بحوث في تاريخ السنة المشرفة
بحوث في تاريخ السنة المشرفة
Mai Buga Littafi
بساط
Lambar Fassara
الرابعة
Inda aka buga
بيروت
Nau'ikan
مقدمات
تقديم للأستاذ عبد الكريم زيدان
...
مقدمات:
تقديم: للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان
١- السنة النبوية، في اصطلاح الفقهاء، ما صدر عن النبي ﷺ -غير القرآن- من قول أو فعل أو تقرير. وهي وحي إلهي قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ فهي كالقرآن الكريم من جهة أن الإثنين وحي إلهي، والفرق بينهما أن القرآن الكريم، وحي إلهي باللفظ والمعنى، بينما السنة وحي بالمعنى دون اللفظ.
٢- والسنة وهي وحي إلهي -واجبة الاتباع ومصدر أصيل- بعد القرآن، للأحكام الشرعية، وعلى هذا دل القرآن وانعقد الإجماع، ففي القرآن نصوص كثيرة جدا تبين هذا المعنى وتلزم الناس باتباع السنة وتصرح بأن الانقياد لها انقياد لله، وأن التمرد عليها علامة الانسلاخ من الإيمان، وإن المسلم لا خيار له فيما يقضي به القرآن أو تقضي به السنة، فمن هذه النصوص القرآنية قول الله ﵎:
أ- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ .
ب- ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ .
ج- ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
1 / 5
هـ- ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ .
ولم يختلف المسلمون في القديم والحديث في حجية السنة ووجوب اتباعها وكونها مصدرًا للتشريع.
٣- والأحكام التي جاءت بها السنة أنواع، منها ما هو موافق لما في القرآن ومؤكد له مثل حرمة أكل مال الغير بغير حق والنهي عن الزنا وعقوق الوالدين وشهادة الزور ونحو ذلك.
ومنها ما هو مبين ومفصل لمجمل القرآن، كالسنة التي بينت عدد ركعات الصلاة وهيأتها، حيث جاءت الصلاة في القرآن مجملة، وكالسنة التي بينت مقادير الزكاة وشروطها وأصناف المال الذي تجب فيه الزكاة. ومنها –أي: من السنة- أحكام قيدت مطلق القرآن أو خصصت عامه، كقطع اليد في السرقة جاء مطلقًا في القرآن فقيدته السنة إلى الرسغ، ومثل تحريم الميتة جاء عامًّا في القرآن فخصصته السنة بما عدا ميتة البحر والجراد.
ومن السنة ما هو أحكام جديدة لم يذكرها القرآن الكريم، وإنما جاءت بها السنة مثل الحكم بشاهد ويمين ووجوب الدية على العاقلة ونحو ذلك. وهذا النوع من الأحكام واجب الاتباع كباقي أنواع السنة الأخرى. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه"، أي: أني أوتيت القرآن وأوتيت مثله -أي السنة- في وجوب اتباعها.
٤- تدوين السنة: لم تدون السنة في عصر النبي ﷺ ولم يتخذ الرسول الكريم كتابًا يكتبون ما يصدر عنه، كما فعل بالنسبة للقرآن الكريم، إذ اتخذ له كتابا يكتبون ما ينزل عليه من آيات القرآن. كما أن النبي ﷺ لم يأمر بكتاباها، بل وقد نهى عن كتابتها في أول الأمر ثم أباح لمن يشاء أن يكتب منها ما يريد، ومن هؤلاء الذين كتبوا شيئًا من السنة النبوية
1 / 6
عبد الله بن عمرو بن العاص. فقد روى عنه الإمام أحمد في مسنده أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من إلا حق".
٥- وبالرغم من عدم تدوين السنة في عصر النبوة، فإنها كانت محفوظة في صدور الصحابة الكرام، كل واحد حفظ منها ما تيسر له، ومن فاته شيء منها علمه غيره، وقد بلغوا ما حفظوه إلى غيرهم وهكذا لم يفقد من السنة شيء.
٦- وظلت السنة غير مدونة في عصر الخلفاء الراشدين، يتناقلها المسلمون بالمشافهة والسماع، وقيل: إن الإمام عمر بن الخطاب هم بكتابتها ولكن لم يفعل.
٧- وفي زمن عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي المشهور، جرت محاولة لتدوين السنة. فقد كتب هذا الخليفة إلى قاضيه في المدينة المنورة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: "أن انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ أو سنة فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء". إلا أن عمر بن عبد العزيز توفي قل أن ينفذ أمره.
٨- وفي عصر الدولة العباسية ابتدأ العلماء بتدوين السنة وقد جاء تدوينهم لها مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاويهم، وقد كتب على هذا النحو سفيان الثوري في الكوفة، والليث بن سعد في مصر، ومالك بن أنس في المدينة، ولم يصل إلينا مما كتبوه إلا القليل. ولعل أتم ما وصل إلينا من هذا النوع من التدوين موطأ الإمام مالك بن أنس، حيث نجد فيه السنة النبوية وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، بل ونجد فيه بعض أقوال فقهاء التابعين وبعض آرائه هو وترجيحاته.
