Studies and Lectures in Quranic Sciences
في علوم القرآن دراسات ومحاضرات
Mai Buga Littafi
دار النهضة العربيه
Inda aka buga
بيروت
Nau'ikan
القسم الأوّل في علوم القرآن للدكتور محمد عبد السلام كفافي
1 / 17
بسم الله الرّحمن الرّحيم
- ١ - علوم القرآن الكريم [(تعريف)]
القرآن الكريم آخر كتب الله المنزلة، أنزل على خاتم الأنبياء محمد ﵊، فأخرج به الناس من الظلمات الى النور، وبدأ به عهدا من الهداية عاش في نوره ملايين البشر، بل آلاف الملايين خلال العصور. واليوم يعيش في ظل هذه الرسالة عدد من الناس يقدرون بنحو أربعمائة مليون من البشر، هم المسلمون المنتشرون في شتى أنحاء المعمورة، وتتركز أكثريتهم في قارتي آسيا وإفريقيا.
وقبل أن نمضي في دراستنا لعلوم القرآن لا بد أن نقف وقفة قصيرة عند أسماء هذا الكتاب العزيز. أول هذه الأسماء وأشهرها هو «القرآن». ولعل أصح الأقوال في شرح معناه أنه مرادف للقراءة ومنه قوله تعالى:
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسما لكلام الله المنزل على نبيه محمد صلوات الله عليه.
1 / 19
وقد قيل إن اسم القرآن مشتق من القرء بمعنى الجمع لأنه جمع ثمرات الكتب السابقة.
والرأي الأول أصح.
وقد ذهب الإمام الشافعي إلى أنّ لفظ القرآن ليس مشتقا ولا مهموزا، وأنه قد ارتجل وجعل علما للكتاب المنزل، كما أطلق اسم التوراة على كتاب موسى والإنجيل على كتاب عيسى. وليس لهذا الرأي ما يدعمه، كما أنه لم يلق قبولا عند غير الشافعي، فيما أعلم.
ومن أسماء القرآن أيضا «الفرقان» قال تعالى:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا وهناك سورة كاملة تدعى سورة الفرقان وهذا الاسم يعني أنه الكلام الذي يفرق بين الحق والباطل، أو أنه الكلام الذي نزل على الرسول مفرقا، أي منجّما.
وكم كان في ذلك التنجيم من حكم بالغة، سوف ندرسها، حينما نتحدث عن نزول القرآن.
ومن أشهر أسماء القرآن «الكتاب» و«الذكر» و«التنزيل».
قال تعالى:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ (آل عمران ٣)
1 / 20
وقال:
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ (الأنبياء: ٥٠) وقال:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
(الشعراء: ١٩٢) وقد بالغ بعض الباحثين فجعل للقرآن الكريم أسماء اشتقها من صفات أطلقت على القرآن، فالزركشي ذكر للقرآن خمسة وخمسين اسما. وهناك مؤلف من المحدثين هو الشيخ طاهر الجزائري صاحب التبيان ذكر للقرآن نيفا وتسعين اسما استخرجها من صفات هذا الكتاب الكريم. من أمثلة ذلك أن الزركشي في كتابه البرهان يذكر من أسمائه «كريم» استنادا الى قوله تعالى:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ و(مبارك) من قوله تعالى:
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ لكن من الواضح أن لفظتي «كريم» و«مبارك» في الآيتين الكريمتين ليستا سوى صفتين. ومن هنا لا نأخذ بقول من يقول إنهما من أسماء القرآن الكريم.
المعنى الاصطلاحي للفظ القرآن:
أما وقد فرغنا من بيان المعنى اللغوي فعلينا الآن أن نبين المعنى الاصطلاحي الذي
1 / 21
يفهم من لفظ «القرآن». وقد ذكر البعض «أنه الكلام المعجز المنزل على النبي صلوات الله عليه، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته» والذين يقولون بهذا التعريف ينتقون بعض الصفات المميزة لكتاب الله ليعبروا بها عن تعريفهم له. وليس معنى هذا أن التعريف يجمع كل صفات الكتاب العزيز.
