل الميلاد في أن نقطع لأولادنا ثيابا نسيج وحدها - كوبون - والفقراء، إخوة المسيح، عراة حفاة ليس لهم أطمار يسترون بها عوراتهم؟
اللهم سترك وعفوك عمن يعيدون هكذا!
الهياكل والكنائس والمعابد تمتلئ ليلة الميلاد بالمرتلين: هاليلويا كيرياليسون، آمين!
ستردد هذه الكلمات مئات ملايين المرات من أفواه الملايين المعتقدين أن العيد بدونها لا يكون كبيرا وعظيما، مع أن صاحب العيد هو القائل في إنجيله: «ليس من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السموات.»
لقد جاء المسيح ليبلغ الناس إرادة أبيه الذي في السماء، وقد شعر بذلك تلاميذه فأطلقوا عليه لقب «المعلم»، وما دمنا نعيد لذكرى ميلاد معلم إلهي فحسنا نصنع إذا ذكرنا الناس بما علم.
إن السيد المسيح هو رسول تحرير ورحمة، ظهر في زمن كان فيه البؤس عظيما، فألقى محياه الإلهي رجاء وأملا في نفوس الساقطين تحت الأحمال الثقيلة، فقال في خطبته على الجبل: «طوبى للحزانى! لأنهم يتعزون» وكأنه أراد أن يدخل الرأفة إلى قلوب الملوك الذين إذا ما دخلوا قرية أفسدوها، فقال أيضا: «طوبى للرحماء فإنهم يرحمون!»
ثم التفت إلى تلاميذه الملتفين حول منبره الجبلي وقال لهم: «أنتم ملح الأرض»، وإن فسد الملح فبماذا يملح؟ «أنتم نور العالم»، وهل يوقد سراج ويوضع تحت مكيال؟
وأدرك السيد أن السلطة تحصي عليه أنفاسه، وأن جواسيسها حوله وحواليه، فقال أولا: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأكمل.» ثم مضى في النقض والإبرام، فقال: «قيل للقدماء: لا تقتل، أما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يشجب، ومن قال له: يا أحمق، يستحق عذاب جهنم.»
وهنا تصطدم في رأس السيد فكرة كانت سائدة في ذلك الزمان، وهي اعتقاد الناس أن بالصلاة وحدها تمحى الذنوب، فأمر بترك القرابين على مذابحها، والذهاب إلى مصالحة من تذكرنا أننا أخطأنا إليهم.
وأراد أن يخفف من حدة شريعة ذلك الزمان فقال: «سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن، أما أنا فأقول: لا تقاوموا الشر بالشر، من طلب ثوبك اترك له رداءك، ومن سخرك ميلا امش معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.»
ورأى تباغض الناس وتطاحنهم حول حطام الدنيا، فقال: «قيل لكم: حب قريبك وأبغض عدوك، أما أنا فأقول: حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، لتكونوا أبناء الله الذي يشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويمطر على الأبرار والظالمين. فإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم ؟ أليس العشارون يفعلون ذلك؟ وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون؟»
وكأن السيد أراد ألا تكون الأعمال خبثا ورياء، بل أرادها صادرة من القلب منبع المحبة والرحمة، فقال - يحث على الإحسان لتخفيف ويلات البشر: «لا تتصدقوا قدام الناس فيضيع أجركم، فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراءون ليمجدهم الناس، بل لا تدع شمالك تعرف بما صنعت يمينك.»
ثم ينهى عن الغش والخداع والكذب، ويريد ممن يريد أن يكون مسيحيا أن يكون شجاعا صريحا لا يداجي ولا يداهن ولا يماحك فيقول: «ليكن كلامكم نعم نعم، أو لا لا. أنتم تعرفون الحق والحق يحرركم فلا تخافوا. إن حبة الحنطة إن لم تمت لم تعش.»
وقد يقول قائل: قل لنا كيف نعيد؟ الجواب عندي يا أخي هو أن تخلع ثوب أنانيتك، فإن كنت حاكما فوزع العدل بالقسطاس والميزان، وبهذا تعيد الميلاد على حقه. وإن كنت محكوما فابتعد عن الإساءة ولا تضر بالناس، وهذا ما يسألك إياه صاحب العيد.
وإذا كنت معلما فحاول أن تبث الأخلاق الفاضلة في نفس من تعلم، واقترب جهدك من المثل الأعلى، لا تنس أن يسوع هو المعلم.
وإذا كنت سيد شعب فلا تجر أمتك إلى المجازر البشرية، فالمسيح جاء رسول سلام، وهو الذي علم: «من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر.»
وإذا كنت صاحب مصنع فتذكر مثل من بنى بيته على الرمل، وأتقن صناعتك جيدا.
كلنا يعلم أسطورة «البابا نويل»، يزعمون أن هذا الشيخ يأتي ليلا ويمنح هداياه وجوائزه الجميلة للأولاد الصغار الهادئين الذين لا يقلقون سكينة البيت وراحته، ترى ألا يتجاوز هذا البابا نويل صلاحيته الصغرى فيمنح قادة العالم جوائزه العظمى لعلهم يتركون عباد الله المساكين مستريحين في مزارعهم فلا يغرقونهم في بحار الدم؟! ...
وقصارى الكلام أن عيد الميلاد يكون عيد ميلاد على حقه إذا ولد فينا قلب جديد، قلب يرافق تعاليم صاحب العيد ويماشيها.