1 / 7
٩- وفي نهاية القرن الثاني للهجرة اتجه العلماء في تدوين السنة إلى أفرادها بالذكر والتدوين وتمييزها عن غيرها. وقد سلك العلماء في هذا النهج طريقة المسانيد، أي: جمع الأحاديث التي رواها كل صحابي على حدة وإن اختلفت موضوعات مروياته.
١٠- ثم ظهرت طريقة جديدة في تدوين السنة وهي تدوينها مرتبة على أبواب الفقه، وهذه الطريقة تسهل على الفقيه عمله؛ لأنها تضع بين يديه كل ما ورد في السنة عن الموضوع الذي يريد بحثه أو الاطلاع عليه. ومن هذه المدونات على هذه الطريقة، صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود وغيرها.
١١- علم الجرح والتعديل: وقد قام علماء الحديث بعمل مبرور إذ أنشئوا علم الجرح والتعديل أو علم الرجال، وهذا العلم مما انفرد به المسلمون ولا نظير له عند غيرهم والغرض منه الكشف عن أحوال رواة السنة وتمييز الصادق من الكاذب والضابط من الواهم والموثوق بروايته من المطعون فيها. وقد كان السبب في إنشاء هذا العلم الجليل أن أعداء الإسلام -وهم كثيرون- أرادوا الكيد للإسلام والنيل منه وتلويث معانيه عن طريق تلفيق الأحاديث وإسنادها إلى النبي ﷺ كذبًا، والتشكيك في رواة السنة لهدم السنة وصرف المسلمين عنها.
فأفزع هذا الصنيع الخبيث، علماء الحديث، فنهض جميع منهم للكشف عن رواة السنة وتمييز صحيحها من مكذوبها فأنشئوا هذا العلم -علم الجرح والتعديل- ويقوم هذا العلم على دراسة مستفيضة لأحوال الرواة والتحري عن ميولهم وصفاتهم وأخلاقهم ونشأتهم وعقائدهم، وقد بذل علماء هذا الفن جهدًا عظيمًا جدًّا وتحملوا في سبيل ذلك التعب والسفر الطويل والرحلات المتعددة للتحري والتنقيب عن أحوال الرواة ودراسة حياتهم والسؤال عنهم. وقد كان علماء الجرح والتعديل في دراستهم لأحوال الرواة في غاية التجرد عن الهوى والموضوعية في البحث ولم تؤثر فيهم روابط الصداقة أو القرابة أو الاشتراك بالموطن
1 / 8
والمذهب؛ لأن سنة رسول الله ﷺ أعلى وأغلى في نظرهم من كل اعتبار آخر، فكانا -لهذا كله- يفصحون أحوال رواة السنة النبوية فحصًا مجردًا موضوعيًّا لا تهمهم النتيجة التي يصلون إليها وإنما يهمهم شيء واحد هو الوصول إلى حقيقة وصفات من يدرسونه ومدى الوثوق بروايته، فكانوا في دراستهم هذه كالكيميائي في مصنعه وهو يفحص مادة من المواد ليعرف خصائصها ولا تهمه النتيجة التي يصل إليها ولا نوع الصفات التي ستظهر عليها المادة التي يفصحها. فإذا ما أنهى العالم دراسته حول رواة الحديث، أعطى لكل منهم رمزًا يشير إلى خلاصة ما توصل إليه فيقول، هذا ثقة، وهذا عدل، أو هذا لين الحديث، أو هذا لا بأس بحديثه، أو هذا كذاب، أو هذا سيئ الحفظ، أو هذا أصابه ضعف في ذاكرته بشيخوخته، وهذه الدراسة المضنية الخالصة المجردة من الهوى والمقرونة بتقوى الله والإخلاص له والحرص الشديد على تجريد السنة الصحيحة مما علق بها، استطاع علماء الجرح والتعديل -بعون الله- أن يميزوا صحيح السنة من مكذوبها، وأن يردوا كيد أعداء الإسلام الذين أرادوا هدمه بهدم السنة والتشكيك بها وصرف المسلمين عنها.
١٢- إن هذا العلم -علم الجرح والتعديل- لا يزال علما نافعًا يحتاج إليه المسلمون في كل وقت، لا سيما في زماننا هذا، حيث اتجه المستشرقون ومن تأثر بهم إلى شن الغارة على السنة النبوية ورواتها وإثارة الشكوك حولهم وحولها بأسلوب ناعم مسموم خبيث يتظاهر أصحابه بالتجرد والبحث العلمي الموضوعي. ولهذا صار لزامًا على كل مسلم يقف على تشكيك هؤلاء المستشرقين وأتباعهم في السنة ورواتها، أن يرجع إلى مصنفات علماء الجرح والتعديل ليقف على حقيقة رواة السنة والموثوق به منهم والمطعون فيه، العدل والمجروح؛ لأن هذه الحقيقة، حقيقة رواة السنة، يستحيل أن نجدها عند المستشرقين المكذبين لرسالة محمد ﷺ وإنما نجدها عند أتباعه وخدام سنته والمؤمنين به، عند علماء الحديث وعلى وجه التحديد عند علماء الجرح والتعديل.