ومن المعرفين للكتاب الكريم من أوجز في تعريفه مقتصرا على صفتي الإعجاز والتنزيل، لأنّهما هما الصفتان الذاتيتان لكتاب الله، تحققتا له منذ نزوله، ومن قبل أن يؤمن به الناس ويكتبوه ويتناقلوه ويتعبدوا به. ومهما يكن الأمر فالقرآن الكريم ليس بحاجة الى تعريف منطقي، فلا معنى لإضاعة الوقت حول طول التعريف أو قصره ومدى إحاطته بصفات الكتاب العزيز.
1 / 22
- ٢ - كلام الله، ومعناه عند المتكلمين
حينما تأثرت الحضارة الإسلامية بفلسفة اليونان، وبدأ ظهور علم الكلام مستخدما المنطق والفلسفة في تفسير بعض مسائل العقيدة، ظهرت مشكلة كان لها أثرها العميق في حياة المجتمع الإسلامي، وتلك هي مشكلة خلق القرآن.
إنّ المعتزلة، كما تعلمون، وضعوا مفهوما للوحدانية، قائما على أنّ الله أزلي بذاته، وليس هناك من أزليّ سواه. فصفات الله من علم وقدرة هي عين الذات.
فالله عليم بعلم هو ذاته قدير بقدرة هي ذاته وهكذا. وكان مذهبهم يقضي بأنّ وجود صفات أزلية منفصلة عن الذات يعني أنّ هناك ما هو أزلي إلى جانب الخالق.
ومن هنا جاء قولهم بنظرية خلق القرآن. فالكلام- عندهم- لا يمكن أن يكون صفة أزلية من صفات الله وإلا كان أزليا مع الله. ثم إن القرآن يقرأ بالحناجر، ويكتب على الورق وليس من المستطاع أن يتعلق أزليّ بفان. وتعلمون أن هذه النظرية قد راقت الخليفة المأمون الذي كان يميل إلى الاعتزال فحاول فرضها على الناس بالقوة. وممن رفض القول بها أحمد بن حنبل، ولقي من جراء ذلك محنته المشهورة. وكان نفي الصفات هذا على النقيض مما كان يعتقده أهل السنة.
فالشهرستاني قد ذكر أنّ كثيرا من السلف قد أثبت لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها.
1 / 23
ولما كان المعتزلة ينفون هذه الصفات فقد سموا معطّلة. ولم يلبث المعتزلة أن شربوا من الكأس التي شرب منها خصومهم، حينما ولي المتوكل الخلافة، وكان يدين بمعتقدات أهل السنة. وهنا ساد القول بأن القرآن غير مخلوق، وبالغ بعض القائلين بهذا الرأي فأصروا على أنّ فكرة أنه غير مخلوق تشمل النسخ المكتوبة من القرآن بالحروف المرسومة فوق الورق، وأن القرآن المقروء للصلاة والمتلو الخارج من حناجر المؤمنين لا يختلف عن كلام الله الأزلي غير المخلوق.
ووقف الأشاعرة والماتريدية من هذه القضية موقفا وسطا، فكلام الله الأزلي هو الكلام النفسي أي الصفة الأزلية لله التي ليس لها بدء ولا يكون لها انقطاع. يقول الماتريدي: «إذا تساءلنا ما هو المكتوب في نسخ القرآن؟ نقول هو كلام الله. والذي يتلونه في المساجد والذي يتلفظونه من الحناجر هو أيضا كلام الله. لكن الحروف المكتوبة والأصوات والترتيل، كل ذلك مخلوق. «أما الأشعري فيقول بأنّ هذا الذي يظهر مكتوبا في نسخة القرآن ليس كلام الله الأزلي ولكنه تبليغ عن كلام الله الأزلي. يرى الأشعري أنّ كلام الله يطلق إطلاقين كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلما باعتبارين: أحدهما بالصوت، والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت ولا حرف وهو المعنى القائم بالنفس، الذي يعبر عنه بالألفاظ.
