64
ورغم أن هذا الرأي في عمومه أوسع أفقا من كثير من الآراء الأخرى لمفسري اسپينوزا، فإنه مبني على مقدمة يؤكدها الكثيرون ممن عالجوا هذا الموضوع، هي في رأيي مقدمة باطلة. تلك هي المقدمة القائلة إن أي مذهب طبيعي
naturalisme
لا مكان فيه لصفات «الأمل والحب والسمو» وأنه لا يمكن أن يكون لهذه الصفات مجال إلا في مذهب يقترب من المذاهب الدينية التقليدية - هذه المقدمة باطلة تماما، وتتضمن في ذاتها قدرا كبيرا من الخلط الذي أدى إلى تلك المحاولات المتباينة للتقريب بين إله اسپينوزا وإله اللاهوتيين؛ فالصفات السابقة هي بالفعل من صفات «البعد الديني» - على حد تعبير المؤلف - ولكنها ليست من صفاته الأساسية التي ترتبط به وحده، ومن الممكن أن توجد في مذهب لا يعترف بهذا «البعد الديني» أصلا. وليس صحيحا على الإطلاق أن أي مذهب يترك مجالا لهذه الصفات ينبغي أن يكون دينيا بالمعنى التقليدي، كما أنه ليس صحيحا أن هذه الصفات لا تتصور إلا في إطار ديني تقليدي.
والواقع أن الطرفين اللذين حتم علينا المؤلف أن نختار بينهما ليس بينهما استبعاد متبادل على الإطلاق؛ فهو يتصور أن على المرء إما أن يقول بنزعة طبيعية تستبعد الألوهية تماما، أو أن يجعل للأمل والحب مجالا. وهذا الرأي شائع بين من كتبوا عن اسپينوزا إلى حد يدعو إلى الدهشة؛ فحتى أولئك الذين يعترفون تماما بأن إلهه يعني الطبيعة، يؤكدون أنه عاد إلى الإله التقليدي، بمعنى من المعاني، حين جعل في فلسفته مجالا لمشاعر كهذه، وهم في ذلك يريدون أن يجعلوا هذه المشاعر احتكارا للمذاهب اللاهوتية التقليدية فحسب، وكأن من المحال أن تظهر هذه المشاعر في مذهب طبيعي صارم، على أن الأمر لا يلزم أن يكون كذلك على الإطلاق؛ فمن قال إن صاحب التفكير العلمي الصارم، الذي يستبعد تماما أي مبدأ فوق الطبيعة، محرم عليه أن يشعر بالأمل والحب والسمو ويتغنى بهذه المشاعر؟ وإذا كان المبدأ الأقصى للتفسير، عند مفكر ما، يقف عند حد الطبيعة، فما الذي يمنعه من أن يحس نحو هذه الطبيعة في مجموعها بالحب والتمجيد والتبجيل؟ هل هذا محرم عليه، أو هل هناك في طبيعة الأشياء ما يحول دونه؟ وهل نقول: إن مثل هذا المفكر قد تخلى عن نزعته الطبيعية، أو تجاوزها ودخل في مجال «البعد الديني» لمجرد كونه قد جعل لهذه المشاعر مجالا في تفكيره؟ لست أعتقد أن هذا جائز على الإطلاق، وإنما أعتقد أن تصوير المشكلة على أنها اختيار لا مفر منه بين المذهب الطبيعي وبين مشاعر الأمل والحب ... إلخ؛ هذا التصوير باطل تماما، وبالتالي لا ينبغي أن يقال عن المفكر إنه قد تخلى عن مذهبه الطبيعي، وعاد إلى القوالب الفكرية التقليدية، لمجرد كونه قد جعل لمثل هذه المشاعر مكانا في فلسفته. (5) فكرة الأزلية والحب الإلهي (5-1) مشكلة «تناقض» اسپينوزا
يؤدي بنا الموضوع الذي عالجناه في القسم السابق إلى بحث مشكلة الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، الذي أكد فيه اسپينوزا فكرتي الأزلية والحب الإلهي إلى حد جعل معظم مفسريه يقولون - قياسا على طريقة التفكير التي عرضت في القسم السابق - إن اسپينوزا، الذي كان فيلسوفا ذا نزعات مادية واضحة في بقية الكتاب، قد تناقض مع نفسه في النصف الثاني من الباب الأخير من «الأخلاق» تناقضا أساسيا. ومهمتنا في هذا الجزء هي أن نحلل طبيعة هذا «التناقض» المزعوم، ونبحث فيما إذا كان التفسير الوحيد الممكن لهذا الجزء الأخير من كتابه هو التفسير المؤدي إلى القول بتناقض الفيلسوف، أم أن من الممكن إيجاد تفسير لا يكون فيه لهذا التناقض مجال.
هذا القول بوجود تناقض بين الجزء الأخير من «الأخلاق » وبين بقية أجزاء الكتاب يمثل، في رأينا، أوضح دليل على إخفاق التفسير الحرفي لفكرة «الله» عند اسپينوزا، بل هو قمة هذا الإخفاق؛ فالقول بالتناقض هنا إنما هو إعلان صريح عن عجز هذه التفسيرات الحرفية، وهو عجز يتمثل أوضح ما يكون في صدد تلك القضايا لشائكة التي ختم بها اسپينوزا كتاب الأخلاق. وهكذا يكون علينا أن نختار بين أحد أمرين: إما أن نخرج بفكرة الله عند اسپينوزا عن معانيها الحرفية نهائيا، أو أن نعترف بقصور التفسير وإخفاقه، كما يتمثل في القول بوجود «تناقض» أساسي لدى اسپينوزا.
ولكي ندرك مدى انتشار الاعتراف بوجود هذا «التناقض» (وهو، بالأحرى، اعتراف من المفسرين «بالهزيمة») يكفي أن يطلع المرء على القائمة المطولة التي سنوردها الآن (وهي ليست كاملة على الإطلاق) لآراء القائلين بتناقض اسپينوزا في الجزء الأخير (وأرجو المعذرة من القارئ إذا أطنبت هنا في الإشارة إلى آراء الآخرين؛ إذ إن كشف أخطاء التفسيرات الأخرى لا يقل فائدة في فهم فلسفة اسپينوزا عن التحليل المباشر لعناصر تلك الفلسفة): (1)
يرى «أويكن
R. Eucken » أن كتاب «الأخلاق» يسير على نهج المذهب الطبيعي
Shafi da ba'a sani ba