ويكون الميلاد ميلادا حقيقيا متى حولت الاختراعات الهدامة لخدمة البشرية التي أحبها يسوع، وإذ ذاك تنتصر مملكة الروح التي أرادها المعلم حين قال: «ليس ملكوت الله أكلا وشربا، بل برا وسلاما.»
إلى رجل الغد
يا حبيب القلب
لأجلك اليوم أضع الحبر على الورق، وهما سميراك ونديماك، أنتم - جماعة الطلبة - غاية كل أمة، أنتم الحجارة التي نشيد بها صروح الأوطان، يسمونكم اليوم رجال الغد، وقد سماكم الشاعر من قبل أكبادنا التي تمشي على الأرض، فأنتم - كيفما دارت بكم الحال - رأس مال البيت الأصغر والبيت الأكبر، أي الأسرة والوطن، ومن لا تهمه صيانة رأس ماله وتنميته فاقرأ إذن غير مأمور كلمتي الموجهة إليك أيها العزيز في تشرين الأسود لا الأغر.
أرجو يا بني ألا تكون ضيعت اللبن في الصيف، فأمانيك الصيفية قد تناثرت أمنية أمنية، كما بدأ يتناثر ورق الشجر ورقة ورقة، فعسى أن تتعلم من الخيبة كما تتعلم من الفوز والنجاح.
غدا أو بعد غد، وإن امتد الأجل فبعد أسبوع، ستفتح بوابة المدرسة ذراعيها الكالحتين وتنطبق عليك كماشتها السوداء، فلا سراح ولا براح ... غدا سترانا، ولا إخالك مت شوقا إلينا، ولكن أخوك مكره لا بطل، كما قال المثل القديم، ومن يدري فلعلك قائل مع الذي استبشع وجه الحريري: وجه الحريري وجه قرد، والضرورات أحوجتنا إليه، فليكن، أما أنا الذي لا أكتم شيئا عنك فأقول لك ما قاله البدوي:
شكا إلي جملي طول السرى
صبر جميل فكلانا مبتلى
فهلم إذن يا عزيزي إلى مدرستك طيب النفس، مرتاحا إلى لقاء أساتذتك المتساوين معك بالعظمة والكرامة، فكلاكما تقولان معا: الله مع الصابرين ...
رويدك يا ولدي ولا تكن لجوجا ولا حرونا ولا شموسا، فالعلم لا يدرك إلا بالصبر، والصبر الطويل الجزيل، فاصبر على كل ما لا يرضيك ... فمنذ زمان لم أخصك بشيء، مع أنك يا عزيزي موضوعي المنشود، وعليك أبني الرجاء، فعسى ألا يكون بنياني على شفير هار، سوف لا أنقطع عنك بعد اليوم. وأما خير ما أزودك به الآن من نصائح الموسم، فهو رسالة أخ خرج من المدرسة كتبها إلى أخيه الصغير الداخل إليها حديثا.
إن عهد هذه الرسالة يرجع إلى ربع قرن تقريبا، وها أنا ذا أسردها لك بحروفها لترى أسلوبها، وتعلم أن الكتابة تسير سير الأزياء في موكب الزمان، فاسمع إلى المعاني المقصودة وأعر طرفك الصور، إن جدك لبس مثلك حريرا وصوفا وكتانا وقطنا، ولكن الهندازة تغيرت والتفصيل تنوع، فأصغ - حفظك الله - إلى ما كتبه ذاك الأخ، قال:
أخي الحبيب
أمس كان عقد شملنا منظوما، وملائكة الاتحاد ترفرف فوق رءوسنا. أما اليوم فقد انفرطت منه حبة صغيرة عزيزة على قلبنا وهي أنت. قد بت سجينا، والمدرسة سجن يدخله الولد طائعا مختارا. إن قفص المدرسة حلو، فكما يسجن الطائر الذي ترجى فصاحته ليطرب ويشجي، كذلك يسجن الفتى الذي مثلك ليسمع الوطن صوته في غد، فاجتهد لكي تبرع، فما نحن إلا طيور عابرة في فضاء التاريخ الهازئ.
ليست آلام أمي وأمك بأخف من آلام أم الطائر الذي انتزعته أنت في أول الصيف من عشه، أتتذكر صراخها؟ هذي حال أمي وأمك. أتذكر العصفورة المفجوعة بولدها كيف كانت تحوم حول بيتنا؟ كانت تقع بحذر على عيدان القفص الذي أعددته أنت لابنها، هذه حال أمك اليوم، لا يزال قلبها يرافقك وعيونها ترف حول أسوار المدرسة، ودموعها جارية في وادي الوجنات، فبالله عليك لا تتوان، ادرس ليل نهار لتحول دمعتها الريانة إلى ضحكة رنانة.
لا بد من أن تبكي عندما ترى نفسك صغيرا بين أفراخ الإنسانية، ولا سيما عندما تحملك الذكرى على أجنحتها إلى عالم الأحلام، فتبدأ لأول مرة تتذكر أيام صبوتك الحلوة، ستتذكر أيام كنت تلعب مع عشرائك تحت سنديانة الضيعة، أيام كنتم تطوفون قاطفين الأزهار، قابضين على الفراشات اللطيفة المنكبة على الزهرة تصافحها وتناجيها، وتسر إليها ما لا يعلمه إلا المبدع الحكيم، قد كنت قاسيا أيها الصغير.