فإذا انتقلنا من الإنسان إلى الله، رأينا أن كلامه تعالى يطلق بهذين الإطلاقين:
المعنى النفس وهو القائم بذاته، وهو الأزلي القديم، وهو لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الدلالات، وهذا الذي نريده إذا وصفنا كلام الله بالقدم ...
أما القرآن- بمعنى المقروء المكتوب- فهو بلا شك كما يقول المعتزلة حادث مخلوق فإن كل كلمة تقرأ تنقضي بالنطق بما بعدها، فكل كلمة حادثة، فهكذا المجموع المركب منها» (١).
وهكذا جرّت البراهين العقلية الجافة التي أريد لها أن تفسر العقيدة إلى جدل عقيم. إنّ العقيدة الإسلامية في وضوحها وبساطتها لم تكن بحاجة إلى مثل هذه
_________
(١) أحمد أمين: ضحى الاسلام، ص ٣، ص ٤٠، ٤١.
1 / 24
المجادلات المنطقية، التي بلبلت أفكار المجتمع الإسلامي، وأشاعت الفرقة بين أبنائه في حقب مختلفة.
ونحن اليوم في عصر العلم لا نشعر بالحاجة إلى مثل هذه البراهين لكي نؤمن بأن القرآن كلام الله المنزل على رسوله. فالإيمان بالوحي جزء من الإيمان بالغيب، وهذا من مقتضيات الإيمان الصحيح. إنّ الإنسان لم يمنح العلم بجميع الأسرار، وقدرته على المعرفة لم تمتد إلا إلى قدر ضئيل من العالم المادي، فكيف يمكنه ادعاء الإحاطة بما وراء هذا العالم من أمور لا يتناولها الحس، ولا يحيط بكنهها العقل.
1 / 25
- ٣ - علوم القرآن: مفهومها وموضوعاتها
يمكن أن يفهم من عبارة علوم القرآن معنى واسع هو كل ما يتصل بالقرآن الكريم من دراسات، فيدخل في ذلك علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم إعجاز القرآن، وعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم إعراب القرآن وعلم غريب القرآن، وعلوم الدين واللغة إلى غير ذلك.
وهذه الدراسات المتعددة التي تدور حول القرآن الكريم وتتناوله من مختلف جوانبه قد بدأت في الظهور منذ وقت مبكر من تاريخ الفكر الإسلامي.
وإذا رجعنا إلى كتاب الفهرست لابن النديم، وهو الذي يذكر المؤلفين والكتب التي ألفوها حتى القرن الرابع الهجري نجد أنه يذكر لنا أنواعا مختلفة من الدراسات القرآنية، وعددا كبيرا من الكتب التي ألفت فيها.
فمن الأنواع التي ذكرها: كتب التفسير، والكتب المؤلفة في معاني القرآن ومشكله ومجازه، والكتب المؤلفة في غريب القرآن، والكتب المؤلفة في لغات القرآن والكتب المؤلفة في القراءات، والكتب المؤلفة في النقط والشكل للقرآن، والكتب المؤلفة في لامات القرآن، والكتب المؤلفة في الوقف والابتداء ضمن القرآن والكتب المؤلفة في اختلاف المصاحف، والكتب المؤلفة في وقف التمام، والكتب
1 / 27
المؤلفة في متشابه القرآن، والكتب المؤلفة في هجاء المصاحف، والكتب المؤلفة في مقطوع القرآن وموصوله، والكتب المؤلفة في أجزاء القرآن، والكتب المؤلفة في فضائل القرآن، والكتب المؤلفة في عدد آي القرآن، والكتب المؤلفة في ناسخ القرآن ومنسوخه، والكتب المؤلفة في نزول القرآن، والكتب المؤلفة في أحكام القرآن، والكتب المؤلفة في معان شتى من القرآن.
كل هذه الأبحاث كانت موضوعا لكثير من المؤلفات في فترة لم تتجاوز عام ٣٧٧ هـ، وهو عام الانتهاء من كتاب الفهرست لابن النديم. وقد زادت القرون التالية على ما ذكره صاحب الفهرست ألوفا من المؤلفات التي تتناول بالدراسة كتاب الله العزيز.
