والواقع أننا لو شئنا أن نلتزم الدقة الكاملة لقلنا إنه لا جدوى من إثارة مشكلة اعتراف اسپينوزا بفكرة الله أو عدم اعترافه بها؛ ذلك لأن مجرد إثارة هذه المشكلة يعني تركيز الاهتمام في «اللفظ» ذاته، وهو في الواقع مظهر لمدى سيطرة الألفاظ على الأذهان بحيث تطغى على المحتوى العقلي الذي تشير إليه؛ فالمشكلة، إذا ما شئنا أن نعبر عنها بدقة، لا تصاغ على النحو الآتي: هل اعترف اسپينوزا بفكرة الله أم لم يعترف؟ وإنما ينبغي أن تصاغ على هذا النحو: هل تتفق صفات المبدأ الأساسي للظواهر في فلسفة اسپينوزا، مع الصفات التقليدية اللاهوتية لفكرة الله أم لا تتفق؟ فإذا اتضح أن الإجابة على هذا السؤال إنما تكون بالنفي، فعندئذ لا يكون ثمة جدوى من الجدل حول «الاسم» الذي أطلقه اسپينوزا على هذا المبدأ الأساسي، إذ لن تعود لهذا الاسم أية دلالة فلسفية حقيقية طالما أن طبيعة مدلوله ذاتها قد اختلفت، وتصبح الدلالة الوحيدة له اجتماعية، مرتبطة بحياة اسپينوزا ذاته وظروف عصره.
ونستطيع أن نضرب للمعنى الذي نقصده ها هنا مثلا كفيلا بإيضاحه إلى حد بعيد، وهو مثل مستمد من حياتنا السياسية المعاصرة، فربما كان أقرب تشبيه إلى تفاوت معاني كلمة «الله» بين اسپينوزا وبين اللاهوتيين، في عصرنا هذا، هو اختلاف معنى كلمة «الديمقراطية» لدى كل من النظامين الاجتماعيين الرئيسيين الموجودين اليوم، فهناك نظامان اجتماعيان متضادان تماما، يؤكد كل منهما أنه هو الذي يمثل «الديمقراطية »، ولكن كلا منهما يستخدم الكلمة - كما هو معروف - بمعنى مخالف تماما لمعنى الآخر؛ فالمؤمن بالنظام الرأسمالي يقول: الديمقراطية في نظري هي الانتخاب الحر المباشر، وتعدد الأحزاب، والإقلال من تدخل الدولة إلى الحد الأدنى، وترك الاقتصاد (وغيره من القطاعات إذا أمكن) حرا دون تخطيط، وترك الصحف تعبر عما تشاء من الآراء. أما المؤمن بالنظام الاشتراكي فإنه يأتي بمعنى جديد للفظ الديمقراطية، فيقول: إن الديمقراطية هي تنظيم المجتمع على نحو تضمن فيه للجميع فرص متكافئة، ويقضى على الفوارق الطبقية، وتتحول ملكية وسائل الإنتاج إلى المجتمع لا إلى الفراد، ويتدخل ذلك المجتمع - ممثلا في الحكومة - في تنظيم الاقتصاد وتخطيطه (وربما في غير الاقتصاد من القطاعات أيضا). وهو ينتقد فكرة حرية الصحافة في الديمقراطية الرأسمالية بأنها ليست حرية على الإطلاق؛ لأن تلك الصحف التي تزعم أنها حرة إنما تخضع في الواقع للمصالح الطبقية لملاكها والمعلنين فيها، وتعبر بالتالي عن آرائهم وحدهم.
15
ورغم أن الارتباطات الرأسمالية لكلمة «الديمقراطية» أقدم عهدا وأكثر شيوعا في العصر الحديث، فإن ذلك لا يمنع المؤمن بالاشتراكية من الدفاع أيضا عن «الديمقراطية»، وذلك بعد أن يجعل مضمونها مطابقا لتعريفه الخاص لها. وبهذا يكون قد قبل «اللفظ»، ولكن بمعنى جديد تماما. فهل يجوز، لمجرد كونه قبل هذا اللفظ، أن نقول: إنه قد اقترب من المؤمن بالرأسمالية؟ إن الواجب في هذه الحالة، بالطبع، هو أن نغض النظر تماما عن الهوية بين الألفاظ، ونبحث عن المعاني الحقيقية من ورائها، وألا يمنعنا تشابه ألفاظ الفريقين من القول بأن موقفيهما متضادان تماما، وكما أن من العبث أن يقال إن الاشتراكي قد اقترب من الرأسمالي لأن كليهما يدعو إلى «الديمقراطية»، فمن العبث أيضا أن يقال: إن اسپينوزا قد اقترب من وجهة النظر اللاهوتية أو المدرسية لمجرد كونه قد ردد كلمة «الله» مثلهم. فلا بد، في الحالتين، من غض النظر عن اللفظ وتركيز الاهتمام على الحقيقة الكامنة من ورائه، وتحديد المواقع الحقيقية لكل طرف على أساس معانيه، لا ألفاظه.