1 / 9
١٣- والسنة النبوية، بعد هذا، لا تزال بحاجة إلى المزيد من التبيين والإشاعة بين الناس والكتابة فيها، وكل جهد مبذول فيما يتعلق بها لهو جهد مشكور مرضي عند الله تعالى. وأحسب أن هذا الكتاب الذي أقدم له، نوع من هذا الجهد المشكور الذي نرجو لمؤلفه جميل المثوبة وجزيل الأجر من الله وأن ينفع الله تعالى به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
بغداد، في: جمادى الآخرة ١٣٨٧هـ.
عبد الكريم زيدان
١٧ أيلول "سبتمبر" ١٩٦٧م.
1 / 10
مقدمة الطبعة الرابعة:
تمتاز هذه الطبعة الرابعة بإضافات علمية مهمة، واستدراكات كثيرة، فإنني ألحقت بها كل ما عثرت عليه من معلومات جديدة من الكتب المحققة التي صدرت أخيرًا أو المخطوطات التي عثر عليها حديثًا مما وقفت عليه.
وما زالت أمنيتي أن أكمل الفترات اللاحقة من تاريخ السنة المشرفة بعد القرن الخامس الهجري أو يقوم بإكمالها سواي على نفس هذا النمط لتسهيل مراجعتها والإفادة منها والتعرف على مظان المخطوطات منها في المكتبات، وليتمكن الباحث من معرفة قيمة كل كتاب وأهميته، وخاصة طلبة الدراسات العليا المعنيين بتحقيق نصوص التراث. فقد آن الأوان للقيام بدراسات شاملة تعني بتقويم كتب التراث وترشد إلى ما يستحق منها التقديم بالتحقيق والنشر وما مكانه التأخير أو الإهمال، ولا بد من وضع مقاييس دقيقة للاختيار، فبعض كتب التراث لا تضيف جديدا إلى فنونها التي تنتمي إليها، وبعضها منثور في سواها من المطبوع، وبعضها هزيل في مادته سقيم في أسلوبه، فالعناية بما سوى هذه الكتب أولى وأجدى، ولا شك أن من أبرز المقاييس في الاختبار ملاحظة قيمة الإضاة العلمية التي تحتويها المخطوطة وذلك للتكامل المكتبة التراثية وتنحصر المادة العلمية التي ورثناها عن أسلافنا في كل علم وفن فإن التقدم في دراساتنا، لا بد أن يحكمه مبدأ تراكم المعرفة وما يتطلبه من معرفة مقدار الإضافة العلمية في كل كتاب إلى الفن الذي صنف فيه وذلك تمهيدًا لكتابة الموسوعات
1 / 11
التي تمهد للدراسات العميقة الشاملة التي تهدف إلى إبراز قيم التراث وعناصره.
الأصلية وقدراته على تأصيل نهضتنا المعاصرة ودفعها بنفس الوقت إلى الأمام.
إننا بحاجة إلى حركة نقدية واسعة وواعية تتمكن من إرسال دعائم نهضتنا الفكرية على أساس راسخ من التأكيد على الجذور وإحيائها تمهيدًا لإقامة بناء صرح حضاري شامخ فوقها بعيدًا عن التقوقع والانغلاق والاكتفاء بالوقوف على الأطلال.
فالربط بين الأصالة والمعاصرة ومراعاة مبدأ تراكم المعرفة وتحديد الإضافات العلمية هي أسس لازمة لترشيد حركتنا الفكرية الحديثة والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
المؤلف: د. أكرم العمري
1 / 12
مقدمة الطبعة الثالثة:
صدرت الطبعة الأولى سنة ١٣٨٧هـ، ١٩٦٧م، وصدرت الطبعة الثانية سنة ١٣٩٢هـ، ١٩٧٢م وفيها إضافات أساسية على الطبعة الأولى، وقد نفدت الطبعتان، وكنت قد اعتزمت إكمال الفترة التي يتناولها البحث عند طبعه ثالثة ومدها إلى العصور الحديثة، وعدم الاقتصار على تاريخ السنة حتى نهاية القرن الخامس الهجري، ولكن انشغالي بأبحاث أخرى وما يتطلبه متابعة تاريخ السنة في القرون التالية على فترة البحث من جهد كبير بسبب التزامي باستقصاء سائر ما ألف مع تحليل ما بقي منه من مخطوط أومطبوع -خاصة في نطاق علم الرجال- لذلك لم يتيسر لي تنفيذ ما اعتزمته، فرأيت أن أقنع في الطبعة الثالثة ببعض الإضافات والفوائد التي وقعت لي بعد الطبعة الثانية آملًا أن يعينني الله ﷿ على إكمال هذا العمل في طبعة رابعة ليشتمل على تاريخ السنة في مراحل تاريخها المختلفة، والله أسأل أن يتقبل عملي إنه نعم المولى ونعم النصير.
٢١ جمادى الأولى ١٣٩٥هـ.
١ حزيران "يونيو" ١٩٧٥م.
المؤلف: د. أكرم العمري.
