Studies in the Prophetic Tradition
دراسات في السنة النبوية
Mai Buga Littafi
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Nau'ikan
دراسات في السنَّة النبوِيَّة
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمان الأعظمي
السنة في اللغة: الطريقة حسنة كانت أمْ سيئة يقال فلان من أهل السنة قال نصيب:
من الناس إذ أحببت بينهم وحدي ... كأني سننت الحب أوَّل عاشق
ومن معانيها: السيرة حسنة كانت أمْ سيئة قال خالد بن عتبة الهذلي:
فأوَّل راض سنة من يسيرها ... فلا تجزعن عن سيرة أنت سرتها
ومن معانيها: الوجه أي الشيء البارز من الجسم قال ذو الرمة:
تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
وبهذا المعنى أنشد ثعلب:
بيضاء في المرآة سنتها ... في البيت تحت مواضع اللمس
ومثله قول الأعشى:
كريمًا شمائله من بني ... معاوية الأكرمين السنن
ومن معانيها التصوير يقال أسنُّه سنًّا إذا صورته. قد أنشد عبد الرحمن ابن حسان:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء ... تمشي في مرمر مسنون
وقال في اللسان: "كل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم بعده هو السنة"١
_________
١ - ج ١٣ ص ٢٢٥.
14 / 74
ويمكن أن نحمل قول نصيب الماضي على هذا.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم): "السنة هي العادة وهي الطريقة التي تبتكر لنوع من الناس مما يعدُّونه عبادة أولا يعدُّونه عبادة".
فهذه المعاني الكثيرة كلها تنطبق على السنة النبوية وهي متوفرة في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ ١. ومثل قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ ٢ يعني العذاب كما قال الزجاج: "سنة الأولين أنهم عاينوا العذاب فطلب المشركون إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"٣.
ومنه قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ ٤. ومنه قوله تعالى: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ ٥. وغيرها من الآيات البينات فإنها تدل على معنى الطريقة والعادة والأمر والعذاب وما شاكل ذلك فالآن نرجع إلى الحديث النبوي لنرى فيه معاني السنة.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم". قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: "فمن." ٦. وفيه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: "من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فعُمِل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء".٧
ففي هذا الحديث الشريف حثٌّ على إبداع سنَّة حسنة محمودة وكذلك
_________
١ - الفتح ٣٢
٢ - الكهف: ٥٥
٣ - اللسان ج ١٣ص ٢٢٥.
٤ - الأحزاب: ٣٨.
٥ - غافر: ٨٥.
٦ - مسلم كتاب العلم باب اتباع اليهود والنصارى ص ٥٧ ج ٨.
٧ - مسلم كتاب العلم باب من سن سنة حسنة أو سيئة ص٦١ ج٨.
14 / 75
حثٌّ على إتباعها وهي بمعنى الطريقة والعادة والمنهاج القويم.
وفي اللسان: "إن رسول الله ﷺ حض على الصدقة فقال رجل قبيح السُنَّة: أي قبيح الصورة"١. وفي صحيح البخاري قال: "قال رسول الله ﷺ: "فكان خبيب هو الذي سنَّ الركعتين لكل امرئ مسلم" ٢. وفي موطأ الإمام مالك قال: "قال رسول الله ﷺ في أمر المجوس: "سَنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" ٣ يعني خذوا منهم الجزية. وفي صحيح البخاري أيضا قال: "قال رسول الله ﷺ: "أبغض الناس مبتغ في الإسلام سُنَّة الجاهلية" ٤. وأخرج الترمدي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله ﷺ لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: "يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط"، فقال ﵊: "سبحان الله.. هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم" ٥. أي لتتبعن البدعات والخرافات. وفيه أيضا عن ابن جرير بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: "من سَنَّ سُنَّة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئًا ومن سن سنة شر فاتُّبِع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئًا" ٦. واللفظ للترمذي. إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة المروية في الجوامع والسنن والمسانيد وكلها تشير إلى أن السنة قد استعملت بمعنى الطريقة والعادة والبدعة والخرافات والصورة والتقاليد وما شابه ذلك. فإن هذه المعاني كلها معانٍ لغوية لكلمة السنة في القرآن والحديث.