أنا عارف أنني أهيج شجونك ولا أعزيك في بليتك الجديدة، لا بد من الألم يا عزيزي فهو مهماز يحثنا على السير لنبلغ الواحات المرجوة، هكذا تألمت قبلك حين تذكرت ففاضت شئوني واتقدت شجوني. الذكرى مرة يا أخي الصغير، ولكنها لا تخلو من حلاوة، ولولا المر ما عرفنا قدر الحلو.
سوف لا يروقك هذا الطور الجديد، ولكن تصبر لتذوق طعم الحياة المدرسية، إن لها حلاوة خاصة لا تنساها طول عمرك فتمتع من شميم عرار نجد ...
لا تخش بأس المعلم فهو ليس غولا كما صوروه لك، إنه أخ وأب وصديق إذا أحسنت سياسته، فكن لبقا ولا تزعجه، فهذا المسكين يخشاك كما تخشاه، فاعرف أنت من أين تؤكل الكتف. إن «فلق» الخوري إبراهيم و«طبشته» لا وجود لهما في دنياك الجديدة، فبالكلام اللين يروضون اليوم أشبال الإنسانية، الضرب ممنوع، ولا يحظى بلقائه إلا صاحب المخ اليابس، فكن مطيعا تنجح وتسلم، لا تهتم بغير تقليب صفحات كتابك إذا شئت ألا يقلب لك المحيط صفحته، احفظ النظام يحفظك. لا تكن ثرثارا، واذكر قول والدتنا: لسانك حصانك إن صنته صانك.
النهار الصافي يعرف من صباحه، فلتزهر صبوتك ليثمر شبابك، الطريق الطويل، أما سمعت حكاية المرحومة ستي عن النعجة التي شردت من الصيرة فأكلها الذئب؟
إن في المدرسة طغمة هم غير رفاقك صغار الضيعة، فلا تعاشر إلا خيرهم لتعود إلينا كما خرجت من عندنا، لا تبال بقول من يزعم أنه يقوم اعوجاج رفيقه، فالخل لن يعود خمرا مهما حاولنا وتعبنا. الدرس الدرس! أنسيت كلمة والدنا: الدارس غلب الفارس؟ فاجتهد ترجع إلينا فائزا منصورا.
كان أبي يسأل عني بعض معلمي فيمتدحون عبقريتي حتى سموني فيلسوف المدرسة، أما حين دخلت العالم فوجدتني أجهل أبسط الأمور، قد كنت أضحك ما استطعت حين أسمع شهادة الزور في ... عفوا شهادة المبالغة التي تعودناها في أحاديثنا كلها، كنت أضحك من مديح معلمي ومغالاته وأقول في قلبي: مسكين والدي! إنه يجهل العلوم التي أتلقاها، فلو ألقى علي بعض أسئلة لأضحكه جهلي بالواقع، وعرف أن ابنه يتعلم ما لا يمس حياته ولو عن مسافة أميال. أما أنا والشكر لوالدي الذي باع «كرم الجورة» حتى علمني، فصرت لا أسأل عنك المعلم، بل أتولى فحصك بنفسي.
إن الطحان لا يغبر على الكلاس، فاجتهد لتحسن الإجابة على أسئلتي، وأدق لك على ظهرك أمام الأهل والجيران فتطول قامتك شبرين ...
نصيحة يا أخي، إن المدارس أمست تعلم الإسراف، وليس الذنب ذنبها، فالولد مطبوع على التشبه فلا تتشبه بسواك. كن مقتصدا لا مبذرا ولا بخيلا، فالمبذرون إخوان الشياطين، والإسراف وخيمة عواقبه. لا تتشبه بابن من هو أوفر ثروة منا، بل اجتهد لتفوقه أدبا وعلما، فالعلم سيكون رأس مالك الكافي لتعيش مثله في العالم. إن المدرسة التي أنت فيها توطئة لمدرسة أعلى منها، فتعلم جيدا ليسهل عليك دخول بوابتها، إنها بوابة العالم التي شبه بها طرفة فخذي ناقته بقوله: «كأنهما بابا منيف ممرد.»
تذكر حكاية ابن حنا مرقص الذي قضى خمسة عشر عاما في المدرسة، ثم خرج منها مثل الشعرة من العجين، أظنك ما نسيت سهراتنا وضحكنا عليه، وكم كانت خيبته مرة حين قرأ على الناس في السهرة خبرا محليا في إحدى الجرائد، تذكر أسف شيوخ القرية على مال ضيعه أبوه وما أكل من العوسج تينا، فإذا أردت أن تكون مثله فالمسألة هينة، اسمع أعلمك: اضرب بالكتاب عرض الحائط وقل مثلما قال: حمار طيب خير من فيلسوف ميت.
فبالمحبة الأخوية أستحلفك وأسألك ألا تدع نسيم الكسل يطفي شمعة ذكائك، اجتهد ليكون هذا القبس نارا مضيئة تحرق وتنير. ثق أننا وضعناك في مدرسة معظم رجالها من أهل الخير والصلاح، فإذا خاب ظنك في واحد منهم فالكمال لله وحده. لا تنتقد ولا تذم، وبالعربي الفصيح: لا تطول لسانك، ففي كل أسرة أخيار وأشرار، فكيف بالمدرسة التي تلم من هنا وهناك؟
وأخيرا، وكأني أراك تبكي وتنوح وتكتم ذلك لأن وجه تشرين الأصفر حالك السواد في أعين التلاميذ؛ اصبر عليهم حتى ينسوا صفاء ليالي الصيف، ويشرعوا بالعمل بعد أن تمحي في عقولهم صور الغابة والنهر والوادي والبحر. لا تحسب أنك تاعس الجد، فأنا اليوم أتذكر مقعد المدرسة القاسي وأفضله على كرسيي الناعم الذي أجلس عليه بفضل العلم.