1 / 13
مقدمة الطبعة الثانية:
صدرت الطبعة الأولى من كتابي: "بحوث في تاريخ السنة المشرفة" في سنة ١٣٨٧هـ "١٩٦٧م" وقد أضفت إليه خلال السنوات الخمس المنصرمة مادة جديدة ليست بالقليلة بسبب استمراري في دراسة كتب علم الرجال ومتابعة ما طبع منها متأخرًا وما اكتشف من مخطوطاتها حديثا، وساعدني على ذلك انهماكي في دراسة: "موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد" حيث أمدتني هذه الدراسة بإضافات أساسية أيضًا. كما رأيت أن أوسع فصل "تدوين الحديث" ليشتمل على دراسة كتب الرواية المهمة المتداولة، كما أضفت فصلًا من مقدمتي لكتاب: "طبقات خليفة بن خياط" يتناول: "أسس تنظيم كتب علم الرجال" وذلك لصلته الوثيقة بمباحث الكتاب. ولا بد هنا من التنويه بفضل السيد صبحي البدري السامرائي الذي وضع مكتبته -العامرة بصورة مخطوطات كتب رجال الحديث- في خدمة هذا البحث فأفدت من ذلك سواء في الطبعة الأولى أو فيما استدركته في الطبعة الثانية. وفي الختام لا يسعني إلا الابتهال إلى الله تعالى أن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع في خدمة علم الحديث.
بغداد
١٥ تموز "يوليو" ١٩٧٢
المؤلف: د. أكرم العمري
1 / 15
مقدمة الطبعة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم.
هذا البحث كان مقدمة لرسالتي للماجستير التي تناولت تحقيق ودراسة كتاب: "الطبقات"، لـ"خليفة بن خياط"، وقد استهدفت في المقدمة بيان دوافع ظهور علم الرجال مما جرني إلى بحث حركة الوضع في الحديث وعرض جهود العلماء في مقاومة حركة الوضع بالتأكيد على الإسناد ومعرفة الرجال، كما عرضت لوصف وتحليل كتب الرجال المصنفة خلال القرون: الثالث والرابع والخامس، للهجرة؛ وذلك لبيان مكانة كتاب الطبقات بين هذه المؤلفات الكثيرة.
ولما نشرت كتاب الطبقات اقتصرت في مقدمته على ما يتعلق به فقط وأرجأت نشر بقية مقدمة الرسالة لتظهر في هذا الكتاب المستقل بعد أن أضفت إليها بحثًا عن الرحلة في طلب العلم وآخر عن تدوين الحديث ليكتمل الموضوع فيعرض إلى مختلف الجوانب لجهود العلماء التي بذلوها في الحفاظ على السنة المطهرة.
ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لأستاذي الفاضل الدكتور صالح أحمد العلي الذي تفضل بالإشراف على رسالتي وبذل الكثير من وقته وجهده في ذلك.
وللأساتذة الأفاضل الدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور حسن إبراهيم حسن والدكتور جواد علي، لتجشمهم عناء قراءة الرسالة ومناقشتها.
1 / 17
وللأستاذ الفاضل الدكتور جمال الدين الشيال، الذي تفضل بقراءة الرسالة وتقديرها.
وللصديق الفاضل الحاج صبحي السامرائي الذي أعارني مشكورًا المخطوطات التركية المصورة.
وللأخ السيد عادل أوزبك علي، الذي ترجم لي بعض النصوص عن اللغة التركية.
وختامًا أشكر إدارة وعمال مطبعة الإرشاد لما بذلوه من جهد في إخراج الكتاب.
والله المسئول أن يأخذ بأيدينا لما يحبه ويرضاه، إنه نعم المولى ونعم النصير.
بغداد في: جمادى الآخرة ١٣٨٧هـ
أيلول "سبتمبر" ١٩٦٧م.
المؤلف: د. أكرم العمري
1 / 18
الوضع في الحديث:
تمهيد:
الحديث هو ما أثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة سواء كان قبل البعثة أو بعدها١.
وقد اهتم الصحابة والتابعون ومن تلاهم من العلماء بحفظ أحاديث النبي ﷺ وتناقلها جيلًا بعد جيل لما لها من أثر بالغ في الدين٢، فتفاصيل حياة النبي ﷺ وملامح شخصيته وشمائله وسيرته ذات أهمية كبيرة في حياة المسلمين العملية؛ لأنهم مأمورون بالاقتداء به في حياتهم الخاصة والعامة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾ ٣ كما أنهم مأمورون بطاعة النبي ﷺ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ٤.
والحديث يعتبر المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن٥، فهو يبين
_________
١ السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص٥٩.
٢ استعملت كلمة الدين بالمفهوم الإسلامي الشامل للأخلاق والعبادات والمعاملات وليس بالمفهوم الغربي الذي تعنيه كلمة: "Religion".
٣ سورة الأحزاب: آية ٢١.
٤ سورة الحشر: آية ٧.
٥ يرى روبسون أن فكرة اعتبار الحديث المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن جاءت متأخرة =
1 / 19
القرآن ويفصل الأحكام المجملة التي وردت فيه، ويقيد المطلق، ويخصص العام، ويقرر أحكامًا لم ينص عليها الكتاب. ولا يمكن أن يتكامل تصور الإسلام وفهمه بدون الحديث.