ومع ذلك فإن المشكلة عند اسپينوزا تزداد تعقدا؛ لأنه لم يقتصر على استخدام لفظ «الله» بمعان جديدة فحسب، وإنما كان حريصا كل الحرص على الاحتفاظ بمجموعة كاملة من التعبيرات التقليدية، مثل «إطاعة الأوامر الإلهية»، و«الحب الإلهي»، و«تقوى الله» ... إلخ. وذلك كله يزيد من احتمال وقوع القارئ في خطأ التفسير المضاد لمعانيه الحقيقية، وهو بلا شك يعلل وجود هذا العدد الهائل من التفسيرات غير الدقيقة لفلسفته. وبعبارة أخرى: فاسپينوزا لم يقتصر على استخدام الألفاظ التقليدية بمعان جديدة فحسب، بل إنه يحاول دائما أن يستخدم هذه الألفاظ في تركيبات توحي بأنها ما زالت محتفظة بمدلولاتها القديمة؛ وهدفه من ذلك هو أن يثبت أن المعاني الجديدة كفيلة بتحقيق جميع الأغراض التي كانت تستخدم من أجلها المعاني القديمة، رغم تمشي الأولى مع النزعة العلمية واستبعادها للخرافة.
وهنا يغدو المجهود الذي ينبغي أن يبذل في تفسيره مجهودا مضاعفا: هو إثبات أن المعنى الجديد للفظ متسق حتى من خلال عشرات التركيبات والتعبيرات التي توحي بعكس ذلك، والتي يميل القارئ بطبيعته إلى تفسيرها بالطريقة التقليدية، وكشف المغزى الحقيقي لحرصه المتعمد على أن يظهر كما لو لم يكن مخالفا للتراث. (2) الصفات الإلهية وفكرة الطبيعة
كانت فكرة «الله أو الطبيعة» هي الفكرة الأقوى ظهورا في فلسفة اسپينوزا. وقد وجد هذا التعبير تفسيرات متعددة، رغم وضوحه الظاهر، وقيل: إن الهوية التي يضعها اسپينوزا بين الله وبين الطبيعة ليست كاملة، بل إن الكثيرين من الشراح، رغم اعترافهم بالمبدأ الرئيسي القائل: إن اسپينوزا يقرن دائما بين الله وبين الطبيعة وبين الجوهر، قد تجاهلوا هذا المبدأ في كثير من الأحيان ، وكانت تنزلق في كتاباتهم، عن وعي أو دون وعي، كثير من المعاني التقليدية لفكرة الله، وهي نفس المعاني التي كرس اسپينوزا ذهنه لانتقادها.
وينبغي أن تكون نقطة البداية في بحثنا لهذا الموضوع هي تحديد المقصود على وجه الدقة من تلك المعادلة التي جمع فيها اسپينوزا بين الله والطبيعة، وذلك ببحث الصفات التي نسبها اسپينوزا إلى فكرة الله، ومقارنتها من جهة بالصفات التي يعزوها التراث الديني إلى هذه الفكرة، ومن جهة أخرى بالصفات التي يمكن أن تعزى إلى الطبيعة. وعلى أساس هذا البحث المقارن نستطيع أن نجيب على السؤال: هل كان المقصود من فكرة الله عند اسپينوزا هو النظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة في مجموعها، أم أن المقصود منها شيء يزيد على الطبيعة؟
ولهذا البحث في الصفات الإلهية، ومدى انطباقها - أو عدم انطباقها - على مفهوم الطبيعة أهميته القصوى في تفسير فلسفة اسپينوزا؛ ذلك لأن الكثير من المفسرين يتحدثون عن إله اسپينوزا كما لو كان هو ذاته الإله التقليدي، وكل ما في الأمر أن صفات معينة قد تغيرت فيه، دون أن يطرأ على الدلالة العامة للفكرة أي تغير. وسوف تمر بنا خلال هذا الفصل أمثلة متعددة لهذه الطريقة في تفسير اسپينوزا، وهي في اعتقادنا دليل حاسم على أن اسپينوزا فيلسوف لم يفهم بعد فهما كاملا. •••
استخدام اسپينوزا، للتفرقة بين تصوري الله والطبيعة، تعبيري «الطبيعة الطابعة
Shafi da ba'a sani ba