طمني دائما عنك، واطلب مني ما تشاء من حاجات لا بد لك منها، فأنت أمانة في رقبتي، قدرني الله على وفاء دين المرحوم والدي بتعليمك كما علمني!
وختاما أقبلك. وإلى اللقاء.
أفقره عقله
في ليلة ارتدت ثوب النسك والزهد، قرع بابي قرعا مزعجا فعرتني هزة وقلت: من يدق الباب؟
فأجابني صوت عريض أجش يتمطق بالكلام، قال: فقير ضربه الدهر كفا أطارت صوابه، ومسكين ضيع حظه فراح يفتش عنه في بيوت المحسنين الكرام، ضعيف يستجير بالأقوياء، وبائس ولا كالبؤساء.
فقلت في نفسي: أفي عصر بديع الزمان نحن؟! إن شحاذنا أستاذ محنك. ثم صحت مقاطعا: أشحاذ أنت أم خطيب؟! متى كان المتسول يلقي خطاب عرش؟! ومتى صارت الفصاحة من آلات الشحاذة؟! مضى يا رجل عصر الهمذاني والحريري، فلله أنت من فارس بيان! تفضل ادخل.
فدخل وهو يشخر وينخر، وبعدما مسح جبينه عرض علي رأسا كأنه بطيخة صفراء فيها عينان تبصان لم يطفئ البؤس لمعانهما، وقال: تنظر البشر إلى الفقير الضعيف نظرة هزء واحتقار، ويدوسون على جسمه ليصعدوا إلى عرش الغنى والرفعة، قرعت أبوابهم فكان رد الجواب: الله يعطيك، وعلى الله، دعاء جميل، ولكنه لم يشتر لي رغيفا أسد به ما في بطني من فراغ، ولا كساء عتيقا ألف به أعضاء لم يبق منها إلا ما يدل عليها دلالة غامضة ... وها هي ريح الشمال تهمهم وتزمجر، تدق الأبواب دقات أعنف من قرعي بابك.
فقلت: عدنا إلى الخطابة، قل ماذا تريد مني؟
فراح يهمهم ويردد: أريد منك، أريد منك، وكأنه أمسك خيط الخطاب الذي أفلت منه فقال: دخلت تلك البيوت فلم أر غير نظرات احتقار ووجوها عابسة يابسة، التمست برهم فتجهموا لي، وما جادوا علي بالكسر المتساقطة من موائدهم، قال لي خدمهم: لقد أعييتنا يا هذا، كيف قدرت على صعود هذا السلم العالي وأنت على ما أنت من الهزال؟ فمعلمنا وهو كالجاموس ثخانة وسمنا لا يرتقي فيه بضع درجات حتى يكاد يلفظ آخر نفس.
تلك كلمات خاطبني بها بواب البيت، وأما أصحابه فكانوا ملتفين حول مائدة القمار كالحلقة المفرغة، ساكتين لا يسمع لهم حس كأنهم في صلاة عقلية، فنزلت من ذلك البيت كاسف البال أقول لربي: إذا كان الأغنياء لا يغيثون البائس فمن يغيثه؟ أأترابه سكان الأكواخ؟! إن الغني وصي على الفقير، فلماذا لا يرفق به؟ ثم أنت يا الله، يا عارفا بخفايا القلوب، كيف أنعمت على هؤلاء الذين لا يقرون بفضلك؟
فقلت: ومتى تنتهي؟
فقال: وعرجت على بيت توسمت فيه الخير، فسمعت فيه أنينا وبكاء، رأيت هناك صبية صغارا قد تعلقوا بأذيال أمهم وهم يصرخون: جعنا هاتي أطعمينا، فقلت في نفسي: كالمستجير من الرمضاء بالنار! في ذلك القصر سعة وفرح وفي هذا الكوخ ضيق وشدة، وفي ذاك القصر تأكل جراء الكلاب حتى تنبشم، وفي هذا الكوخ يشقى أطفال بني الإنسان! ولكن هؤلاء كانوا أرحم من أولئك فأنزلوني بينهم باشين هاشين، فقضيت عندهم عشية تشاكينا فيها، لاعنين الدهر على رنين الأقداح المتصاعدة من القصر، كانت تقع في آذاننا فتجرحها وتزيد آلامنا المبرحة هياجا.
وحاولت أن أقاطعه، ولكن صاحبنا استولى على المبادرة وقذف بهذه الكلمات: وفي الغد، وكان يوم أحد، بكرت إلى المعبد لأشكر من لا يشكر على مكروه سواه، وأسأله خبزي اليومي؛ لأنه قال: «اطلبوا تجدوا» ... فجلست على كرسي كان ملقى في زاوية المعبد. فما استرحت عليه قليلا حتى أقبل خادم غليظ الكبد والقلب وحذفني عنه بعنف وقال إنه لا يليق بك، قم عنه، هناك محلك، وأشار إلى البلاط، ثم طار بالكرسي ليقدمه إلى أحد الأغنياء، فتركت مكاني وانتقلت إلى إحدى الزوايا وقبعت فيها مستندا إلى الجدار، فكر علي ثانية ليبعدني عن الحائط المزوق وعن صندوق الفقراء الذي كان بالقرب مني، فتأثرت إذ ذاك منه وصحت به قائلا: كما يسهر الغني على صندوقه ويقيم بالقرب منه، كذلك أنا أقيم بقرب خزانتي لأحفظها.