ولهذه الأهمية البالغة للحديث عني المسلمون بحفظه وفهمه في حياة النبي ﷺ وبعد وفاته واستمر هذا الاهتمام بالحديث في الأجيال التالية.
وقد تعرض الحديث إلى محاولات قوية للتلاعب فيه والدس عليه، فقد سعى البعض إلى استغلاله لمآربهم السياسية أو المذهبية أو الشخصية، فظهرت حركة الوضع في الحديث التي هددت هذا الأصل الكبير من أصول الإسلام بالتحريف، ولكن العلماء بذلوا جهودًا جبارة في تمحيص الحديث ونقده، وتمييز الصحيح من الموضوع، وقد نجحوا في مهمتهم هذه إلى حد كبير.
وقد أدت حركة الوضع التي كادت أن تهدم السنة إلى نتاج إيجابية أثرت في إشادة صرح السنة وبناء علوم الحديث، فقد دفعت العلماء لاتخاذ ما يلزم لحفظ الحديث وتنقيته ومنع التلاعب فيه فنشطوا في تدوينه بنطاق واسع في فترة مبكرة منذ أواخر القرن الأول وخلال القرن الثاني الهجري، وخلال الجهود التي بذلت في فترة التدوين لتمييز الأحاديث ظهرت قواعد نقد الحديث ثم تبلورت هذه القواعد على مر الزمن حيث ظهرت بشكل منسق ودقيق في كتب مصطلح الحديث، كما تجمعت الملاحظات المنوعة عن رواة الحديث في كتب الرجال.
_________
= بعد ظهور المشكلات في الأمصار والحاجة إلى إعطاء حلول لها، وقد سعى بعض المستشرقين قبل روبسون مثل كولدزيهر وشاخت إلى تثبيت هذه النظرية غير أن القرآن الكريم هو الذي أعطى السنة مكانتها التشريعية وألزم المسلمين بالعمل بها يستوي في ذلك الصحابة ومن تلاهم، والآيات القرآنية صريحة في تقرير ذلك كقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه﴾، [النساء: ٨٠]، وقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، "انظر: مادة حديث التي كتبها "Robson" في:
"The Encyclopaedia، Vol. III. ١٩٥٦"
1 / 20
ولخطورة حركة الوضع وأثرها في تطور دراسات الحديث وتبلور علومه ومنها علم الرجال فإن تناولها سيكون بشيء من التفصيل.
بدء الوضع: الحديث الموضوع هو المختلق المصنوع، واعتبره المحدثون شر الأحاديث الضعيفة١، أما الوضاعون فهم الذين تعمدوا الكذب لا لأنهم أخطئوا ولا لأنهم رووا عن كذاب٢، ولم يقع الوضع في حياة النبي ﷺ إذا لم يصح في ذلك شيء، وقد غلب على ظن أحمد أمين أن حديث: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" ٣ إنما قيل في حادثة زور فيها على الرسول٤، ولكن ما ذهب إليه لا سند له في روايات التاريخ ولا في سياق الحديث، فالنبي ﷺ إنما قال ذلك حين أمر أصحابه بالتبليغ عنه، وفيه دلالة على أن النبي ﷺ توقع ما سيكون من كذب عليه فحذر من ذلك، ونهى أصحابه إلى أخذ الحيطة والتيقظ في قبول الأحاديث، ولم يصح دليل على أنه قاله في حادثة تزوير معينة٥. ولا شك أن تعلق الصحابة بالإسلام وما بذلوه من تضحيات جسام في النفس والمال والأولاد يقطع بإخلاصهم ونزاهتهم وصدقهم وعدالتهم، قال البراء: "ما كل ما نحدثكم عن رسول الله ﷺ سمعناه منه، منه ما سمعناه منه، ومنه ما حدثنا أصحابنا ونحن لا نكذب"٦. "وذكر أنس حديثا فقال له رجل: أنت سمعت عن رسول الله ﷺ؟ قال: نعم أو حدثني من لا يكذب، والله _________ ١ ابن الصلاح: مقدمة/ ٣٨، والعراقي: فتح المغيث ١/ ١٢٥. ٢ ابن الجوزي: الأحاديث الموضوعة ١/ ٤ب. ٣ البخاري: الصحيح ١/ ٣٧. ٤ أحمد أمين: فجر الإسلام، ص٢١١. ٥ السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ٢١٦-٢١٧. ٦ ابن عدي: الكامل ١/ ٥٠ب.