_________
١ - ج ١٣ ص ٢٢٤.
٢ - البخاري جهاد ص ١٧٠، مغازي ١٠، ٢٧.
٣ - الموطأ زكاة ٤٣.
٤ - ديات ٩.
٥ - الترمذي أبواب الفتن ١٨.
٦ - الترمذي أبواب العلم ١٥، أحمد ٢: ٥٠٥.
14 / 76
دراسات في السنة النبوية
بقلم الشيخ/ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
السنة اصطلاحا:
يختلف معنى السنة اصطلاحا حسب اختلاف الأعراض والمقاصد التي لأجلها توجه العلماء في البحث عنها. فالسنة بالنسبة إلى القرآن هي ما كانت منقولة عن النبي ﷺ مما لم ينص عليها في الكتاب العزيز. وهي إما أن تكون بيانا لكتاب الله ﷿ أو تخصيصا له ولهذا السبب أطلق عليها الحديث بمقابلة القديم وهو كلام الله والعلم عند علام الغيوب.
وعند المحدثين: ما أثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية سواء قبل البعثة أو بعدها.
وعند الأصوليين: السنة هي ما نقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير. والأمثلة على ذلك:
من قول النبي ﷺ: ما أخرجه الترمذي عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من بنى
16 / 62
لله مسجدا بنى الله مثله في الجنة" ١ قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ومن فعله ﷺ: ما أخرجه الترمذي أيضا عن البراء بن عازب قال: "كانت صلاة رسول الله صلى عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود قريبا من السواء" ٢.
ومن تقريره ﷺ ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: "خرج رجلان في سفر. فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يُعد الآخر، ثم أتيا رسول الله ﷺ فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد: "لك أجر مرتين" ٣.
ومن صفة النبي ﷺ: ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله ﷺ" قال الترمذي هذا حديث غريب٤.
ومن خلق النبي ﷺ ما أخرجه الترمذي أيضا عن علي بن أبي طالب قال: "لم يكن النبي ﷺ بالطويل ولا بالقصير، شثن٥ القدمين والكفين. ضخم الرأس. ضخم الكراديس، طويل المشرُبَة، إذا مشى تكفّى تكفيا كأنما ينحط من صبب. لم أر قبله ولا بعده مثله ﷺ" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح٦.
وجه التفريق في معنى السنة عند الأصوليين والمحدثين هو راجع إلى الأغراض والمقاصد. فمثلا الأصولي جل همه أن يدور حول الأحكام الشرعية ليستنبطها من الأمر والنهي. فأوصاف النبي ﷺ وأخلاقه وسيرته خارجة عن دائرة بحثه.
والسنة بهذا المعنى المذكور مطلوبة
_________
١ تحفة الأحوذي ج٢ ص٢٦٢.
٢ المصدر السابق ص١٥٣.
٣ أبو داود ج١ ص١٤٣.
٤ تحفة الأحوذي ج١٠ ص١٢٤.
٥ قال في النهاية إنهما يمييلان إلى الغلط والقصر وقيل هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر يحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضتهم ويذم في النساء ج٢ ص٢٠٤.
٦ تحفة - ج١٠ - ص١١٦.
16 / 63
شرعا والأمة مأمورة باتباعها. فمن القرآن نذكر بعض الآيات المحرضة على اتباع السنة:
قال ﷿: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ١ روى عن عبد الرزاق قال أخبرني الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال عبد الله ابن مسعود: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" قال بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب. فقال يا أبا عبد الله بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله. قالت: إني لأقرأ ما بين اللوحتين فما أجده. قال: إن كنت قارئة لقد وجدتيه. أما قرأت قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم٢.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ ٣.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٤.
قال ابن كثير: "أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم"، ثم قال: "فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ومن لا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر"٥.
قد يخيل إلى أحد أن الرد كما وجب إلى الله والرسول كذلك وجب إلى أولي الأمر. فهل أولو الأمر في مرتبة الله والرسول في التشريع! فأجاب العلماء على هذا السؤال بأقوال منها:
إن لفظ الطاعة ذكر مع الله والرسول
_________
١ الحشر: ٧.