وقد فهم بعض الباحثين من عبارة «علوم القرآن» مفهوما ينطوي على كثير من التجوز والتأويل. ذلك لأنّهم يرون أن علوم القرآن تعني كل ما يمكن أن يشير إليه من مختلف المعارف وما يدل عليه من المعلومات. وقد ظهر ذلك في اتجاه بعض المحدثين إلى محاولة ربط القرآن بما تطور في زماننا هذا من علوم تجريبية وما ظهر من مخترعات آلية. وليس هذا الاتجاه مما يخدم الدراسات القرآنية، ولا يجوز أن يقحم على كتاب الله المعجز. فماذا يكون لو ربطنا بالتأويل البعيد بين نظرية علمية اشتهرت وبين نص قرآني، ثم ظهر بطلان هذه النظرية، كما يحدث في كثير من الأحيان.
وقد كتب في هذا الموضوع أستاذ فاضل من أساتذة الأزهر هو الشيخ محمد الزرقاني كلاما أحبّ أن أنقله لكم لأطلعكم على رأي رجل متنور من رجال الدين حول هذا الموضوع.
يقول: «إن القرآن كتاب هداية وإعجاز، من أجل هذين المطمحين نزل، وفيهما تحدث، وعليهما دل، فكل علم يتصل بالقرآن من ناحية قرآنيته، أو يتصل به من ناحية هدايته وإعجازه فذلك من علوم القرآن. وهذا ظاهر في العلوم الدينية والعربية.
1 / 28
أما العلوم الكونية، وأما المعارف والصنائع، وما جدّ أو يجدّ في العالم من فنون ومعارف كعلم الهندسة والحساب، وعلم الهيئة والفلك، وعلم الاقتصاد والاجتماع، وعلم الطبيعة والكيمياء، وعلم الحيوان والنبات، فإن شيئا من ذلك لا يجمل عده من علوم القرآن. لأن القرآن لم ينزل ليدلل على نظرية من نظريات الهندسة مثلا، ولا ليقرر قانونا من قوانينها، وكذلك علم الهندسة لم يوضع ليخدم القرآن في شرح آياته أو بيان أسراره. وهكذا القول في سائر العلوم الكونية والصنائع العالمية، وإن القرآن قد دعا المسلمين إلى تعلمها وحذقها والتمهر فيها خصوصا عند الحاجة إليها، وإنما قلنا: إنه لا يجمل اعتبار علوم الكون وصنائعه من علوم القرآن مع أن القرآن يدعو إلى تعلمها، لأن هناك فرقا كبيرا بين الشيء يحث القرآن على تعلمه في عموماته أو خصوصاته، وبين العلم يدل القرآن على مساءلة ويرشد إلى أحكامه ...»
فالخلاصة أنّ القرآن الكريم يحث الإنسان على طلب العلم ويدعوه إلى النظر والتأمل في حقائق الكون، لكنه لا يقصد الى تعليم المؤمنين تفصيلات المعارف الكونية. ومن هنا كان الزج بهذه المعارف في تفسير القرآن من باب التأويل الذي قد يسيء إلى نصوص الكتاب الكريم، وإن حسنت نية الساعي إلى هذا التأويل.
وقد كان المرحوم الأستاذ أمين الخولي يؤكد هذا المعنى دائما في محاضراته عن القرآن الكريم بجامعة القاهرة.
وقد استقل بذاته كثير من علوم القرآن، أي الدراسات التي ارتبطت به، لوفرة ما كتب فيها من مؤلفات ولغزارة المادة التي عالجتها، فأصبحت عبارة علوم القرآن في مفهومها الخاص تقتصر على جانب معين من هذه الدراسات. لقد أصبح مجالها مقتصرا على أبحاث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ونحو ذلك.
وهذا المعنى الخاص هو الذي سيكون موضوع محاضراتنا هذا العام، إلى جانب ما ندرسه من آيات القرآن الكريم.