بدء الوضع: الحديث الموضوع هو المختلق المصنوع، واعتبره المحدثون شر الأحاديث الضعيفة١، أما الوضاعون فهم الذين تعمدوا الكذب لا لأنهم أخطئوا ولا لأنهم رووا عن كذاب٢، ولم يقع الوضع في حياة النبي ﷺ إذا لم يصح في ذلك شيء، وقد غلب على ظن أحمد أمين أن حديث: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" ٣ إنما قيل في حادثة زور فيها على الرسول٤، ولكن ما ذهب إليه لا سند له في روايات التاريخ ولا في سياق الحديث، فالنبي ﷺ إنما قال ذلك حين أمر أصحابه بالتبليغ عنه، وفيه دلالة على أن النبي ﷺ توقع ما سيكون من كذب عليه فحذر من ذلك، ونهى أصحابه إلى أخذ الحيطة والتيقظ في قبول الأحاديث، ولم يصح دليل على أنه قاله في حادثة تزوير معينة٥. ولا شك أن تعلق الصحابة بالإسلام وما بذلوه من تضحيات جسام في النفس والمال والأولاد يقطع بإخلاصهم ونزاهتهم وصدقهم وعدالتهم، قال البراء: "ما كل ما نحدثكم عن رسول الله ﷺ سمعناه منه، منه ما سمعناه منه، ومنه ما حدثنا أصحابنا ونحن لا نكذب"٦. "وذكر أنس حديثا فقال له رجل: أنت سمعت عن رسول الله ﷺ؟ قال: نعم أو حدثني من لا يكذب، والله _________ ١ ابن الصلاح: مقدمة/ ٣٨، والعراقي: فتح المغيث ١/ ١٢٥. ٢ ابن الجوزي: الأحاديث الموضوعة ١/ ٤ب. ٣ البخاري: الصحيح ١/ ٣٧. ٤ أحمد أمين: فجر الإسلام، ص٢١١. ٥ السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ٢١٦-٢١٧. ٦ ابن عدي: الكامل ١/ ٥٠ب.
1 / 21
ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب"١، وكان أنس يغضب إذا سئل عن حديث أسمعه من النبي ﷺ ويقول: ما كان بعضنا يكذب على بعض٢. وقال ابن عباس "إنا كنا نحدث عن رسول الله ﷺ إذا لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه"٣.
وكذلك لا توجد أدلة على وقوع الوضع في خلافة أبي بكر وعمر، ولا شك أن كثرة الصحابة الكبار ووحدة الأمة في هذه الفترة المبكرة منعت ظهور الوضع في الحديث.
ومع أن حركة الردة تهيئ ظرفًا مناسبًا للوضع، إلا أنه لم يصل إلينا دليل على أحاديث وضعت وشاعت في تلك الفترة، وعلى أية حال فليس المقصود ما وضع في الأوساط غير المسلمة بل الوضع بين المسلمين، فعلى فرض قيام البعض من المرتدين بوضع الحديث فإن انعدام إمكانية شيوعها بين المسلمين يمنع أثرها، ولم يكن أمام حركة الردة زمن طويل لكي تعمق الانقسام بلى سرعان ما قضى عليها أبو بكر الصديق ﵁ فعادت وحدة الأمة متماسكة قوية.
_________
١ المصدر السابق: ١/ ٥١ب.
٢ المصدر السابق أيضًا: ١/ ٥١أ.
٣ مسلم: الصحيح ١/ ١٢-١٣؛ والدارمي: سنن ١/ ١١٣.
أثر الخلافات السياسية في الوضع: وقد حدث في النصف الثاني من خلافة عثمان ﵁ اختلاف وشقاق كبير، إذ نقم البعض على عثمان فاشتعلت الفتنة وأسفرت عن مقتل عثمان، ولكن ما أحدثته من تصدع في المجتمع الإسلامي ظل أثره باقيًا، فقد ولدت الأحقاد وأزالت الصفاء من نفوس الكثيرين، ومع ذلك فنحن لا نجد في خلافة عثمان روايات تشير إلى الوضع في الحديث، وأما ما حكاه أبو ثور الفهمي قال:
أثر الخلافات السياسية في الوضع: وقد حدث في النصف الثاني من خلافة عثمان ﵁ اختلاف وشقاق كبير، إذ نقم البعض على عثمان فاشتعلت الفتنة وأسفرت عن مقتل عثمان، ولكن ما أحدثته من تصدع في المجتمع الإسلامي ظل أثره باقيًا، فقد ولدت الأحقاد وأزالت الصفاء من نفوس الكثيرين، ومع ذلك فنحن لا نجد في خلافة عثمان روايات تشير إلى الوضع في الحديث، وأما ما حكاه أبو ثور الفهمي قال:
1 / 22
قدمت على عثمان فصعد ابن عديس١ المنبر وقال ألا إن عبد الله بن مسعود حدثني أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ألا إن عثمان أضل من عبيدة على بعلها٢، فأخبرت عثمان، فقال: كذب والله ابن عديس ما سمعها من ابن مسعود ولا سمعها ابن مسعود من رسول الله ﷺ قط٣. فإن هذه الرواية لا تصح من جهة الإسناد ففيه انقطاع وهو من طريق ابن لهيعة وهو مفرط في التشيع والرواية في مثالب عثمان ﵁، مما يوافق هواه، ولا تقبل منه، وبذلك يتبين أن الوضع في الحديث ازداد بعد ذلك على أثر الفتن السياسية التي وقعت بين المسلمين كموقعة الجمل وصفين والنهروان حيث كانت هذه الأحداث مبعث نشوء الأحزاب السياسية كالشيعة والخوارج، ولما لم تسعفها نصوص القرآن والحديث دائمًا لجأ بعض منتحليها إلى الكذب، ولما لم يجدوا مجالا للتلاعب بكتاب الله المحفوظ في الصدور فضلًا عن أن تدوينه وجمعه تم قبل الفتنة، لذلك لجئوا إلى الوضع في الحديث الذي تأخر جمعه عن القرآن ونجد اختلافًا بين علماء القرن الأول حول تدوينه فمنهم من كان لا يرى كتابه.