٢ جامع بيان العلم وفضله ج٢ ص١٨٨_ فتح الباري ج١ ص٣١٧.
٣ الأحزاب ٣٦.
٤ النساء ٥٩.
٥ ابن كثير ج١ ص٥٥١.
16 / 64
فقط ولم يُعَد مع أولي الأمر. إذا فالطاعة المطلقة مختصة بالله والرسول، أما أولوا الأمر فهم تبع لهما وإلى هذا أشار رسول الله ﷺ بقوله: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" ١.
ومنها: أن الرد لم يكرر مع أولي الأمر ويفيد هذا كذلك أن الرد لم يصح إلى أولي الأمر بل هو مختص بالله والرسول. ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الأعمش والإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعث رسول الله صلى عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار. فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، قال فقال لهم: "أليس قد أمركم رسول الله ﷺ أن تطيعوني؟ " قالوا: "بلى"، قال: "فاجمعوا إليّ حطبا" ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: "عزمت عليكم لتدخلنها" قال: فقال لهم شاب منهم: "إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله ﷺ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها" قال: فرجعوا إلى رسول الله ﷺ فأخبروه بذلك فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف" ٢.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ ٣ فأعلمهم بأن مبايعتهم لرسول الله هي مبايعتهم له ﷿.
قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ٤ قال الحافظ ابن كثير: "يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد ﷺ بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"٥.
أخرج الشيخان عن الأعمش عن
_________
١ بالمعنى تفسير ابن كثير ج١ ص٥٤٩.
٢ نقلا من تفسير ابن كثير ج١ ص٥٤٩.
٣ النساء ٨٠.
٤ الفتح ١٠.
٥ تفسير ابن كثير ج١ ص٥٦٢.
16 / 65
أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني" ١.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على الأخذ بالسنة النبوية الناطقة بالحق المبينة للكتاب ولهذا أجمع المسلمون جيلا بعد جيل وعصرا بعد عصر على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي مبينة لكتاب الله ﷿ ومخصصة له، لأن الكتاب جاء مجملا ومعجزا فاقتضت حكمة الله العليا ان يرسل رسولا يفسر للناس كتابه ويوضح مراده بقوله وفعله وتقريره لقيم الحجة على عباده.
فقد قال الإمام الشافعي: "لا حجة في أحد خالف قولُه السنة"٢ فلنذكر هنا بعض الأحاديث الدالة على حجية السنة.
أخرج أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله ﷺ قال: "ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم (يعقبهم) بمثل قراه" ٣.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" ٤.
وأخرج الدارمي عن عرباض بن سارية قال: صلى لنا رسول الله ﷺ صلاة الفجر ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع،
_________
١ خ كتاب الجهاد ١٠٩ م كتاب الإمارة ٣٢.
٢ الرسالة ص٥٧٦.
٣ دج٤ ص٢٧٩.
٤ خ ج٩ ص٧٧.
16 / 66
فأوصنا. فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات فإن كل محدثة بدعة. وقال أبو عاصم مرة وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" ١.
وفي سنن النسائي قال النضر بن شيبان قال قلت لأبي سلمة بن عبد الرحمن حدثني بشيء سمعته من أبيك سمعه أبوك من رسول الله ﷺ ليس بين أبيك وبين رسول الله ﷺ أحد: نعم. حدثني أبي قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله ﵎ فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ٢. وفي سنده أيضا عن عبد الله المزني أن رسول الله ﷺ قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عن الثالثة: لمن شاء" قال الراوي: كراهية أن يتخذها الناس سنة٣ وإلي غير ذلك من السنن المذكورة في كتب الأحاديث فلو لم يكن للسنة قيمة ذاتية رفيعة في نظر الشارع لما وردت هذه الآثار إلى هذا الحد الكبير.
_________
١ الدارمي ج١ ص٤٤ اللفظ له، واعتصام ٥، ت كتاب العلم ١٦.
٢ ن ج ٤ ص١٥٨.
٣ حم ج٥ ص٥٥.
16 / 67
دراسات في السنة النبوية
...