ولما رأى جرأتي عليه تركني حيث أنا فتكومت في تلك الزاوية، ولما انقضت الصلاة خرجت وبسطت يدي للخارجين من الهيكل، فأدركت بعض الصدقات من الطبقة الوسطى، أما أصحاب الجيوب الوارمة فلم يكترثوا لي، بل كانوا يسيرون ومن حولهم جماهير المدلين.
وذهبت إلى الملاهي فرأيت فتية كأنهم من بقايا أبي نواس، خمرة في العيون والخدود، يلوكون ألسنتهم من الخمار ويتساقطون تساقطا على الخوان وإلى جانبهم الغواني الخالعات العذار، فما رأوا ما علي من أطمار حتى استعاذوا بالله، وأومئوا إلي بأطراف البنان مزورين لاعنين شاتمين؛ لأن منظري عكر صفو مجلسهم، وكأنهم أنفوا أن يلوثوا أيديهم بي فاستعانوا علي بالساقي، وكانت صدقتهم لعنات وشتائم.
وانتصبت في الشارع حينا أمد اليد تارة وأرفع الصوت جهرة، ولكن خرير الدواليب وعواء المزامير وصراخ الباعة كان يبتلع ذلك الصوت المغبون. وفي الشارع أبصرت الزاهد يسير مطرق الرأس، والسكير يتعرج على الجانبين، والغني يجر ذيول الغطرسة منتفخا، وقل من يعير البائسين التفاتة! يتحدثون بألسنتهم عن البر والإحسان وتزكية المال، ولكنهم يقولون ما لا يفعلون!
وذهبت إلى إحدى المدارس، وهناك اللياقة وحسن الاستقبال. يا ويلي على أولاد هذا الزمان، وألف ويلي منهم! ضحكوا مني، كنت كيفما جلت في المدرسة لا أسمع غير قهقهة وصفير، سخر واستهزاء، وتنادر وتهكم؛ واحد يدفعني وآخر يتلقاني، فخلتني كرة يتلهون بها في الملعب. كانت هذه الإهانة أشد وقعا في نفسي المتألمة من كل ما قاسيت من خيبة، فقلت في قلبي: أما كفاهم أنهم لم ينفعوني بنافعة حتى يضحكوا علي؟!
فناديت المعلم بأعلى صوتي: إذا كنت تعلمهم الضحك من الفقير البائس والاستهزاء به فما نفع تعليمك؟ ما فائدة العلم الذي لا يعرف الإنسانية؟ علم تلاميذك أن يكونوا بشرا قبل كل شيء، علمهم الإحسان وإن لم تكن أنت محسنا، فكثيرون هم الذين يعلمون بما لا يعملون به، وإن لم تقدروا على الإحسان فلا أقل أن ترثوا الفقير وترحموه.
فبهت الأولاد من حديثي، وأخذوا جميعا ينظرون إلي معجبين، فاسترسلت في الكلام وقلت: سمعت أن أكثر مدارس هذا الزمان تعلم الرفق بالحيوان، فما قولكم يا شباب بأخيكم الإنسان، أليس هو الأجدر بأن ترثوا له؟ يقول المثل: زاد واحد يكفي اثنين، وأنتم جمهور - بارك الله فيكم - أتعجزون عن أن تغدوا رجلا لم يمتع نظره اليوم برؤية وجه الرغيف؟! ...
وجاء الرئيس على صراخي فأمر بإخراجي؛ لئلا أضيع وقت طلاب مدرسته، فأجابه كبير منهم: دعه يتم خطبته فهو يلقي علينا درسا لا تأتي المدرسة على ذكره.
وأراد زائري الكريم أن ينثر ما بقي لديه من الدرر، فقاطعته قائلا له: كيف تجهل وأنت الحصيف الفصيح قول القدماء: السائل ذليل ولو ابن السبيل؟!
فقال: إننا نسأل لنعيش ولا نطلب إلا قوت من لا يموت، ولو كان السؤال حراما ما قال الله:
وأما السائل فلا تنهر ، وإني رأيت ذل السؤال أعز من خدمة الأنذال، فما قولك دام فضلك؟
فقلت: أراني أحدث فقيرا ولا كالفقراء، فمن أنت يا رجل؟
فزفر زفرة ملأت الغرفة وأجاب: أنا فلان رفيقك في المدرسة، نسيتني يا مارون؟!
فقلت: الله! أنت فلان؟!
فأجاب: نعم، أنا هو، وما أفقرني إلا عقلي!
ضلال الآباء والأبناء
كثيرا ما أسمع من الأب أو القائم مقام الأب هذه الكلمة: أنا والله متحير بأمر هذا الصبي، أنهى دروسه وحاز الشهادات ولا أدري ما أختار له من الأعمال!
حقا إن الحيرة لا تستولي علينا إلا عند مفارق الطرق، هناك نقف ولا ندري من أية بنيات الطريق نتوجه، قد ينفق بعضنا كل ما يملك راجيا أن تتفجر الثروة من بين يدي ولده، ولكنه متى بلغ المحجة وقف في ظلمة الحيرة يترقب بزوغ فجر الألم فيرى احمرارا واشقرارا وأما الصبح فيظل منه بعيدا.