_________
١ ابن عديس: هو عبد الرحمن بن عديس الذي اشترك في مقتل عثمان "الطبري: تاريخ ١/ ٣٠٤٩".
٢ لم أجد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني ولا في فصل المقال في شرح كتاب الأمثال لأبي عبيد البكري، ولا في المستقصي في أمثال العرب للزمخشري ١/ ٢١٧. لكنه يذكر في شرح المثل "أضعف من موؤودة": كان الوأد في العرب قاطبة وقطع الإسلام ذلك إلا عن تميم، وكان سبب إصرارهم عليه أنهم منعوا النعمان الإتاوة فجرد إليهم دوسر واستاق نعمهم وسبى ذراريهم فوفدوا عليه وكلموه في الذراري فجعل الخيار إلى النساء فاختارت بنت لقيس بن عاصم سابيا على زوجها، فنذر قيس أن يئد كل بنت تولد له فوأد بضع عشرة بنتًا، وبصنيع قيس هذا نزل القرآن.
٣ السيوطي: اللآلئ المصنوعة ١/ ٣١٨، وقال: "هذا من كذب ابن عديس" وقال ابن الجوزي في الموضوعات ١/ ٣٥: "هذا حديث لا نشك في أنه كذب ولسنا نحتاج إلى الطعن في الرواة، وإنما هو من تخرص ابن عديس" وابن عديس صحابي من أصحاب الشجرة كما في الإصابة ١/ ٤١١، والأولى إعلال الرواية حيث لا يعرف شيخ ابن أبي الدنيا في إسنادهما وفيها ابن لهيعة قوي التشيع وقد أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي "تنزيه الشريعة ١/ ٣٥٠"، لكنه لم يجزم بل جعل الحمل على افتراء ابن عديس محتملًا.
1 / 23
الحديث بل يقتصر على حفظه ومذكراته شفاهًا ومنهم من كان يكتب الحديث١ ولكن ما دوِّن من الحديث حتى نهاية خلافة الراشدين كان أقل بكثير مما لم يدون، فكانت هذه ثغرة نفذ منها أهل الأهواء إلى تحقيق أغراضهم. ومع تبلور هذه الفرق نمت كمية الأحاديث الموضوعة التي بلغت مداها في القرنين الثاني والثالث الهجريين كما تدل على ذلك أسماء الوضاعين التي أوردتها كتب الموضوعات وكتب الضعفاء. لقد وضع بعض الشيعة أحاديث في فضل علي والطعن في معاوية٢ كما وضع بعض خصومهم أحاديث في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ردًّا على من ينتقص منهم٣، وعندما كثر سب الصحابة وضعت أحاديث في فضل الصحابة جميعًا أو في فضل جمع منهم٤، وهذه الأحاديث تعكس الصراع الفكري والسياسي بين الأحزاب المختلفة، وكثير منها وضع في القرن الثاني والثالث الهجريين لكنها تتناول في الغالب مواضيع تتصل بأحداث النصف الأول من القرن الأول الهجري٥، وكانت المناقشات المتأخرة بين الفرق والأحزاب المتصارعة هي السبب في لجوء بعضها إلى الوضع في الحديث، وكانت مسألة الخلافة المحور الذي تدور حوله كثير من الموضوعات٦ وكما وضع بعض الشيعة وبعض خصومهم أحاديث لتأييد آرائهم، فقد وضعت أحاديث أيضًا لصالح العباسيين وبعضها أريد منه إلقاء اليأس في قلوب
_________
١ انظر: "Sezgin: Buharinin Kaynaklari، p. ٣-٥"
٢ ابن تيمية: المنتقى من منهاج الاعتدال، ٣١٣؛ والسيوطي: اللآلئ المصنوعة ١/ ٣٢٣.
٣ السيوطي: اللآلئ المصنوعة ١/ ٢٨٦، ٣١٥-٣١٧؛ وابن عراق: تنزيه الشريعة ١/ ٣٧١، ٢/ ٤.
٤ السيوطي: اللآلئ المصنوعة ١/ ٤٢٨.
٥ ابن عراق: تنزيه الشريعة ١/ ٤٢٢.
٦ ابن تيمية: المنتقى من منهاج الاعتدال، ٣٠٧؛ والسيوطي: اللآلئ المصنوعة ١/ ٣٢٤.
وابن عراق: تنزيه الشريعة ١/ ٣٥٣؛ وابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ١/ ١٣٥.