الأمور التي ألغاها الإسلام وأنكرها فهي كثيرة جدا يطول بنا القول لو ذكرناها في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والزواج والطلاق والحرب والقتال وغيرها من العادات والتقاليد.
وأما الأمور التي عدلها الإسلام من شريعة الجاهلية فهي كذلك باب واسع مبثوث في كتب الحديث والتفسير والفقه والعقيدة فمن شاء فليرجع إليها.
هذا هو موقف الإسلام الصحيح من الجاهلية لا كما يزعم بعض المخدوعين والدجاجلة الكفرة من أن السنة ليست لها قيمة شرعية ولا منزلة ذاتية بل هي من العادات الجاهلية التي أبقى عليها الإسلام تطييبا لخواطرهم وتعظيما لتقاليدهم فشرع الإسلام بعقائده وعباداته وأحكامه ونواهيه تام أكمله الله من فوق سبع سماوات من غير احتياج إلى العادات والتقاليد. وقد عز الله القائل:
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ ١.
أما شبهات شاخت فهي نتيجة لعدم اطلاعه على تاريخ التشريع
21 / 89
الإسلامي فجعل الإمام الشافعي مثلا أول قائل بحجية السنة واستشهد على ذلك ببعض النصوص التي أوردها الإمام في كتابه الأم١حيث يذكر أن الإمام مالكا وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني أخذوا بالقياس والرأي في مقابلة السنة في بعض المواضع. ولكن الأمر الذي فات شاخت هو هل هذا الترك كان لعدم وقوفهم على السنة؟ أو لعدم احتجاجهم بالسنة؟ فإذا عجز شاخت عن فهم هذه الأصول فلماذا أقدم على أمر هو بعيد عن إدراكه؟. نحن نجيب عن هذه الأسئلة إن شاء الله ولو بقليل من التفصيل: ونسلك في هذا طريقة المنطقية:
لم يعرف أحد من أئمة أهل السنة الذي قال بعدم حجية السنة ونحن نقيم على هذا أدلة قاطعة من كتب الحديث والفقه وتاريخ المسلمين إن شاء الله تعالى.
فهذا إمام من أئمة أهل السنة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس الذي شدت إليه الرحال وضربت له أكباد الإبل وازدحم الناس حوله، لقد عرف رحمه الله تعالى فقيها ومحدثا وهذا الوصف المطابق لم يزل ملازما الإمام مالك حتى انتقل إلى رحمة الله ورضوانه.
لقد توهم بعض الباحثين فقالوا إن مالكا كان يقدم القياس والرأي في مقابلة السنة، وهذا اتهام وبهتان فقد نقل عبد الوهاب الشعراني على لسان مالك قوله " إياكم رأي الرجال إلا إن أجمعوا عليه واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء عن نبيكم وإن لم تفهموا المعنى وسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوا، فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق"٢.
وفيه أيضا نقلا عن ابن حزم قوله: "أنه لما حضرته الوفاة قال وددت الآن أني أضرب على كل مسألة قلتها برأي سوطا ولا ألقى رسول الله ﷺ بشيء زدته، في شريعته
_________
١ راجع اختلاف مالك والشافعي ج/٧ ص١٧٧، كتاب جماع العلم ص٢٥٠ كتاب الرد على محمد بن الحسن ص٢٧٧، كتاب إبطال الإحسان ص٢٦٧.
(٢) الميزان ج١ ص٦٤.
21 / 90
وخالفت فيه ظاهرها"١ ومن هنا أخذ بعض الناس منع رواية الحديث بالمعنى للعارف خوفا أن يزيد الراوي في الحديث أو ينقص.
وقال الإمام مالك في رسالته الخالدة إلى الليث بن سعد٢ "وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر وعلى كل حال"٣ ومن منا لا يعرف قول الإمام مالك المشهور: كل يؤخذ بقوله ويرد إلا صاحب هذا القبر (مشيرا إلى قبر النبي ﷺ فهذه بعض النصوص حجة صريحة على من يتهم الإمام مالكا. نعم لقد تحير بعض الناس لما وقفوا على موطأ مالك ووجدوا أنه كتاب فقه وحديث، كتاب رواية ودراية، كتاب رأي وفتوى وهو مشهور بين أهل العلم بكتاب السنة، فكيف يجمع هذا في كتاب واحد وفي رجل واحد.