1 / 29
- ٤ - تاريخ البحث في علوم القرآن
لم تكن هناك حاجة لتدوين علوم القرآن في عهد الرسول. فالرسول كان يتلقى الوحي من ربه، كما كان يتلقى بيان هذا الوحي ويعلم أصحابه. قال تعالى:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (القيامة: ١٦ - ١٩) لقد بلغ الرسول ما أنزل إليه، وكان أصحابه يحفظون عنه القرآن، كما أنه أمر بكتابة ما كان يوحى إليه أول بأول، ونهى أصحابه عن أن يكتبوا عنه شيئا سوى القرآن الكريم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». كان الرسول ﵇ يخشى أن يلتبس القرآن بغيره، وأن يدخل فيه ما ليس منه، ولهذا نهى أصحابه عن كتابة ما كان يحدثهم به. وقد مضى عصر لم تكتب فيه علوم القرآن ولا سجلت السنة النبوية
1 / 31
الشريفة. كان هذا العصر عصر الخلفاء الراشدين، وكلهم كان من صحابة الرسول المقربين، كما أنّ مجتمع المدينة كان حافلا بالصحابة الذين صحبوا الرسول، وأخذوا عنه القرآن وسمعوا أحاديثه، وتعلموا منه فروض الإسلام وشرائعه.
وبقيت الدراسات القرآنية والسنة النبوية تروى مشافهة في العصر الأموي. لم يجد صحابة الرسول ضرورة لتسجيل هذه الدراسات، وكل ما حرصوا عليه كان جمع القرآن وكتابته في مصحف. بدأ هذا الجمع في عصر أبي بكر، ثم انتهى الأمر إلى جمع المسلمين على مصحف إمام في عصر عثمان بن عفان، كما سيرد في دراستنا لجمع القرآن وتدوينه. لكن الدراسات القرآنية، بقيت كلها- شأنها شأن سائر العلوم- تلقن بطريق المشافهة، وتنتقل بالرواية من جيل إلى جيل. جرى ذلك في أول الأمر على يد
الصحابة، ثم جاء بعدهم جيل التابعين، ومن أشهرهم مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم.
وجاء بعد التابعين جيل آخر يعرف بتابعي التابعين ومن هؤلاء مالك بن أنس، صاحب المذهب المالكي في الفقه.
وحين جاء عصر التدوين ألفت الكتب في مختلف الدراسات القرآنية، فسجلت روايات بعض التابعين في تفسير القرآن الكريم، كما ألفت الكتب في معاني القرآن ومشكله ومجازه، فمنها معاني القرآن للأخفش، ومعاني القرآن للرؤاسي ومعاني القرآن ليونس بن حبيب، ومعاني القرآن للمبرد، ومعاني القرآن لقطرب النحوي ومعاني القرآن للفراء ومعاني القرآن لأبي عبيدة، وغير ذلك كثير.
وممن ألف في غريب القرآن أبو عبيدة وابن قتيبة وأبو عبد الرحمن اليزيدي ومحمد بن سلام الجمحي، وكثير غيرهم. وألفت الكتب أيضا في قراءات القرآن ونقطه وشكله، وفي الوقف والابتداء، وفي المتشابه، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من الدراسات القرآنية. وكانت كل دراسة تسمى باسمها، فلم يظهر اصطلاح علوم القرآن إلا في وقت متأخر.
ففي القرن السادس الهجري ألف ابن الجوزي المتوفي عام ٥٩٧ كتابين هما
1 / 32
«فنون الافنان في علوم القرآن»، والثاني هو «المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن» وألف أبو شامة المتوفى عام ٦٦٥ هـ كتابا أسماه المرشد الوجيز، فيما يتعلق بالقرآن العزيز.
وقبل ذلك ظهرت كتب حول علوم القرآن لم تصل الينا، أو لم تلق شهرة واسعة بين الباحثين.
وقد نشر المستشرق آرثر جفري (١) مقدمتين في علوم القرآن يرجع تأليف إحداهما إلى عام ٤٢٥ هـ، وأما الثانية فترجع إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري، وهي من تأليف ابن عطية الغرناطي المتوفي حوالي عام ٥٤٣ هـ.
