ولكن هذا التعليل غير كاف؛ إذ إن اسپينوزا لم يكتف بتوسيع نطاق الحياة أو نسبتها إلى بعض جوانب العالم التي لم تكن تنسب إليها الحياة من قبل. وإنما كان للفكرة لديه وظيفة «منطقية» قبل كل شيء؛ فهي وسيلته إلى القضاء على الثنائية القاطعة بين الفكر والمادة، وهي مظهر لعبوره الحاسم للهوة بين عالم الامتداد وعالم الفكر. وإذا كان قد وجد من المفكرين السابقين من يقولون بشيوع الحياة، أو «الروح» في أغلب الأحيان، في الكون، فإن غرض هؤلاء المفكرين كان يختلف تماما عن غرض اسپينوزا؛ فقد كان هؤلاء يرمون إلى تأكيد سيادة الوجه الروحي في الكون، وربما إلى إثبات وجود «روح مطلقة» تتخلله. أما هو فقد استخدم، على نحو بارع، فكرة شيوع الفكر في كل جوانب الكون - إلى جانب شيوع الامتداد في نفس هذه الجوانب - لا لكي يدعم الرأي القائل بالروح المطلقة، بل ليقضي تماما على إمكان ظهور هذا الرأي.
ولقد وجد من الشراح من انتقدوا كثيرا من آراء اسپينوزا التفصيلية في علاقة الذهن بالجسم، ومن نبهوا إلى صعوبات جمة في فهم المعنى الحقيقي لقوله إن «الذهن فكرة الجسم».
41
وربما كان لمثل هذه الانتقادات ما يبررها، ولا سيما إذا توغلت في المقارنة بين القضايا والبراهين، وحاسبته بدقة على كل لفظ يقوله في كل موضع، غير أني أعتقد أن نظرية اسپينوزا تظل رغم ذلك مساهمة مفيدة في حل مشكلة الذهن والجسم؛ فهو من الناحية السلبية يقضي على التصور الشائع لهما على أنهما جوهران متميزان، وهو التصور الذي يجر وراءه كل الأخطاء اللاهوتية والميتافيزيقية التي حفلت بها كتابات الفلاسفة، وبذلك يكون قد أسدى إلى حضارة الإنسان خدمة كبرى إذا أثبت إمكان قيام نظرية لا تأخذ بفكرة الجوهرين المستقلين: الجسمي والروحي. أما من الناحية الإيجابية، فإن اسپينوزا كان يخوض هنا مجالا شديد العمق والتعقيد، ومن الطبيعي أن تكون صعوبة التعبير، بالنسبة إلى من يريد بحث هذه المسألة دون افتراض كيانات خفية، أشق كثيرا مما هي لدى أولئك الذين يسهل عليهم التخلص من كل صعوبة بإرجاعها إلى «الروح»، وأعتقد أنه ليس من الصعب - رغم ذلك كله - أن يفهم المرء تفسير اسپينوزا لعلاقة الذهن والجسم بالقول إنهما وجهتا نظر مختلفتان لحقيقة واحدة. ولا بد للمرء آخر الأمر من الرجوع إلى هذا التفسير، أو ما يشبهه، إذا شاء فهما لهذه المشكلة لا تتخلله عناصر غير علمية؛ فالحل الذي أتى به اسپينوزا، رغم كل صعوباته اللفظية أو الشكلية، يبدو أقرب الحلول إلى الروح العلمية الصحيحة. أما الحل الصحيح، فإنه، كما قال اسپينوزا، يتوقف أولا على معرفة الجسم وقدراته، وها نحن أولاء، في النصف الثاني من القرن العشرين، لم نكد نبدأ بعد استطلاع هذا الميدان الحافل، ميدان معرفة قدرات جسم الإنسان، ولا سيما قدرات «المخ»، والتحكم فيها. ومما لا شك فيه أن كثيرا من غوامض العلاقة بين الذهن والجسم ستحل كلما تقدمت الكشوف في هذا الميدان الشاق، ولكنا، على أية حال، كلما اكتشفنا جديدا، سنظل دائما مدينين بالفضل لاسپينوزا لأنه حذرنا من كل الحلول الهينة التي نتخلص فيها من صعوباتنا بافتراض كيانات خفية نعترف بأننا لا نعلم عنها شيئا، ومن كل الأحكام المتسرعة التي نصدرها جزافا عن العلاقة بين الذهن والجسم دون أن نكون قد تعمقنا أسرار عالم الجسم وعرفنا قدراته. (4) فكرة الضرورة
لقد كان القول بسيادة الضرورة، وما زال، من أهم الصفات التي تميز الروح العلمية، وليس معنى ذلك أن هذه الروح تفترض وجود قوة «ترغم» الظواهر على السير في طريق معينة، بل إن كل ما تفترضه هو أن مجرى هذه الظواهر، إذا ما نظر إليه في ذاته دون إقحام لأية علل خارجية فيه، يكون منتظما خاضعا لقوانين مستمدة منه ومعبرة عنه، وأن الظواهر الفردية لا تحدث خبط عشواء، بل ينبغي أن تكون لها علة تفسرها، وأنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يحدد هذه العلة؛ لأن تطوره لم يصل إلى ذلك بعد، ينبغي «من حيث المبدأ» أن نعترف بضرورة وجود هذه العلة، وبضرورة وجود القانون الذي يحكم العلاقة بين الظواهر وعللها. ولقد ظهرت فلسفة اسپينوزا في المرحلة الأولى للعلم الحديث، وهي المرحلة التي كان فيها مبدأ الضرورة، بوصفه مثلا أعلى تسعى إليه كل معرفة بشرية، لا يزال بعيدا كل البعد عن التحقق - بل إنه لا يزال كذلك حتى الآن في مجالات غير قليلة، رغم مل ما أحرزناه من تقدم، ولكن عدم تحققه لا يعني عدم صحته . والقول بأننا لا نعرف من قوانين الكون إلا قدرا ضئيلا إلى أبعد حد، لا يبرر على الإطلاق إنكار فكرة الضرورة، بوصفها هدفا يسعى إليه العلم؛ ففي كل تقدم علمي جديد، وفي كل فهم للمزيد من أسرار الكون، نزداد اقترابا من تحقيق المثل الأعلى للضرورة الكونية الشاملة، وإن كنا نعلم أننا سنظل دائما بعيدين عن تحقيقه كاملا، فقصور إدراكنا للقوانين الكونية الشاملة، لا يعني تكذيب «المبدأ» القائل إن الأشياء تخضع لضرورة شاملة لو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل علمنا بالكون.