فنقول هذا الانتقاد صحيح في حد ذاته ولكن المدقق البصير لتاريخ التشريع الإسلامي يعثر على شيء جمعه مالك دون غيره وهو اجتماع الرواية والفقه عنده، والسبب في ذلك أن الناس ما كانوا يفرقون بين الرواية والدراية في عصره، فالمحدث هو الفقيه والفقيه هو المحدث لقرب أصحاب النبي ﷺ. فإن الأمر المعروف في أصول الفقه أن قول الصحابي ينزل منزلة الرفع إذا لم يكن موضع اجتهاد، ولهذا كان من عادة الأئمة في استنباط الأحكام الشرعية أن يرجعوا إلى كتاب الله أولا ثم إلى سنة رسوله ﷺ ثم إلى قول أصحابه المتفق عليه ثم إلى أقضية الخلفاء الراشدين، هكذا روي عن الإمام أبي حنيفة فإذا وصل إلى رأي التابعين قال هم رجال ونحن رجال.
وقد جاء عن بعض السلف قولهم "إن مالكا جمع بين الحديث والفقه ما لم يجمع غيره قط". قال ابن جرير الطبري أن أحمد بن حنبل لم يكن فقيها
_________
(١) المصدر السابق ص٦٥.
(٢) توفي سنة ١٧٥هـ.
(٣) ترتيب المدارك ج١ ص٦٥.
21 / 91
بل إنه كان محدثا ومالك وحده هو المحدث الذي يعد في الرعيل الأول بالإجماع والفقيه البصير بمواضع الفتوى ومصادرها بالإجماع. فهذا كتاب الموطأ الذي يحتوي على ألف وسبعمائة وعشرين حديثا برواية أبي بكر الأبهري قال السيوطي عنه "إن الأحاديث الموصلة المرفوعة إلى النبي ﷺ صحاح كلها بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين"١. وقال الإمام الشافعي "لا أعلم كتابا في أكثر صوابا من كتاب مالك"٢ حتى أن الإمام البخاري الذي يُعد كتابه أصح كتب الحديث وأقواها يعتبر سند مالك في بعض مروياته التي رواها أصح الأسانيد وهو مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وأصح الأسانيد عن أبي داود مالك عن نافع عن ابن عمر ولهذا استغرب الشافعي من مالك مسألة خيار المجلس، والحديث مروي عن مالك عن نافع عن ابن عمر فقال:" لا أدري هل أتهم مالك نفسه أو نافعا"٣. فكأنه اعتبر هذا السند من سلسلة الذهب. فهذه شهادات تدل على أنه كان عدلا ضابطا لا مجال للطعن فيه فكيف لأحد أن يعده من منكري السنة وغير المحتجين بها!.
هذه هي منزلة السنة عند مالك من حيث الأصول، وبحثنا مقتصر على الأصول وأما في الفروع فقد تلحقه شبهة وأعذار نذكر منها البعض في باب عمل أهل المدينة إن شاء الله تعالى.
أما من ناحية تقديم القياس على بعض السنة فنقول بعون الله تعالى:
لقد تضافرت الأدلة القاطعة على أن القياس أصل من أصول الفقه الإسلامي ولم يعارضه أحد إلا طائفة من الظاهرية وجماعة من الشيعة وشبهاتهم مذكورة في كتبهم ولا حاجة بنا إلى إعادة ذكرها.
القياس على قسمين: قياس يخالف الكتاب والسنة وهو مردود ومذموم لم يأخذ به أحد، وقياس لا يخالف الكتاب والسنة، وهو إلحاق أمر غير
_________
١على هامش الباعث الحثيث ص٣٢.
٢ المصدر السابق ص٣١.
٣ المغني ج٣ ص٥٠٤.