يريد الأب أن يوجه ولده كما يشاء هو ليرضي كبرياءه، مع أن هذا لا يعنيه، فصاحب الحق الأول هو «المحروس» أقر الله عينه به! إن آفتنا نحن الشرقيين، بل آفة جميع العالمين هي أن الأب يريد أن يورث ابنه مهنته كما يورثه العقار والسجاد والخرثي من متاع البيت، فصرنا نرى ابن القسيس قسيسا، وابن الإمام إماما، وابن الحداد حدادا، وهكذا دواليك حتى سميت الأسر بأسماء المهن فصارت لهم نسبا وحسبا.
أما أنت يا قارئي الحبيب فلا تفعل ذلك إذا شئت أن يفلح ابنك، دعه وما يميل إليه لأنه سيعود أخيرا إلى العمل الذي انتدبته إليه ميوله وطبيعته، فخير لك ولابنك أن يكون بناء ماهرا من أن يكون أستاذا يهزأ به تلاميذه، وسياسيا يضحك ذوو الدهاء على ذقنه، وحاسبا لا يعرف الخمس من الطمس، وعالما لا يعرف الكوع من البوع، ومحاميا يضيع حقوق الناس، وطبيبا يفني ويعمي، فتتذكر كلما رأيته قول ابن الرومي:
فإذا مررت رأيت من عميانه
أمما على أمواته قراء
لست أستطيع أن أستعرض لك الجيوش الجرارة من أعاظم الرجال الذين اختاروا مهنا لا تلائم فطرتهم فأخفقوا، ولم يفلحوا إلا حين لبوا نداء ميلهم فكانوا من عباقرة الدنيا.
فمن هؤلاء موليير المسرحي العظيم، شاء حين غادر المعهد أن يكون محاميا ولكنه أخفق في تمثيل دور المحامي على مرسح القضاء، ولما انصرف إلى العمل الذي يحسنه لمع نجمه وما زال ساطعا في نظام المسرح.
وفولتير هجر كتب اللاهوت والقانون ليكون فيلسوفا وكاتبا وشاعرا فقوضت كتاباته عرش الملكية، وشبت نار الثورة الفرنسية، وخلقت عالما جديدا يكون فيه الفرد كما يجب أن يكون الإنسان.
ولعلك ممن يسمعون بكرامويل قائد الثورة الإنكليزية، فهذا الجبار الطائر الصيت ظل فلاحا مزارعا حتى اكتهل، ولما دنت ساعة دعوته غير وجه إنكلترا ودعي حاميا للجمهورية.
وبسكال أوجب عليه والده أن يتعلم اللغات الميتة، ولكن ميله إلى العلوم الرياضية تغلب على الغراماطيق، فكان منه ذلك المفكر الحر.
وميكالنج احتمل العقوبات المرة من والديه لأجل ما كان يخربشه على جدران البيت وأمتعته، ولكن العبقرية أبت إلا أن تنتصر، فخلد ذكره بآثاره الباقية على جدران كنيسة القديس بطرس وفيها.
وأمين الريحاني كم دق بابا من أبواب الحياة ولم يفتح له إلا باب الأدب! فكتب «ملوك العرب» وغيره من التآليف الباقية.
فالمصيبة يا صاحبي هي أن أكثر البشر يحترفون ما لم يخلقوا له، فكم من فتى خلق ليكون معلما نراه خادما في مخزن! وكم من أناس خلقوا مزارعين ونراهم أطباء ومحامين! وكم من غلمان يعملون في المعامل وكان الأجدر بهم أن يكونوا علماء! وكم من طلاب في الجامعات كان أحرى بهم أن يكونوا حراثين! وكم من رسامين كان أولى بهم أن يكونوا طيانين ودهانين! وكم من رجال خلقوا ليكونوا سياسيين فإذا هم أساكفة أو باعة جوالون ! وكم من سياسيين يجب أن يكونوا في الإصطبلات لا في الندوات! وكم من جراحين حقيقيين نراهم بين المدية والساطور، بينا نرى غيرهم جراحين وما هم غير جزارين يبقرون البطون ويساعدون عزرائيل على تأدية واجبه! ...
إن حب الجاه والمجد هو الذي يحولنا عما خلقنا له، فصرنا نرى السواد الأعظم من الناس يختارون لأولادهم المهن الحرة، أو يعدونهم للجلوس على الكراسي، وقد فاتهم ما قاله ذلك الحكيم: «إن الحراث الواقف على قدميه في العراء تحت عين الشمس لهو أرفع شأنا من سيد جاث على ركبتيه.»
فانظر يا صاحبي، أو دع ابنك ينظر إلى أين تنتهي يده، فأنت وهو تعرفان ما عنده من مواهب، فليتكما تعرفان أن حدادا ماهرا خير من صانع يضيع بين يديه لمعان الذهب وبريق الألماس!
الحيوان لا يحاول القفز فوق حفرة لا يستطيع تجاوزها، أما الإنسان والإنسان وحده من دون جميع المخلوقات فيحاول أن يقاوم الطبيعة؛ يريد الألثغ أن يكون خطيبا، والأعرج راقصا، والثقيل السمع موسيقيا، والأبهر مصورا! فإذا رأيت ابنك يعمل ما تظنه أنت عبثا فلا تهزأ به، دعه وشأنه، إنها بشائر خير لا يحق لك أن تتذمر منها.
فالنابغ يفتش عن ذاته، ومتى وجدها عثر على الكنز الذي كتب له أن يقع عليه ويسعد.