مثل هذه النظرة إلى العالم وما فيه من ظواهر طبيعية، كانت، على بساطتها، من أصعب الأعمال التي حققها الفكر البشري؛ فقد ظل المفكرون على الدوام يضعون العقبات في وجه هذه الضرورة الكونية المتحكمة، التي لم يكن فيها إرضاء لنزعة الإنسان إلى أن يرى صورته، وآماله وأحلامه ومخاوفه، منطبعة على الكون. وهكذا حرص كثير من المفكرين، طوال تاريخ الفكر الفلسفي، على أن يتركوا وسط هذه الضرورة الطبيعية ثغرات يجدون فيه مجالا لطبع الصورة البشرية على الكون. ولا نستطيع أن نقول إن هذا الميل إلى الخلاص من موضوعية الضرورة قد زال حتى في يومنا هذا.
وإذا كان القول بسيادة القانونية والضرورة في الطبيعة أمرا صعبا، فإن القول بسيادتهما في مجال «الإنسان» أصعب كثيرا؛ فقد اعتاد الإنسان أن يستثني نفسه من التيار العام للظواهر الطبيعية، وأن يعد نفسه «سيدا» لها، يفرض عليها قوانين لا يخضع هو ذاته لها. وكان ينظر إلى عدم الخضوع هذا على أنه أكبر مظاهر علو مكانته وارتفاع شأنه في الكون. وكان لا بد له من نظام عقلي شديد لكي يقتنع بالمبدأ العام القائل إنه قد لا يكون إلا جزءا من الطبيعة، يسري عليه، في ميوله وانفعالاته، كل ما يسري عليها، وأن ما يتوهمه في نفسه أفعالا إرادية حرة لا ضابط لها ولا قانون، هي في حقيقة الأمر، لو عرفت الأسباب، أفعال ضرورية لا تختلف عن أي سلوك آخر لسائر مظاهر الطبيعة. ورغم كل ما أحرزه الإنسان في مجال السيطرة على العالم الطبيعي من تقدم، فما زالت فكرة «القانونية» في مجاله الخاص تلقى أشد مقاومة، ولا يستطيع أحد أن يقول إنها، حتى الآن، قد أصبحت هي الغالبة.
ومع ذلك، فرغم أن فكرة سيادة الضرورة والقانونية في الطبيعة، وفي الإنسان على الأخص، ما زالت تلقي في أذهان كثيرة مقاومة شديدة؛ ففي وسع مؤرخ الفلسفة أن يقول بكل اطمئنان إن اسپينوزا كان مؤمنا بهذه الفكرة إيمانا مطلقا، وأنه فعل الكثير لنشرها في وقت كانت فيه الفكرة المضادة؛ فكرة العشوائية، والاتفاق، و«الحرية»، والغائية، هي المسيطرة على الأذهان، وهي التي تعد - بما تؤدي إليه من فتح المجال واسعا لكل النزعات الصوفية غير العلمية - دليلا على الامتياز العقلي، أو على الأقل دليلا على المزيد من التقوى والورع، وهما صفتان لم يكن المفكر في ذلك العصر يسلم لو اتهم بالافتقار إليهما. فعند اسپينوزا تظهر في هذا المجال نزعة علمية لا شك فيها، تقاس بأشد النزعات العلمية قوة حتى في عصرنا هذا. (4-1) الضرورة في الكون وفي الإنسان
يعرض اسپينوزا مشكلة الضرورة والحتمية في «الرسالة القصيرة»، من خلال المصطلح السائد في العصور الوسطى، على النحو الآتي: هل يستطيع الله أن يفعل غير ما فعل؟ ويرد على هذا السؤال، بنفس لغة المدرسين، فيقول إنه ليس من الكمال الإلهي أن يفعل الله غير ما فعل، وأنه حتى لو أحدث تغييرا فيما ظل يسير عليه لما كان هذا دليلا على المزيد من القدرة ... وينتهي من ذلك إلى أن الله كان لا بد أن يفعل ما فعل، وإلى أن الحرية الاعتباطية ليست على الإطلاق من الصفات الإلهية، ويؤكد ضرورة أحداث الطبيعة نافيا عنها كل القيم العرضية.
42
Shafi da ba'a sani ba