49
وبعبارة أخرى: فاسبپينوزا لا يفهم الحرية إلا من حيث هي مرتبطة بمثل هذه الضرورة الذاتية. أما الحرية الأخرى، حرية الإرادة، وحرية الاختيار على غير أساس، فهي التي يرفضها اسپينوزا تماما.
وعلى أساس هذه التفرقة بين معنيي كلمة «الحرية» نستطيع أن نفسر ظاهرة قد تبعث في نفس القارئ، لأول وهلة، قدرا غير قليل من الدهشة؛ ذلك لأن اسپينوزا لا يمل من تكرار القول بأن فكرة الحرية واهمة، وأنها مظهر خداع لا وجود له. ولكنه في نفس الكتاب الذي يؤكد فيه هذه الفكرة بكل قوة - أعني كتاب «الأخلاق» - يؤكد أن هدفه هو عرض أخلاق «الإنسان الحر» ويكرس الباب الأخير منها للحديث عن حرية الإنسان. فكيف إذن نوفق بين هذين المظهرين في فلسفته؟ لا شك في أن الحرية، كما عناها اسپينوزا في «الباب الخامس»، هي تلك الحرية الناجمة عن التحكم الذاتي، كما رأينا في تعريفه السابق؛ ففي هذا الباب يتحدث اسپينوزا عن الطريق الذي يسير فيه العقل حين يكتشف الضرورة الكامنة في الكون، فيحرر ذاته عن طريق فهم طبيعته وعلاقته بالعالم فهما كاملا. مثل هذا التحرر الناجم عن إدراك الإنسان لموقعه الحقيقي في الكون، قد يسمى من جهة «ضرورة»؛ لأن فكرة الضرورة هي التي تغدو الفكرة المسيطرة على نظرته إلى نفسه وإلى الأشياء عندئذ، ولكنه يمكن أن يسمى أيضا «حرية» لأن الحقيقة تحرر الإنسان؛ ومن هنا كشف عنوان الباب عن سبب هذه الحرية، وهو العقل؛ إذ كان موضوع البحث فيه هو: «في قوة العقل أو حرية الإنسان». (4-2) الحملة على الغائية
ترتبط الحملة على الغائية بتأكيد فكرة الضرورة ارتباطا وثيقا: ذلك لأن العامل الأساسي الذي حال دون تأكيد فكرة الضرورة في كل العصور هو رغبة الإنسان في تأمل الطبيعة وفقا لغاياته الخاصة؛ فهو يترك الطبيعة فيها للصدفة والاتفاق حتى يجد فيها مجالا لتأكيد الغايات المتفقة مع طبيعته وأمانيه، وحتى يستطيع أن يقول إن ظواهر الطبيعة «تهدف» إلى غايات شبيهة بغاياته الخاصة؛ ومن هنا كان نفي الغائية، في واقع الأمر، وجها آخر من أوجه تأكيد اسپينوزا لفكرة الضرورة.
وتتضمن مقدمة الباب الرابع من «الأخلاق» عرضا دقيقا لحملة اسپينوزا على الغائية، كتب بأسلوب مسترسل تشيع الروح العلمية الصحيحة في كل كلمة فيه: «فالطبيعة لا تعمل مستهدفة غاية ما؛ ذلك لأن الكائن الأزلي اللامتناهي، الذي نسميه الله أو الطبيعة، يسلك وفقا لنفس الضرورة التي يوجد بها ... أي إن السبب أو العلة التي تجعل الله أو الطبيعة موجودا، والسبب الذي يجعله يسلك، هو سبب واحد ... وليس لوجوده وفعله أصل ولا غاية؛ ومن ثم فإن العلة التي تسمى غائية ليست إلا الرغبة البشرية، بقدر ما تعد أصلا أو علة لأي شيء.» وبعبارة أخرى: فإن نفس القوانين التي تستخلص من السير الفعلي للطبيعة، هي ذاتها ما يسمى بقوانين المسلك الإلهي، ومن المحال أن تستهدف الطبيعة أية غاية، بل إن مسارها كله ضروري، ومستمد من ضرورة وجودها فحسب.