لا تسأل أحدا ماذا تعمل لابنك حتى تحالفه السعادة، فهذا سر لا أعرفه أنا وتجهله أنت، لا يعرفه إلا واحد فقط، أتعرف من هو؟ إنه ابنك، فدعه وشأنه، ولا توصه إلا بشيء واحد: الإخلاص لعمله مهما كان نوعه.
هذا أوان الشد
إذا شئت أن تنجح أيها الطالب، فانظر إلى الزارع كيف يغدو إلى الحقل وتشبه به، إن ما تزرعه اليوم تحصده غدا، فاعمل ليكون بيدرك كبيرا وغلتك كثيرة، فأبوك أعد العدل وأمك هيأت الكوارة، وقدر ما تحط بالقدر تشيل في المغرفة. إن خلاصك بيدك، بحياة كل عزيز على قلبك قل لي: ما هي المدرسة؟ أليست المدرسة سجنا اخترناه أنا وأنت؟ فاعمل بكل ما عندك من قوى لتبارح هذا السجن الجميل، هذا القفص المذهب أيها البلبل الطري العود.
أنا وأنت لا تعنينا السياسة الجوفاء، إن السياسة كالنار تدفئك مجالسا وتحرقك ملابسا، فتمتع بمنظر ألسنتها المندلقة من فم موقدها الشبق. إن ثرثرتها ناعمة مغرية، ولكنها كالحب تكوي وتحرق، فحذار أن تمد يدك إليها، فإنها ألسن تلحس ومداعبتها التهام وهضم.
أنت سامع ضوضاء الانقلابات وأنباءها تنقلها إلى أذنيك محطات الإذاعات، فتتراءى لك على شاشة مخيلتك أشباحا لا تعلم من يتجسد منها أرواحا، لا بأس، تسل هنيهة يا عزيزي، ولكنني أرجو ألا تسد الطاقة التي بيننا. إصغاء هنيهة ونعود إلى عملنا، أعود أنا إلى مكتبي حيث أكتب قصة لبنانية عتيقة تحبل بها مخيلتي وذاكرتي، وألدها غصبا عني، أو مقال نقد وكيسي لا يعرف النقد، وتعود أنت إلى درسك لتتأهب للغد الذي ينتظرك.
أنت غدي أيها الفتى، أنت الفسيلة النابتة على أرومتي، وجنة الشرق تنتظرك، أجل لم يبق لي غد سواك، وهذا هو الخلود الملموس، خلود الآباء بالأبناء والأمة بالذرية. أتعلم كم قطعت أنا من الأشواط؟ اسمع فأخبرك، هذا سر بيني وبينك، لا تبح به لأحد يا عزيزي، ففي النفس آمال وفيك فطانة ... شيخك دعس في السابعة والستين بحسب الهوية، وفي التاسعة والستين كما في دفتر المعمودية. لا ترع يا ابني فالعقل ما زال في الرأس، والنفس طرية، وبكلمة ألذ وأطيب: النفس خضرا، وما نفع الحياة إذا يبست النفس؟ إنها لا تصلح إلا وقودا، وفي تلك الساعة نعوذ برب الفلق من شر ما خلق.
هذي مقدمة أحببت أن أسترعي بها انتباهك، بل قل إنها أحبولة أو طعم، فنحن المعلمين أشبه بالصيادين نضع ذبابة في الصنارة لنصطاد حفشا. ثق وتأكد أنني أحب أن أتحدث إليك؛ لأنني عاشرتك أربعين عاما وأكثر، والمثل يقول: «عاشر القوم أربعين يوما، فإما أن تصير منهم أو ترحل عنهم»، فما قولك بعشرة خمسين عاما إلا قليلا؟ لا تقل إنني صرت مثلك كما يتهم الجاحظ معلمي الصبية، فهذاك ماجن، وأنا ممن يكيفون وقلما يتكيفون. إن في نفسين: واحدة خصصتك بها، وأخرى أبقيتها للحياة، والحمل - والحمد لله - معدل، عدلان متوازيان، فسر معي حتى لا تقصر في العقبة. لا تقل ما أفضى باله! الحديدة حامية وهو يلهو ويلغو! لا يا أخا الكتاب، إنني أقول لك ما قاله المعلم الأكبر لذلك الرجل: «دع الموتى تدفن موتاها واحمل صليبك واتبعني!»
صليبك كتابك، ووطنك يترقب صعودك إلى الجلجلة ليرى أي رسالة تعلم، فهيئ لتلك الساعة عدتها.
أنت عمود الوطن، وللعمود صفتان أوليتان: المتانة والجمال الفني، فالمتانة هي الأخلاق الموروثة من دم سليم جرى في عروق الأجيال والدهور حتى انتهى إليك نقيا، فهل يليق بك وأنت أمل الأمة ورجاؤها ألا تحفظ الأمانة وتؤديها إلى الذرية كما تسلمتها نقية سليمة لا تشوبها شائبة؟ أما الجمال الفني فيك أيها العمود الحقيقي فهو الثقافة التي جئت المدرسة في طلبها، فهل تخرج منها مثل الشعرة من العجين؟ إن فعلت هذا فأنت يا عزيزي حرامي! وإن كنت لم تسرق غير نفسك، وسارق نفسه أجدر بالقصاص من غيره، أليس الأفضل أو الأجدى لك أن يبقى هذا المال في عبك فتعمل به عملا مثمرا؟
وبعد، فما المدرسة يا عزيزي؟ قل إنها حبس كما قلنا ولا تستح من ذقني، وأنت طرحت نفسك في ذلك الحبس بملء إرادتك، فاعمل إذن مريدا تكتسب علما، وإن كنت لا تريد فمن يعلمك. إن الوحي انقطع كما تعلم وتؤمن، والعلم لم يوفق حتى الساعة إلى اكتشاف مصل مدرسي، لم تخترع بعد أنابيب للغة العربية واللغات الأجنبية، وأنابيب للرياضيات والطبيعيات، وأنابيب للأدب والفلسفة، فتحقن بها شرايين دماغك لتأخذ العلم من أقرب طريق، العلم يتطلب كدا واجتهادا، ومهما قل ذكاؤك فأنت واصل إلى ما تبغي إن اجتهدت، فلا تقل هذا العلم لا يدخل عقلي، وذاك لا يلذ لي، يجب أن تعرف كل شيء لتتفوق فيما تميل إليه.