21 / 92
منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لعلة جامعة بينهما. وهو أمر ضروري لا بد منه لوقوع كثرة الحوادث وعدم انتهاء المساءل وإلى هذا أشار معاذ بن جبل وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم١ والعلماء والفقهاء من القرون المشهود لها بالخير إلى يومنا هذا لم يستغنوا عن استعمال المقاييس في أمور دينهم إذا لم يجدوا أمرا صريحا من الشارع لأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، وعلى هذا الأساس فإن مالكا استعمل القياس وقال بما دل عليه قياسه متمسكا بشروطه وآدابه. وكيف لا يقول به مالك وقد قال به رسول الله صلى الله عليه سلم في مواضع كثيرة منها ما يروى عن عمر بن الخضاب قال: "صنعت يا رسول الله أمرا عظيما قبّلت وأنا صائم فقال له رسول الله ﷺ: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم"؟ فقلت لا بأس فقال: "فصم" ٢ فقاس رسول الله ﷺ القبلة على المضمضة لأن كلا منهما مقدمة للإفطار فلا ذنب على مالك إن قاس الأمور الحادثة على أصولها.
نعم وقد يظن قياسه مخالفا للسنة الثابتة فما السبب في ذلك؟ فنقول: هناك عدة أعذار عد بينها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وقال: جميع الأعذار ثلاثة أصناف. أحدها عدم اعتقاده أن النبي ﷺ قاله، والثاني عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. ثم فرع الأسباب على تلك الأصناف فجعل السبب الأول هو أن لا يكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف إن يكون عالما بموجبه كما حصل لعمر وابنه فإنهما كانا ينهيان المحرم عن التطيب قبل الإحرام قبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة ولم يبلغهما
_________
١ أخرجه الترمذي وقال: حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وقال البخاري في التاريخ الكبير: الحرث بن عود بن أخي المغيرة عن أصحاب معاذ عن معاذ روي عنه أبو عون ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا. جمع الفوائد ٤٩٢٣.
٢ أبو داود صوم ٣٣، الدارمي صوم ٢١ سند أحمد ١/ ٢١.
21 / 93
حديث عائشة ﵂ أنها طيبت رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف، وغيره من الأمثلة الكثيرة ذكرها ابن تيمية١ رحمه الله تعالى وإلى هذا أشار الإمام الشافعي في قوله "لو صح حديث لحوم الإبل قلت به" ذكره الحافظ في التلخيص٢ فلماذا لا نحمل مالكا على أحد هذا الأعذار؟ فالأئمة المجتهدون والمحدثون الحاذقون والفقهاء المبصرون كلهم معذورون إذا قالوا شيئا يخالف سنة رسول الله ﷺ بل هم مأجورون على ذلك. فقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" ٣ فتبين أن المجتهد له مع خطئه أجر وذلك لأجل اجتهاده، فإن إحاطة واحد لجميع أحاديث رسول الله ﷺ أمر لا يمكن ادعاؤه حتى أن الخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة وأفقه الفقهاء وباشروا رسول الله سفرا وحضرا لم يكونوا قد بلغوا الكمال في العلم، فهذا أبو بكر ﵁ لما سئل عن ميراث الجدة قال مالك في كتاب الله من شيء وما علمت لك في سنة رسول الله ﷺ من شيء، ولكن أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة وشهد له محمد بن مسلمة بأن النبي ﷺ أعطاها السدس.
وروي عن عمران بن حصين مثل ذلك. فإذا كان هذا من حال أبي بكر وعمر وابنه الذين شاهدوا التنزيل فأين أبو حنيفة ومالك وابن أبي ليلى وغيرهم من الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين!
لقد تخبط بعض الباحثين من المستشرقين من أمثال جولد زهير في معنى السنة فظنوا أنها من باب العادات والتقاليد الموروثة من الجاهلية، واستشهدوا على ما ذهبوا إليه ببعض
_________
١رفع الملام ص١.
٢ نقلا من تحفة الأحوذي ج١ ص٢٦٣.
٣ خ اعتصام باب ٢١.
م، اقضية١٥، واقضية٢، حم ج٢/١٨٧.