ويؤكد اسپينوزا في تذييل الباب الأول من «الأخلاق» أن أخطاء الناس وتغرضاتهم ترتد كلها إلى خطأ واحد أساسي: «فالناس في عمومهم يظنون أن كل الأشياء الطبيعية تسلك، مثلهم، مستهدفة غاية ما، بل إنهم يوقنون بأن الله ذاته يدبر كل شيء مستهدفا غاية معينة؛ إذ يقولون إن الله خلق كل شيء من أجل الإنسان، ولكنه خلق الإنسان ليتلقى منه عبادته.» ويعلل اسپينوزا هذا الاعتقاد بالغائية بأنه راجع إلى اعتياد الإنسان استخدام الأشياء الطبيعية «وسائل» لتحقيق غاياته. ولما كان الإنسان يصنع كثيرا من هذه الأشياء بيديه؛ فقد اعتقد أن في الطبيعة صانعا أو عدة صناع
50
مهمتهم تشكيل الطبيعة وفقا لما يرضي الإنسان. ومن جهة أخرى؛ فقد اعتقدوا أن ما تسببه الطبيعة من كوارث ونكبات، سببه غضب الآلهة على الناس لانعدام تقواهم، رغم ما يرونه بأعينهم من أن هذه الكوارث تصيب التقي وغير التقي معا، وحتى لو تنبه أحدهم إلى ذلك، فإنه يؤثر أن يقول إن ذلك راجع إلى حكمة لدى الآلهة تتجاوز نطاق فهمه، ويفضل أن يحكم على عقله بالعجز بدلا من أن يراجع تفسيره منذ البداية. ويؤكد اسپينوزا أن القول بأن الله يسلك وفقا لغاية ما، إنما هو حكم على الله بالحرمان من أشياء يرغب في تحقيقها. وهو يفسر التجاء الناس إلى التفسير الغائي بجهل الأسباب: «إذ إنهم يعلمون أن الجهل ما إن يختفي، حتى تزول تلك الدهشة التي هي وسيلتهم الوحيدة إلى الدفاع عن آرائهم وحفظ سلطتهم. وهكذا يختار الناس من الصفات ما يلائم أمزجتهم أو يوافق خيالهم، وينسبونها إلى الأشياء ذاتها، لاعتقادهم بأن هذه الأشياء إنما صنعت من أجلهم.»
والحق أن تذييل الباب الأول من الأخلاق، الذي أوردنا هنا قليلا من حججه، هو من أروع الصفحات التي كتبها ذهن متحرر تماما من الأوهام وصل بتفلسفه إلى قمة الروح العلمية النقية من كل شائبة. وأشك جدا في أن كثيرا من المفكرين المعاصرين، حتى المشتغلين بالشئون العلمية منهم، يمكنهم الوصول إلى هذه المرتبة الرفيعة في تأمل الطبيعة على نحو خلا تماما من كل الأوهام الغائية التي طالما أفسدت تفكير البشر. وإني لأذكي هذا التذييل ليكون قراءة إجبارية لكل من يزمع اتخاذ البحث العلمي - بأية صورة من صوره - ميدانا للعمل. والأمر الذي يدعو إلى الإعجاب حقا أن يتملك هذا اليقين العلمي ذهنا في القرن السابع عشر، الذي كان التفكير العلمي فيه ما يزال مختلطا بكثير من شوائب العصور الوسطى، حتى لنجد بين كبار فلاسفته، ممن مارسوا البحث العلمي ممارسة حقيقية، مثل ديكارت وليبنتس، من تحفل كتاباتهم بآثار النزعة الغائية اللاعلمية، وإنا لنتفق تماما مع حكم «سيڨك» القائل: «إن اسپينوزا من أكبر أعداء نظرية الغائية. وهو لم يكتف بإنكارها كما فعل الكثيرون غيره. بل لقد عمل على إثبات استحالتها إيجابيا، وعلى إيضاح أصولها التاريخية والنفسية، وعرض نظرية ترمي إلى الحلول محلها.»
51
Shafi da ba'a sani ba