1 / 24
العلويين وإقعادهم عن المطالبة بالخلافة١، وقد أكثر بعض الشيعة من وضع الحديث ولذلك حذر منهم بعض العلماء مثل أبي حنيفة٢ وعبد الله بن المبارك٣ ومالك٤ وشريك بن عبد الله٥ ويزيد بن هارون٦ والشافعي٧.
لقد كان العراق وخاصة الكوفة ميدانًا لوضع الحديث وتناقل الموضوعات، فقد حملت الكوفة العبء الأكبر في الحرب مع أهل الشام عندما اتخذها الإمام "علي" عاصمة، وقد ظلت بعده مركز المعارضة للحكم الأموي، فكان وضعها ملائمًا لظهور عناصر طموحة سعت إلى استغلال الظروف للوثوب إلى السلطة.
وفي هذا المجتمع المشحون بالأحقاد السياسية نمت الأحاديث الموضوعة لدعم وجهة نظر المعارضة ولانتقاص الأمويين والنيل منهم، فهذا المختار الثقفي يقول لرجل من الأنصار ضع لي حديث عن النبي ﷺ أني كائن بعده خليفة، وطالب له ثأر ولده، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم! وقد رفض الأنصاري أن يضع حديثًا عن النبي، وأراد أن يضعه عن أحد الصحابة بأجر أقل٨، وقد وجد بعض المشعوذين مجالًا خصبًا في هذه البيئة للتصدر في حلقات العلم فيذكر عاصم الأحول "ت ١٤٢هـ" أنه شهد مجلسًا يتصدره أعجمي لا يحسن نطق العربية، ومع ذلك فهو شيخ يجلس الناس في حضرته كأن على رؤوسهم الطير٩.
_________
١ ابن عراق: تنزيه الشريعة ٢/ ١٧-١٨؛ والخطيب: تاريخ بغداد ٦/ ٢٤١.
٢ الخطيب: الكفاية، ١٢٦.
٣ ابن تيمية: المنتقى من منهاج الاعتدال، ٤٨٠.
٤ المصدر السابق: ٢١.
٥ المصدر السابق: ٢٢؛ وانظر الذهبي: ميزان الاعتدال ١/ ١٥.
٦ المصدر السابق: ٢٢؛ وانظر الذهبي: ميزان الاعتدال ١/ ١٥.
٧ الخطيب: الكفاية، ١٢٦؛ وابن تيمية: المنتقى من منهاج الاعتدال، ٢١؛ والذهبي: ميزان الاعتدال ١/ ١٥.
٨ ابن الجوزي: الأحاديث الموضوعة ١/ ٤ب.
٩ انظر تفاصيل ذلك في ابن حبان: المجروحين من المحدثين: ٢/ ٢٨أ.
1 / 25
وبسبب تصدر هؤلاء الجهلة ظهر التلاعب بالأحكام مما يدل على قلة الورع والجرأة على الشرع وأحكامه ومحاولة التلفت من نظامه. وقد أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدر ذراع١، ويذكر الأعمش "ت١٤٨" أنه رأى شيخًا كوفيًّا يحرف قضاء "علي" في المطلقة ثلاثًا ويزعم أن الناس حملوه على ذلك٢.
ولقد أدت كثرة الوضع للحديث في الكوفة إلى إعطاء فكرة سيئة عن العراق كمركز مهم من مراكز العلم والرواية في العالم الإسلامي آنذاك، فتدهورت سمعة العراقيين العلمية في الأمصار المختلفة منذ فترة مبكرة فقالت عائشة ﵂: "يا أهل العراق أهل الشام خير منكم خرج إليهم نفر من أصحاب رسول الله ﷺ كثير فحدثونا بما نعرف، وخرج إليكم نفر قليل من أصحابه فحدثتمونا بما نعرف وبما لا نعرف"٣ وقدم جماعة من أهل العراق إلى عبد الله بن عمرو بن العاص بمكة طالبين إليه أن يحدثهم فقال لهم: إن من أهل العراق قومًا يكذبون ويكذبون ويسخرون٤ وقال الزهري "ت ١١٤هـ": إذا سمعت بالحديث العراقي فأردد به ثم أردد به٥.
وقد كان من نتيجة ذلك أن ضربت السلطة في دمشق العزلة العلمية عليهم فلم تستفهم فيما يستجد من أقضية وأحداث بل اعتمدت على علماء الشام والمدينة فقط يقول الأوزاعي: "كانت الخلفاء بالشام فإذا كانت الحادثة سألوا عنها علماء أهل الشام وأهل المدينة، وكانت أحاديث العراق لا تجاوز جدور بيوتهم، فمتى كان علماء أهل الشام يحملون عن خوارج أهل العراق"٦ وهو يريد بالخوارج الخارجين على السنة ولعله أراد بذلك الخارجين على السلطة
_________
١ مسلم: الصحيح ١/ ١٤.
٢ ابن عدي: الكامل ١/ ١٤٥.
٣ ابن عساكر: التأريخ الكبير ١/ ٦٩.
٤ ابن سعد: الطبقات ٤/ ٢٦٧-٢٦٨.
٥ ابن عساكر: التاريخ الكبير١/ ٦٩.
٦ المصدر السابق ١/ ٧٠.
1 / 26