21 / 94
العادات التي أبقاها الإسلام من العادات القديمة. وقالوا أن السنة ليست من مصادر التشريع في الإسلام، فإن الأوائل لم يكونوا يرجعون إليها في المسائل الدينية والفتاوى الشرعية حتى ظهر بعض المسلمين في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، ونادوا بحجية السنة، وملأوا كتبهم بالأدلة والبراهين، وممن اشتهر في هذا العصر الإمام الشافعي فإنه قام بالرد على الإمامين السابقين أبي حنيفة ومالك رحمهما الله١.
وأخذ هؤلاء الباحثون ببعض الآثار المروية في هذا الباب، منها قول عمر ابن الخطاب "حسبنا كتاب الله " وحديث حدث به المهلب بن أبي صفرة ثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور القيرواني ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ قال: "سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله. إنما هو حسوة من النار" ٢.
وهذا أثر ضعيف بل أوهن من بيت العنكبوت أخذوا به دليلا إلى ما ذهبوا إليه - وقد قال عبد الرحمن بن مهدي "الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث". وقال محمد بن حزم: "الحسين بن عبد الله ساقط متهم بالزندقة"٣ ورد الشافعي والبيهقي هذا الحديث كليا. وبمثل هذه الأحاديث المكذوبة أوردها ابن حزم ورد عليها واحدة بعد واحدة. أما قول عمر بن الخطاب وهو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما حُضر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى
_________
١ هكذا يريد المستشرق «شاخت» أن يرد حجية السنة وسيأتي التفصيل عن هذا إن شاء الله تعالى.
٢ الإحكام لابن حزم ج٢ ص٧٦.
٣ الإحكام لابن حزم ج٢ ص٧٦.
21 / 95
الله عليه وسلم هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي ﷺ قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله١ وفيه قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم٢ هذا القول لا يدل على الاستغناء بالسنة لأن عمر ابن الخطاب أراد أن يخفف على رسول الله ﷺ وجعه ولهذا سكت عليه النبي ﷺ وقد عاش بعده بأيام ولم يرد على عمر قوله، فلما وجد التخفيف والراحة أملى عليهم كما أخرج مسلم أن رسول الله ﷺ قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" ٣. وهذا المعنى يؤيد سلوك عمر بن الخطاب في زمن خلافته فإنه كان يحرص على الأخذ بالسنة، وهذا باب واسع لا أرى الحاجة إلى إيراده.
بمثل هذه الأدلة أخذ منكرو السنة، فمن المستشرقين الذين اشتهروا بهذا الطعن جولد سهير قد قال في دائرة المعارف الإسلامية تحت كلمة (الحديث) وفي كتابه:
(MUHAMMAD STUDY) ج١ ص٤١ واللفظ من الدائرة "كان السير على سنة الآباء الأولين (السنة هي المنهج القديم المأثور الذي يعتاده المرء في المبادلة والأخذ والعطاء) حتى يعد عند الكفار من العرب فضيلة من الفضائل ولما جاء الإسلام لم تستطع السنة أن تبقى على قديمها وهو اتباع عادات الآباء الكفار وأقوالهم، وكان لا بد للمسلمين من أن ينشئوا لهم سنة جديدة. فأصبح واجبا على المؤمن أن يتخذ من خلق الرسول ﷺ وصحابته مثلا يحتذيه في
_________
١ خ ج ٧ ص ١٠٤.
٢ المصدر السابق.
٣ نقلا من فتح الباري ج١ ص١٨٦.
21 / 96
جميع أحوال معاشه، ولهذا بذل كل جهد ممكن في سبيل جمع أخبار النبي ﷺ وصحابته١.
فالفكرة التي يريد جولد سهير أن يعطيها لنا هي أن السنة ليس لها قيمة ذاتية نفسية بل جاءت من قبل العادات والتقاليد الجامعية. ولكن الأمر ليس كما يظن المستشرق فسوف نبين خطأ فكره في باب العادات الجاهلية بعون الله تعالى. ثم جاء بعده جوزيف شاخت فجعل السنة وليدة البيئة والمجتمع الإسلامي وعمل الخلفاء، وأنها ليست أمرا ثبتا في القرنين الأول والثاني حتى جاء الإمام الشافعي ونادى بحجية السنة وشن الغارات على منكريها٢.