لا تحلم بالشهادة ولا تسع إلى إحرازها سعي جاهل، إنها ورقة ليس غير إذا لم يكن في صدرك علم، الشهادة تحيا بعلم صاحبها كما يحيا الكتاب وينطق بفهم صاحبه، إنها تظل حبرا على ورق ولا تدب الحياة فيها إلا منك ، فمنك تستمد حياتها، وبقدر معرفتك يرتفع قدر شهادتك، هب شهادتك سيفا يمنيا، فالسيف محتاج إلى زند ولا يقطع نائما في غمده. وبعد، فلو حزت الشهادة عن جدارة واستحقاق وزينت بها صدر القاعة ثم لم تعمل، تظل تلك الشهادة ورقة مزوقة، كقطع السلاح القديمة المزينة بها حيطان بيتك.
أية شهادة حازها الإمام علي والجاحظ وبديع الزمان والشدياق؟ وأي دكتوراه نالها أفرام السرياني وتوما الإكويني وابن رشد وابن سينا والمعري والمتنبي والسمعاني والأوزاعي؟
لا أشبه لك الشهادة إلا بمفتاح تعطاه لتدخل متحف الفكر الإنساني، فعليك المعول لا عليها حين تلج كهف الدهور، هناك ترى أناسا استحالوا حبرا وورقا، ونضدوا كتبا فيها كل ما في الأحياء من ميول وأهواء، إنهم يرحبون بك، وكل منهم يجذبك صوبه بعنف ويريد أن يستأثر بك، ويا خيبتك حين تجلس إليه إن كنت لا تفهم عنه! إنك تزدري شهادتك حينئذ وتلعن من أولاكها لعنة قايينية. فلا تسع لإدراكها عن طريق الغش والخداع، فما تخدع إلا نفسك، لا تحصلها إلا بباعك وذراعك. إن إرادتك ورغبتك تسهلان مهمتك، وإذا كنت لا راغبا ولا مريدا فانصرف إلى الحقل، فراع حاذق خير من متعلم جاهل. رحم الله إسكندر العازار الذي نسيناه! فقد قال: «دخلت المدرسة حمارا بلا شهادة، وخرجت منها حمارا بشهادة!»
يقولون: القناعة غنى، والطمع ضر ما نفع. إن القناعة في العلم لا يرضى بها إلا صديقنا الطويل الأذنين. كثيرا ما أسمع أولياء الطلاب يؤاخذون المعلمين ويشجبون المدارس إذا قصر أبناؤهم، يسألونك عن أبنائهم ولا يسرهم إلا أن تكذب عليهم بإفاضة الثناء، فإذا قلت لأحدهم: ابنك مليح، ولم تشد على كلمة مليح حتى تسحق سنا من أسنانك، قال لك: رخوة يا أستاذ ... وإن صارحت أحدهم بقولك: ابنك لا يقبل العلم، معدته لا تقطع، عبس وتولى حانقا وأنحى على المدرسة ومعلميها، ومهما تفه قدر المعلم يظل خيرا من تلميذ ضيع ذكاءه بين البيت والمدرسة.
نعم، قليل جدا عدد الأساتذة الذين يحاسبون أنفسهم عندما يأوون إلى فراشهم متسائلين: ماذا طبعنا اليوم في نفوس تلاميذنا من أخلاق فاضلة؟ وماذا علمناهم؟ إنه لا يسأل كيف أدى درسه، وهل هناك نمط أمثل يلتجئ إليه، إنه لا يتحدث إلا عن التلميذ الذي حفظ درسه كالماء الجاري. والذي عرفته أنا بالاختبار هو أن الأستاذ مهما حذق مهنته وأخلص لها، لهو عاجز عن أن يعلم من لا يريد أن يتعلم.
المعلم في قاعة الدرس أشبه ببائع على الرصيف ينادي على الكعك السخن، على الترمس أحلى من اللوز، ولكنه لا يكون غريما فيركب كتفيك ويتمسك بأذيالك فلا تفلت منه حتى تشتري، فعليك أنت أيها الطالب أن تغتنم رياحك متى هبت، وإلا فالدائرة تدور عليك أنت لا على معلمك. إن الوطن ينتظر فيك رجلا فلا تنتظر أنت ورقة، ليست الشهادة بحد ذاتها سلاحا، فما أشر من الحبر إلا الورق، فلا تكن في يدك كما كانت تلك الورقة في جيب ذاك المغفل مشتري المعلاق، نتشه الكلب من يده فصاح به: خذه، إنك لا تعرف أن تطبخه، فالورقة معي!
ألستما سواء بسواء إذا كانت «شهادتك» لا تشهد لك إلا زورا؟ ...
Shafi da ba'a sani ba