والواقع أنّ مفهوم علوم القرآن، كما ندرسها اليوم قد تبلور في القرن الثامن على يد الزركشي المتوفي عام ٧٩٤ هـ، صاحب «البرهان في علوم القرآن»، ثم تبعه في التأليف بشيء من الإيجاز جلال الدين السيوطي صاحب الإتقان في علوم القرآن، وهو من رجال القرن التاسع وقد توفي في مفتتح القرن العاشر عام ٩١٦ هـ.
وقد اشتهر كتابه شهرة واسعة بين الدارسين.
ولقد أصبح مفهوم علوم القرآن مجموعة من الدراسات القرآنية تتعلق بتاريخ القرآن، وما يتصل به من دراسات لا بد من الإلمام بها قبل دراسة نصه والإقدام على تفسيره. فمن هذه المسائل نزول القرآن وجمعه وتدوينه، ومصاحف الصحابة ثم مصحف عثمان ورسمه، ومسائل تتعلق بالنص القرآني مثل الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، فهذه الدراسات تعتبر بمثابة مقدمة لدراسة القرآن والإقدام على تفسيره واستنباط الأحكام من ثنايا آياته. فهذا هو المعنى الخاص لمصطلح علوم القرآن في عصرنا هذا. وفيه ألف عدد من المؤلفين المحدثين يجيء في مقدمتهم الشيخ طاهر الجزائري صاحب التبيان في علوم القرآن. كما أن المستشرقين ألفوا كتبا كثيرة في هذه الموضوعات لا تخلو من الدس والميل مع الهوى. لكنّ هذا الاتجاه بدأ يضعف في العصور الحديثة ليحلّ محله ميل إلى الإنصاف والالتزام بعدالة الأحكام.
_________
(١) القاهرة، مكتبة الخانجي، ١٩٥٤.
1 / 33
- ٥ - نزول القرآن
يصف القرآن وصول آياته إلى الرسول الكريم بأنه نزول أو تنزيل. وقد تقدم أن التنزيل من أسماء القرآن الكريم. أما الآيات التي تحدثت عن النزول فكثيرة، لا نستطيع استقصاءها هنا. فمنها قوله تعالى:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً (النحل: ٨٩) وقوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (الانسان: ٢٣) والأصل في النزول هو الانحطاط من علو. والاستعمال هنا مجازي. فوصول رسالة الخالق إلى الرسول شبيه بالنزول، لأنه بلاغ من مقام العزة إلى عبد اصطفاه ربه هو الرسول ﵇. فنزول القرآن على الرسول معناه وصوله إليه من جانب الخالق.
1 / 35
وقد جرت محاولات مختلفة عند اللغويين للتفريق بين الإنزال والنزول والتنزيل.
فقيل إن الإنزال يعني النزول دفعة واحدة، وأن التنزيل هو النزول بتدرج. ومثل هذه التفسيرات مشتقة من بعض الاستعمالات القرآنية لمادة نزل. فقوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قد فسّر- بناء على بعض الأحاديث- بأن القرآن أنزل دفعة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
ففي حديث عن ابن عباس أخرجه النسائي والحاكم والبيهقي أنه قال:
«أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة». أي أن القرآن- بعد أن أنزل الى سماء الدنيا، نزل منجما على الرسول منذ بداية بعثته حتى قبل وفاته بأيام.
وهناك أحاديث تذكر للقرآن تنزلات ثلاثا أما أولها فهو إلى اللوح المحفوظ، وأما ثانيها فهو النزول إلى سماء الدنيا، وأما ثالثها فهو النزول المنجّم على الرسول إبان
بعثته.
وليس في القرآن الكريم إشارة إلى شيء من هذا ولكن هكذا وردت بعض الأحاديث عن الصحابة مفسرة للآيات التي عينت ميقاتا لنزول القرآن منها قوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وقوله:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
1 / 36
وقوله:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هذه الأحاديث تفسر معنى نزول القرآن في ليلة القدر، وفي شهر رمضان وارتباط ذلك بنزول الكتاب الكريم مفرقا على الرسول خلال مدة بعثته.