ثم رأيت المرحوم الدكتور السباعي يُورد فصلا كاملا في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) بعنوان «السنة مع من ينكر حجيتها حديثا» فأحببت أن ألخص كلامه هنا في أسطر لما فيه من الفوائد لطالب السنة.
يقول المرحوم: "وقد نشرت مجلة المنار للمرحوم السيد رشيد رضا في العددين ٧_١٢ من السنة التاسعة مقالين للدكتور توفيق صدقي تحت عنوان (الإسلام هو القرآن وحده) وشبهته:
أولا - قوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ .
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ .
ثانيا - قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ فالله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة.
ثالثا - لو كان الحديث حجة لأمر النبي ﷺ بكتابته.
رابعا - بعض الآثار المروية التي تدل على بعدم حجية السنة.
تلك هي خلاصة ما أورده الدكتور صدقي من الشبهات حول حجية السنة
_________
١ دائرة المعارف الإسلامية ج٧ ص٣٣٠.
٢ هذه هي الفكرة الرئيسية في تأليفه. (MUHAMMADAN JURISPRUDENU)
وخاصة في الباب السابع SUNNA PRACTIEEND LIVING TRADITION) P٥٨.
21 / 97
وقد قام المرحوم الدكتور السباعي بالرد على هذه الشبهات واحدة فواحدة، ولا أريد أن أطيل البحث فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه١ فإنه جاء بجواب مسكت مقحم فجزاه الله خيرا وتقبل سعيه.
فالآن نعود إلى موضوعنا وهو: (مقدار العادات الجاهلية في الإسلام) .
معنى الجاهلية وموقف الإسلام منها:
الجهل لغة: نقيض العلم، يقال جهل فلان جهلا وجهالة، والجهالة: أن تفعل فعلا بغير العلم ومنه المجاهل جمع مجهل.
قال مضرس بن ربعي:
أنا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدو الأصيد٢
قال الراغب: الجهل على ثلاثة أقسام:
١ - خلو النفس من العلم ومثاله قول خولة بنت حكيم امرأة عثمان ﵄ قالت: خرج رسول الله ﷺ ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول: "والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله" أي يُشغل بهم الآباء عن طلب العلم.
٢ - اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه مثاله: "إن من العلم جهلا. قيل هو أن يعلم ما لا يحتاج إليه من دينه".
٣ - فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أم فاسدا كقوله تعالى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ ٣ فجعل فعل الهزو جهلا٤.
وقد يأتي الجهل بمعنى ضد الخبر كقوله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ أي الذي ليس عنده خبرة.
_________
١ السنة ص١٦٥.
٢لسان العرب ج١١ ص١٢٩.
٣ البقرة: ٦٧.
٤ البقرة: ٢٧٣.
21 / 98
هذه هي معاني كلمة الجاهلية فهل يستطيع جولد سهير ومن معه أن يطبق هذه المعاني على السنة النبوية. فالمنتصح الدقيق يجد الفرق بينهما بينا باعتبار التضاد والتناقض. وقد حذر الشارع من اتباع سنن الجاهلية في مواطن كثيرة.
قال تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة﴾ ١!
وفي صحيح البخاري عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "أبغض الناس إلى الله ثلاث: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلّب دم امرئ بغير حق بهريق دمه". وفي سند الإمام أحمد عن أبي بن كعب عال: قال رسول الله ﷺ: "من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" ٢ وفي مسلم أيضا عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركهن: الفخر بالأنساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" ٣، ومن هذا الباب ما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله ﷺ وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاّب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي ﷺ وقال: "ما بال دعوى الجاهلية ... دعوها فإنها مُنتنة" ٤. ومنه قول النبي ﷺ "إنك امرأ فيك جاهلية" ٥، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله قد أذهب عنكم غبية الجاهلية وفخرها بالآباء:
_________
١ آل عمران: ١٥٤.
٢ خ تفسير سورة المنافقون.
٣ مسلم جنائز ٢٩، حم٥/٣٤٢.
٤ خ تفسير سورة المنافقون.
٥ خ أدب ٤٤، إيمان٢٢، م إيمان٣٨.
21 / 99