وهناك من الأقوال ما يرى أنه ابتدئ بإنزال القرآن في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي.
ولست أريد أن أطيل الوقوف عند الخلافات المتعددة في هذه المسائل، فتحقيقها بالدليل التاريخي البحت يعد من المحال. ولا بد من الأخذ بنص القرآن الكريم فيما أخبرنا به، وخلاصته أن القرآن نزل على الرسول عن طريق الوحي.
والثابت لدينا أن هذا النزول كان منجما أي مفرقا على أزمان مختلفة. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك صراحة في قوله تعالى:
وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا وقوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ولقد ذكرت الروايات أن هاتين الآيتين نزلتا حين عاب اليهود والمشركون على النبي نزول القرآن مفرقا، فكان نزول هاتين الآيتين ردا عليهم. فلعل المقصود بإنزال القرآن في رمضان هو ابتداء نزوله.
1 / 37
الروايات المتعددة عن أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم:
اختلف في تعيين أول ما نزل من القرآن
ولقد جاءت في ذلك أقوال أربعة.
القول الأول: أنه صدر سورة:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله تعالى:
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ وهذا أصح الأقوال ويستند على حديث صحيح عن عائشة رواه البخاري ومسلم.
القول الثاني: أن أول ما نزل من القرآن:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ويستند هذا القول على حديث روى عن جابر بن عبد الله. والمعروف أن هذه الآية نزلت بعد فترة الوحي وكانت أول ما نزل على الرسول بعدها. فلعل جابرا سمع من الرسول حديثه عن أول ما نزل عليه من القرآن بعد فترة الوحي، فاعتبر ذلك أول قرآن نزل على الإطلاق. وفي صراحة نص الحديث الأول ما يجعله مقدما على ما أخبر به جابر.
القول الثالث: أن أول ما نزل هو الفاتحة. والاستناد في هذا إلى حديث مرسل سقط من سنده الصحابي، فليست له قوة الحديث المروى عن عائشة عن النبي.
ولم يقل بهذا الرأي إلا قلة من العلماء منهم الزمخشري صاحب الكشاف. (١)
_________
(١) انظر: السيوطي: الاتقان، ج ١، ص ٢٤.
1 / 38
القول الرابع: أن أول ما نزل هو:
بسم الله الرّحمن الرّحيم واستند في ذلك على حديث أخرجه الواحدي عن عكرمة والحسن. قالا: «أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، وأول سورة سورة اقرأ». (١)
وهذا الحديث مرسل فليست له قوة الحديث المرفوع المروىّ عن عائشة.
يضاف إلى ذلك أن البسملة تجيء في أول كل سورة إلا ما استثنى (وهي سورة براءة)، فمعنى ذلك أنها نزلت صدرا لسورة «اقرأ» كما نزلت صدرا لغيرها من السور.
أما آخر ما نزل من القرآن فقد اختلف فيه على عشرة أقوال.
القول الأول: يروى أن آخر ما نزل قوله تعالى في سورة البقرة:
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ القول الثاني: أن آخر ما نزل هو قوله تعالى في سورة البقرة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ القول الثالث: أن آخر ما نزل هو آية الدين وهي قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
_________
(١) انظر الأقوال الأربعة في: الاتقان، ج ١، ص ٢٣ - ٢٥.
1 / 39
إلى قوله تعالى:
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وهي أيضا من سورة البقرة.
القول الرابع: أن آخر ما نزل قوله تعالى في سورة آل عمران:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى القول الخامس: أنه قوله تعالى:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا (النساء: ٩٣) القول السادس: أنه قوله تعالى:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وهي خاتمة سورة النساء.
القول السابع: أن آخر ما نزل سورة المائدة.
القول الثامن: أن آخر ما نزل خاتمة سورة براءة، وهي قوله تعالى:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.
1 / 40